تقف عربة أمام باب، فتسرع بالنزول منها امرأة قد التفت في الفرو الكثير، تشق الجماعات التي اجتمعت حين سمعت جرس عربتها تاركة لهذه الجماعات إحدى بسماتها، ثم تصعد في خفة سلما ملتوية، وتغير على «لوج» مزدهر شديد الدفء، فتلقي في ناحية حقيبتها ذات الشرائط التي تحتوي على كل شيء، وفي ناحية أخرى قلنسوتها، تزينها أجنحة العصافير، وإذا هي قد نحفت فجأة حين خرجت من فروها فما هي إلا غمد من الحرير الأبيض، ثم تقذف بنفسها على ملعب مظلم، فلا تكاد تصل حتى تبعث الحياة في جماعة ممتقعة تتثاءب في الظلام ، تذهب، تجيء ، تبعث الحمية في كل ما تمس، تأخذ مجلسها في المخبأ، تنظم المنظر، تشير إلى ما ينبغي من الحركات ونبرات الصوت، تقف، تطلب الإعادة، تزأر غضبا، تجلس، تبسم، تشرب الشاي، تمسح جبينها، توشك أن يغمى عليها، تثب فجأة إلى الطبقة الخامسة من الملعب وتظهر لصاحب الأزياء مطربة، وتبحث في خزائن «الأقمشة» وتؤلف الأزياء، تنظم، ترتب، تهبط إلى «لوجها» لتعلم النساء اللاتي يظهرن في الملعب كيف ينبغي أن يرجلن شعورهن، ثم تعيد منسقة طاقات الزهر، ثم تسمع مائة رسالة، وترق لبعض الاستعطافات، تفتح غالبا حقيبتها الرنانة التي تحوي من كل شيء، تفاوض حلاقا إنجليزيا، تعود إلى المسرح لتنظم إضاءة منظر من المناظر، تسب أدوات الإضاءة، تقف عامل الضوء على إساءته، يمر بها أحد العمال فتذكر غلطة اقترفها أمس فتصعقه بسخطها، تعود إلى لوجها لتتعشى. تجلس إلى المائدة ممتقعة في جلال مهيئة ما ستعمل، تأكل في ضحك غريب، ليس لديها الوقت لتتم عشاءها، تلبس ثيابها للتمثيل بينما يحدثها المدير من وراء ستار ألوانا من الأحاديث، تمثل متهالكة، تدبر ألف شيء بين الفصول، ينتهي التمثيل فتبقى في الملعب لتدبر أمرها إلى الساعة الثالثة صباحا، ولا تعتزم السفر إلا حين ترى الناس جميعا من حولها ينامون وقوفا احتراما لها، تصعد إلى عربتها، تتمطى في فروها مفكرة فيما ستجد من لذة حين تستلقي في السرير، ثم تقهقه لأنها ذكرت أن هناك من ينتظرها في البيت ليقرأ عليها قصة ذات خمسة فصول، تعود إلى البيت، تسمع القصة، تفتن بها، تبكي، تقبلها، لا تستطيع النوم، فتنتهز الفرصة لتدرس دورا من أدوار التمثيل ...
كذلك وصفها «إدمون روستان»، أما أنا فلست أدري أأعجب بالوصف أم بالموصوف؟! ولكني أعتقد أني بهذه الترجمة السقيمة قد أعطيتك حسن صورة لهذه الممثلة النابغة، ولست أريد أن أختم أنا هذا المقال، وإنما أريد أن يختمه «جول ليتمر» بهذه الكلمة الحلوة التي كتبها يودع بها «سارة برنار» وقد اعتزمت أحد أسفارها إلى أمريكا:
نتمنى لك يا سيدتي سفرا سعيدا، آسفين أشد الأسف؛ لأنك ستفارقيننا زمنا طويلا ، ستظهرين نفسك هناك لقوم حظهم من الفن والأدب قليل، يسيئون فهمك وينظرون إليك كما ينظرون إلى عجل ذي قوائم خمس، ويرون فيك الشخص الغريب الصاخب لا الفنانة الخلابة إلى غير حد. قوم لن يقدروا نبوغك إلا لأنهم دفعوا ثمنا باهظا ليستمعوا إليك، اجتهدي في أن تحتفظي بظرفك وأن تعيديه إلينا كاملا، فإني آمل أن تعودي وإن كانت أمريكا بعيدة الشقة، وإن كنت قد تحملت من الخطوب وتجشمت من الأخطار ما لم تتحمل ولم تتجشم أبطال الأساطير، إذن عودي إلى «بيت موليير» واستريحي إلى الإعجاب والحب اللذين يدخرهما لك هذا الشعب الباريسي طيب القلب الذي يعفو لك عن كل شيء؛ لأنه مدين لك بكثير من لذاته الكبرى، ثم في مساء لذيذ موتي فجأة على مسرح التمثيل في صيحة هائلة من صيحات الجزع، فإن الشيخوخة أثقل من أن تحتمليها، وإذا كان لديك من الوقت ما يمكنك من التفكير قبل أن تنغمسي في الليل الأبدي فاحمدي - كما يفعل مسيو «رينان» - العلة الأولى الخفية. لعلك لم تكوني من أشد النساء في هذا العصر حكمة واعتدالا، ولكنك عشت أكثر مما عاشت جماعات ضخمة، وكنت من أجمل مظاهر الظرف التي أطافت بالناس فأحسنت عزاءهم في هذا العالم المتغير، عالم الظواهر الطبيعية.
باريس في أول أبريل سنة 1923 (3) بينيلوب
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
ولكنه لم يكن طيف هند ولا عبدة، ولم يكن طيف عربية ولا مصرية ولا أوروبية، وإنما كان طيف امرأة بقي اسمها في ذاكرة الإنسانية، وذهبت بشخصيتها الغير والأحداث، ولعلها لم توجد قط، ولعل التاريخ لم يعرف من أمرها قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فقد قضيت الليل أفكر فيها، بل أسمع إلى حديثها ومناجاته، هادئة مرة ثائرة مرة أخرى، يملؤها الحنان حينا، وتملكها الوحشية حينا آخر، قضيت الليل أفكر فيها وأسمع لأحاديثها ونجواها حين كانت تتحدث إلى خدمها، وحين كانت تتحدث إلى عاشقها، وحين كانت تتحدث إلى مرضع زوجها، وحين كانت تناجي الآلهة متلطفة آنا ومحنقة آنا آخر، ثم حين كانت تناجي خيال زوجها الغائب، وتتحدث إلى زوجها وقد آب بعد غياب طويل. قضيت الليل أفكر فيها وأستمع لحديثها، وأعجب بقدرة الفن - لا أقول على إحياء من مات وتجديد ما اندثر، بل - على خلق ما لم يوجد، والتخييل إليك أنه قد وجد، وأثر في الحياة آثارا أبقى من أن ينالها الفناء، لم يكن هذا الطيف طيف عربية ولا مصرية ولا أوروبية، وإنما كان طيف يونانية، كان طيف «بينيلوب» زوج «أوليس»
ulysse
بطل «الأودسا».
سمعتها أمس في دار من دور الموسيقى «في الأوبرا كوميك»
Página desconocida