وسأترك الأمر للقارئ، ليفكر لنفسه كم تتغير حياته الثقافية إذا هو حاسب نفسه بهذا المعيار في «المعنى»، فكلما نطق بكلمة أو عبارة، سأل: ما هو «العمل» الذي ينبني على مثل هذا القول - فعلا أو إمكانا - وإذا لم يجد لكلامه خطة منطوية على عمل، فليوقن مع بيرس - ومعي - أنه كلام بغير معنى. (6) وليم جيمس
ولد وليم جيمس
William James
في يناير من عام 1842م بمدينة نيويورك، وكان أكبر إخوة خمسة من بينهم الأديب القصصي المشهور هنري جيمس. ولد لأسرة مؤمنة بدينها مستمتعة بثرائها، لكنها كانت متعة الأسرة المثقفة المهذبة، فراح أفرادها يطوفون بمراكز الحضارة في أوروبا، يحصلون الخبرة الواسعة والعلم الغزير، وكان من نتيجة هذه الحياة المتنقلة أن تعلم وليم جيمس إبان مرحلته المدرسية الأولى في عدد من المدارس المختلفة موقعا وطابعا، فدخل مدارس نيويورك ولندن وباريس وجنيف. وأقل ما يقال عن هذا الترحل، من مدرسة هنا تتكلم الإنجليزية، إلى مدرسة هناك تتكلم الفرنسية أو الألمانية، أنه ما بلغ سن شبابه إلا وقد ألم بتلك اللغات جميعا إلمام الخبير بسرها، حتى إذا ما حان وقت الالتحاق بالجامعة، كانت الأسرة قد عادت من ترحالها الطويل إلى أرض وطنها، فدخل صاحبنا جامعة هارفارد
Harvard
بادئا بقسم الكيمياء، ثم منتقلا منه إلى قسم التشريح ووظائف الأعضاء، مستقرا آخر الأمر على دراسة الطب.
تخرج وليم جيمس من الجامعة طبيبا، وعين بأحد المستشفيات حينا، لكنه لم يلبث أن شد رحاله مرة أخرى إلى أوروبا حيث أكمل دراسته العليا في الطب، فلما أن عاد إلى هارفارد كانت قد خلت بالجامعة وظيفة مدرس لعلم وظائف الأعضاء فعين بها، وهاهنا أخذ يلقي سيلا من محاضرات عن صلة ذلك العلم بعلم النفس. وهكذا لبث خمسة أعوام خلص منها إلى تأسيسه لأول معمل لعلم النفس التجريبي في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت أولى ثمرات هذه الدراسة الطويلة كتابه العظيم «أصول علم النفس» الذي يقع في جزأين. وبعدئذ رقي أستاذا مساعدا للفسيولوجيا، فأستاذا مساعدا للفلسفة، فأستاذا للفلسفة عام 1885م، وكان عمره عندئذ ثلاثة وأربعين عاما.
كان طبيعيا أن يتجه وليم جيمس منذ ذلك الحين نحو التفكير الفلسفي الصرف - أعني أنه لم يعد يصرف كل عنايته إلى علم النفس - فأخرج كتابه «إرادة الاعتقاد» (وهو مترجم إلى العربية). وفي عام 1901م دعي إلى أدنبرة ليلقي سلسلة محاضرات في الدين والفلسفة، فكانت مجموعة المحاضرات التي ألقاها هي ما أصدره بعد ذلك كتابا بعنوان «صنوف من التجربة الدينية». وفي عام 1906م ألقى ثماني محاضرات في مدينة بوسطن، ثم أعادها بعد عام في جامعة كولمبيا، وهي التي تؤلف كتابه «البرجماتية». ولم يلبث بعد ذلك أن ألقى سلسلة أخرى من محاضرات جمعها في كتابه «الكون المتعدد» وسلسلة أخرى جمعها في «معنى الصدق» وأخرى في «التجريبية المتطرفة». وكان آخر كتاب له هو «بعض مشاكل فلسفية» (مترجم إلى العربية)، مات ولم يكمله، فنشر ما كتب منه بعد موته. وكان موته سنة 1910م عن تسعة وستين عاما.
لقد جاء كتاب «أصول علم النفس» نقطة تحول في تاريخ هذا العلم؛ ذلك أن علم النفس قبله كان محوره تفتيت عملية الإحساس إلى سلسلة من انطباعات تنطبع بها الحواس، ثم تترابط داخل الإنسان ترابطا قيل إن له قوانينه التي تحكمه، فالأفكار يشد بعضها بعضا في الذهن كما يشد الحجر حجرا بقانون الجاذبية. وكان مذهب الترابط بين الأفكار هذا أساسا هاما قامت عليه الفلسفة الإنجليزية التجريبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، على أيدي «لوك» و«هيوم». فكأنما العقل بغير فاعلية خلاقة، وكأنما هو «لوحة بيضاء» - كما قال «لوك» - ترتسم عليه الانطباعات الحسية وتتجاذب، ولا حيلة له فيما يتلقاه إلا أن يسجله على صفحته تلك. أما العقل عند وليم جيمس فمختلف عن هذه الآلية الصماء، إذ هو عنده أداة فعالة نشيطة، مهمته أن يوائم بين الكائن وبيئته مواءمة تعين صاحبه على البقاء؛ فهو أداة بيولوجية - كسائر أعضاء الكائن الحي - لا تنفك تواجه المواقف الجديدة الطارئة فترد عليها بما عساه أن يكتب النجاة والبقاء القوي لصاحب تلك الأداة.
لكن هذا الوصف للعقل إنما ينطوي على نتائج خطيرة، لأن كلمة «العقل» بهذا تصبح اسما لا على كائن روحاني قائم بذاته - بل على نمط معين من السلوك، وما الذي يؤدي السلوك؟ هو الكيان العضوي نفسه، هو الجسد الحي. وإذن فقد زال الحاجز التقليدي بين العقل والجسم؛ لأنه إذا كان العقل مجموعة سلوكية يرد بها الكائن الحي على بيئته، فهذا السلوك هو نفسه الجسم السالك، وليس هناك جانبان: أحدهما غيبي يصدر الأوامر، والآخر ظاهري مادي يصدع بما يؤمر به. كلا، بل هنالك كائن عضوي واحد لا يتجزأ، هو الذي يسلك في بيئته على نحو معين. وهكذا تحطمت الثنائية التي شطرت الإنسان - بل شطرت الكون كله - نصفين: فعقل في جانب وجسم في جانب آخر.
Página desconocida