ولكنهما يختلفان بعد ذلك في مسائل إعداد الزوجين؛ فأما المسيو ليون بلوم فيفرض مدرسة لا تقيمها وزارة المعارف ولا وزارة الشئون الاجتماعية ولا أي وزارة من الوزارات، مدرسة لا بناء لها ولا برنامج لها ولا ناظر لها، وإنما الدنيا كلها هي بناؤها، والحياة كلها هي برنامجها، والطبيعة كلها هي ناظرها، يدخل الناس فيها أحرارا ويخرجون منها أحرارا - إن كان الناس أحرارا في هذه الحياة - ولكنهم قد يدفعون إلى الشر الذي لا حد له وإلى الفوضى التي لا ضابط لها. وأما مدرسة الأستاذ أحمد أمين فهي - كما رأيت - مدرسة ستقام في شارع المنيرة أو في شارع العباسية أو في شارع من شوارع القاهرة، سيكون لها برنامج محدود مكتوب، يأبى الأستاذ أحمد أمين أن يرسمه، لأنه لا يستطيع أن يرسمه، ولأن رسمه لا سبيل إليه، وستكون له ناظرة درست بالطبع في فرنسا أو في إنجلترا ونالت الليسانس أو الدكتوراه أو البكالوريوس أو الماجستير، في أي مادة؟ لا أدري ولا يدري الأستاذ أحمد أمين. وستكون هذه المدرسة تابعة لمراقبة تعليم البنات في وزارة المعارف أو لفرع من فروع الشئون الاجتماعية، لا أدري ما هو ولا يدري الأستاذ أحمد أمين ما هو، وسيكون في هذه المدرسة أساتذة لا أدري أيكن من السيدات والآنسات؟ أيتخرجن في مصر أم في أوروبا أم يتخرجن هنا وهناك؟ ولا أدري في أي مادة يتخرجن ولا يدري الأستاذ أحمد أمين أيضا. وليس يكفي أن تزعم أن ذكر البرنامج تفصيل وأنك لا تريد الدخول في التفصيل، فحاجتنا إلى التفصيل أشد من حاجتنا إلى الإجمال. فحدثني ماذا تريد أن يدرس في هذه المدرسة؟ صنع البطاطس في الفرن كما يريد توفيق الحكيم؟ فإن بناتنا يتعلمن هذا وكن يتعلمنه قبل أن تنشأ المدارس. العزف على البيانو والعود والقانون؟ فإن هذه أشياء تدرس الآن في المدارس والبيوت. تفصيل الثياب وألوان اللباس؟ فإن هذا يدرس عند المعلمات قبل أن تنشأ المدارس. ويدرس في هذه المدرسة بعد إنشائها ثقافة العقل والقلب والحس والشعور بالأدب والعلم وبالفن والفلسفة؟ فإن هذا يدرس في المدارس والجامعات. الأخلاق وآداب الأسرة والاجتماع؟ فإن هذا يدرس ولا يجدي درسه والخير أن يكتسب من الحياة العملية اكتسابا. ماذا تريد إذن أن يدرس في هذه المدرسة؟ وأين تريد إذن أن يتخرج الأساتذة الذين يعلمون في هذه المدرسة برنامجا لم ترسمه، وما أرى إلا أنك ستجد إلى رسمه سبيلا؟ وهل من الحق أن الزوجات وحدهن يحتجن إلى العناية وإلى أن تنشأ لهن مدرسة خاصة؟ أعليهن وحدهن وزر الفساد الاجتماعي الذي تشقى به الأسرة والأمة؟ أليس من الحق، بل من الواجب، أن نصارح أنفسنا في شجاعة وحزم وبراءة من الأثرة والكبرياء بأن وزر الفساد - إن كان هناك فسادا - إنما يقع على الرجال قبل أن يقع على النساء، وأن النساء إن شاركن فيه فإنما يشاركن فيه بمقدار يسير. إن المرأة لا تشكو من آثام الزوج أو لا تشكو منها إلا قليلا جدا، وأؤكد لك أن آثام الزوج وسيئاته أعظم وأضخم وأشد هولا مما يمكن أن تؤخذ به المرأة.
إنك لتعلم كما أعلم أن أكثر الرجال يلغون المرأة إلغاء من حسابهم في حياتهم اليومية، فهم يهملونها إذا أقبلوا على أعمالهم لينهضوا بتكاليف الحياة، وليس عليهم بذلك بأس، ولكنهم قد يسرفون في تكاليف الحياة هذه فيغرقون فيها إلى آذانهم، ويضحون في سبيلها بتكاليف الحياة المنزلية، وإذا المرأة وحيدة مهملة قد أصبحت أجيرة لتقوم لسيدها ومولاها على إعداد طعامه وتنظيم حياته المادية اليسيرة، وتقوم على تربية أبنائها كما تستطيع؛ تعمل في النهار وتعمل في الليل، تعمل عن علم إن علمتها، وتعمل عن جهل إذا لم تعلمها، وتحظى بالرضى قليلا وتشقى بالغضب.
ثم لا ينصرف الرجال عن أزواجهم إلى تكاليف الحياة وحدها، ولكنهم ينصرفون إلى متاع الحياة وفضولها وسخافاتها، يتخذون بيوتهم فنادق يؤون إليها ليناموا ويؤون إليها ليطعموا، ولعلهم يطعمون في بيوتهم مرة في اليوم ويأخذون حاجتهم إلى الطعام في الأندية والمطاعم والقهوات. وإنك لتعلم كما أعلم جناية القهوات والأندية على البيوت، وجناية حياة الشارع على حياة الأسرة. وإنك لتعلم أن الرجل يؤثر نفسه بما استطاع من ألوان اللذة والمتاع، ويترك امرأته حيث هي في بيئتها البائسة المظلمة كأنها لم تخلق للذة ولا لمتاع، فإذا سئل عن ذلك تعلل بأن امرأته لا تلائمه، وبأن الزوج الصالحة لم توجد في مصر بعد. وإنما هي معاذير لا تغني عن الحق شيئا، والحق أن الرجل ليس خيرا من امرأته، ولعل امرأته أن تكون خيرا منه وأصفى نفسا وأطهر قلبا وأقوى إرادة وأشد احتمالا وأنقى ضميرا.
شيئا من الرفق أيها السادة! لا تظلموا أنفسكم بظلم النساء، ولا تزعموا أنهن في حاجة إلى الإصلاح من دونكم؛ فهن في حاجة إلى أن يتعلمن كما أنكم في حاجة إلى أن تتعلموا، وهن في حاجة إلى أن نلائم بين حياتهن وبين التطور الذي انتهينا إليه أو الذي نقبل عليه، وأنتم في حاجة إلى مثل ذلك، ولكنكم في حاجة إلى أشياء لم تظهر حاجتهن إليها بعد، أنتم في حاجة إلى ضبط أنفسكم، والقصد في لذاتكم وإرضاء شهواتكم، والاعتدال في إيثاركم أنفسكم بالخير واعتقادكم بأن الدنيا قد خلقت لكم ولكم وحدكم؛ فأصلحوا أنفسكم تصلح المرأة.
والله يعلم ما أزعم أن المرأة ليست في حاجة إلى الإصلاح، ولكني أزعم أن حاجة الرجال إلى هذا الإصلاح أشد من حاجة النساء، ثم أزعم بعد ذلك أن هذا الإصلاح لا يكون بإنشاء مدرسة تخرج الزوجات الصالحات أو الأزواج الصالحين، وإنما يكون بالملاءمة بين حياتنا الاجتماعية وبين ما يقتضيه العصر الحديث من التطور في النظم السياسية والاقتصادية قبل كل شيء، وفي النظم الاجتماعية المختلفة بعد ذلك. حققوا العدل بين الناس في الغنى والفقر، وفي الاستمتاع بلذات الحياة والاحتمال لآلامها ومشقاتها، وفي الاستمتاع بالحقوق والنهوض بالواجبات، وأنشئوا للحكم وتحقيق العدل ونشر التعليم والعناية بالصحة العامة أدوات صالحة مستقيمة، وثقوا بأن هذا كله سيصلح شئون الرجال والنساء جميعا، وسيكفل تخريج الزوجات الصالحات والأزواج الصالحين.
وأخيرا، أين تكون الشكوى من الزوجات غير الصالحات؟ إنا لا نسمعها في القرى والريف؛ لأن الرجال والنساء يشقون جميعا شقاء مشتركا بحياة قوامها البؤس والضنك والعلل والأمراض، ولا نسمعها في طبقات العمال التي تعيش في المدن؛ لأن هذه الطبقات يشقى رجالها ونساؤها شقاء مشتركا بعذاب مشترك، يشبه ما يشقى به أهل الريف. وإنما نسمع هذه الشكوى في بيئات ضيقة بين الشباب المتعلمين الذي ارتفعوا شيئا ما عن طبقتهم فارتسمت لهم مثل عليا في الحياة، لا يجدون من النساء أعوانا عليها، وهذه أزمة طارئة ستزول يوم يتحقق العدل بين المصريين جميعا، وبين الرجال والنساء خاصة في جميع مرافق الحياة.
فالعدل العدل أيها السادة، العدل الاجتماعي وحده هو قوام الإصلاح، وهو سبيله، وهو غايته، وهو كل شيء. وقد كنت أظن أن وزارة الشئون الاجتماعية قد أنشئت لتحقيق هذا العدل الاجتماعي، وما زلت أظن بها ذلك وأنتظره منها.
أزمة الجامعة
لست أحسن التنبؤ بما سيكون في غد، ولا حظ لي من القدرة على التحدث بالغيب، ولم أتعلم قط ضرب الرمل ولا استشارة الودع، ولا قراءة خطوط الكف، ولا استنباء الورق سيكون. ومع ذلك فقد كنت متنبئا أو كالمتنبئ حين كتبت متحدثا عن الجامعة؛ فقد كنت أقدر في ذلك الفصل أن الجامعة بعد أن رد إليها استقلالها، وبعد أن تم لها تكوينها بضم المدارس العليا إليها، قد أصبحت أعظم قوة عقلية ومعنوية في مصر. ولم أكن في حاجة إلى شيء من هذه المؤهلات التي أشرت إليها آنفا، بل لم أكن في حاجة إلى ذكاء ممتاز لأتنبأ بهذه الحقيقة التي أثبتتها الأيام بعد أن أذعتها في الناس بشهر ونصف شهر، ذلك أن طبيعة الأشياء تفرض هذه الحقيقة على مصر فرضا؛ فالعقليون في كل أمة متحضرة هم مصدر القوة الصحيحة لأنهم هم الذين يفكرون ويقدرون، وهم الذين يعدون ويدبرون، منهم تصدر الآراء والخواطر التي ينبعث عنها العمل في كل بيئة من بيئات العمل، وإليهم تعود هذه الآراء والخواطر بعد أن تتصل بالعاملين في بيئاتهم التطبيقية فيدركها التمحيص الذي يصلح ما قد يكون فيها من خطأ ويقوم ما قد يكون فيها من عوج، ويكمل ما قد يكون فيها من نقص، ويحذف ما قد يكون فيها من زيادة، ويهدئ ما قد يكون فيها من غلو وإسراف. وخذ أي مظهر من مظاهر الحياة العاملة في أي بيئة من بيئات النشاط القومي، ثم حلله وعلله فسترى أنه صدر عن العقليين فبعث نشاط العاملين، وأنه عاد إلى العقليين فمكنهم من إصلاح آرائهم وتقويم نظرياتهم، ثم عاد بعد ذلك إلى العاملين فمنحهم قوة إلى قوة، ونشاطا إلى نشاط، وإنتاجا إلى إنتاج.
ذلك حق واقع في كل بلد من بلاد الأرض يستمتع بحظ ولو قليل من الحرية. على أن ظواهر الأشياء قد تخدع الناس أحيانا عن هذا الحق الواقع، فتصور لهم تكوين الجماعة على أنه مؤلف من عناصر مختلفة؛ فرجال العقل يعملون من ناحية، ورجال الاقتصاد والمال يعملون من ناحية أخرى، ورجال السياسة والحرب يعملون من ناحية ثالثة، والطبقات العاملة في الحياة المادية اليومية - طبقات الزراع والصناع والتجار - تعمل من ناحية رابعة.
Página desconocida