ولكن حظ الأديب سيئ أبدا، وأنت لم تنس بعد حرفة الأدب التي قتلت ابن المعتز، ونتفت لحية الحريري، وحالت بين لفظ الأدب وبين الورود في القرآن، فالأدب لذيذ ولكنه شؤم على أهله. ومن شؤم الأدب على الأدباء أن كتابا ظهر في هذه الأيام يقال له «الشعر الجاهلي» ويجب على الأدباء أن ينقدوه وينقضوه ويهدموه ويهدموا كاتبه، ويتقربوا بهذا النقد والنقض والهدم إلى الله أو ... إلى الشيطان. وقد أقسموا ليفعلن، وقد بدءوا يفعلون، فما هي إلا أن اعترضهم هذا الشيء، وهو اسم ديكارت وفلسفة ديكارت.
والحق نقول إن موقفهم بإزاء هذا الاسم والفسلفة كان بديعا لا يخلو من فكاهة وظرف؛ فأما أحد هذين الشيخين اللذين ذكرتهما في أول هذا الفصل، واللذين أهدي إليهما هذا البحث، فقد كتب في تواضع يشبه الكبرياء أنه لا يعرف ديكارت ولا مذهبه، وأنه يظن أو يرجح أن مذهب ديكارت قريب من المذاهب الإسلامية، وأن صاحب «الشعر الجاهلي» قد حرف هذا المذهب لحاجة في نفسه أو كما قال الشيخ. وأما الآخر فعزيز عليه أن يتكبر أو يتواضع على هذا النحو، وهو قد تعود أن يستغل الرافعي واليازجي والسكندري وابن مكرم دون أن يذكرهم أو يشير إليهم، فلم لا يستغل في أمر ديكارت حيا أو ميتا يشبه هؤلاء؟ وقد بحث بين الأموات فلم يجد، وبحث بين الأحياء فلم يجد من كتب عن ديكارت أو أشار إليه، وهو لا يعرف لغة ديكارت ولا لغة أجنبية أخرى.
وإذن فليلجأ إلى أحد الذين يعرفون لغة من هذه اللغات ليقص عليه أمر ديكارت ويلخص له فلسفته، حتى إذا استقام له ذلك في صفحات أو أسطر تكلم عن ديكارت وفلسفته كلام العالم المحقق، وأثبت لصاحب «الشعر الجاهلي» أنه لا يفهم ديكارت، ولا يحسن تخريج مذهبه الفلسفي. وكان قد تفوق على زميله الذي يكتب في «الأهرام» فعرف من أمر ديكارت وفلسفته ما لم يعرف هذا الشيخ المسكين.
وأنا أحد الذين يعرفون لغة أجنبية، وأحد الذين يحسنون لغة ديكارت، وأحد الذين قرءوا كتب ديكارت، وأحد الذين قرءوا ما كتب عن ديكارت. وأنا أريد أن أهدي إلى الشيخين بحثا عن حياة ديكارت وفلسفته، ليتما به أدبهما ويستعينا به على هدم كتاب الشعر الجاهلي، والتهام صاحب هذا الكتاب التهاما. وأنا مخلص فيما أكتب، فأنا أحب أن يلتهمني الشيخان؛ لأني أعرف أن حلقيهما إن استطاعا ازدرادي فستعجز معدتاهما عن هضمي.
أنا أهدي إلى الشيخين بحثي عن حياة ديكارت، ولكني أهديه إليهما على أن يقرآه ويفقهاه فقها «حسنا» لا يشبه فقههما «للشعر الجاهلي» ولا للسان العرب، ولا لما كتب الرافعي أو أملى السكندري. وأنا أهدي هذا البحث إلى الذين يعرفون ديكارت من المتفرنجة والمتعلمين على اختلافهم، ذلك أني أعلم من أمر ديكارت ما لا يعلم الناس في مصر، فقد كنت أريد أن أضع فيه كتابا، واضطرني ذلك إلى كثير من البحث والتحقيق، وإلى ألوان من الاستقصاء والاستقراء. ولكني لا آسف على ما لقيت من عناء، فقد وصلت إلى نتائج غريبة قيمة، لو أعلنتها في فرنسا لاندكت لها السربون، ولاضطربت لها الكوليج دي فرانس، ولأعلن لها المجمع العلمي الفرنسي إفلاسه ... لا تضحك ولا تعجب فلست أحدثك إلا بالحق الذي لا شك فيه ولا غبار عليه. ويكفي أن تعلم أني استكشفت طائفة من الكتب المخطوطة التي كتبت في النصف الثاني للقرن السابع عشر بعد أن مات ديكارت بسنين قليلة، والتي كانت محفوظة في مكتبة الملك الخاصة، حتى إذا كانت الثورة الفرنسية، وتبدد ما في القصر ضاعت هذه الكتب، ولم يستطع أن يظفر بها الذين أنشئوا المكتبة الأهلية في باريس بعد الثورة، وأخذت أسرة من الأسر الشريفة تتوارث هذه الكتب، حتى انتهت إلى صديق لي فرنسي، كان يدرس معي، وهو يقيم في ريف بورجونيا، فدعاني في بعض فصول الصيف أن أقضي عنده أياما ففعلت، وأظهرني على مكتبة آبائه، فإذا فيها هذه الكتب المخطوطة، فدرسناها معا، ولم نستوف درسنا بعد، وسنقدمه إلى السربون يوم نستوفيه، وسننشر هذه الكتب على الناس، وسنودع أصولها المخطوطة المكتبة الأهلية بباريس، وسيعلم الناس يومئذ أنهم لم يؤتوا من العلم عن ديكارت إلا قليلا، وستعلم الحكومة الفرنسية يومئذ أن هذه الطبعة الرسمية التي نشرتها في اثني عشر مجلدا ضخما لا تشتمل إلا على ما كان يكتبه ديكارت ليلهو ويعبث ويلهي الناس عن فلسفته الصحيحة.
فديكارت كأرستطاليس يذهب في الفلسفة مذهبين مختلفين أحدهما يعلنه إلى الناس، فإنهم يستطيعون أن يفهموه وأن يسيغوه، والآخر يحتفظ به لنفسه وللأصفياء من تلاميذه، ولا يذيعه في الجماهير لأنه أعسر وأدسم من أن تحتمله عقولهم.
وقد ظفرت الحكومة الفرنسية بالقسم الأول من آثار ديكارت، فعهدت إلى عالمين من أكبر علماء فرنسا بتحقيقه ونشره ففعلا، ووقع هذا القسم في اثني عشر مجلدا ضخما كما قلت لك، ولكن من يقرأ هذه الطبعة الرسمية أو هذه المطبوعة الرسمية - على رأي وحيد - ويقارن بينها وبين ما سننشره قريبا، سيرى أن ديكارت كان غريبا حقا؛ فقد كان يأتلف من شخصين يختلفان فيما بينهما كل الاختلاف؛ أحدهما فيلسوف معتدل معقول يكتب بالفرنسية حينا، وباللاتينية حينا آخر، ويتناول فيما يكتب كل ما تناوله الفلاسفة من قبله، ويذهب فيما يكتب مذهب التجديد، فيخيل إليك أنه سيؤسس فلسفة جديدة تهدم ما أقامه أرستطاليس وتلاميذه؛ ذلك لأنه يتخذ لفلسفته هذه قاعدة لم يألفها الناس، هي نسيان القديم والبراءة منه كله، وافتراض أنه لم يكن، حتى إذا قرأت هذه الفلسفة وتعمقت فيها لم تجد جديدا. ولا شيئا يشبه الجديد، وإنما هو كلام ككلام الفلاسفة فيه كثير من الحدود والقضايا والأقيسة. ومع ذلك فقد فتن الناس بهذا الشخص، واعتبروه أبا الفلسفة الحديثة، ومؤسس العلم الجديد. ولكن الشخص الثاني هو الذي لفتنا وبهرنا، لما فيه من غرابة كنا ننتظر كل شيء إلا إياها؛ ذلك أن ديكارت لم يكن مسيحيا ولا فيلسوفا، ولا من أصحاب التجديد، ولا من أنصار هذه الحقائق الثابتة التي ألفها الناس، وإنما كان مسلما ديانا متصوفا مغرقا في التصوف، شطاحا مسرفا في الشطح. انتهى به هذا كله إلى شيء لا أستطيع أن أسميه إلا «إظهار الكرامات». ولعل أحسن طريق لشرح هذه الناحية الخفية من حياة ديكارت أن ألخص لك في شيء من الإيجاز بعض ما كتبه ديكارت عن نفسه، وما وجدناه في هذه الكتب «المخطوطة» التي حدثتك عنها آنفا.
ولد ديكارت في القرن السادس عشر للمسيح، وكانت أسرته فقيرة، شديدة المحافظة على العادات القديمة والسنن الموروثة، فلما شب أرسلته أسرته إلى مدرسة اليسوعيين، فتعلم فيها على نحو ما كان اليسوعيون يعلمون. أتقن اللاهوت وفلسفة العصور الوسطى واللغتين اللاتينية واليونانية، ولكنه كان ذكيا حاد الذهن، مستعدا للنقد والشك، فاضطربت نفسه اضطرابا شديدا حين أحس تناقضا بين قواعد اللاهوت وفلسفة أرستطاليس، ولكنه لم يظهر من هذا الشك شيئا؛ لأنه كان محافظا كأبويه وأساتذته اليسوعيين. على أنه لم يكد يدع المدرسة حتى سئم الحياة التي وجهه إليها أبواه، وهي حياة الحرب، فانصرف إلى السياحة، ولقي في هولاندا رجلا شيخا من اليهود، يقال له دروكلكسيس بن كراباك. قال ديكارت: كان لهذا الشيخ تأثير غريب في نفسي، لا أدري أكان مصدره ذكاءه وفطنته أم غرابة شكله واختلاف أطواره العجيبة. كان قصيرا ضخما، عريض ما بين الكتفين، صغير العينين غائرهما، ولكن عينيه كانتا شديدتي التوقد كأنهما شعلتان تضطربان، عرش الأذنين، دقيق الأنف، غليظ الشفتين، مرسل اللحية، فأما صوته فلا أعرف أني سمعت صوتا يشبهه. أما في حديثه العادي فكان غليظا متهدجا أشبه شيء بالرعد، فإذا ناقش أو ناظر في العلم كان نحيف الصوت حاده خلاب الحديث.
ولا أعرف أني رأيت عالما يحيط بمثل ما كان يحيط به هذا الرجل مما كتب الأولون والآخرون، كان يهودي الجنس والمولد، ولكنه لم يكن يهودي الدين، وأحسب أنه قد ورث شيئا من آبائه الذين خالطوا المسلمين مخالطة شديدة في إسبانيا. كان غنيا ولكنه شديد الزهد فيما كان يملك من ثروة، إلا أنه كان يحب الاستمتاع بالطيب من لذات الحياة، وكان يعجبني في بيته شيئان: مائدته ومكتبته. تحدثت إليه في الفلسفة وفي اللاهوت، فسمع مني وتحدث إلي، وما هي إلا أن فتنت به وشغف بي، وأصبحت لا أستطيع عن لقائه صبرا. وقد كان في حديثه إلي ماهرا لبقا، يلقي إلي أغرب الآراء، وكأنه يحدثني عن الجو والمطر، حتى إذا آنس مني اطمئنانا إليه، وثقة بكل ما يقول، كشف لي عن دخيلة نفسه، فإذا هو لا يؤمن بالمسيحية ولا اليهودية، ولا يحب الإلحاد ولا الملحدين، وإنما اتخذ لنفسه دينا كنت أسمع به، ولا أعرف من حقيقته شيئا، فلما رغبت إليه في أن يظهرني على دقائق هذا الدين أطال الصمت، ثم قال في هدوء: ما أحب أن أظهر لك هذا الدين، وإنما أحب أن يظهر لك الدين نفسه فاتبعني، ثم مضى بي إلى مكتبته واستخرج سفرا ضخما دفعه إلي، وقال اقرأ هذا، فإذا فرغت منه فلنتحدث. ثم تركني ومضى ونظرت في الكتاب فإذا هو باللاتينية، وإذا هو ترجمة لكتاب كتبه أحد المسلمين في القرن العاشر للمسيح، يقال له الطواسين، ويقال لصاحبه الحلاج،
3
Página desconocida