ظهرت المعجزة في لورد منذ يومين اثنين، ذلك أن أسرة إسبانية أقبلت إلى لورد ومعها فتاة مقعدة فلم يكد رجال الدين يغمسون هذه الفتاة في الحوض ، ويفرغون من صلاتهم ودعائهم حتى نهضت الفتاة معتدلة القوام. لا أقول تسعى بل تجري. ظهرت المعجزة في لورد، وذاع أمرها، وتحقق الناس صحتها، واعترف بذلك مكتب الإثبات الطبي الذي أقيم في لورد؛ ليثبت صحة المعجزات أو ينكرها، وإذن فسيحسن الفصل في لورد هذا العام، ولكني آسف الأسف كله؛ لأني لم أسمع بهذه المعجزة إلا في القطار على بعد عشر ساعات من لورد.
بوليجان «فرنسا» في 19 أغسطس سنة 1924 (3) الخيل! الخيل!
دوى هذا النداء في أرجاء الغابة، وما أسرع ما استجاب له الفرسان يهرعون من كل صوب حتى بلغوا جيادهم فامتطوها، وما هي إلا أن أخذت تعدو بهم عدوا سريعا، ولكنه منسجم تنظمه ألحان الموسيقى التي لا تخلو من عذوبة ساذجة، ولا تبعث على حرب، ولا تدعو إلى قتال؛ ذلك أن هؤلاء الفرسان لم يكونوا رجالا، وإنما كانوا أطفالا، وأن هذه الخيل لم تكن جيادا مطهمة كريمة النسب، وإنما كانت جيادا من الخشب.
دعا الداعي: الخيل! الخيل! فأسرع الأطفال إلى الخيل فامتطوها، وأسرعت الخيل فدارت بهؤلاء الأطفال، وأسرعت الموسيقى فعزفت لهم ألحانها، ووقف الكبار من رجال ونساء ينظرون ويبسمون فرحين مبتهجين بما يستمتع به أبناؤهم من هذا اللهو البريء، ثم انتهت دورة الخيل وآن دفع الأجر، وتقدم الناس يؤدون هذا الأجر عن أبنائهم، فإذا هذا الأجر مضاعف هذا المساء، وإذا الذي يتقاضاه من الناس قسيس يزدان بلباسه التيلي، وإذا الناس يبذلون ما يطلب إليهم عن طيب نفس وقرة عين، وإذا القسيس يستأنف دعاءه بصوته الضخم: الخيل! الخيل! وإذا الأطفال يسرعون إلى هذه الخيل فيمتطونها وإذا الموسيقى تستأنف لحنها. وقضى القسيس مساءه على هذه الحال يدعو إلى الخيل ويشرف على دورة الخيل ويتقاضى أجور الخيل.
وعلى مسافة قصيرة من هذا القسيس الذي وقف مساءه على تلهية الأطفال وجمع المال طائفة من السيدات، من خيرة السيدات من ذوات المكانة في المدينة، قد اتخذن لباس الخدم وطفن على الناس يقدمن إليهم ألوان الحلوى وصنوف الفاكهة وأكؤس الشاي، ويقدمن مع هذه الأطعمة والأشربة بسمات عذبة وضحكات حلوة ولحظات فتانة، ويتقاضين أجر هذا كله أضعافا مضاعفة. وعلى مسافة من هؤلاء السيدات طائفة أخرى من الفتيات الناشئات يطفن على الناس بأوراق النصيب، والناس يتهافتون على هذا كله يطعمون ويشربون ويشترون الورق ويمزحون ويفتنون في اللهو النزيه افتنان الأطفال في اللهو البريء. ذلك أن المدينة قد أقامت في هذا اليوم حفلا لعمل من أعمال البر، فأدى كل واحد من أهل المدينة ما للبر عليه من حق، دفع هذا ماله ووقف هذا وقفه، وآثر هذا بلهوه هذا العمل الخيري. وليس في هذا الأمر بدع، فحفلات البر مألوفة في أوروبا ومصر، وأسواق البر معروفة هنا وهناك. والخلقيون يختلفون اختلافا شديدا في الحكم على هذه الحفلات والأسواق، قوم يحمدونها لأنها تؤدي إلى الخير، وقوم يمقتونها لأنها لا تخلو من لهو وتكلف، ولأن الخير خليق أن يصدر عن الإنسان كما تصدر الأشياء الفطرية في غير حيلة ولا تصنع. ليس في هذه الحفلات بدع إذن، وما كنت لأحدثك عنها لولا أن رأيت هذا القسيس قد اختار لنفسه هذا النوع من العمل، فقضى ساعات من نهاره لا يقدس الله، ولا يقرأ الإنجيل، ولا يتغنى بهذه الأغاني التي يقصر عليها القسيسون ظهر يوم الأحد عادة في كنائسهم، وإنما يشرف على لهو الأطفال، ودورة الخيل، ويصيح بأعلى صوته من حين إلى حين: الخيل! الخيل! ويتوسم وجوه الناس فيأخذ منهم أجر الخيل متناسبا مع ما توسم في وجوههم من ثراء أو عسر. لولا أني رأيت هذا القسيس وسمعته لما فكرت في أن أتحدث إليك بشيء عن هذا الحفل، بل لقد كنت أود لو لم أكتب بهذا الحديث إلى «السياسة» ولا إلى صحيفة سيارة. كنت أود لو جعلت هذا الحديث موضوع رسالة خاصة أبعث بها إلى صديق من أصدقائي علماء الدين الإسلامي في مصر، أبعث بها إلى الأستاذ الزنكلوني مثلا! ولكني أحببت أن تكون هذه الرسالة ذائعة يقرؤها الأزهريون جميعا، ويفكرون فيها قليلا أو كثيرا.
لست أخفي على الأزهريين وعلى علماء الدين خاصة، أني أعجبت بهذا القسيس، وتمنيت لو أرى علماء الدين عندنا يشرفون على مثل هذه الخيل، ويدعون إليها مثل هؤلاء الأطفال، ويتقاضون على ذلك مثل هذا الأجر، يضاعفونه ما شاءت لهم حاجة الأعمال الخيرية التي يدعو إليها الدين أو التي تمس إليها حاجة الفقراء والبائسين في مصر.
أعتقد أن علماء الدين في حاجة شديدة إلى الوقار والمهابة، وأن حاجتهم إلى الوقار والمهابة تحظر عليهم حركات ومواقف تباح لغيرهم من الناس، ولكني أعتقد أن هذا القسيس الذي كان يدعو الأطفال إلى الخيل لم ينزل من وقاره عن قليل ولا كثير، وإنما أضاف إلى هيبته هيبة، وإلى وقاره وقارا، وأدى عمله الديني كما ينبغي أن يؤديه حين سلك إلى الخير هذه السبيل الخصبة التي تجمع له من المال ما يحتاج إليه دون أن يتكلف استجداء أو يتحمل العناء في دعوة الناس إلى الصدقة والإحسان. فما الذي يمنع رجال الدين في مصر أن يسلكوا مثل هذه السبل؟ ما الذي يمنع رجال الدين؟ يمنعهم أنهم يعيشون في عصرهم هذا دون أن يكونوا من أهله، ودون أن يشعروا شعورا صحيحا بحاجاته وضروراته ووسائل العيش فيه، ثم يمنعهم أن الدولة تدر عليهم أرزاقا قد لا تكون كثيرة ولا غزيرة ولكنها الآن أكثر وأغزر منها منذ عشر سنين، هي بحيث تمكنهم من الحياة الهادئة المطمئنة، وما أحسبهم يطمعون - مع الأسف الشديد - في أكثر من الحياة المطمئنة. ثم يمنعهم شيء آخر هو أجل من هذا كله خطرا، وأنا قائله ومعتذر إلى علماء الدين من هذه الصراحة في القول؛ يمنعهم أن الواجب الذي يشعرون به ويعتقدون أنهم مكلفون أداءه في هذه الحياة ضيق جدا، أضيق من الواجب الحقيقي الذي يفرضه عليهم الدين وحاجة الاجتماع. هم يعتقدون أنهم علماء؛ أي إن الله قد أودعهم علوم الدين؛ فهم يبذلون هذه العلوم للناس في الأزهر وملحقاته، وهم يصلون ويشرفون على إقامة الشعائر الدينية الرسمية. وإذا ألقوا دروسهم، وأدوا صلواتهم، وألقى بعضهم من حين إلى حين خطب الوعظ، فقد أدوا ما يجب عليهم لله والناس. وإذ كان الناس لا يطمعون في علوم الدين اليوم كما كانوا يطمعون فيها في القرن الماضي، وإذ كان الناس لا يختلفون إلى المساجد في هذه الأيام كما كانوا يختلفون إليها في الأيام الماضية، فقد أصبح نفع العلماء للهيئة الاجتماعية - كما يقولون - محدودا، قليلا، وسيشتد قلة مع مضي الزمن؛ لأن اختلاف الناس إلى الأزهر سيقل غدا كما قل اليوم، ومن هنا يزيد العلماء على حاجة الاجتماع، وتصبح طائفتهم بعد زمان طويل أو قصير طائفة لا تشتد الحاجة إليها. إذن فالعلماء بين اثنين، إما أن يقاربوا بين أنفسهم وبين العصر الذي يعيشون فيه، وأن يصبحوا كغيرهم من الناس يشعرون بما يشعر به معاصروهم، وإما أن يستعدوا لهذا اليوم الذي ليس منه بد، والذي يصبحون فيه عالة على الجماعة المصرية لا يرجى منهم خير، ولا يعتمد عليهم في نفع.
نعم! يتصور العلماء واجبهم تصورا ضيقا جدا، فهم مكلفون شيئا آخر غير إلقاء الدروس وإقامة الصلوات، هم مكلفون أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولم يقل أحد إن إلقاء الدروس وإقامة الصلاة هما كل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هم مكلفون أن يشتركوا في جميع أعمال الخير، هم مكلفون أن يحتملوا ألوان العناء في كشف الضر عن البائسين. هم مكلفون ألا تخلو منهم جماعة خيرية. هم مكلفون ألا تخلو محلة في مصر من آثارهم الخيرية. هم مكلفون أن يتصوروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصورا صحيحا واسعا يجعلهم عضوا نافعا في الجماعة.
لو يعلم رجال الدين عندنا ماذا يصنع رجال الدين في أوروبا من هذه الناحية لدهشوا دهشا عظيما، ولعلموا أنهم بعيدون كل البعد عن أداء واجبهم الديني. كتبت من أوروبا في السنة الماضية فصولا عن رجال الدين الغربيين، وعن هذا الجهد العظيم الذي يبذلونه ليكون حظهم من العلم والفن كحظ غيرهم من رجال العلم والفن، وذكرت هذا الأسقف الذي اشترك في مؤتمر التاريخ في بروكسل، وذكرت هؤلاء القسيسين الذين قدموا إلى هذا المؤتمر مذكرات قيمة تمس فروع التاريخ على اختلافها، وتمنيت لو استطاع عالم من علماء الدين عندنا أن يشترك في المؤتمر الجغرافي الذي سيقام في مصر في العام المقبل. أما في هذا الفصل، فلست أذكر علم رجال الدين الغربيين، ولا اجتهادهم في تحصيل العلم، وإنما أذكر تصورهم لواجبهم الديني، وهو مع الأسف الشديد أصح وأرقى من تصور علمائنا لواجبهم.
اذهب إلى أصغر قرية وأحقرها من قرى أوروبا وتبين عمل القسيس في هذه القرية، تجده عظيما، شديد التشعب، فهو يؤدي قبل كل شيء واجبه الديني المعقد في الكنيسة، يقيم هذه الصلوات الكثيرة المتنوعة، ويتقبل اعترافات المؤمنين إلى غير ذلك من أعمال الكنيسة. وهو يعنى بكنيسته عناية مادية، فيشرف لا على أن تكون نظيفة حسنة النظام، بل على أن تزدان بما استطاع أن يزينها به من آثار الفن، ثم هو بعد هذا أستاذ ديني لأطفال القرية جميعا يختلفون إليه في كل يوم يأخذون عنه مبادئ الدين وأصوله، ثم هو موسيقي بحكم عمله الديني، وهو أستاذ للموسيقى في قريته، ثم هو متغلغل في حياة القرية لا يفلت من يده مولود ولا ميت، يتلقى المولود ليعمده ويزور المحتضر ليصلي عليه ويلهمه كلمة الدين، وهو يجود بنفسه، ويودعه إلى قبره. ثم هو بعد هذا كله مكلف بحكم الدين أن يبحث عن الضعفاء وذوي الحاجة فيواسيهم ويعزيهم، ويلقى ألوان العناء في حمل الناس على الصدقات، يأخذ من أغنيائهم ما يرده على فقرائهم، ثم هو بعد هذا وذاك رجل طلعة يريد أن يتعلم، فهو يختص بدرس نوع من أنواع العلم أو لون من ألوان الفن.
Página desconocida