John Dewey - لم يسعهما إلا أن يتحركا في الإطار نفسه، برغم ما جاءا به من تعديل وتحويل.
يقول الفيلسوف في مقال كتبه عن نفسه:
إنه منذ اللحظة الأولى التي استطعت فيها أن أفكر، وإلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور - ولي من العمر ما يقرب من أربعين عاما - قد انصرفت إلى التفكير في مناهج البحث التي يصطنعها الباحثون فعلا، والتي يمكنهم أن يصطنعوها لو أرادوا لأنفسهم الكمال. أقول إنني قد انصرفت إلى التفكير في مناهج البحث انصرافا لم يفتر لحظة واحدة. وقبل أن آخذ نفسي بهذه الدراسة، كنت قد أنفقت عشر سنوات تحت التدريب في معمل كيماوي، فكنت على إلمام تام بكل ما كان معروفا عندئذ في الفيزياء والكيمياء، بل كنت كذلك على إلمام تام بالطريقة التي كان ينتجها أولئك العلماء الذين تقدمت المعرفة العلمية على أيديهم، فحصرت انتباهي حصرا شديدا في المناهج التي تسير عليها أضبط العلوم، واتصلت أوثق اتصال بطائفة من جبابرة العقول في عصرنا بالنسبة إلى علم الفيزياء، بل إني قد أضفت إلى العلم إضافات جديدة - وإن كنت لا أظنها ذات خطر كبير - في الرياضة وفي نظرية الجاذبية وعلم البصريات والكيمياء والفلك وغيرها؛ ولذا فإنني مشبع من قمة الرأس إلى أخمص القدم بروح العلوم الفيزيائية، وذلك فضلا عن الدراسة الواسعة التي تناولت بها المنطق، فقرأت كل ما قد كتب في موضوعه مما يعد ذا أهمية في هذا المجال ... وانتهيت إلى إقامة مذاهب منطقية في منهج الاستنباط وفي منهج الاستقراء على السواء.
ويمضي بيرس في الرواية عن نفسه فيقول إنه عندما كان يدرس المدارس الفلسفية كلها، ويتتبع طرائق الفكر عند أصحابها، كان إنما ينظر إليها من وجهة نظر الباحث العلمي في معمله، يبحث عن الجديد الذي لم يعرف بعد، لا من وجهة نظر الفيلسوف اللاهوتي الذي يتناول مادته وكأنما هي معصومة من الخطأ. ويروي لنا بيرس في هذا الصدد أنه أمضى ساعتين من كل يوم خلال ما يزيد على ثلاثة أعوام، في دراسة كتاب «كانت» (نقل العقل الخالص)، حتى لقد حفظ محتواه عن ظهر قلب. إلى هذا الحد البعيد قد ذهب بيرس في دراسته للفلسفة الألمانية على وجه الخصوص، لينتهي إلى نتيجة، وهي أن معظم هذه الفلسفة ليس بذي قيمة تذكر من حيث المنهج الذي يؤدي إلى فكر جديد. نعم إنها فلسفة غنية بإيحاءاتها، حتى لتظهر الفلسفة الإنجليزية ذات الطابع التجريبي إلى جانبها فقيرة ساذجة، إلا أن هذه الأخيرة مع ذلك أرسخ من زميلتها منهجا، إذا ما نظرنا إلى المنهج على أنه الوسيلة المؤدية إلى جديد. ولأضرب لذلك مثلا فأقول إن من بين النتائج التي كانت الفلسفة الإنجليزية قد وصلت إليها بمنهجها نظرية «ترابط الأفكار» التي يعدها بيرس أهم نتيجة وصلت إليها الفلسفة في عصر ما قبل العلم.
واختصارا فإن بيرس يوجز موقفه الفلسفي فيقول: إن فلسفتي يمكن وصفها بأنها محاولة فيزيائي أن يصور بنية الكون تصويرا لا يتعدى ما تسمح به مناهج البحث العلمي، مستعينا في ذلك بكل ما قد سبقني إليه الفلاسفة السالفون. لكنني لن أصطنع في هذا طرائق الميتافيزيقيين في الاستنباط الذي يقيمونه على فروض من عندهم، ويصلون به إلى براهين يصفونها بالصواب القطعي الذي لا يتعرض للتعديل على ضوء ما قد تكشف عنه البحوث العلمية فيما بعد. كلا، بل طريقتي هي طريقة العلم نفسها، وهي أن أقدم صورة للكون على سبيل الافتراض الذي ينتظر الإثبات على أساس ما قد يتكشف لنا من حقائق، ولذلك فهو يتميز أول ما يتميز بقابليته للصواب وللخطأ وفق ما تقدمه المشاهدة لنا بعدئذ من شواهد.
أحسب أن أهم ما نميز به فلسفة بيرس هو أن نصفها بأنها فلسفة علمية، لكن هذه الصفة بدورها تحتاج إلى تحديد، فما هي الخصائص التي اجتمعت في تلك الفلسفة لتجعلها «علمية»، إلا أن صاحبها هو نفسه عالم في الفيزياء والكيمياء؟ أهي فلسفة تقدم لنا النظريات والقوانين عن هذه الظاهرة من ظواهر الطبيعة أو تلك؟ كلا، فهي ما زالت كأية فلسفة أخرى تحاول أن تجاوز حدود الظواهر الجزئية إلى حيث بناء الكون كله مأخوذا جملة واحدة، لكن الذي يجعلها «علمية» لا «تأملية» هو أنها إذا ما نسبت إلى الكون حقيقة ما، اعتمدت في ذلك على تأييد الوقائع التجريبية. وقد لا يجيء هذا التأييد التجريبي على يدي الفيلسوف نفسه، بل قد يجيء به باحثون من بعده؛ ولذلك كان الطابع العلمي يحتم أن تكون الفلسفة عملا مشتركا يتعاون على أدائه أكثر من شخص واحد. وليست هي بالإنتاج العقلي الذي ينجزه من أوله إلى آخره شخص واحد بمفرده. وها هنا تضع إصبعك على فارق من أهم الفوارق التي تميز بين الفلسفة العلمية المعاصرة كلها - وما بيرس إلا واحد من أركانها - وبين الفلسفة التأملية كما قد عرفناها على أيدي الفلاسفة الأعلام، من أمثال أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانت وغيرهم. فقد كان كل من هؤلاء يبني نسقه الفلسفي من الأساس إلى القمة، كأنما هو عمل فردي فني لا يجوز فيه أن يشارك فيه أحد أحدا، فإذا جاء أرسطو - مثلا - ولم يعجبه البناء الذي أقامه أفلاطون، أقام هو بدوره بناء آخر من الأساس إلى القمة كذلك، وهكذا دواليك. فالفلاسفة هنا كالأهرامات المستقل أحدها عن الآخر، وليسوا هم كالطوابق في البناء الواحد يكمل أحدها الآخر.
وإنه ليترتب على هذه التفرقة مميز هام مما يميز الفلسفة العلمية التي كان بيرس من أعلامها، وهو ألا تجيء الفلسفة على نسق مختوم مقفل لا يقبل الزيادة ولا التعديل، بل تكون كالعلم في كونها سيرا متصلا جديده بقديمه، بحيث لا يكون هناك أمر يقال عنه إنه هو الكلمة الأخيرة؛ إذ إن البحث الجديد في المستقبل من شأنه دائما احتمال أن يعدل من النتائج السابقة، وإذن فالحقيقة «المطلقة» مثل أعلى ننشده ونقترب منه شيئا فشيئا، ولكنه ليس بالشيء الذي يتحقق في الواقع المشهود.
كان الفيلسوف الميتافيزيقي التأملي يبدأ بحقيقة يصفها باليقين الذي لا يحتمل الشك، ثم يستنبط منها كل ما يستطيع استنباطه من النتائج، حتى إذا ما اكتملت حلقات الاستنباط كلها، كان له بذلك «نسقه الفلسفي» الذي يفسر به الكون جميعا، فإذا سألناه: ومن أين جاءتك هذه الحقيقة الأولية الأولى التي بنيت عليها كل هذه النتائج؟ أجاب بأنها جاءتها عن طريق «الحدس» أعني عن طريق العيان العقلي المباشر، أو إن شئت فقل جاءته عن طريق اللقانة أو البصيرة، أما أصحاب الفلسفة العلمية - وفي طليعتهم فيلسوفنا بيرس - فلا يضمنون لك أي يقين فيما يزعمون، إنهم يعلمون - كما علمهم العلم الطبيعي في المعامل - أن كل حقيقة مرهونة بالتجارب التي تؤديها، أما أن يكون للعقل الصرف لقانة تقذف بالحقائق من لدنها، فإذا هي اليقين الذي يسلم به وتبنى عليه الأحكام، فذلك ما يرفضه الفلاسفة العلميون رفضا حاسما.
على أن الفلسفة العلمية المعاصرة ألوان وشكول، وأحد ألوانها هو الفلسفة «البرجماتية»
التي أنشأها بيرس ثم جاء من بعده من جاء من أبطالها، وهي فلسفة تصور العصر العلمي الذي نعيش فيه اليوم بصفة عامة، وتصور الحياة العملية التي يعيشها الأمريكيون في مدينتهم الصناعية الحديثة بصفة خاصة، وكلمة «برجماتية» مصطلح أوجده بيرس نحتا جديدا من أصل إغريقي، ليدل بجدة اللفظ على جدة المذهب، وإلا فقد كان في وسعه أن يختار كلمة أخرى من اللغة المستعملة ليشير بها إلى الجانب «العملي» «التطبيقي» الذي أراده. (برجماتوس
Página desconocida