إن في صدره الساعة لغصة لا يبلها الماء!
وترادفت على عينيه الصور فنونا وألوانا، وتعاقبت على وجهه مظاهر شتى، من الحزن والفرح، ومن الشقاء والسعادة؛ وبرقت عيناه بريقا ينبئ عن ثورة انفعال تضطرم بين جنبيه!
وفاء إلى نفسه لحظة فابتسم، وهمس: يرحمه الله! لقد كان رجلا، وإن له علي يدا ...
وراح يسأل نفسه: ترى أين ولداه الآن؟
لقد فارق تلك الدار منذ بضع عشرة سنة، منذ مات منصور بك ومات أبوه؛ وفارقه زميلاه في المدرسة من يومئذ، فقد خيلت لهما سورة الغنى بعد موت أبيهما أنهما بلغا من العلم ما فيه كفاية؛ ومضى كل منهم في الحياة يسلك السبيل الذي رآه لنفسه، فلم يعلم حسان من أمرهما شيئا بعد، إلا أن الضيعة التي كانت لهما تراثا من أبيهما قد آلت إلى مالك جديد، ولكن ما خلف لهما أبوهما من مال لم ينفد بعد وما زال يتحدى البذخ والإسراف وحياة الترف والرفاهية ...! ولكن أين هما الآن ...؟ أليس من واجبه أن يسأل عنهما وقد بلغ ما بلغ؟ وهل تراهما يعرفان من أمره ما تسامع به الناس جميعا: أنه «نائب محترم» له صوت وصيت، وله جاه وشفاعة ...؟ ... ودق الجرس، واقتربت خطوات من الباب، ودخل الخادم ينبئه بقدوم زائر ...
والتقى في الغرفة الفاخرة الرياش رجلان لم يلتقيا منذ بضع عشرة سنة؛ وجلس «النائب المحترم» يحيي ضيفه مبتسما والكلمات تتزاحم على شفتيه؛ وجلس «الضيف» بإزائه يفتل أصابعه فتلا وهو صامت لا يكاد يتحدث إلا كلمات هامسة في نبرة تنبئ عن حياء وعزة!
وفرغ حسان من تحيته، وهم «إبراهيم» أن يتكلم فخذلته كبرياؤه، وصمت؛ ونظر إليه حسان نظرة الرجل الذي جرب الحياة وعرف الناس، ففهم ما أقدمه، ولكنه سكت ... لقد سره أن يكون مرجوا، وأن يكون راجيه هو ابن سيده القديم؛ وتذكر قصة الحمارين والتلاميذ الثلاثة، فراح يعبث بشاربه يحاول أن يخفي ابتسامة تتراقص على شفتيه، وقال لنفسه: وماذا علي لو أعنته على أمره فأردفته على حماري، ولكن ... ولكن في الشوط الأخير ...! وراح يفكر ويسأل نفسه: ليت شعري فيم قدم ...؟ إن في هيئته وبزته أمارات تنبئ عن شيء من غنى النفس، أتراه جاء يستشفع به في أمر؟ ماذا؟ ليته يستطيع أن يعرف! إنه ليريد إرادة خالصة أن يعينه ... في الشوط الأخير ... ولكن، فيم يريد أن يستشفع به؟ أتراه شيئا مما يمتد إليه نفوذه ويبلغه بجاهه؟ يا ليت ...! فإنه لحريص على ألا يظهر لسيده القديم بمظهر العاجز القليل الحول!
ومضت فترة، وحاول «إبراهيم» أن يقول فتأبى عليه القول وخذلته كبرياؤه، وعاد يفتل أصابعه فتلا، وعم الصمت!
وغاظ حسانا ألا يتكلم صاحبه، وتمنى لو استطاع أن ينفذ إلى صدره ليعرف سره، ولكنه لم يعرف؛ وعاد واحد يحيي وواحد يجيب؛ ثم نهض إبراهيم يتهيأ للانصراف، وتبادلا نظرتين على تفاهم ومودة، وافترقا كما يفترق اثنان على ميعاد إلى لقاء قريب؛ ولكنه ميعاد لم تنطق به شفتان ...!
كان حسان على يقين بأن صاحبه سيعود؛ لأن له شأنا معه لم يحدثه به بعد؛ وكان إبراهيم على نية أن يعود؛ لأن ما أجاءه إلى صاحبه لم يفرغ منه بعد؛ وهكذا تواعدا في صمت!
Página desconocida