وكان هذا أول الشر، ثم نهض الفتى الذي كان بين يدي سيدنا وحل محله صبي آخر. ومضت فترة قبل أن يدوي صوت الشيخ في أذني مرة ثانية وهو يميل على فخذ الغلام يقرصه، ولم يحتمل الفتى من الألم ما احتمل الصبي الذي سبقه؛ فندت من بين شفتيه صرخة ألم، حينئذ هاجت هائجة الشيخ، فوثب إليه «العريف» يعاونه على تأديب الصبي، وفي أسرع من خفقة الطرف كان الصبي مجدولا على الأرض، معلقا من رجليه في خشبة غليظة يشدهما إليها حبل مفتول، والشيخ يهوي على رجلي الغلام بالعصا في قسوة وعنف، وهو تحت رحمته يصرخ ويتلوى ويعض على شفتيه من ألم الضرب. وأحسست قلبي في تلك اللحظة يكاد يثب من موضعه فرقا وخشية، فوليت بصري إلى الناحية الأخرى، فإذا صبيان المكتب جميعا منكبون على ألواحهم ودفاترهم في خوف وفزع، وقد زادت هزاتهم وتتابعت في سرعة كأنما يحركهم محرك غير منظور، ولم ألبث أنا نفسي أن رأيتني أهتز مثل هزاتهم وأحرك شفتي وليس بين يدي لوح ولا كتاب، كأنما هي تميمة أقرؤها لترد عني الشر الذي أخافه.
كانت هذه هي عقوبة كل صبي من صبيان الكتاب لا يحفظ درسه، سواء في ذلك ابن العمدة وابن الأجير، ومع ذلك لم يحاول صبي واحد أن يتمرد على سيدنا أو يشق عصا الطاعة أو يجرب الإفلات من عقابه، وأنى لهم ذلك وإن آباءهم وأمهاتهم جميعا ليثقون بالشيخ ثقة عمياء، فلا يسمحون لواحد من بنيهم أن يشكو أو يتألم مما نزل به، مؤمنين بأن عصا سيدنا من الجنة!
منذ تلك اللحظة تبدلت صورة الشيخ في نفسي فعاد أبغض شيء إلي، حتى لو استطعت أن أنتقم منه لهؤلاء الصبيان وأفر بنفسي لفعلت. وما لي أخفي عنكم؟ لقد طالما حاولت من بعد أن أسيء إلى سيدنا كلما أمكنتني الفرصة، فتارة أخالفه إلى الأقلام التي تعب في بريها ساعة من نهاره فأقصفها جميعا، لا أدع لقلم منها سنا تصلح للكتابة، وتارة أعابثه بسرقة علبة السعوط فأستبدل بما فيها ترابا وحصى، وتارات أخرى ... وما كان سيدنا يعلم من يفعل به ذلك، وإن كان على يقين بأن صبيان الكتاب جميعا غرماؤه.
قضيت في كتاب الشيخ عبد الجليل شهرا وبعض شهر، لم ينلني فيها عقاب من عقابه، حتى جاء اليوم المشئوم.
كان علي في ذلك اليوم أن أحفظ جزءا من القرآن الكريم، فلم تتهيأ لي الفرصة أن أفعل، وحل ميعادي، فجلست بين يدي سيدنا وأنا أرتجف خوفا من عقابه، فسألته المعذرة في كلمات خافتة وصوت يرتعش، وبدا لي كأن الشيخ قد قبل عذري حين اكتفى بقرصة مؤلمة في فخذي، ونهضت من مجلسه وأنا لا أكاد أصدق بالنجاة، فقد كان أخوف ما أخافه أن يجدلني على الأرض معلقا في الخشبة ويهوي على رجلي بعصاه.
ومضت ساعة قبل أن يحل ميعاد صبي من رفقائي كان عليه وحده تبعة تقصيري في درس اليوم؛ إذ دعاني في عصر اليوم الماضي لصحبته إلى الحقل القريب لنصيد العصافير، فما عدنا إلا وقد أرخى الليل سدوله فلم نتهيأ لدرس الغد.
وجلس الفتى بين يدي الشيخ مضطربا منتقع الوجه لا يكاد يبين، ونظرت من خلف اللوح إلى سيدنا فإذا هو في هيئة الغضب، ثم لم يلبث أن سمعته يصيح بالصبي صيحة عرفت ما وراءها، فأخذت أعالج خوفي بهزات سريعة كأني أقرأ، وأذني إلى سيدنا. وطرق مسمعي قوله: «وأين كنتما أمس؟ تصيدان العصافير؟ ...»
ونادى عريفه، فأسرع بأداته إليه، وناداني ...
وقبل أن أرى صاحبي مجدولا على الأرض، معلقا من رجليه في الخشبة، كانت رجلاي تسرعان بي إلى الباب. ووقف العريف في وجهي، فلم أجد أمامي إلا النافذة، فاستجمعت قوتي ووثبت ...
لم أدر بعد ذلك شيئا مما كان، إلا حين رأيتني راقدا في فراشي ورجلي مشدودة إلى جبيرة بأربطة من نسيج أبيض، وأمي إلى جانب رأسي تبكي في صمت.
Página desconocida