ولم يكن بد من أن يؤلف صديقي العزيز أحمد أمين لجنة للمروءة، كما يؤلف في كل يوم لجانا ولجانا لما يعرض من المشكلات القريبة والبعيدة، فتأليف اللجان لازمة من لوازمه، واللجنة عنصر من العناصر الأساسية لتفكيره الاجتماعي، فلا يكاد يعرض له أمر يحتاج إلى الروية والتفكير حتى يفكر قليلا، ويستعرض ألوانا من الحلول، ثم يقترح تأليف لجنة للنظر في هذا الأمر وحله على أحسن وجه ممكن.
ذلك لون من ألوان التواضع، وفن من فنون الديمقراطية، وتقدير لأصل الشورى، يحمد للأستاذ ويسجل له فضله. وقد عرفنا منه الشغف باللجان، والإسراع إلى تأليفها، فداعبناه بذلك. والله يعلم أني حين طلبت إليه النظر في تنظيم مدرسة المروءة لم أكن أريد إلا توريطه، وقد تورط في تأليف لجنة، فله الشكر على هذه اللجنة قبل أن تؤلف وبعد أن تؤلف، وقبل أن تعمل وبعد أن تعمل، وله الشكر عليها إن وفقت، وله الشكر عليها إن أخفقت؛ فليس المهم من أمر هذه اللجنة أن تعمل أو تكسل، وليس المهم من أمرها أن تنجح أو تخفق، وإنما المهم أن تؤلف، وأن تؤلف ليس غير؛ ففي تأليفها ما يضحكنا ويسري عن نفوسنا، وليس ذلك بالشيء اليسير في هذه الأيام التي لا يتاح الضحك فيها للناس إلا بمقدار.
وفي تأليفها ما يخيل إلينا أننا عملنا شيئا، وهذا كثير جدا، يلائم ما فطر الله عليه أمزجتنا من الاستغناء بالخيال عن الحقيقة، والاكتفاء بالصور والأشكال في أكثر ما نعمل وما لا نعمل، وفي أكثر ما نقبل عليه أو ننصرف عنه.
وليس أيسر من أن نطلب إلى مصلحة الإحصاء، وهي عندنا قادرة ماهرة، أن تحصي لنا اللجان التي ألفناها والنتائج التي انتهت إليها هذه اللجان، فسنرى من هذا الإحصاء ما يسر ويرضي، وسنستقبل اللجنة الجديدة التي يقترح صديقنا تأليفها بشيء من الابتسام الحلو أو المر، وسنطمئن إلى أنها لن تعمل شيئا بإذن الله.
ولكن هذا لن يغض من قيمة هذه اللجنة الخطيرة؛ فإن في تأليفها وتكليفها العمل على نحو ما فعل الصديق العزيز شيئا من الشعر له خطره، وحظا من الجمال له قيمته؛ فهو حلم لذيذ، والأحلام خير ما في الحياة لأنها تخيل إلينا من المثل العليا، وتصور لنا من الآمال، ما لا تواتينا به الحياة الواقعة؛ فهي تريح نفوسنا الطامحة من اليأس، وتسليها عن العجز، وتخفف عليها أثقال الحياة. ولكني مع ذلك أريد أن أجادل الصديق العزيز في لجنتنا هذه العزيزة، فقد يخيل إلي أنها ليست أقل عسرا ولا إشكالا من المدرسة التي كنت أتحدث عنها، والتي كنت أريد لها المناهج والبرامج، والإجازات والدرجات، والحجرات والغرفات، والأساتذة والمدرسين.
ظن صديقنا أنه يخلص من هذه المشكلات حين يجعل المملكة المصرية كلها مدرسة للمروءة، وحين يكل أمر هذه المدرسة إلى لجنة واسعة السلطان عظيمة السيطرة، لا حد لما تملك من قوة وبأس. ولكن هل فكر الصديق في هذه اللجنة كيف تختار؟ وممن تؤلف؟ وعلى أي مبدأ من المبادئ يكون اختيارها وتأليفها؟ أيختارها هو وحده، فقد جعل نفسه إذن ديكتاتورا هائلا مخوفا، وهو فيما أعلم أبغض الناس للنظام الديكتاتوري؟ أم يكل اختيارها إلى جماعة بعينها من الناس؟ فكيف تختار هذه الجماعة؟ وعلى أي مبدأ تختار؟ أم يجعل اختيارها إلى الشعب كله تحقيقا للأصول الديمقراطية ورعاية لمبادئ الدستور؟ فإن الشعب قد انتخب وسينتخب، كما انتخبت وستنتخب الشعوب ألوانا من البرلمان، وفنونا من مجالس الحكم، فلم تحقق مما أراد الأستاذ ومما أريد أنا شيئا. وإذن فكيف اختيار هذه اللجنة؟ وممن يكون تأليفها؟ وعلى أي مبدأ من المبادئ يكون هذا الاختيار والتأليف؟ فهذه مشكلة أزعم أن الأستاذ لن يظفر لها بحل مهما يؤلف من لجان.
ومشكلة أخرى، وهي أني أفترض أننا قد ظفرنا بما لا سبيل إليه، فألفنا هذه اللجنة على خير وجه ومنحناها أو منحت هي نفسها أعرض السلطان وأضخمه، وأعمقه وأنفذه، وبدأت في العمل. فثق أيها الصديق العزيز بأنها ستجر البلاد إلى خطر لا يشبهه خطر، وستصب عليها كوارث وقانا الله شرها، وجنبنا نتائجها السود. ذلك أنها ستجري أمور التولية والعزل على المروءة، قبل أن تجريها على الكفاية، وعلى الأخلاق قبل أن تجريها على الذكاء، وعلى حسن السيرة والارتفاع عن الصغائر والحياة مما لا يليق بالرجل الكريم، قبل أن تجريها على العلم بما ينبغي لمرافق الناس من فنون تمكن من إدارة هذه المرافق على ما ينفع الناس ويصلح شئونهم؛ فليس المهم أن يظفر المهندس بإجازته الفنية من كلية الهندسة، وأن يكون بارعا في فنون الري أو البناء أو الكهرباء، وإنما المهم أن يكون ذا مروءة لا يفعل في السر ما يكره أن يفعله في العلانية. فحدثني ماذا يصنع الناس بهذا الرجل ذي المروءة إذا اضطربت عليهم أمور الري والبناء والكهرباء، ولم يكن هذا الرجل ذو المروءة يحس من هذه الأمور شيئا؟ وليس المهم أن يخرج المعلم من كليات الجامعة ومعهد التربية، وأن يحسن المادة التي يراد تعليمها والفن الذي يصطنع في هذا التعليم، وإنما المهم أن يكون ذا مروءة؛ أي أن يكون رجلا كامل الرجولة أو إنسانا كامل الإنسانية. فماذا يصنع الناس بهذا الرجل ذي المروءة إذا كان لا يحسن علما ولا فنا، وهم في حاجة إلى من يعلمهم ويؤدبهم؟ وقل مثل هذا في القضاة، وقل مثله فيمن شئت من الذين توكل إليهم أمور الحياة العامة. أرأيت إلى أن لجنة المروءة هذه إن ألفت وتركت إليها الأمور، واتخذت المروءة وحدها شرطا أساسيا للتولية والعزل، لن تكون مصدرا للخير ولا للإصلاح، ولكنها ستصبح مصدرا للشر والفساد، وستدفع الناس ومصالحهم إلى خطر عظيم؟
وليس هذا كل شيء؛ فإن لجنة المروءة هذه ستكون صغيرة كما قلت، أو كبيرة كما يمكن أن يقال، ولكنها ستكون قلة على كل حال، فإذا جعلت الأمر إليهم وتركت لها الحكم في أقدار الناس وحظوظهم من المروءة، فهي مندفعة إلى الجور راضية أو كارهة.
فليست المروءة شيئا يمكن تحديده، بحيث لا يكون في هذا التحديد تنافر أو اختلاف، وإنما هي شيء تقديري يختلف الناس في تصوره كما يختلفون في تعريفه وفي تقديره؛ ولذلك لم تستطع أن تعرض علينا تعريفا جامعا مانعا للمروءة. وإذن فسترى اللجنة رجلا ذا مروءة لأنها عرفت ذلك فيه، فحكمت بذلك له، وستكل إليه من أمور الناس ما يحسن وما لا يحسن، وسترى أنت - وسأرى أنا، وسيرى غيرك وغيري - أن اللجنة قد أخطأت فيما قدرت، وجارت فيما حكمت، وحابت هذا الرجل بما وكلت إليه من أمور الناس، وسننكر اللجنة وأعمالها كما ننكر كثيرا من الوزارات وكما ننكر أعمالها، وسيكون للجنة مؤيدون ومعارضون كما أن للوزارات مؤيدين ومعارضين، وسيكون التنافس بين أولئك وهؤلاء، ستدافع اللجنة عن نفسها، وستستمسك بسلطانها، وستسلك إلى ذلك كل سبيل، وسنعود إلى حيث كنا قبل أن تؤلف اللجنة، وسنشكو مما نشكو منه الآن، وسأطلب إليك أن تنظم لنا مدرسة للمروءة، تعلم الناس كيف يرتفعون عن الصغائر، وكيف يبرئون أنفسهم من النقائص، وكيف يتنزهون عن إيثار أنفسهم بالخير على حساب الناس، وكيف يربئون بأنفسهم عن الكيد والدس، ويطهرونها من الخيانة والغدر والمكر والخداع، وكيف يقدمون على العمل وهم مطمئنون إلى أنهم لن يستحوا منه أمام أنفسهم إذا خلوا إليها، كما أنهم لا يستحون منه أمام الناس حين يلقون الناس.
أترى أيها الصديق العزيز أن لجنتك ليست أيسر أمرا ولا أهون خطبا من مدرستي، وأن الأمور ليست من السهولة والأسماح بحيث تظن أنت وأظن أنا؟ وأن إصلاح الأخلاق لا يكون بالقانون ولا يكون بالمدارس ولا يكون باللجان؟ وإن كنت لا أدري بماذا يكون لك الشكر، فقد أتحت لي أن أحلم معك حلما لذيذا، ولك العذر ؛ فقد حاولت ما لا سبيل إلى تحقيقه، وطلبت ما لا أمل في الوصول إليه؛ فلقد مضى الناس على أمرهم منذ عرفوا حياتهم الاجتماعية ونظمهم السياسية. وما أعرف أن جماعة منهم تحضرت وعرفت نفسها إلا وقد اتخذت لها مثلا عليا في الآداب والأخلاق، وجدت في الوصول، وسلكت إلى ذلك سبلها المختلفة، فوصلت الإنسانية إلى ما ترى، وما زالت تطلب مثلها العليا، وترى أنها بعيدة عن هذه المثل، وتشكو من نقص المروءة، وضعف الأخلاق، وفساد الأمور المعنوية كلها، كما كانت تشكو منذ أزمان، وكما ستشكو بعد أزمان. ذلك أن المثل الأعلى ماكر ماهر، وخادع مداعب، يدني نفسه منا حتى يطمعنا في نفسه، وحتى يخيل إلينا أن ليس بيننا وبينه إلا أن نمد إليه أيدينا فنأخذه، ولكننا نمد أيدينا فلا نأخذ شيئا، ولا نقبض إلا على الهواء، وهو مع ذلك يتراءى لنا قريبا كل القرب، دانيا كل الدنو. كذلك خيل إلي حين فكرت في مدرسة المروءة، وكذلك خيل إليك حين فكرت في لجنة المروءة. أستغفر الله، فما لنا نخدع أنفسنا ونخدع الناس! إنه لم يخيل إلي شيئا، ولم يخيل إليك شيئا، وإنما أحسست أنت كما أحسست أنا آلاما لما نجد من نقص المروءة عند الناس، ومن ضعف الأخلاق وانحراف الطبائع عما ينبغي لها. وكرهت أنت كما كرهت أنا أن نشكو من هذا الشر؛ فعرضت أنت كما عرضت أنا الشكاة في صورة السعي إلى الإصلاح، من طريق المدرسة ذات المناهج والبرامج، وذات الحجرات والغرفات، والتي تتبع وزارة المعارف أو وزارة الشئون الاجتماعية، ومن طريق اللجنة الصغيرة ذات السيطرة الواسعة والسلطان العريض، ثم أفقت أنت كما أفقت أنا من هذا الحلم اللذيذ، فرأينا أن أيا كذا خلقت كما يقول النحاة، وأن تغيرها ليس في أيدينا، وإنما هو في أيدي الزمن الذي هو أقوى منا، والذي يصعب تحليله ورده إلى أصوله وعناصره، فما أريد زمن الفلاسفة، وإنما أريد هذا الزمن الذي يتغناه الشعراء، فيشكون منه حينا، ويشكون إليه حينا آخر.
Página desconocida