وفعل به الفراق ما فعل حتى لا قرار له، فليس له أمنية من بعد إلا أن يعود ما كان. وتصرمت السنون والفتى في حنين دائم وشوق لا يغلب.
وحن توفيق إلى أهله، فآثر العمل في شركة مصر للملاحة؛ ليكون جهاده لبلاده، ولم ينس «حقيبة الذكريات» فإنه ليصحبها معه أين يكون، يستروح منها نسمات الحب، ويأنس إليها في ساعات الوحشة ...
ومضت الباخرة «زمزم» تتهادى من ميناء السويس في طريقها إلى جدة في ديسمبر سنة 1938 وعلى ظهرها الملاح «توفيق»، ثم أرست، وركب الحجاج الفلك إلى رصيف ميناء جدة ومعهم توفيق محرما بالحج.
وطاف الحجيج بالبيت ملبين ضارعين، ووقف الفتى حيث بدأ الناس، لا يتقدم ولا يتأخر، وحضرته الذكرى، فرأى كتابه منشورا على عينيه بما فيه من خطايا وآثام، وهم أن يرفع رأسه فما أطاق، كأنما يحمل أوزار السنين على كاهله، وتندت عيناه بالدمع ... وتذكر يوم كان ... فتى يخطو إلى العشرين في حارة «قصر الشوق» لا يحمل من هم وليس له ماض، فترامى على أستار الكعبة نادما يستغفر، وانهملت دموعه على خديه ...
وعادت زمزم تخطر على ثبج الماء، وعلى ظهرها ركابها مهللين داعين، ترف على شفاههم بسمات الرضا والاطمئنان.
وعاد توفيق إلى غرفته من السفينة راضيا مبتسما طاهر القلب، كما كان يوم ركب السفينة أول مرة من ميناء الإسكندرية منذ تسع سنين ليتعلم الملاحة.
ونظر إلى متاعه فرأى ... وكأنما برزت حقيبة الذكريات لعينيه أول ما نظر لترده إلى ذلك الماضي الذي رماه عن كتفيه منذ قريب.
ونازعته الذكرى، فخار عزمه وأحس في نفسه الوهن، واصطرعت في نفسه قوتان، فعاد ينظر إلى الحقيبة بين لهفة وندم وإشفاق، ثم دنا منها فتناولها ومشى بطيئا ثقيل الخطو حتى بلغ حافة السفينة ... وطوح بها وهو يقول: «أيها الماضي الذي كان، اذهب إلى غير معاد.» ... فرغ صديقي توفيق من قصته إلي، فما كاد يبلغ نهايتها حتى اختلجت شفته وتندت عيناه بالدمع، ثم أردف: «يا صديقي، لقد أذكرتني ما كنت أريد أن أنساه وحسبت أنني قد فرغت من أمره منذ عام وبعض عام؛ فإني لأحس الساعة أن الجرح الذي اندمل قد عاد يدمى ... لا لا، ولكنه ماض قد انطوى وفرغت من أمره ...!»
وصمت ساعة، وانطفأ بريق عينيه وأطرق، ثم عاد فرفع رأسه وكأنه عائد من سفر بعيد ... ثم تناول قلمه وبسط بين يديه ورقة وراح يكتب إليها:
عزيزتي مارتزا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
Página desconocida