ومضى الفتى لشأنه وخلف الفتاة في الحي تنتظر مآبه.
لم تهدأ ثائرة البادية يوما، على حين قد خيل للفاتح المغير أنه قد غلب وتسلط، فإن جمرات تحت الضلوع لم تزل تبص بصيصها حينا بعد حين ثم تختفي، ولكنها لا تخبو.
وقاد راجح فرقته الصغيرة فمضى بها حتى أوى إلى غار في طريق الرائد والسابل والقافل، يتربص على حذر ورقبة، فما يمر به ولي ولا عدو إلا برز له فعرفه نفسه وغايته وخيره بين عاقبتيه ...
واستشرى أمر الفتى وقوي سلطانه وعز جنده، ووفدت إليه الوفود من أبناء البدو وأفلاذ الصحراء مذعنين لأمره مطيعين، وعقدوا له اللواء. وحار الأعداء حيرتهم فما عرفوا سبيلا إليه ولا منجاة منه، وإن لهم العدد والقوة والعتاد.
وترامت أخبار الفتى إلى فتاته، فرفعت عينيها إلى السماء تدعو الله مشفقة راجية.
وبث العدو سراياه بين الكهوف والوديان يطلب أثره ويلتمس غرته، وراحت الدبابات الإيطالية تطأ الأخبية وتجوس خلال الديار، وحلقت الطائرات تقذف اللهب وترمي بالصواعق، ومضت الكتائب المكتبة تحاصر القرى وتقطع الطريق؛ وانكشف المخبأ، ونشبت المعركة في ضوء الصبح، وكان ما لا بد أن يكون، وأمعن العدو قتلا ومثلة حتى بلغ مبلغه، وتبدد الجيش الصغير الباسل وتقسمته بطون الأرض أشلاء وجماجم ... وعادت طائرات الجيش الظافر تحلق في سماوات القرى المغلوبة وترسل إليها التحية قذائف من جماجم بنيها الشهداء ...!
ولبس الحداد شعب بأسره، وأحدت بدرية على فتاها كما أحدت على أبيها وعمها من قبل ...
وفي بيت من الشعر إلى جانب الصحراء في شرق الإسكندرية، رأيت بدرية منذ بضع سنين ...
كنت أصطاف يومئذ هناك، وكان بيتها على مقربة من داري، فإنها لتغدو علي وتروح كل يوم لحاجتها بين البيت والسوق، فأراها ...
لم أكن أعرف شيئا عن ماضيها، ولم يحدثني أحد بخبرها، وإنها لواحدة من كثيرات من الأعراب المهاجرين من برقة قد ضربوا خيامهم هناك. ولكن مرآها مع ذلك كان يثير في نفسي فضولا عجيبا، فما أكاد ألحظها قادمة من بعيد حتى تطيف بي خواطر وأسئلة لا أجد في نفسي جوابها، فأتبعها عيني حتى تغيب ...
Página desconocida