وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين
أذعن لقضاء الله راضيا به مؤمنا له أصدق الرضى وأخلص الإيمان. تصورانه حين جد في أمر المسلمين وأخذ البيعة لأبي بكر باسطا يده للبيعة قبل أن تتم الشورى، حتى إذا استقرت الأمور واطمأنت القلوب واجتمعت الكلمة عرف من نفسه هذه الشدة وقال في بيعة أبي بكر: «كانت فتنة وقى الله المسلمين شرها.» تصورانه في كل ما تقرأ من مواقفه حينما كان يجد الجد ويحتاج الأمر إلى الحزم والعزم، ثم بعد أن تستقر الأمور وتهدأ العاصفة. وقد اختصر التاريخ هذه الصورة الغريبة الرائعة فيما تحدث به من أن عمر كان أشد الناس غضبا إذا غضب، وكان إذا ثار لم يثبت له أحد ولم يثبت له شيء، فإذا ذكر الله أو تلي القرآن رق حتى أصبح الرقة نفسها.
واختصر التاريخ هذه الصورة الرائعة أيضا حين روي ما كان من أمره لما اجتمع الناس إليه في الموسم فسأل عن سيرة العمال في الأمصار، فقام إليه أحد المسلمين وزعم له أن عامله قد ضربه، فأبى عمر إلا أن يقتص هذا الرجل من الوالي بمحضر من المسلمين، وجعل الولاة يصورون له أثر ذلك في إضعاف السلطان وإطماع الرعية في الولاة، فلا يحفل بشيء من ذلك لأن رسول الله قد اقتص من نفسه، حتى اضطر العمال إلى أن يرضوا هذا الرجل ويشتروا منه حقه بالدنانير، ولولا ذلك لرأت جماعة المسلمين رجلا من الرعية يعمل سوطه في جسم وال من ولاة الأمصار.
كان عمر شديدا حتى خشي الله في الشدة، وكان لينا حتى خشي الله في اللين، وكان يصطنع في الناس شدته ولينه جميعا، فأما مع نفسه وأهله فلم يصطنع قط إلا الشدة، ولم يعرف اللين قط إلى قلبه سبيلا. وكان عمر حريصا على مال المسلمين أشد الحرص، يحاسب العمال والولاة حسابا أيسر ما يقال فيه إنه كان عسيرا؛ لا يختار واليا لعمل من الأعمال حتى يحصي ماله قبل الولاية، ثم يتتبعه بعد ذلك ليرى كيف زاد ماله، ومصدر هذه الزيادة، وما الصلة بينها وبين ما كان له من عطاء. ثم لا يتحرج أن يقاسم الوالي ماله بعد عزله، فيترك له النصف ويرد النصف إلى المسلمين. وكان كريما في مال المسلمين إلى أقصى حدود الكرم، لا تكاد تجتمع إليه الأموال التي كانت تأتيه من الأمصار والأقاليم حتى يشيعها في المسلمين على طريقة رائعة حقا، لا يترك رجلا ولا امرأة ولا صبيا ولا صبية في أسرة تليه أو تبعد عنه إلا قسم له من هذا المال حظه وأدى إليه حقه وأدى إليه الفضل بعد الحق. ثم كان لا يأمن على ذلك أحدا، وإنما يليه بنفسه، ويتتبع أمور الناس لا ليعرفها ولكن ليعرف أيشكو الناس منه شيئا، أينكر الناس منه شيئا؛ فقد كان لا يأمن نفسه على تحقيق العدل كما كان لا يأمن الناس على تحقيق هذا العدل.
وقد أجدب المسلمون في بلاد العرب سنة، فاقرأ أخبار عمر في هذه السنة، فستقرأ أروع ما حفظ الأدب والتاريخ في أي أمة من الأمم وفي أي جيل من الأجيال وفي أي عصر من العصور، من تصوير الرفق بالرعية والنصح لها والإشفاق عليها والشدة على الأقوياء والرحمة للضعفاء. أخذ عماله في الأقاليم بأن يرسلوا إليه الطعام والكسوة للناس، ووجه رسله في أطراف الجزيرة وأنحائها يقسمون الطعام وينحرون الجزر ويكسون الناس، وقام هو على ذلك في المدينة وما حولها، وأبى أن يطعم في بيته إذا اجتمع المسلمون للطعام العام. قل السمن وقل اللحم، فحرم على نفسه السمن واللحم، وفرض على نفسه الخبز والزيت حتى يخصب المسلمون. وكانت حرارة الزيت تؤذيه، فتقدم إلى مولاه أن يطبخه له ليكسر من حرارته، فلم يغن ذلك شيئا، وجعل بطنه يقرقر، فيقول له: «قرقر ما شئت، فلن تطعم إلا الزيت حتى يخصب المسلمون.»
وكان عمر أجرأ الناس على الناس، حتى خافه الأقوياء وأشفقوا من لقائه، ووسط إليه كبار الصحابة من يسأله الرقة للناس؛ لأنهم يهابونه ويشفقون أن يعرضوا عليه حاجاتهم. ثم كان في الوقت نفسه أشد الناس خوفا من الضعفاء والعاجزين والمحرومين، يستطيع أهون الناس شأنا وأيسرهم أمرا أن يجترئ عليه ويلقاه بما يكره من الحديث، فيسمع ثم يعتذر ثم يستعبر ثم يستغفر.
وأروع ما تلقاه في شخصية عمر من الخصال هذه الفكرة التي كونها لنفسه عن الخلافة منذ ولي الخلافة إلى أن مات. وقد صورها هو تصويرا رائعا بإيجازه ودقته وصراحته العنيفة حين خطب الناس لأول مرة بعد البيعة فقال: «أيها الناس، إنكم قد ابتليتم بي وابتليت بكم.»
فالخلافة عند عمر امتحان للخليفة وللرعية معا، كلاهما ممتحن بصاحبه، وكلاهما خليق أن يحتمل المحنة ثابتا لها صابرا عليها، وأن يخلص منها وينقذ من مشكلاتها صحيحا بريئا، لم يكلم في نفسه ولا في دينه ولا في شيء من هذه الملكات الكثيرة المعقدة التي تكون ضمير الرجل الكريم. وإذا كان الخليفة ممتحنا دائما مبتلى برعيته فمن الحق عليه لنفسه وللناس، ومن الحق عليه لله الذي يلي أمره وأمر الناس؛ أن يحاسب نفسه دائما عن عظيم الأمر وهينه، وألا يأتي أمرا صغيرا أو كبيرا إلا وهو عالم بما يأتي وبما يحمله على أن يأتي هذا الأمر أو ذاك، إلا وهو مقدر أنه سيسأل عما أتى ومهيئ الجواب على هذا السؤال حين يلقى إليه. سيسأل عما أتى في اليوم الآخر حين يسأله الله عن الجليل والضئيل من أعماله. وقد يسأل عما أتى في كل لحظة ومن كل إنسان. فإنه حين نهض بالأمر قد عرض نفسه لهذا السؤال؛ لأنه احتمل أمانة يشترك في حسابه عنها الناس جميعا، وينفرد بحسابه عنها آخر الأمر ربه الذي جعل إليه أمور الناس على أن يؤدي إليه حساب ما فعل وما ترك.
وما أعرف أن خليفة من خلفاء المسلمين أو ملكا من ملوكهم منح ما منحه عمر من هذا الضمير الحساس إلى أقصى ما يستطيع الضمير أن يحس. ظهر ذلك من أمره للناس جميعا ظهورا قويا مقنعا حتى شبهوه بالميزان الدقيق الذي لا يمكن أن ينحرف أو يجور. وما أعرف خليفة من خلفاء المسلمين أو ملكا من ملوكهم تمثل حساب الله له في جميع لحظاته يقظان ونائما عاملا ومستريحا، مقبلا على عظائم الأمور أو على الهين منها كما فعل عمر.
يدخل عمر على بنته حفصة أم المؤمنين فتقدم إليه خبزا ومرقا قد جعلت فيه الزيت، فينصرف عنه ويقول: «أدمان في إناء واحد؟ لا والله لا أذوقهما.» ويدخل على رجل من المسلمين فيستقيه، فيقدم إليه الرجل شرابا، فيسأل ما هو، فإذا عرف أنه عسل انصرف عنه وقال: «لا والله، ليحاسبني الله عليه.» ويدفع إلى أحد الفرس قميصا له ويتعجله في ذلك فيقدم إليه الفارسي قميصين قد صنعهما فيسأل: «أليس فيهما من مال الذمة شيء؟» فيجيب الفارسي: «لا، إلا الخيط.» فينهره عمر ويقول: «اغرب واردد إلي قميصي.» ويرد عليه الفارسي: «قميصك لم يجف بعد.» فهو يرى الله إذا أصبح ويراه إذا أمسى، ويتمثل نفسه قائما بين يديه يؤدي إليه الحساب عما فعل وما قال .
Página desconocida