وله في ذلك أعاجيب كلها رائعة، وكثير منها يدفع إلى البكاء دفعا. جهز عبدا إلى الشام فقد كان يتجر ليعيش، واحتاج إلى ثلاثة آلاف درهم فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف ليقرضه هذا المقدار، فقال عبد الرحمن للرسول: «ليقترضها من بيت المال.» فلما لقي عمر عبد الرحمن بعد ذلك سأله: «أأنت قلت هذا؟» قال: «نعم.» قال عمر: «فإني إن اقترضت هذه الدراهم من بيت المال ثم أدركني الموت قال المسلمون ضعوها عن أمير المؤمنين واتركوها لأهل أمير المؤمنين، وسألني الله عنها يوم القيامة، ولكن إن اقترضتها من شحيح مثلك ثم أدركني الموت لم يضعها عني، ولم يتركها لأهلي حتى تؤدى إليه.» ولما طعن وأفاق من غشيته الأولى كان أول شيء عناه وأهمه أن يعرف أكان طاعنه رجلا من المسلمين، فلما عرف أن طاعنه كان غلام المغيرة بن شعبة رضي واطمأنت نفسه؛ لأنه علم أن قاتله لا يستطيع أن يحاسبه أمام الله عن سيئة قدمها إليه أو شر جناه عليه.
ومن هنا لم يكن عمر شديدا على الناس بما كان يلقاهم به من الحزم فحسب، وإنما كان شديدا عليهم بما كان يتشدد على نفسه. وكان كثير من المسلمين يرون من إمامهم هذا العيش الخشن الغليظ، فيستحون أن يلينوا لأنفسهم من العيش أن يظهروا ذلك، وربما وسطوا إليه ابنته حفصة أم المؤمنين لتسأله أن يرفق بنفسه، وأن يبيح لها شيئا ولو قليلا من طيبات الحياة، فأجابها: «لقد نصحت لقومك وغششت أباك.» وكذلك كان ضميره مرهف الحس شديد المراقبة، يسأله عن كل شيء قبل أن يسأله الناس، وقبل أن يسأله الله، وكذلك أدى امتحانه مدة خلافته. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن رعيته لم تؤد الامتحان كما أداه، ولم تثبت للمحنة كما ثبت. ومراقبة الضمير لا تتاح للناس جميعا، وإنما تتاح لأخيارهم والممتازين منهم، وهي على النحو الذي عرفه عمر لا تكاد تتاح إلا للرجل الفذ بين حين وحين، أو قل بين القرون عليهم السنة ظهرت مراقبة الضمير في حياة عمر وفي أقواله وأفعاله جميعا، فكان يقول للناس: «إن الله قد ابتلاكم بي وابتلاني بكم، فما أدري أهي خطيئة مني أم خطيئة منكم، أم هي خطيئة عمتنا فعمنا من أجلها العذاب؟»
وقد صلى بالناس صلاة الاستسقاء فكانت صلاته استغفارا كلها حتى ظن الناس أنه لن يسأل الله شيئا إلا المغفرة، ولكنه في آخر الصلاة سأل الله أن يسقي الناس.
وعمر أول الخلفاء تشددا في تعرف أحوال الناس كما قدمت؛ ليتعرف ما يمكن أن يكون قد قدم إليهم من شر أو جنى عليهم من مكروه. كان إذا أقبل الليل صلى فأطال الصلاة ثم خرج مستخفيا يتحسس أخبار الناس ويستمع أحاديثهم، وقد نفعه ذلك فأصلح من أمور الناس شيئا كثيرا. كان قد فرض العطاء للرجال والنساء والفتيان والفتيات وللصبيان بعد أن يفطموا، فلما كان في بعض لياليه سمع صبيا يبكي بكاء شديدا، فسأل أمه عن مصدر هذا البكاء، فأجابته - وهي لا تعرفه - جوابا لم يقنعه، وعاد الصبي إلى البكاء فعاد عمر إلى السؤال، وتكرر ذلك من الصبي ومن عمر حتى ضاقت المرأة بهذا السائل الملح فقالت له: «لقد أثقلت علي منذ الليلة، ألم تعلم أن ابن الخطاب لا يعطي الصبية إلا بعد الفطام، فأنا أتعجل فطام هذا الصبي لننال عطاءه من بيت المال.» فانصرف عمر عن المرأة محزونا كئيبا وهو يقول: «ويل عمر! كم قتل من أبناء المسلمين!» ثم أمر المنادين فنادوا في الناس: «أتموا رضاع أبنائكم، فإن لهم عطاءهم منذ يولدون.»
ولم يعرف عمر نظم الحكم الديمقراطي كما ألفه اليونان والرومان في بعض عهودهم، ولكن ضميره الحساس وغريزته المستقيمة وقلبه الذكي وحرصه على العدل وخوفه من الجور ... كل ذلك دعاه إلى شيء ليس بعيدا عن النظام الديمقراطي. ولعل عمر لو عاش لأحدث للمسلمين نظاما ديمقراطيا عربيا. كان يستشير من حوله من أصحاب النبي وسادة الناس في كل ما يعرض له من المشكلات، ولكنه كان شديد الحرص على أن يحج بالناس في كل عام، ويشهد الموسم الذي يجتمع فيه أهل الأمصار، ويأمر العمال أن يوافوه على رأس من يليهم، فإذا كان الموسم وحضرت هذه الوفود سمع من العمال في الرعية، وسمع من الرعية في العمال، وأقر العدل والنصفة بين أولئك وهؤلاء. فكان - ومن يدري - لو أن الله مد له في الحياة إلام كان يصير أمر هذا الاجتماع السياسي المنظم.
وخصلة أخرى من خصال عمر هي بغضه للتكلف وازدراؤه للمتكلفين. يتأخر شيئا عن الصلاة، فإذا خرج جلس على المبنى واعتذر إلى الناس قائلا: «لقد أخرني قميصي.» غسل له قميصه فانتظر أن يجف ثم خرج للناس بعد أن تم له ما أراد. وقرئ أمامه قول الله عز وجل:
وفاكهة وأبا ، فقال قائل: «وما الأب؟» قال عمر: «هذا هو التكلف! وما يضرك ألا تعرف الأب؟»
ولو أني ذهبت أعد خصال عمر الرائعة وخلاله الممتازة لخشيت أن أستغرق هذا السفر دون أن أرضي من ذلك حاجتي وحاجة القراء، ولكنك توافقني فيما أظن على أن ما عرضت عليك من صورته كاف كل الكفاية لإثبات ما زعمته في أول هذا الفصل من أن أيسر الأشياء أن يصنع لعمر تمثال دقيق رائع دون أن يحتاج المثال إلى أن يستعين الخيال.
وقد حفظ التاريخ الصورة المادية لعمر كما حفظ الصورة المعنوية؛ فقد كان طويلا يفوق الناس كلهم طولا، وكان ضخما بدينا، وكان إذا مشى أسرع في مشيته، وكان أبيض اللون إلا في عام الجدب؛ فقد اقتصر على أكل الزيت حتى أفسد عليه معدته فاسود شيئا، وأكبر الظن أن الذين وصفوه بالسواد لم يروه إلا في ذلك العام.
وخصلة أخرى أختم بها هذا الفصل لأن عمر قد ختم بها حياته، وهي الرقة والأدب والحياء والإكبار لحرمات البيوت. كان عمر شديد الحرص على أن يدفن مع صاحبيه إذا مات، فلما طعن وأحس الموت دعا ابنه عبد الله وقال: «اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها إن عمر بن الخطاب يقرأ عليك السلام - ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست للمؤمنين أميرا - ويستأذنك أن يدفن مع صاحبيه.» فذهب عبد الله فقال ذلك لعائشة وعاد إلى أبيه بإذنها، فقال لابنه: «إذا مت احملوني على سرير، فإذا وصلتم إلى بيت عائشة فلا تدخلوا حتى تستأذنوا.» وقد حمل سرير عمر حتى إذا بلغوا بيت عائشة قالوا: «إن عمر بن الخطاب يستأذن عائشة أم المؤمنين.» ولم يدخلوا السرير حتى أذنت عائشة. وهنالك دفن عمر بن الخطاب مع صاحبيه محمد رسول الله وأبي بكر أول خلفاء المسلمين.
Página desconocida