منه إلاّ هذه الذكريات، التي طالما حاولت أن ألقي بها في الزاوية المظلمة من نفسي لتنام فيها إلى الأبد، فكانت تستفيق كلما أردت نسيانها فتسوّد صفحةَ الحياة في ناظري حتى لا أرى فيها جميلًا ولا بهيًّا ... وأنا أعلم أن أحلامي التي بنيتها بقطع قلبي وأنقاض أيامي، وروّيتُ رياضَها بدمع عيني، قد جفّ زهرها وصوّح نبتها، وانهارت أمام عيني دفعة واحدة كما ينهار بيت من ورق اللعب ضربَته كفُّ إنسان ... فأيست منها وذهبت أعيش بقلب محطوم وكبد مكلومة، فأضحك وأمزح حتى ليظنني الناسُ أسعدَ الناس، وأنا أشقاهم وأخيبهم أملًا وأشدهم ألمًا!
فلماذا أعود الليلة إلى الماضي التي ماتت أيامه، وماتت أحلامه، ومات ناسه؟
* * *
كنت أطل من شرفتي في الفندق على شارع الرشيد في بغداد، الذي يمثل الحياة ويفسرها ويصور حقيقتها أكثر من تصوير الأدباء وتفسير الفلاسفة. بل إن ساعة واحدة تشرف فيها على شارع الرشيد أجدى عليك -في فهم الحياة- من دراسة عشر سنين في هذه الكتب.
وماذا في الكتب إلاّ الحيرة والضلال؟ ومَنْذا الذي تبلغ به الحماقة وتفيض على نفسه حتى يدّعي أنه فهم الحياة من الكتب؟ أنا أحد صرعى هذه الكتب وضحاياها، فسلوني عن خيبتي وخسارتي؟
قالت الكتب: «إن المستقيم أقصر الخطوط فاسلكه تصل،
1 / 36