نعم! فطبعنا لا يخلو من ظلمة، ومزاجنا أقرب إلى المراراة والحزن منه إلى الدعابة والابتسام.
نحن لا نلهو لأننا لا نعرف اللهو، ولأن في طباعنا نفورا من اللهو. ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب في هذه الملاحظة، وهي أننا كنا بعد الثورة الوطنية الأخيرة قد أخذنا نتعلم اللهو بل نسرف فيه، فكانت الأغاني الفكاهية ذائعة عامة، وكان التمثيل الفكاهي رائجا منشرا، وكنت لا تكاد تمضي في الشوارع العامة إلا سمعت الأطفال والشبان من العمال ومن آليهم يتغنون أغاني «كشكش»، وكنت لا تكاد تمر بين الدور في الأحياء الراقية إذا أقبل المساء أو جن الليل، إلا سمعت البيانو يوقع ألحان كشكش، وربما وقفت لاستماع صوت رخيم عذب يتغنى مع هذا الإيقاع. وكان أصحاب الأخلاق وأهل الحرص على الآداب العامة ينكرون هذا الفساد ويشفقون منه، وكنا نقول إن هذا الانحلال الخلقي عرض من أعراض الثورة. وكنا نستبشر به لأن الثورة الفرنسية قد استتبعت مثله، فكان الفرنسيون يجاهدون أعداءهم الداخليين والخارجيين، وكانوا يحتملون آلام الجوع والفاقة، ولكنهم كانوا يلهون ويسرفون في اللهو، وربما كانوا يستعينون باللهو على ما كانوا يأتون من جلائل الأعمال ويحتملون من أثقال الحياة.
كنا كذلك، وأظن أن السلطة العامة احتاجت في بعض الأحيان إلى أن تدخل في الأمر وتكفكف من غلواء المسرفين، فأقفلت - أو حاولت تقفل - بعض المراقص. أما الآن فأحسب أن هذا قد تغير وأننا قد انصرفنا عن اللهو انصرافا واضحا.
انصرفنا عن اللهو دون أن يعظم حظنا من الجد، فليست حياتنا العامة والخاصة أكثر إنتاجا وأشد خصبا الآن منها حين كنا نلهو ونعبث. ولعلي لا أغلو في الخطأ إذا لاحظت أن حياتنا الدستورية هي التي صرفتنا عما كنا فيه من لهو، وأزالت عن شفاهنا هذا الابتسام للحياة؛ ذلك لأننا اعتقدنا يوم نفذ الدستور وأشرف البرلمان على الحكم أن الأمر قد رد إلى أهله، وأننا مقبلون على ساعات الجد والعمل فانتظرنا وما زلنا ننتظر.
ولم لا نقول كلمة الحق؟ كانت الوزارات التي أشرفت على الحكم قبل الدستور قليلة الحظ من ثقة الجماهير، فلم يكن الناس يحفلون بها، ولا ينتظرون منها خيرا، بل كانوا يسيئون بها الظن ويتخذونها موضعا للعبث والنقد، وكانت أعمالها وقراراتها تلهم الممثلين الهازلين والمغنيين العابثين. وكان الناس يرتاحون إلى الضحك منها واتخاذها سخرية وهزءا. أما الآن فقد أشرف على الحكم رجال كانت تحبهم الجماهير وتفتن بهم، فلم يكن من الميسور أن تتخذهم الجماهير موضوعا للهو والعبث. وإذا لم تعبث الجماهير بحكامها ولم تسخر من وزرائها ونوابها فهي مضطرة إلى الحزن والكآبة.
سلني عما يميز الديمقراطية حقا، أجبك بأن النظام الديمقراطي الصحيح هو الذي يتيح للجماهير أن تلهو على حساب حكوماتها بل على حساب أبطالها. فإذا أردت دليلا ناطقا بصدق هذا التعريف فاذهب إلى باريس واختلف إلى أندية اللهو فيها واسمع إلى ما يقال عن «هريو» و«دومرج» وعن «بوانكاريه» و«ملران»، وانظر إلى هذه الجماهير الفرنسية المختلفة تتهالك ضحكا من وزرائها ورؤساء جمهوريتها، أستغفر الله، بل من علمائها وكتابها. ومهما أنس فلن أنسى أغنيتين سمعتهما في باريس ورأيت ابتهاج الجماهير لهما. في إحداهما مقارنة بين أمعاء المسيو هريو رئيس الوزارة الفرنسية القائمة وأمعاء المسيو بوانكاريه رئيس الوزارة الفرنسية المستقيلة، وفي الأخرى عبث بالمسيو هريو حين يعمد إلى التليفون.
ولكني قد بعدت أشد البعد عما كنت أريد أن أتحدث إليك فيه، وهو ملاهي باريس، وقد يحسن أن أعود إلى هذا الحديث.
لم أكن حسن الحظ هذا الصيف، وما أظن أن غيري كان أحسن حظا مني، فقد وصلنا إلى باريس أيام الراحة حين يتفرق عنها الممثلون النابهون ليجوبوا أقطار الأرض الفرنسية والأجنبية وليعرضوا فنهم على المصطافين في سواحل البحر ومدن المياه، وحين يستريح الكتاب استعدادا لفصل الشتاء؛ إذ يعرضون آثارهم الجديدة على الجمهور الباريسي، وقد عاد من مصايفه إلى باريس، وحين تجتهد الملاعب التمثيلية في أن تستغل ما لديها من قصص الفصل الماضي لتلهي بها السائحين الذين يمرون بباريس. ومع ذلك فقد لهوت حقا وضحكت كثيرا.
ولقد يكون من العسير أن أذكر دون أن أضحك قصة شهدتها في ملعب «الباليه رويال» عنوانها «قبلني»، كان الممثلون يمثلونها للمرات الأخيرة ويستعدون لتمثيل قصة أخرى ظهرت أول هذا الشهر، ومع ذلك فقد كان الملعب مكتظا بالنظارة. والغريب من أمر باريس أنك تستطيع أن تزورها في أي فصل من فصول السنة، وأن تختلف إلى ملاعبها وأنديتها وبيوتها التجارية، فستجدها دائما مكتظة بالناس، وستضطر دائما إلى أن تتخذ الحيطة لتبلغ منها ما تريد.
تريد أن تشهد قصة تمثيلية فيجب أن تؤجر كرسيك في الملعب قبل يوم التمثيل . تريد أن تشتري شيئا في أحد البيوت التجارية الكبرى فيجب أن تذهب في الصباح أو أن تكون صبورا محتملا إن ذهبت في المساء.
Página desconocida