ودق الجرس فانفتح الباب، وقدم الفتى بطاقته إلى الخادم، فخلفه واقفا بالباب ينتظر ودخل يستأذن سيده، ثم عاد إليه بعد لحظة يعتذر. واحمر وجهه من الغيظ، ولبث واقفا بالباب برهة، ثم مشى وفي نفسه ثورة تضطرم، ومضى على غير وجه.
وتذكر الفصل البديع الذي انتهى من كتابته أمس قبل أن يغادر غرفته إلى مكان الاحتفال، فأخرجه من جيبه ومشى يقرؤه ...
لا، لا، لن يكون بعد اليوم ذيلا لأحد يبيعه نفسه برغيف من الخبز. إنه ليعرف اليوم قدر نفسه أكثر مما عرف في يوم من الأيام، لقد قالها الناس أمس كلمة «صريحة» وعتها أذناه، إنه هو هو وإن جهل الناس اسمه ومكانه!
وسعى إلى إدارة الصحيفة التي نشر فيها أول ما نشر من منشآته منسوبا إلى الأديب الكبير، وأي الصحف أولى بتقدير أدبه والاعتراف بفضله من الصحيفة التي عرف منها «الأديب الكبير» أول ما عرف، ثم كانت هي أول من دعا إلى تكريمه والحفاوة به؟ إنه لهو هو وإن جهلت الصحيفة اسمه ومكانه!
واستأذن على المحرر ودخل فدفع إليه الورقات التي في يده ... ونظر المحرر نظرة إلى وجهه وهندامه، ثم أثبت وضع النظارة على عينيه، وأخذ يقرأ هذه الورقات، ولكن من آخرها، ثم دفعها إلى الفتى؛ وفي صوت متأنق سمعه الفتى يقول: «يا بني، إنها محاولة، وإني لأرجو أن يكون قريبا ذلك اليوم الذي ننشر فيه ما تكتب، بعد أن تأخذ عدتك وتنضج ...!»
وفتح الفتى فمه وهم أن يتكلم، ثم سكت، واتخذ طريقه إلى الباب في صمت ...
ومن النافذة التي طالما سهر بجانبها الليالي إلى مكتبه يستنزل الوحي ويؤلف أشتات المعاني، وقف يطل على الناس ساخرا، ثم أخرج الورقات من جيبه فمزقها وأسلمها إلى الريح تنثرها على الرءوس كسرب مذعور من الطير الأبيض! ... وحين نشرت الصحف أن الحكومة قد رصدت من مال الدولة بضعة آلاف لمعاونة الأديب الكبير فلان ... على تنفيذ مشروعه الأدبي العظيم ... كان الفتى جالسا يقرأ الجريدة في ظل شجرة على رأس الحقل، ويستريح برهة مما جد في الحرث والزراعة.
وخار الثور المربوط إلى المحراث كأنما يريد أن ينبه الفتى إلى أنه قد آن أوان العمل.
وطوى الفتى صحيفته ونهض إلى محراثه وعلى شفتيه ابتسامة ...
ومضى يوم، وعادت الصحف فنشرت أن الأديب الكبير فلان قد كتب إلى الحكومة يشكر ويعتذر؛ لأنه قد اعتزل الأدب فما له هفوة إليه بعد.
Página desconocida