وي! هذا شيء لم تحدثها به نعيمة ولم يخطر لها في بال: هؤلاء الناس يتزاحمون بالمناكب في الطريق رائحين غادين ... هذه السيارات تتلاحق في الشوارع ممتلئة وفارغة ... هذه القصور شامخة باذخة على كل باب بواب ... هؤلاء النساء، وهؤلاء الرجال، وهؤلاء الغلمان منطلقون في طريقهم لا يحيي أحد أحدا، ولا يحدث جار جارا، ولا ينظر مقيم في وجه غريب ... هذه الشوارع متقاطعة متشابكة، أينما ولت وجهها وجدت طريقا ووجدت ناسا لا تعرف أين يقصدون ولا من أين يقدمون!
أهذه هي القاهرة ...؟ لقد حسبت زاهية يوم جلست نعيمة تحدثها حديثها عن القاهرة أنها ستهبط جنة الخلد يوم تهبط إلى القاهرة، فتجد كل شيء مهيأ لسعادتها ... ... ومضت تضرب في الأرض وتشق طريقها في زحمة الحياة!
وأحست القرية الصغيرة فقد واحدة من بناتها، ولكن إبراهيم كان أكثر الجميع إحساسا بذلك، ولما همت نعيمة بالرجوع إلى دار مخدومها في القاهرة بعد أسبوعين، شيعها إبراهيم إلى أول الطريق وهو يوصيها خيرا بزاهية، ويسألها أن تحمل إليها تحيته وأن توصي بها سيدها الباشا. وهل كان يخطر في بال إبراهيم أن زاهية في دار غير دار الباشا؟
واشتغل كل بنفسه. أما زاهية فراحت تطرق الأبواب في التماس الرزق، لم يزدها عنف الصدمة الأولى إلا إصرارا على العمل لتحقيق أمانيها، على رغم ما ينالها من مشقة، وفي رأسها خيال يداعبها في أحلامها، وأمام عينيها أمل ...
وأما إبراهيم، وسرحان، والقرية جميعا، فقد انصرفوا بعد قليل عن ذكر زاهية، لا تكاد تخطر منهم على بال، إلا رجلا واحدا لم تهدأ له نفس منذ سفر زاهية: ذلك ابن عمها إبراهيم!
ولكن شيئا جديدا من أخبار القرية قد رد الجميع فجأة إلى ذكر زاهية، فحديثها على كل لسان وفي كل أذن ...
كان ذلك يوم قدم الباشا إلى القرية يتفقد أرضه وزراعته، فقد استجمع إبراهيم جرأته كلها وقصد إليه يستنبئه من أنباء زاهية ويوصيه بها!
ودهش الباشا وسأل: «من زاهية؟» فلم يزده الجواب علما بما سأل عنه ... وعرف أهل القرية جميعا منذ ذلك اليوم أن زاهية ليست في دار الباشا، فأين تكون؟ وهل يعلمون من القاهرة إلا دار الباشا؟ وتناولتها الظنون والشبهات ...! - إنها خادمة في فندق! - إنها تبيع في الأسواق! - إنها تخدم في بيوت العزاب! - إنها ترقص وتغني في مسارح اللهو! - إنها اتخذت بيتا يأوي إليه الشباب في ساعات اللهو والبطالة!
وهكذا راح غياب زاهية حديث السامرين على مصاطب القرية كل مساء؟ وتفننت عبقرية الرواة في اختلاق الأحاديث وتزوير القصص، وكان لسان سرحان أحد الألسنة في تناول عرض زاهية، سرحان الذي لم تحفظ ذاكرة زاهية في غربتها من صور القرية غير صورته، ولم يلم بها زائر في أحلامها من شبان القرية غير طيفه المحبوب! سرحان، الذي من أجله ولأجله كانت تحتمل المشقة والجهد، وتبتذل نفسها في بيوت الخدمة لتعود يوما إلى القرية فيلقاها على الطريق مبتسما يمد لها يديه في ترحيب العاشق اللهفان ...! وهل كان يدري؟
وجاء الصيف، وطابت مجالس السمر في ضوء القمر الساحر على مصاطب القرية، ولم يخل سامر من حديث زاهية. وتترامى أحاديث السامرين إلى إبراهيم فيألم أشد الألم، وكأن في كل كلمة سهما يخزه في قلبه ويشوكه في مرقده، ولكنه صامت لا يتحدث ولا يرد عن زاهية فرية، وماذا تراه يقول؟ إنه هو نفسه يكاد يؤمن إيمانا لا سبيل إلى الشك فيه بكل ما يتحدث به السامرون، لولا بقية من حسن الظن وأثارة من الرجاء، لعلهما أثر الحب الذي لم يكد يستعلن حتى اعترضه القدر!
Página desconocida