إلكترا‏

أياس‏

أنتيجونا‏

أويديپوس ملكا‏

إلكترا‏

أياس‏

أنتيجونا‏

أويديپوس ملكا‏

من الأدب التمثيلي اليوناني

من الأدب التمثيلي اليوناني

تأليف

سوفوكليس

ترجمة

طه حسين

إلكترا

الأشخاص

أورستيس بن أجامنون.

بولاديس صديق أورستيس.

مربي أورستيس.

إلكترا بنت أجامنون.

كروسوتيميس بنت أجامنون.

كلوتيمنسترا زوج أجامنون.

إيجستوس عشيق كلوتيمنسترا.

والجوقة مؤلفة من بنات مدينة موكنيا.

تقع القصة أمام قصر الملك في موكنيا، وتبدأ مطلع الفجر الذي يمحو ظلمة الليل شيئا فشيئا. ***

عاد أجامنون من حرب طروادة ظافرا منتصرا، فأتمرت به زوجه كلوتيمنسترا وعشيقها إيجستوس وقتلاه في حفل أقيم لاستقباله في عقر بيته وأمام النار المقدسة، وتمكنت ابنته إلكترا من إنقاذ أخيها الطفل أورستيس فهرب به مربيه، وما زال يتعهده ويعنى بصباه وشبابه حتى بلغ أشده وعاد ليثأر لأبيه.

المربي :

يابن أجامنون الذي قاد اليونان إلى طروادة تستطيع اليوم أن تنظر أمامك لترى هذه الأماكن ذات الصوت البعيد، التي كنت دائما شديد الحرص على أن تراها، هذه مدينة أرجوس القديمة التي طالما أسفت على فراقها، وهذا هو المكان المقدس الموقوف على ابنة أيناكوس

1

التي لدغتها الذبابة، وهذا يا أورستيس هو الميدان المقدس الموقوف على الإله قاتل الذئاب،

2

وهذا عن شمالك المعبد الشهير الموقوف على هيرا،

3

وفي هذا المكان الذي انتهينا إليه ترى مدينة موكنيا يقوم فيه هذا القصر الذي قتل فيه البوليبيون،

4

في هذا المكان تلقتيك قديما حين قتل أبوك، أسلمتك إلى تلك التي يجري دمك في عروقها، أختك. أخذتك وأنقذتك. وربيتك حتى انتهيت إلى هذه السن، وبلغت رشدك وأصبحت قادرا على أن تعود فتثأر لأبيك. والآن يا أورستيس والآن يا بولاديس، يا أعز الأصدقاء علينا أشيرا ماذا نصنع؟ يجب أن نحزم أمرنا في أسرع وقت ممكن، هذا الضوء الساطع الذي ترسله الشمس يملأ الجو بأصوات الصباح التي تبعثها الطير، وقد انقضى الليل بما فيه من ذلك الضوء المظلم الذي كانت ترسله النجوم، أديرا إذن أمركما قبل أن يخرج خارج من القصر، فقد بلغنا وقتا لا يجوز فيه التردد، بلغنا وقت العمل.

أورستيس :

أي أعز الخدم علي، ما أكثر ما تظهر من الحب لي والرفق بي، إنما مثلك مثل الجواد الأصيل الذي لا تذهب السن مهما تقدمت بشجاعته وقت الخطر، وإنما هو مصيخ بأذنيه دائما، كذلك أنت تشجعنا وتحمسنا وتشاركنا في الإقدام، سأعلن إليك ما دبرت فأصغ إلي في عناية وإن أخطأت فردني إلى الصواب، لقد ذهبت أستخير الوحي وأستشيره كيف أثأر من قاتل أبي؟ فأجابني أپولون بهذا الجواب الذي ستسمعه: امض وحدك في غير سلاح وفي غير جيش، وأنفذ في فجاءة ومكر هذا الموت المشروع الذي كتب على يديك إنفاذه.

ما دام هذا أمر أپولون فانفذ أنت إلى القصر متى استطعت وتعرف كل ما يجري فيه لتنبئنا به في وضوح، ولست أخشى أن يعرفك أحد بعد ما غيرتك السن المتقدمة وتوج الشيب رأسك بالبياض، لن يشك في شخصك أحد، أنبئ أهل القصر أنك غريب من أهل فوكيس قد جئت إليهم رسولا من قبل فانيتيوس، فإنه من أكبر حلفائهم. وأنبئهم - مقسما - أن أورستيس قد قضى نحبه في مصادفة خطرة، سقط عن عجلته في الألعاب الرياضية التي تقام لأپولون؛ كذلك يجب أن تكون قصتك.

فأما نحن فسننفذ أمر الآلهة، وسنبدأ فنتوج قبر أبي بما نقدم إليه من قربان وبما نضع عليه من خصل شعري، ثم نعود إلى هذا المكان وقد حملنا تلك العلبة من النحاس التي أخفيتها في غضون الأعشاب، كما تعلم، وكذلك نخدعهم فنحمل إليهم هذا النبأ السار بأن جسمي لا وجود له، قد حرق واستحال رمادا، وماذا عسى أن يسوءني أن يظن بي الموت ما دمت حيا في حقيقة الأمر وما دمت ساعيا إلى المجد!

لست أرى أن في الكلام ما يدعو إلى الطيرة ما دام النفع محققا من ورائه، وكثيرا ما رأيت الحكماء من الناس يموتون في اللفظ والأحاديث، فإذا عادوا إلى أوطانهم لم يزدهم ذلك إلا شرفا، ومن أجل هذا تملأني الثقة بأني بفضل هذا الحديث الكاذب سأحيا حياة قوية وسيسطع نجمي بين أعدائي.

أي أرض آبائي، أي آلهة وطني، تلقوني لقاء حسنا واجعلوا لسفري غاية سعيدة، واصنع بي مثل ذلك يا قصر آبائي، فإني إنما جئت من أجلك باسم العدل المطهر، أرسلني إليك الآلهة، لا تطرحوني مهينا بعيدا عن هذه البلاد، بل أتيحوا لي أن أسترد ثروتي وأشيد مجد أسرتي، هذا ما كنت أريد أن أقول، فامض أيها الشيخ للعناية بما وكل إليك، أما نحن فماضيان فهذا هو الوقت الملائم الذي يقضي في أمور الناس كلها. (تسمع إلكترا من داخل القصر: وا حسرتاه ... ما أشد شقائي.)

المربي :

يخيل إلي يا بني أني أسمع خادما تعول من وراء هذا الباب.

أورستيس :

أتراها الشقية إلكترا؟ أتأذن في أن نبقى لنسمع ما تبعث من الشكوى؟

المربي :

كلا، لنبدأ بإنفاذ أمر الآلهة، لنبدأ بهذا، امض فقرب إلى قبر أبيك فهذا هو الذي سيتيح لنا النصر والفوز. (يخرجون وتدخل إلكترا.)

إلكترا :

أي ضوء النهار النقي، أيها الفضاء الواسع من الهواء يحيط بالأرض، كم سمعتماني أبعث الصراخ المحزن والعويل المؤلم، وأضرب بيدي صدري الدامي حين تنجلي ظلمة الليل، وكم رآني سريري ترويه دموعي أثناء الليل في هذا المنزل النكد، أبكي ما أعد القضاء لهذا الأب الشقي الذي أعفاه أريس هذا الإله السفاح في ميدان القتال، وغالته أمي يعينها عشيقها إيجستوس، فقضت عليه بفأس دام كما ينحي الحاطب في الغابة على شجرة البلوط، أنا وحدي يا أبتاه في هذا المكان أئن لموتك، هذا الموت الشنيع الوحشي! على أني لن أضع حدا لما أبعث من أنين، ولا لما أسكب من دموع، ما رأيت نجوم الليل تجري في أفلاكها وضوء النهار يلمع في آفاق السماء، سيتردد صدى آلامي أمام قصر أبي كشكاة فيلوميلا لم تنقطع منذ حرمت أطفالها.

أي مقام يرسفونيه وأديس، أي هرمس السفلي، وأنتن يا بنات الآلهة، أيها الموكلات بتعذيب الأشقياء، أيتها الآلهة المخوفة آلهة اللعن والسخط، ألقوا أعينكم على هذه الضحايا التي سفكت دماؤها مع هذه القسوة، انظروا إلى هذه الجريمة المشتركة مصدرها الحب الفاجر، أقبلوا أعينونا اثأروا لموت أب شقي. ابعثوا إلى أخي فلن أستطيع منذ اليوم أن أحمل وحدي ثقل هذه الآلام التي تنوء بي. (تقبل الجوقة مؤلفة من خمس عشرة من بنات موكنيا.)

الجوقة (في بطء) :

أي إلكترا يابنة الأم الشقية، ما هذا الأنين الذي لا يرضي والذي تدفعينه في غير انقطاع على ذلك الذي أخذته أمك الخائنة في شراك آثمة على أجامنون الذي أسلم لذراع رجل جبان؟ يهلك مقترف هذا الإثم إن كان لي أن أجهر بما أتمنى.

إلكترا (في سرعة) :

أي بنات الأشراف، لقد أقبلتن لتعنني على آلامي، أعلم ذلك، أفهمه أراه في وضوح، ومع ذلك فلن ينقطع أنيني على أبي البائس، إنكن لتظهرن لي من ودكن آيات بينات، فخلين بيني وبين جنون الحزن، وا حسرتاه إني لأتمنى عليكن هذا.

الجوقة (في بطء) :

ولكنك لن تستطيعي بالبكاء ولا بالأنين أن تستردي أباك من يد الموت، هذا الزوج الذي ينتظرنا جميعا، إنك حين تتجاوزين الحد وتسلمين نفسك إلى ألم لا شفاء له تهلكين بهذا العويل الذي لا ينقضي، والذي لا تجدين فيه خلاصا من بؤسك ما يرغبك في الألم.

إلكترا (في سرعة) :

إن من الحمق والجنون أن ننسى ما ألم بآبائنا من موت يمزق القلوب ... كلا لن أنساه، وإنما يعجبني هذا الطائر الشاكي الذي أرسله زوس ليبكي على أتييس وعلى أتييس دائما، أيتها التعسة نيوبيه إني لأومن بألوهيتك ما دمت تسفحين دمعك حتى من هذا الصخر الذي أصبح لك قبرا.

الجوقة (في بطء) :

لست وحدك بين الناس الفتاة التي خصت بالألم يابنتي، إنك لتخالفين بما تظهرين من جزع قوما آخرين يشاركونك في الدم والأصل.

انظري كيف تعيش أختاك كريسوتيميس وإيفانسا وذاك السعيد في شبابه بنجوة من الألم، ذاك الذي ستستقبله أرض موكنيا ذات يوم وقد امتاز بالشرف والنبل، ذلك الذي سيقوده زوس إلى هذه البلاد أورستيس.

إلكترا (في حدة) :

ذاك الذي أنتظره دون أن يملني الانتظار، أنتظره وحيدة شقية لا ولد لي ولا زوج، هائمة دائما مبللة الوجه بالدموع مثقلة بآلام لا تنقضي، وهو ينسى عطفي عليه ورسائلي إليه، أي نبأ يبلغني عنه ثم لا تكذبه الأحداث، إنه يتمنى دائما أن يعود، ولكنه على هذا التمني لا يحاول شيئا.

الجوقة (في بطء) :

تشجعي يابنتي تشجعي، إن زوس لقوي في السماء، وإنه ليرى كل شيء ويدبر كل شيء، بثيه غضبك الأليم ولا تظهري الحقد على من تبغضين، ولا تنسي مع ذلك ما قدموا إليك من إساءة، إن الزمن لإله عطوف، وإن ابن أجامنون ليعيش على ساحل كريسا حيث ترعى السائمة دون أن ينساك كما أن إله الموتى لا ينساك.

إلكترا (في حدة) :

ولكني أنفقت أكثر حياتي في اليأس حتى لم تبق لي قوة على الاحتمال، إني لأسرع إلى الفناء وليس لي من عطف الأبوين ما يخفف من لوعتي، لا صديق ينهض لمواساتي، إنما أنا كغريبة لا حق لها ولا حرمة، إنما أنا خادم في قصر أبي أسعى في ثياب رثة، وأظل قائمة حول المائدة التي لا يحضرها صاحبها.

الجوقة (في حزن وبطء) :

لقد كانت عودة فاجعة تلك التي عادها أبوك إلى سرير العيد حين دفع صيحته الهائلة، حين صبت عليه ضربة الفأس، لقد أشارت بها الخيانة وأنفذها الحب، لقد بذرا من قبل بذر الجريمة التي حققها إله أو إنسان.

إلكترا (في صوت حاد مضطرب متقطع) :

يا لك من يوم قد كان أبغض وأشنع ما شهدت من الأيام، يا لك من ليلة ملأها النكر، يا لك من عيد بغيض قد ملأه البؤس والشقاء، لقد رأى أبي ذلك الموت المخذي الذي حملته إليه يدان مشتركتان في الإثم، لقد حطمتا حياتي، لقد خانتاني، لقد أضاعتاني، لتنتقم الآلهة من هذين القاتلين، لتصب عليهما العذاب، لتصرف عنهما الفرح والنعمة بعدما اقترفا من الإثم.

الجوقة (في حزن وبطء) :

احذري أن يسمع صوتك، ألا ترين إلى أي حال بلغت، وفي أي هوة قذف بك؟ لقد جمعت لنفسك شقاء إلى شقاء، ولقد جرت عليك صلابتك آلاما جديدة، إنك لتعاندين من هو أشد منك قوة، وما هذا من الرشد في شيء.

إلكترا :

نعم، أعلم أن حالي شديدة السوء، وأعلم مقدار شدتي وصلابتي، ولكني على رغم هذا كله لن أقصر عما أنا فيه من استنزال السخط واللعنة على المجرمين ما تنفست، ومن ذا الذي - أيتها الصديقات العزيزات - يرى هذا القلب، يشعر بما أنا فيه ثم يحاول تعزيتي؟ دعن لا تحاولن هذا العزاء، لن يكون لسخطي حد، وسيكون أنيني أبديا خالدا كآلامي.

الجوقة :

ولكن قلبي وحده هو الذي يعزيك، كما يفعل قلب الأم الحنون، احذري أن تستتبع شكاتك هذه شكاة جديدة.

إلكترا :

وأي حد أستطيع أن أضع لما أنا فيه من يأس وقنوط؟ كيف أستطيع من غير أن أنسى من حرمنيه الموت؟ أي الناس اتخذوا لأنفسهم هذه السيرة؟ لو أن بين الناس من يسلك هذا المسلك فأنا أود أن لا أنزل من قلوبهم منزل الرضى والكرامة، كما أني أود أن يدفعني ويذودني كل محب للخير إن أنا كفكفت في قلبي غلواء هذه العواطف الشريفة، عواطف الألم يبقيها الحرص على تشريف الموتى، ألا فليهلك أبد الدهر بين الناس الرشد والتقوى إذا كان حظ من فارق الحياة أن يبقى مهملا منسيا كأنه تراب غير حساس، وإذا لم يلق المجرمون جزاء ما اقترفوا من إثم.

الجوقة :

ولكن منفعتك ومنفعتي يابنتي هما اللتان جاءتا بي إلى هذا المكان، كأن كنت مخطئة فيما وجهت إليك من نصح فلتكن لك الكلمة، ونحن لما ترين مذعنات.

إلكترا :

يخجلني أيتها الصديقات العزيزات أن أسترسل أمامكن في هذا الألم الذي لا حد له، ولكن عاطفة أشد مني قوة تقهرني على ذلك فلا تلمنني فيه، وأي ابنة وفية تسلك مسلكا آخر بعد هذه النازلة التي نزلت بأبي والتي لا يزيدها مر النهار وكر الليل إلا قوة، فهي لا ينمحي منظرها أمام عيني، بل يتمثل من حين إلى حين فظيعا مروعا، أليست أمي التي منحتني الحياة قد أصبحت أشد الناس لي عداء؟ ألم أصر من سوء الحال إلى حيث أعيش في قصري مع الذين قتلوا أبي وقضوا عليه بالموت؟ أنا لهم خاضعة، منهم وحدهم أنتظر ما ينالني من خير وشر.

أي حياة تظنين أني أستطيع أن أحيا حين أرى إيجستوس يجلس على عرش أبي ويلبس ثيابه ويقوم بالواجبات الدينية للآلهة في المقام الذي قتله فيه! وحين أرى هذا المجرم الآثم يقاسم أمي المجرمة سرير أبي - إن استطعت أن أسمي أما تلك التي ترتاح إلى صدر شريكها في الإثم؟ إلى أي حد من الجرأة يجب أن تكون هذه المرأة قد وصلت حتى يتصل الحب بينها وبين هذا المجرم الفاجر؟ إنها لتسخر من انتقام الآلهة وكأنها تعجب بما اقترفت، فإذا أقبل اليوم الذي خدعت فيه أبي وقتلته من كل شهر أقامت حفلات الرقص وقدمت إلى الآلهة الحفظة الضحايا والقرابين، وأنا الشقية أبكي وأنتحب لهذه المناظر، وأفني قواي وحيدة، أئن لهذا المقصف الوحشي الذي سموه مقصف أجامنون.

ولو أني استطعت أن أسترسل كما أشاء إلى هذه الراحة الحلوة راحة سكب الدموع! ولكني لا أكاد أفعل حتى أسمع هذه المرأة التي لا حظ لها من كبر النفس إلا في ألفاظها تنحى علي باللوم وتثقلني مسبة وازدراء، تدعوني موضع بغضها ومرمى انتقامها السماوي، وتسألني: أأنت الوحيدة التي فقدت أباها؟ ألم يشعر غيرك من الناس ألما ولا حزنا؟ ليهلكنك اليأس ولا أرقأت آلهة الجحيم عبراتك، كذلكن يتناولني لسانها بالمسبة، ولكنها لا تكاد تسمع بقرب عودة أورستيس حتى تفقد رشدها ولا تملك من صوابها شيئا تبحث عني وتصيح بي: إذا فهذا ما أعددت لي! هذا عملك أنت التي وضعت أورستيس بنجوة من سلطاني حين أخفيته! ثقي بأنك ستلقين على ذلك عقابا عدلا.

ويصحب هذه الكلمات صراخ وعجيج وإلى جانبها عشيقها يزيد غيظها حدة والتهابا، هذا الجبان هذا المجرم الذي ملأ يديه دعارة وفجورا، هذا الذي لا يحسن الحرب إلا مع النساء وأنا أنتظر أورستيس يستنقذني من كل هذه الإهانة وأموت منتظرة! ما زال يؤخر عودته حتى قضى على ما أؤمل وما أملت، في هذه الحال التي وصلت إليها لا أستطيع أن أحتفظ بقصد ولا تقوى، فإن الشر إذا بلغ أقصاه اضطرنا إلى أن نذعن له ونسترسل فيه.

رئيسة الجوقة :

أنبئيني ... أتظنين أن إجستوس قريب منك بحيث يسمع ما تقولين؟ أترينه خرج من مستقره؟

إلكترا :

لقد خرج ... لا تظني أني كنت أستطيع أن أتجاوز باب القصر لو أنه كان فيه ... لقد ذهب إلى الحقل.

رئيسة الجوقة :

إذن فسأحدثك مطمئنة آمنة.

إلكترا :

سلي عما تريدين ما دمت واثقة بغيبته.

رئيسة الجوقة :

سأسألك إذن ... ما خطب أخيك ... نبئيني أعائد هو؟! أترينه يؤخر عودته فوق ما أخرها؟

إلكترا :

إنه يعلن إلي عودته، ولكنه برغم ذلك لا يعود.

رئيسة الجوقة :

ذلك لأن من حاول شيئا ذا خطر مضطر إلى أن يتردد.

إلكترا :

ومع ذلك فإني أنا قد أنقذته في غير تردد.

رئيسة الجوقة :

تشجعي فإنما يقوم ذو النجدة على معونة ذويه.

إلكترا :

أنا واثقة به، ولولا ذلك لما حييت إلى الآن.

رئيسة الجوقة :

لا تنطقي بكلمة فإني أرى تلك التي تشاركك في الدم لأبيك وأمك خارجة من القصر، أختك كريسوتميس، وهي تحمل في يديها بعض ما يقدم إلى الموتى من القربان. (تدخل كروسوتيميس.)

كروسوتيميس :

ما هذه الصيحات التي أقبلت تدفعينها يا أختاه قريبا من باب البهو؟ ما بالك لا تتعلمين على مر الزمن أن عداوتك لا غناء فيها، وأنك تخطئين حين تستسلمين لها، نعم إني لأعرف شيئا وهو أني ضيقة أشد الضيق بهذه الحياة التي أحياها، ولو أن لي فضلا من قوة لأظهرتهما على ما أضمر لهما من البغض، ولكني مضطرة في هذا الشقاء إلى أن أجري السفينة وقد طويت شراعها، وألا أخدع نفسي فأزعم أني أسوءهما على حين أني لا أصيبهما بشيء.

هذه سيرة تخالف سيرتك أشد الخلاف، وكم أود لو تذهبين مذهبي، نعم إن العدل لا يقرني على ما أقول، بل هو يلائم حكمك وسيرتك، ومع ذلك فإذا حرصت على ألا أفقد حريتي كلها فلا بد من الإذعان لسادتنا.

إلكترا :

ما أحقر ما تصنعين يا بنة أجامنون حين تنسين أباك ولا تفكرين إلا في أمك، كل ما تقدمين إلي من نصح قد تلقيته عنها، فأنت مقلدة لا تصدرين عن رأيك في شيء مما تقولين، إحدى اثنتين : فإما أن تكوني قد فقدت الرشد، وإما أن تكوني قد نسيت أهلك، ألم تقولي إنك لو استطعت لأظهرت بغضك لعدونا، ومع ذلك فإني أصنع كل ما أستطيع لأثأر لأبينا فلا أظفر منك بمعونة ما، وإنما أراك تحاولين ردي عما أريد، ألست تضيفين جبنك إلى شقائنا، أنبئيني؟ بل سأنبئك أنا بما سأفيده إن كففت عن إعلان الشكاة، إن شكاتي تسوءهما، وهي لذلك تسر الميت إن كان له أن يذوق بعض اللذة في قبره.

أما أنت التي تبغضينهما أشد البغض فلست تصنعين ذلك إلا في القول، فأما الحق الذي لا شك فيه فهو أنك تظاهرين اللذين قتلا أباك، أما أنا فلو أنهما منحاني ما تستمتعين به من امتياز فلن أستسلم لهما، استمتعي بمائدة مترفة وبحياة يملؤها الرغد من حولك، أما أنا فحسبي أن أكره قلبي على ما لا يريد، لا حاجة بي إلى ما تنعمين به ولو عرفت القصد لذهبت مذهبي، لقد كنت تستطيعين أن تنتمي إلى أجامنون أعظم الرجال شهرة وأبعدهم صوتا، فانتمي الآن إلى أمك، وكذلك يظهر جبنك للناس جميعا بعد أن خنت أباك ميتا وتخليت عن أصدقائك.

رئيسة الجوقة :

لا تصطنعي الغضب فيما تقولين بحق الآلهة، إن فيما تقولان لنفعا لكما جميعا، لو أن كلا منكما استمعت لرأي صاحبتها.

5

كروسوتيميس :

أما أنا فأعرف لغتها أيتها النساء، وما كنت لأنطق بكلمة لولا أني عرفت أن شرا عظيما يدنو منها، ويوشك أن يضع لشكاتها حدا.

إلكترا :

أعلنيه إلي هذا الشر العظيم فإنك إن تظهريني على شقاء أعظم مما أنا فيه لم يبلغك مني لوم.

كروسوتيميس :

سأظهرك إذن على كل ما أعرف، لقد أزمعا إن أنت لم تكفي عن هذا العويل أن يرسلاك إلى مكان لا ترين فيه ضوء الشمس، ستحيين بعيدا عن هذه الأرض في سجن مظلم، وهناك تستطيعين أن تندبي شقاءك، فكري إذن ولا تلوميني إن نزل بك المكروه، لقد آن لك أن تثوبي إلى الاعتدال.

إلكترا :

أهذا هو ما أزمعا أن يصنعا بي؟

كروسوتيميس :

نعم متى عاد إجستوس إلى القصر.

إلكترا :

ليعد إذن في أسرع وقت ممكن.

كروسوتيميس :

بأي كلام تنطقين؟

إلكترا :

ليعد إجستوس إن كانا قد أزمعا ما تقولين.

كروسوتيميس :

ماذا تأملين من هذا؟ أمجنونة أنت؟

إلكترا :

آمل أن أبعد عنكم إلى أقصى آماد البعد.

كروسوتيميس :

أتنسين حياتك الحاضرة إذن؟

إلكترا :

إنها لحياة رائعة خليقة بالإعجاب.

كروسوتيميس :

إنها تستطيع أن تكون رائعة لو أنك تؤثرين الاعتدال.

إلكترا :

لا تعلميني خيانة الأصدقاء.

كروسوتيميس :

لا أعلمك هذا، وإنما أعلمك طاعة المتسلطين.

إلكترا :

اصطنعي أنت هذا التملق فإنه ليس من خلقي.

كروسوتيميس :

ومع ذلك فمن حقنا ألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة.

إلكترا :

لنهلك - إذا لم يكن من ذلك بد - في سبيل الثأر لأبي.

كروسوتيميس :

أنا أعلم أن أبانا سيعفو لي عما أصنع.

إلكترا :

هذا كلام يقره الجبناء وحدهم.

كروسوتيميس :

ألا تريدين أن تسمعي لي وأن تقبلي نصحي؟

إلكترا :

كلا ليعصمني الآلهة من أن يبلغ الجنون بي هذا الحد.

كروسوتيميس :

لأذهب إذن إلى حيث كلفت الذهاب.

إلكترا :

إلى أين تذهبين أو إلى من تحملين هذا القربان.

كروسوتيميس :

لقد أرسلتني أمي لأهدي القربان إلى قبر أبي.

إلكترا :

ماذا تقولين؟ إلى أبغض الناس إليها.

كروسوتيميس :

إلى الذي قتلته بيدها فهذا هو الذي تريدين أن تقوليه.

إلكترا :

أي أصدقائها نصح لها بذلك؟ من ذا الذي أشار عليها به؟

كروسوتيميس :

أظن أن مصدر ذلك خوف طرقها بليل.

إلكترا :

أي آباؤنا الآلهة، كونوا معنا آخر الأمر.

كروسوتيميس :

أي ثقة يذيعها في نفسك ما أحست من خوف.

إلكترا :

أنبئيني بما رأت أنبئك بما أرى.

كروسوتيميس :

لا أعرف شيئا وما أقل ما أستطيع أن أنبئك به.

إلكترا :

قولي ما عندك فرب قليل دفع إلى الشجاعة أو رد إلى الضعف.

كروسوتيميس :

يقال إنها رأت أبانا قد صعد إلى الضوء وأقبل عليها، وإنه أخذ الصولجان الذي كان يحمله قديما والذي يحمله الآن إجستوس فغرسه في الموقد المقدس، وإن غصنا قويا نشأ من هذا الصولجان فأظل أرض موكنيا كلها. هذا ما قصه من سمعها تنبئ به اليوس،

6

ولست أعلم أكثر منه إلا أنها ترسلني أحمل القربان يدفعها إلى ذلك الخوف، فأنا أضرع إليك بحق الآلهة، آلهة أسرتنا أن تسمعي لنصحي، لا تهلكي نفسك بتجنب الحذر، واعلمي أنك إن تدفعيني فسيردك الشقاء إلي.

إلكترا :

أيها الأخت العزيزة لا تضعي على القبر شيئا مما تحملين في يديك، فإنك تجرمين إن حملت إلى أبينا هذا القربان الذي ترسله إليه امرأة هي أشد الناس له عداء، أرسلي ذلك في الهواء خبئيه في أعماق الأرض لا يصل شيء منه إلى قبر أبينا، بل ليدخر ذلك لها حين يدركها الموت؛ فإنها لو لم تكن أقل الناس حظا من حياء لما أرسلت هذا القربان ليوضع على قبر من صرعته.

فكري ... أتظنين أن الميت في قبره يتقبل مسرورا هدية هذه التي قتلته ثم ضمت أعضاءه إليه كما يفعل العدو بالعدو، ثم أرادت أن تطهر نفسها فمسحت ما علق بها من الدم برأس فريستها؟ أتظنين أن ما تحملين من القربان يحط عنها جرم القتل؟ كلا لا سبيل إلى ذلك، دعي إذن هذا القربان ... قصي أطراف شعرك وخذي أطراف شعري أنا الشقية ... هذا قليل ولكن لا أملك شيئا آخر.

قربي إلى أبينا شعري أنا العائذة به ونطاقي الذي لا حلية فيه، ثم اطلبي إليه راكعة أن يقبل علينا من أعمال الأرض ليعيننا على أعدائنا، وأن يقبل ابنه أورستيس قويا عزيزا تملؤه الحياة فينقض على خصميه انقضاضا، وإذن نستطيع في مستقبل الأيام أن نتوج قبره بأيد أكرم مما هي الآن، أعتقد، نعم أعتقد أنه هو الذي أرسل إلى كلوتيمنسترا هذا الحلم البشع، ومهما يكن من شيء فأعينيني أيتها الأخت على الانتقام، على الانتقام لك، على الانتقام لي، على الانتقام لأعز الناس علينا، ذاك الذي ينام في دار الموتى.

رئيسة الجوقة :

إن الوفاء هو الذي أنطق الفتاة بما قالت، فإن كنت حازمة أيتها الصديقة فاستمعي لما تقول.

كروسوتيميس :

سأفعل، إن الحق لا يحتمل الحوار، الحوار بين اثنين، وإنما يدفعهما إلى العمل، ومع ذلك فلا تنطقن بكلمة أثناء إنفاذي لما أزمعن بحق الآلهة أيتها الصديقات ؛ فإن أمي إن تعرف ما أنا مقدمة عليه كلفنا ذلك ثمنا غاليا. (تخرج)

الجوقة (في صوت ثابت) :

إذا لم أكن كاهنة مجنونة، إذا لم يكن عقلي قد ضل عني، فلا بد من أن تأتي هذه التي أرسلت إلينا هذا النبأ، العدالة، في يدها القوة الصارمة ستبدأ انتقامها يا ابنتي عما قليل، إني لأشعر بالثقة تشيع في نفسي حين أسمع كما سمعت آنفا أنباء هذه الأحلام المواتية، فإن أباك ملك اليونان لا ينسى شيئا، كما أن ذلك السلاح النحاسي ذا الحدين لا ينسى شيئا أيضا، ذلك السلاح الذي مزقه حين انصب عليه في صورة مخزية، ستقدم ساعية على ألف قدم ولها ألف ذراع تلك التي تستخفي في مكامن هائلة، أرنيس

7

التي لا تتعب. فإن شهوات الحب المجرم الزاني القاتل قد ملكت من لم يكن يحق لهما أن يأتلفا، وأنا من أجل هذا واثقة بأن هذا الحلم لم يلم بالقتلة إلا وهو يهيئ لهم الندم، لن تصح الأحلام المخيفة، ولن يصدق وحي الآلهة إذا لم يتحقق هذا الحلم الذي تكشف عنه الليل (مسرعة) .

أيها السباق الأليم الذي اشترك فيه بيلوبس

8

قديما، لقد كنت مصدر شر عظيم لهذا البلد، فمنذ انتزع مرتيلوس

9

عن العجلة المذهبة وقذف به في البحر حيث لقي الموت سلطت النوائب كلها على هذا البيت العظيم. (تدخل كلوتيمنسترا ومعها أمة تحمل سلة فيها فاكهة.)

كلوتيمنسترا :

ها أنت هذه فيما يظهر هائمة مرة أخرى، لقد غاب إجستوس الذي كان يمنعك من الخروج ومن ذم أهلك والتشهير بهم، أما الآن فإنك تسخرين مني، ما أكثر ما أعلنت إلى كثير من الناس أني سريعة الغضب، وأني آمر بغير العدل وأسرف في إهانتك وإهانة ذويك، ومع ذلك فلست عنيفة، وإنما أراك تمضين في النعي علي فأضطر إلى إجابتك بمثل ما تفعلين.

تزعمين أن أباك قد مات بيدي، وهذا هو الذنب الوحيد الذي تأخذينني به دائما، مات بيدي، إني لأعلم ذلك حقا ولا أجحده، لقد قتلته العدالة ولم أقتله وحدي؛ العدالة التي ينبغي أن تؤيديها لو أن لك فضلا من عقل، هذا الرجل أبوك الذي ما تزالين تبكينه وتندبين آخرته قد انفرد من بين اليونان بالقسوة المنكرة التي حملته على أن يقتل ابنته وأختك،

10

لم يكن قد احتمل في منحها الحياة ما احتملت أنا من الألم في إخراجها إلى هذا الوجود، لندع هذا، نبئيني بأي علة وفي سبيل أي الناس ضحى بها؟ ستقولين في سبيل اليونان؟ ولكن لم يكن له الحق في أن يقتل ابنتي، حتى ولو أقام نفسه مقام أخيه منيلاووس

11

ألم يكن لمنيلاووس أبناء؟ ألم يكن من الحق أن يموتوا وأن تبقى ابنتي، فإن الحرب لم تثر إلا من أجل أمهم؟ أكان الموت جائعا قرما إلى أبنائي وحدهم دون أبناء هيلانة،

12

أكان أبوك الشرير قد انتهى من القسوة إلى حيث يبغض كل من منحته من الولد، ولا يحتفظ بالحب إلا لأبناء منيلاووس؟ بل أليس هذا عمل أب أحمق مجرم، هذا هو الشعور الذي يملأ نفسي وإن كنت ترين ما يناقضه، وإن ابنتي الميتة لتشاركني في الرأي والشعور لو أتيح لها أن تتكلم، أما الآن فلست آسى على ما كان؛ فإن رأيت أنت أني مخطئة فابدئي بمراجعة عقلك، فستضطرين إلى لوم غيري.

إلكترا :

أما الآن فلن تقولي إني بدأت بإهانتك، وإنك اضطررت إلى الجواب، ولكني إن أذنت لي سأتحدث عن الميت كما أتحدث عن أختي أيضا.

كلوتيمنسترا :

تكلمي فقد أذنت لك، ولو أنك بدأت حديثك دائما بهذه اللهجة لما أحنقت على نفسك من يستمع لك.

إلكترا :

سأتكلم إذا، لقد قتلت أبي، ذلك شيء تعترفين به، ولكن سواء أكان موته عدلا أم ظلما، هل يوجد اعتراف أشد من هذا نكرا، ومع ذلك فلست أخفي عليك ما أرى، إن العدل لم يدفعك إلى قتل أبي، وإنما اندفعت إلى ذلك مفتونة بحب هذا المجرم الذي تعيشين معه، سلي أرتيميس على من أرادت أن تنزل سخطها حين وقفت حركة الريح في أوليس، وإن شئت فأنا منبئتك بذلك؛ إذ ليس من الميسور أن تسمعينه من فم الإلهة.

حدثت أن أبي بينما كان يلهو في غابة مقدسة من غابات الإلهة طارد وعلا أرقش طويل القرنين ثم أصابه فقتله، وأسكره النصر فنطق بما لا يحسن النطق به، سخطت لذلك ابنة لاتونا وحبست اليونان على الساحل حتى ضحى لها أبي بابنته وفلذة كبده ندما واستغفارا.

هذا هو السبب الحقيقي لهذه التضحية، قد كان انقطع بالجيش الرجاء أن يذهب إلى طروادة أو أن يعود إلى وطنه.

لقد مانع أبي زمنا طويلا ثم أكرهته الحاجة فضحى بابنته استرضاء للآلهة لا تلطفا لمينيلاووس، ولو أني مالأتك على أنه قد ضحى بابنته لمنفعة أخيه، فهل كان لك من أجل ذلك أن تنحريه بيدك؟ من ذا الذي منحك هذا الحق؟ احذري حين أقمت بين الناس هذا الحق، وسننت لهم هذه السنة أن تكوني قد أعددت لنفسك ما يحملك يوما ما على الندم والحسرة، فإن الدم إذ لم يغسله إلا الدم، فدمك أول دم يجب أن يسفحه العدل. ولكن لا تنسي وهن ما تنتحلين من معذرة، تنزلي فأنبئيني ما بالك قد اطرحت كل حياء واستخففت بكل خجل، فقاسمت سريرك هذا الشريك الذي أعانك على قتل أبي؟ ما بالك تحرصين على هذه الصلة المنكرة، وتطرحين أولادك الطاهرين الذين منحك إياهم زواج مقدس؟ كيف أستطيع أن أرضى عن مثل هذه الجنايات؟ أتقولين أيضا: إنك إنما تثأرين لابنتك؟ فإنك لن تستطيعي من غير خزي أن تنطقي بمثل هذا الجواب.

وفي الحق إن من أشرف الأعمال أن تقترن المرأة إلى عدوها لتثأر لابنتها، ولكن حسبي لوما فإني إن لم أكف، حملتك على أن تملئي الأرض صراخا بأنا نعق أمنا، على أني لم أر فيك أما، وإنما أرى فيك طاغية ظالمة، فأنا أقاسي أنواع العذاب، وألقى منك ومن عشيقك ألوان الألم، بينما أخي أورستيس الذي لم ينج إلا بعد مشقة يحتمل ثقل النفي وذله.

هذا الذي ما زلت تتهمينني بأني إنما ربيته لينزل بك العقاب يوما ما، ثقي بأني لو ملكت عقابك لما أحجمت عنه، والآن فانطلقي وأعلني إلى الناس جميعا أني قد فطرت على الشر والغضب والحمق، فإن ذلك إن يكن حقا فلن أضع قدر الدم الذي ورثته عنك.

رئيسة الجوقة :

إني أراها تعلن غضبها، ولكن أمحقة هي في الاستسلام للغضب؟ ذلك ما لم يفكر فيه أحد.

كلوتيمنسترا :

وماذا يقلقني من ذلك؛ إنها لتهين أمها في هذه اللهجة العنيفة على حين أنها قد بلغت سنا تحتم عليها تقدير الأمور؟ ألا تظنين أنها خليقة أن تندفع إلى جميع ألوان العنف في غير حياء؟

إلكترا :

تعلمي أني شديدة الخجل لما أصنع وإن لم تصدقي ذلك، وإني لأعلم أن سيرتي لا تلائم سني ولا طبقتي، ولكن ما تشيعين في نفسي من البغض، وما تتخذين لنفسك من سيرة آثمة؛ كل ذلك يضطرني إلى ما لا أحب. إن المثل المخزي يدفع إلى السيرة المخزية.

كلوتيمنسترا :

إنك لمخلوقة وقحة، إن مكاني منك وحديثي إليك وسيرتي معك كل ذلك يغريك بالإسراف في القول.

إلكترا :

إنما أنت التي تتحدث بفمي لا أنا، أنت تعملين وأعمالك تنطقني بما أقول.

كلوتيمنسترا :

أقسم بأرتميس المنتقمة لينالك العقاب على هذه القحة متى عاد إجستوس.

إلكترا :

أترين لقد أذنت لي أن أتحدث في حرية، وهذا هو الغضب يستأثر بك فلا تحسنين الاستماع.

كلوتيمنسترا :

ألا تتركينني إذن أقدم القربان بمأمن من هذه الضوضاء المنكرة لا لشيء إلا لأني أذنت لك في الكلام.

إلكترا :

سأدعك وما تريدين، قدمي قربانك إني أحثك على ذلك حثا، لا تضيقي بقولي فلن أضيف إليه حرفا.

كلوتيمنسترا :

أيتها الخادم التي ترافقني، خذي هذه الألوان المختلفة من الفاكهة فاحمليها لأقربها إلى هذا السيد القوي متوسلة إليه أن ينقذني من الخوف، أي فيبوس العطوف استمع لحديث نفسي ... لم أتحدث إليك في صراحة كما يتحدث الأصدقاء، فما ينبغي أن أجهر بكل شيء أمام هذه المرأة، فقد يدفعها البغض والحقد إلى أن تملأ المدينة بما سمعت في لفظ وقح مهين، افهم عني كما لو تحدثت إليك إن كان ما رأيته الليلة في أحلامي المضطربة خيرا فحققه لي أي ملك لوكايون، وإن كان شرا فاردده عني إلى أعدائي، وإن دبر أحد غصب ما أستمتع به من نعمة وثراء فلا تأذن بذلك، بل امنحني عيشا رضيا واجعلني دائما صاحبة قصر الأتريين وصولجانهم، وهيئ لي سعادة متصلة مع الذين يشاركونني في الحياة الآن، ومع أبنائي الذين لا يضمرون لي عداوة ولا بغضا، استمع أي أپولون في عطف لهذا الدعاء وأجبه كله بالقياس إلينا جميعا كما نرفعه إليك، فأما ما بقي من دعائي فإني واثقة بأنك تعرفه حق المعرفة برغم صمتي؛ لأنك إله، فإن ابن زوس يرى كل شيء. (يدخل مربي أورستيس في هيئة رسول.)

المربي :

أيتها الأجنبيات كيف أستطيع أن أعرف أن هذا القصر قصر إيجستوس؟

رئيسة الجوقة :

لقد عرفت الحق أيها الغريب دون أن تدل عليه، فهذا قص إيجستوس.

المربي :

أمصيب أنا إن افترضت أن هذه السيدة زوجه؟ فإني أرى عليها هيئة الملك.

رئيسة الجوقة :

نعم ها هي ذي أمامك.

المربي :

تحية يا مولاتي إني مرسل إليك من رجل عزيز عليك لأحمل إليك وإلى إيجستوس أنباء سارة.

كلوتيمنسترا :

إني أقبل ما تقول، ولكني أحب أن أعرف قبل كل شيء من أرسلك.

المربي :

أرسلني فنوتيوس صاحب فوكيس، وحملني رسالة خطيرة.

كلوتيمنسترا :

أي رسالة أيها الغريب؟ تكلم ... إنك مقبل من عند صديق، فلن تحمل إلي أنباء سيئة.

المربي :

لقد مات أورستيس، هذا هو النبأ في لفظ قصير.

إلكترا :

آه، ما أشقاني! لقد انقضى كل شيء اليوم بالقياس إلي.

كلوتيمنسترا :

ماذا تقول أيها الغريب، لا تسمع لهذه المرأة.

المربي :

لقد مات أورستيس، أعيد هذا النبأ عليك للمرة الثانية.

إلكترا :

إني هالكة، إني تعسة، لقد قضي كل شيء.

كلوتيمنسترا :

اشغلي نفسك بما يعنيك، أما أنت أيها الغريب فأنبئني بالحق، كيف هلك أورستيس؟

المربي :

لقد أقبلت من أجل ذلك، وسأقص عليك كل شيء، لقد وصل أورستيس إلى ميدان هذه الألعاب الشهيرة التي تشرف بها بلاد اليونان كلها، وكان يريد أن يشترك في السباق ليظفر بجائزة دلف، فلما سمع نداء المنادي عاليا يعلن بدء السباق أقبل على الميدان رائعا مشرقا، وجعل الناس جميعا ينظرون إليه معجبين به، فلما أتم الشوط فائزا كما كان الناس ينتظرون عاد ومعه تاج الظفر، ولست أستطيع أن أقص عليك بعض بلائه في هذا الفوز الباهر الذي ظفر به والذي لا يكاد يوصف.

تعلمي شيئا واحدا وهو أنه قد ظفر بالجائزة في جميع ما أعلن المحكمون من ألوان السباق، وكان الناس يتحدثون بسعادته، وكانوا يقولون: إنه من أرجوس وإن اسمه أورستيس، وإنه ابن أجامنون ذلك الزعيم الذي قاد الجيش اليوناني العظيم، وكذلك جرت الأمور، ولكن إذا أراد بعض الآلهة بنا شرا فلا مرد له مهما تكن قوتنا.

فلما كان الغد وبدأ سباق العجلات أقبل على الميدان في مطلع الشمس مع عدد من المستبقين، وكان من بينهم رجل أكوي وآخر إسبرتي واثنان من لوبيا يقودان عجلتيهما قائمين، وكان أورستيس خامسهم، وكانت تجر عجلته أفراس من تساليا، وكان سادسهم من أثوليا، وكانت خيله شقراء وكان السابع من منيسيا، والثامن من أينيا وكانت خيله شقراء، وكان التاسع من المدينة التي بناها الآلهة من أثينا، وكان العاشر من بيوتيا،

13

وكانوا جميعا ساكنين في الأماكن التي أقرهم فيها المحكمون بعد الاقتراع، فلما سمع صوت البوق النحاسي اندفعوا جميعا وكانوا يزجرون خيلهم بالصوت، وكانت أيديهم تهز اللجم هزا عنيفا، وكان الميدان كله يدوي بعجيج هذه العجلات وقد ثار الغبار في الجو، وكانت جماعتهم مختلطة وكلهم يهمز خيله ما وسعه ذلك ليسبق خصومه، وكانت أنفاس الخيل تنضح ظهور القادة كما تنضح العجلات بزبد كأنه قطع الثلج، وكان أورستيس كلما حاول تهدئة خيله عند العمود الأخير مس هذا العمود مسا رفيقا بطرف عجلته، وكان يرسل العنان لآخر أفراسه من جهة اليمين ويمسك الفرس الذي يحاذي العمود.

وإلى هذا الوقت كانت العجلات كلها قائمة حتى جمحت خيل الرجل الأيني بقادتها واندفعت في عنف شديد، فلما عادوا آخر الشوط السادس وبدأوا الشوط السابع اصطدمت خيل هذه العجلة بخيل لوبيا، وكذلك أخطأ رجل واحد فاصطدمت العجلات كلها وتحطمت، وامتلأ ميدان كريسا بهذه الصيحات المنكرة التي أثارتها الكارثة، فلما رأى الأتيني هذا المنظر وكان ماهرا نحى خيله ووقفها وترك هذا الموج المختلط من الخيل يمر في طريقه، وكان أورستيس آخر القوم وكان يعقد أمله بنهاية السباق، فلما رأى أنه لم يبق له إلا خصم واحد ضرب الهواء بالسوط بين آذان الخيل ومضى في أثر خصمه حتى أدركه، وانطلقت العجلتان متوازيتين تسبق هذه مرة وهذه مرة، ولكنه سبق ضئيل، وقد أتيح للشقي أن يقطع ثلاثة أشواط قائما على عجلته.

وذات لحظة بينما كانت فرسه اليسرى تريد أن تدور حول العمود قصر في جذب اللجام فاصطدمت عجلته بأعلى العمود فيتحطم قطب العجلة من وسطه ويسقط هو عن عجلته، وقد أخذ في ثنايا الأعنة يهوي إلى الأرض، وتمضي خيله في سرعة مضطربة وقد دفعت الجموع حين رأته يصرع صيحة يملؤها الألم وجعلت تندب هذا الشاب الذي أحرز ما أحرز من النصر، ثم انتهى إلى هذه الآخرة المشئومة، وكانت الخيل تسحبه على الأرض وربما دفعت ساقيه في الهواء، ثم استطاع بعض قادته أن يقفوا الخيل في جهد غير قليل وأن يخلصوه من الأعنة، وكان الدم قد غمره حتى لم يصبح من اليسير على أحد من أصدقائه أن يعرف جثته الممزقة، فما هي إلا أن تحرق جثته؛ وهذا الجسم العظيم قد استحال إلى قبضة من رماد وضع في علبة ضئيلة يحملها وفد من الفوكيين لتدفن في أرض آبائه.

هذه هي القصة، وهي مؤلمة لمن سمعها، ولكن من رأى الواقعة مثلي يعرف أنه رأى أبشع منظر يمكن أن يقع تحت أعين الناس.

رئيسة الجوقة :

وا حسرتاه! لقد اندثرت أسرة سادتنا كلها.

كلوتيمنسترا :

أي زوس، ماذا أقول؟ أخير هذا الذي يصل إلي أم شر؟ بل هو شر فيه شيء من نفع، ومع ذلك فمن الشقاء ألا أستمتع بالحياة إلا إذا دفعت لها الحداد ثمنا.

المربي :

لماذا تصدمك قصتي على هذا النحو يا امرأة؟

كلوتيمنسترا :

ما أغرب الأمومة إن إحدانا لتهان، ولكنها لا تستطيع أن تبغض أبناءها.

المربي :

يخيل إلي أننا أقبلنا في غير طائل.

كلوتيمنسترا :

في غير طائل؟ كلا ، كيف تستطيع أن تقول هذا إذا استطعت أن تثبت لي موت هذا الذي منحته الحياة، فأعرض عني وآثر حياة الغربة والنفي، ثم لم يرن منذ ترك هذه الأرض، كان يأخذني بقتل أبيه وينذرني بأعظم الشر، وكذلك لم تكن عيناي تذوقان لذة النوم في ليل أو نهار. كان الزمن المتسلط على أعمالنا جميعا يأخذ بيدي دائما كأنما يقودني إلى الموت، أما منذ الآن فسننفق أياما هادئة بعد أن أمنت منه ومن أخته، فقد كانت أخته هذه أشد منه خطرا؛ لأنها كانت تعيش معي وتشرب من دم حياتي.

إلكترا :

ما أشقاني الآن، يجب أن أندب آخرتك السيئة يا أورستيس، فما زالت أمك تهينك حتى بعد موتك، ألم يجر كل شيء على أحسن ما يرام؟

كلوتيمنسترا :

كلا، لم يجر كل شيء على أحسن ما يرام بالقياس إليك، أما بالقياس إليه هو فنعم.

إلكترا :

اسمعي يا آلهة العدل شكوى من مات.

كلوتيمنسترا :

لقد سمعت ما كان ينبغي أن تسمع واستجابت له.

إلكترا : ... اهنئي؛ فإن الحظ يواتيك الآن.

كلوتيمنسترا :

لن تغيرا هذا الحظ لا أخوك ولا أنت.

إلكترا :

لقد قهرنا إلى آخر الدهر، فلن يكون لنا عليك سلطان.

كلوتيمنسترا :

ما أجدرك بأجزل المكافأة أيها الغريب لو أنك وضعت حدا لثرثرتها.

المربي :

لم يبق لي إلا أن أنصرف.

كلوتيمنسترا :

كلا، فإنك إن تفعل وصمنا بالتقصير في ذاتك، فلم نتلقك كما يليق بي وكما يليق بمرسلك، ادخل القصر ودعها تعلن آلامها وآلام أصدقائها. (تخرج ومعها الشيخ.)

إلكترا :

أترينها تألم أو تأسى؟ أترينها بكت أو أعولت على ابنها تلك التعسة البائسة؟ كلا، لقد تولت ضاحكة، ما أشقاني أي أورستيس العزيز لقد أضعتني بموتك، إنك لتمضي وقد انتزعت من قلبي ما كان قد بقي من أمل، لقد كنت أرجو أن أراك عائدا إلي تملؤك الحياة لتثأر لأبيك ولتنتقم لي، والآن إلى أين أستطيع أن أذهب؟ إني وحيدة لا أجد منك ولا من أبيك عضدا ولا سندا، يجب أن أعيش عيشة الأمة بين أبغض الناس إلي بين الذين قتلوا أبي ، يا لها من حياة جميلة، كلا؟ لن أعيش معهم تحت سقف واحد، سأنفق ما بقي من حياتي إلى جانب هذا الباب صفرا من الأهل والصديق، هنالك يقتلني من يضيق بي من أهل القصر، فإن الموت إحسان إلي وإن الحياة شقاء لي؛ لا رغبة لي في الحياة.

الجوقة (في حدة) :

أين صواعق زوس، وأين أپولون الساطع؟ كيف يريان هذا فيصبران عليه ولا ينتقمان له.

إلكترا :

ها ها، وا حسرتاه.

الجوقة :

لم تبكين يابنتي؟

إلكترا (رافعة يدها إلى السماء في يأس) :

يا للآلهة.

الجوقة :

لا تدفعي هذه الصيحات.

إلكترا :

أتريدين أن تقتليني.

الجوقة :

كيف؟

إلكترا :

إذا حملتني على أن أحتفظ بالأمل فيمن اغتالهم الموت زدت يأسي وآلامي.

الجوقة :

أعلم أن الملك انفأروس

14

قد قضى عليه الموت في سبيل عقد من الذهب بخيانة امرأة.

إلكترا :

ها، ها، وا حسرتاه.

الجوقة :

وهو يملك الآن تملؤه الحياة.

إلكترا (رافعة يدها في يأس) :

يا للآلهة.

الجوقة :

لك الحق في العويل، فإن هذه المرأة الآثمة.

إلكترا :

قد قتلت.

الجوقة :

نعم.

إلكترا :

أنا أعرف القصة أعرفها، لقد انتقم منتقم للمفجوعين بذلك الملك، أما أنا فليس لي منتقم ولا ثائر.

الجوقة (في بطء وتثاقل) :

إنك لتعسة بين النساء.

إلكترا :

أعلم ذلك حق العلم، أعلمه تحت وطأة هذه الآلام الفظيعة البشعة التي لا تنقضي.

الجوقة :

لقد رأينا فيم تنتحبين.

إلكترا :

إذن فلا تصرفيني عن حزني ما دمت ...

الجوقة :

ماذا تريدين أن تقولي؟

إلكترا :

لقد تحطم ما كنت أعتمد عليه من أمل في أخي العزيز.

الجوقة :

كل الناس عرضة للهلاك.

إلكترا :

عرضة للهلاك في سباق الخيل السريعة، كما قضى هذا التعس مأخوذا في أعنة الخيل.

الجوقة :

لم يكن سبيل إلى توقع الكارثة.

إلكترا :

هذا حق فقد كان في أرض الغربة بعيدا عني.

الجوقة :

وا حسرتاه.

إلكترا :

لقد قضى دون أن أدفنه أو أبكي عليه. (تدخل كروسوتيميس مسرعة.)

كروسوتيميس :

إن الفرح يستفزني أيتها الأخت العزيزة فيخرجني عن طوري ويدفعني إلى هذه السرعة التي لا تليق بي، إني لأحمل إليك السعادة وخاتمة الآلام التي كانت تضطرك إلى البكاء والأنين.

إلكترا :

أين تجدين شفاء لآلامي؟ لقد أعيت كل دواء.

كروسوتيميس :

إن أورستيس هنا، صدقيني إنه لحق كما أنك ترينني.

إلكترا :

أجننت أيتها الشقية؟ أتسخرين من آلامك وآلامي؟

كروسوتيميس :

كلا، أقسم ببيتنا الأبوي المقدس ما قلت هذا مهينة لآلامك ولا لآلامي، ولكن أؤكد أن أورستيس قد عاد إلينا.

إلكترا (بائسة) :

ومن أنبأك بهذا النبأ حتى صدقته بهذه القوة.

كروسوتيميس :

أنا ... أنا وحدي رأيت أدلته القاطعة فوثقت به الثقة كلها.

إلكترا :

أي دليل أيتها التعسة؟ أي شيء رأيت حتى اضطرمت في نفسك هذه الجذوة الحمقاء جذوة الفرح.

كروسوتيميس :

بحق الآلهة استمعي، ثم اقضي بعد ذلك بأني عاقلة أو مجنونة.

إلكترا :

تحدثي إذن إن كان لك في الحديث أرب.

كروسوتيميس :

سأنبئك إذن بكل ما رأيت، لقد بلغت القبر العتيق الذي استقر فيه أبونا فرأيت سيلا من اللبن يجري عليه، ورأيت المكان الذي خصص لوالدنا قد توج بالزهر، فدهشت لهذا المنظر، وجعلت أجيل الطرف من حولي أتحسس من شخص يقوم، فلما رأيت خلوة المكان دنوت من القبر فرأيت أن أعلاه خصلة من الشعر قد قدت منذ حين قصير، فما هي إلا أن يساورني الحزن لهذا المنظر، وتتمثل أمامي صورة مألوفة فأرى الشخص الذي أحبه وأوثره على الناس جميعا أورستيس، فقد كانت هذه الخصلة آية مقدمة، فآخذ هذا القربان بين يدي وأكتم صيحاتي وأنفاسي وتمتلئ عيناي بالدموع، وأنا الآن كما كنت منذ حين واثقة بأن هذا القربان لم يقدمه أحد غير أورستيس.

نعم أي الناس كان يمكن يقرب لأبينا إلا أن يكون إياك أو إياي، وأنا لم أقرب وأنت لم تقربي أيضا، وكيف تفعلين وليس لك أن تخرجي من القصر للصلاة، وليست خواطر القربان مما يخطر لأمي عادة، ولو فعلته لما استطاعت أن تخفيه علينا، وإذن لم يأت هذا القربان إلا من أورستيس. هلم أيتها الأخت العزيزة تشجعي، إن الناس لا يتلقون دائما معونة فريق بعينه من الآلهة، لقد غضب الآلهة علينا في أكثر الوقت، ولكنهم سيرضون - فيما أرى - منذ اليوم.

إلكترا :

وا حسرتاه! لقد أشفقت عليك من الجنون منذ وقت طويل.

كروسوتيميس :

ماذا؟ ألا يسرك ما أنبأت به؟

إلكترا :

أنت لا تعلمين أين أنت ولا أين ذهب رشدك.

كروسوتيميس :

كيف لا أعرف ما رأيت في وضوح؟

إلكترا :

لقد مات أيتها الشقية وذهب الأمل الذي كنت تعقدينه به فلا تديري إليه طرفك.

كروسوتيميس :

آه، ما أشقاني من أنبأك بهذا النبأ؟

إلكترا :

أنبأني به من كان معه حين قضى نحبه.

كروسوتيميس :

وأين هذا الرجل إني لمأخوذة؟

إلكترا :

هو في القصر، وإن مقدمه ليسر أمنا ولا يحزنها.

كروسوتيميس :

ما أشقاني، ومن ذا الذي قدم إذن هذا القربان العظيم الذي رأيته عند قبر أبينا؟

إلكترا :

أكبر الظن عندي أن بعض الناس وضع هذا القربان في هذا المكان حنينا إلى ذكرى أورستيس بعد موته.

كروسوتيميس :

يا للشقاء، لقد أقبلت فرحة مسرورة أحمل إليك النبأ السعيد، فإذا أنا أجد آلامنا القديمة قد أضيفت إليها آلام جديدة، يا لقسوة القضاء.

إلكترا :

كذلك ترين الأمر، ولكنك إن استمعت لي استطعنا أن نخفف آلامنا.

كروسوتيميس :

أأستطيع يوما أن أنشد الموتى؟

إلكترا :

ليس هذا ما أقول فإني لم أبلغ من الجنون هذا الحد.

كروسوتيميس :

بماذا تأمرينني؟ وماذا أستطيع؟

إلكترا :

آمرك بأن تجرأي على تنفيذ ما أشير به عليك.

كروسوتيميس :

إن كان في هذا نفع فلن أتردد.

إلكترا :

فكري فإن النجاح رهين بالجهد.

كروسوتيميس :

أعلم ذلك وسأعينك ما وسعتني معونتك.

إلكترا :

اسمعي إذن ما صممت عليه، إنك لتعلمين كما أعلم فيما أظن أننا فقدنا أصدقاءنا جميعا، قد استأثر بهم الموت ولم يبق لنا واحدا منهم وقضى علينا بالوحدة إلى آخر الدهر، أما أنا فقد كنت محتفظة بالأمل أثناء حياة أخي وقوته، وكنت أرجو أن يأتي ذات يوم فيثأر لأبينا. فالآن وقد قضى فإني أرفع عيني إليك لعلك ألا تترددي في الاستعانة بأختك على قتل من قضى الموت على والدنا إيجستوس، فقد آن الوقت الذي لا ينبغي فيه أن أخفي عليك شيئا.

فإلى متى تظلين عاجزة ساكنة؟ وإلى أي أمل تديرين طرفك بعد أن تهدمت آمالنا جميعا؟ لم يبق لك إلا البكاء لقد حرمت ميراث أبينا، فلم يبق لك إلا أن تألمي وأن تقبلي على الشيخوخة كما فعلت إلى الآن، لا يتاح لك الزواج ولا يسعى إليك زوج، ولا تأملين في أن يسعى إليك يوما ما، فليس إيجستوس أحمق ولا ضعيف الرأي ولن يرضى يوما ما أن يكون لك ولا لي نسل؛ لأنه يعلم أن ذلك شديد الخطر عليه، فأما إذا استمعت لنصيحتي فستظفرين قبل كل شيء برضى أبينا المقتول عن وفائك له وبرضى أخينا أيضا، ثم تعلن حريتك الدائمة كما أعلنت يوم مولدك، ويتاح لك الزواج الذي يلائم شرفك وارتفاع مكانتك.

والإنسان يجب دائما أن يدير طرفه نحو الخير والفضيلة، ألا ترين أي صوت مجيد تملأين به الأرض لنفسك ولي إن اتبعت رأيي؟ أي مواطن لنا وأي غريب عنا لا يتلقانا حينئذ بالتجلة والإعجاب؟ سيقول بعض الناس لبعض إذا رأونا: «انظروا أيها الأصدقاء إلى هاتين الأختين، لقد أنقذتا بيتهما لم يمنعهما من ذلك ما كان لعدوهما من قوة وثراء، بل عرضتا حياتهما للخطر وأنزلتا على عدوهما الموت، فلنحبهما ولنختصهما بالكرامة والإجلال، ولنعلن في الأعياد وفي المحافل العامة إكبارنا لشجاعتهما وإقدامهما.» كذلك سيقول الناس عنا، وكذلك يلازمنا المجد أثناء الحياة وبعد الموت. هلم أيتها الأخت العزيزة أطيعيني لنسرع إلى معونة أبينا ونجدة أخينا، ضعي حدا لشقائك وشقائي، وثقي بأن حياة الخزي لا تليق بكرام الناس.

رئيسة الجوقة :

في مثل هذه الظروف يحسن أن يكون الحذر حليف المتكلم والسامع جميعا.

كروسوتيميس :

نعم، ولو لم تكن ضائعة الصواب لحفظت على نفسها ما ضيعت من حذر واحتياط ... فمن أين اتخذت هذه الجرأة التي تدفعك إلى هذا الخطر وتزين لك الاستعانة بي عليه؟ إنك لتجهلين ما تريدين، لقد ولدت امرأة لا رجلا، وإن ذراعك لأضعف من ذراع أعدائك.

وإن الحظ ليواتيهم من يوم إلى يوم، وإنه ليعرض عنا أشد الإعراض، فمن ذا الذي يقدر في نفسه قتل رجل كإجستوس، ثم يخلص من ذلك دون أن يندب حظا شقيا تعسا، احذري أن نجر على أنفسنا شقاء أشد وأنكى من هذا الشقاء الذي نحن فيه ... إن استمع أحد لما قدمت من القول فلن ينفعنا ولن يغني عنا أن يبعد صوتنا، ويحسن الحديث عنا، لنموت في الذل والإهانة.

ليس الموت في نفسه شرا، وإنما الشر أن ندعوه ثم لا يستجيب لنا، إني لأضرع إليك أن تكفكفي من غضبك قبل أن يقضي علينا الموت وقبل أن تمحى أسرتنا من الأرض، سأحفظ كلامك في نفسي كأنك لم تنطقي، وسأعرض عن اتباع ما أشرت به علي، فأما أنت فثوبي إلى الرشد آخر الأمر وأذعني لأصحاب السلطان ما دمت ضعيفة لا تستطيعين المقاومة.

رئيسة الجوقة :

أطيعيها فإن الحذر والحكمة أنفع شيء للإنسان.

إلكترا :

لم تقل شيئا غير ما كنت أنتظر، وقد كنت واثقة بأنك سترفضين ما أطلب إليك، سأنفذ هذا الأمر بيدي وسأقدم عليه وحدي وقد صممت على أن أتمه.

كروسوتيميس :

وا حسرتاه! ليتك وجدت هذا الشعور حين قتل أبونا؛ إذن لأنفذت ما تريدين.

إلكترا :

لقد كنت أجد هذا الشعور، ولكني كنت أضعف من تحقيق ما أريد.

كروسوتيميس :

فاجتهدي في الاحتفاظ بهذا الشعور، وفي أن تظلي ضعيفة كما كنت حينئذ.

إلكترا :

إنك تنصحين لي بذلك؛ لأنك لا تريدين معونتي.

كروسوتيميس :

إن المحاولة السيئة تنتج بالطبع نجاحا سيئا.

إلكترا :

إني لأغبطك لهذا الحذر وأبغضك لهذا الجبن.

كروسوتيميس :

يجب أن أسمعك ذات يوم تثنين علي.

إلكترا :

لن يتاح لك هذا آخر الدهر.

كروسوتيميس :

لا تتعجلي فإن المستقبل طويل.

إلكترا :

اذهبي فلا خير فيك.

كروسوتيميس :

بل في خير كثير، ولكنك لا تريدين أن تتعلمي.

إلكترا :

انطلقي وقصي على أمك كل شيء.

كروسوتيميس :

لم يبلغ بغضي لك هذا الحد.

إلكترا :

انظري إلى أي حد من الخزي تريدين أن تبلغي بي.

كروسوتيميس :

من الخزي كلا، ولكن من الحذر لك والإبقاء عليك.

إلكترا :

أترين أن من الحق علي أن أذعن لما ترينه صوابا.

كروسوتيميس :

حين يثوب إليك رشدك تنصحين لنفسك ولي.

إلكترا :

حقا إن من الغريب أن تجيدي القول وتجوري عن قصد السبيل.

كروسوتيميس :

لقد أحسنت تصوير الخطأ الذي أنت واقعة فيه.

إلكترا :

ماذا ... أترين أن ما أعرضه عليك ليس عدلا؟

كروسوتيميس :

قد يكون العدل شؤما في بعض الظروف.

إلكترا :

لن أقبل الحياة في ظل قوانين كهذه.

كروسوتيميس :

إن أنفذت ما تقولين أقمت الدليل على صواب رأيي.

إلكترا :

ومن المؤكد أني سأنفذه دون أن أخشاك.

كروسوتيميس :

حق إذا أنك لن تعدلي عن رأيك؟

إلكترا :

كلا، فإن أبغض الأشياء نصيحة تنتهي إلى الجبن.

كروسوتيميس :

يظهر لي أنك لا تقبلين شيئا مما أقول.

إلكترا :

لقد أزمعت رأيي منذ عهد بعيد لا منذ أمس.

كروسوتيميس :

سأمضي إذن؛ فلن تحمدي قولي ولن أحمد عملك.

إلكترا :

امضي إذن فلن أتبعك مهما تكن إرادتك، على أن من الحمق أن أحاول ما لا سبيل إليه.

كروسوتيميس :

إن كنت ترين أنك مصيبة فأقيمي على رأيك، فستعلمين حين ينزل بك الشقاء أن الصواب قد كان إلى جانبي. (تخرج)

الجوقة (في قوة ووضوح) :

لماذا نرى في الجو هذه الطير ذات الحظ العظيم من الذكاء تلتمس القوت لأفراخها التي منحتها الحياة ثم نشأتها تنشيئا، ولا نعنى نحن بأبنائنا مثل هذه العناية؟ ولكني أقسم بما يرسله زوس من البروق وأقسم بالعدل السماوي ليؤخذن المجرم بجريمته دون أن يفلت من العقاب.

أيها الصوت الذي يذيع الأحاديث في الناس ويهبط بها إلى دار الموتى أعلن إلى الأثريين في تلك الدار أحاديث كلها الخزي والعار.

قل لهم: إن حياة أسرتهم اليوم مرتجة مضطربة، وإن أبناءهم يختصمون فلا تهدئ خصومتهم مودة أخوة، وإن إلكترا وحيدة مخونة تعصف بها العاصفة، فالبائسة تئن في غير انقطاع حزنا على أبيها كأنها البلبل لا ينقطع أنينه، وهي لا تحفل بالموت، ولا يعنيها أن يحجب عنها الضوء، وبحسبها أن تصرع عدويها، من ذا الذي يستطيع أن يزعم أن له نفسا كريهة كنفسها؟ (في بطء) .

ليس بين أشراف الناس من تلم به النوائب، فيعرض نفسه للخزي ومجده للدنس وشهرته للضياع يابنتي؛ ولذلك آثرت حياة كلها بكاء وتسلحت لمقاومة الجريمة لتظفري بهذا الثناء المزدوج، وليعلم الناس أنك فتاة حكيمة جريئة، فليتح لك القضاء أن تسودي عدوك بالثروة والسلطان بمقدار ما أنت لهم خاضعة الآن، فإني لم أعرفك سعيدة مجدودة، ومع ذلك فأنت حريصة على طاعة القوانين السماوية، مؤدية إلى زوس حقه من التقوى. (يدخل أورستيس وبلاديس، ومن ورائهما خادمان يحمل أحدهما العلبة التي يظن أن فيها بقايا أورستيس.)

أورستيس :

أيتها النساء أترين أدلاءنا لم يخطئوا، وأننا نمضي إلى حيث نريد؟

رئيسة الجوقة :

ماذا تريد أن تعرف وفيم أقبلت؟

أورستيس :

إجستوس أين مستقره لقد أطلت السؤال عنه.

رئيسة الجوقة :

أنت إذا قد وصلت إلى قصره، ولا تثريب على من هداك إليه.

أورستيس :

أيكن تستطيع أن تنبئ أهل القصر بأن من ينتظرونه قد أقبل ومعه من كان يجب أن يرافقوه.

رئيسة الجوقة (مشيرة إلى إلكترا) :

هذه تستطيع أن تحمل النبأ إن كان يجب أن يحمله أدنى الأقرباء.

أورستيس (مشيرة إلى إلكترا) :

اذهبي أيتها المرأة وقولي لهم: إن بعض الفوكيين يريدون لقاء إجستوس.

إلكترا :

وا لهفتاه! أرجو ألا تكونوا قد حملتم إلينا الدليل القاطع على ما أنبئنا به منذ حين.

أورستيس :

لست أدري ماذا تريدين أن تقولي، ولكن ستروفيوس قد حملني رسالة إلى إجستوس.

إلكترا :

ما خطبك أيها الغريب، إن الخوف ليتسلل إلى نفسي.

أورستيس :

إنا نحمل - كما ترين - هذه البقية الضئيلة في هذه العلبة الضيقة، لقد مات.

إلكترا :

آه، وا شقوتاه ... إنه لحق إذن ها هو ذا أمام عيني هذا الدليل المحسوس على حدادي، إني لأراه.

أورستيس :

إن كنت تبكين على أورستيس فاعلمي أن هذه العلبة تحتوي ما بقي من رماده.

إلكترا :

أيها الغريب، هاتها - بحق الآلهة - إن كانت تحتوي ما بقي منه، هاتها لآخذها بين يدي ولأبكي عليه وعلى نفسي وعلى أسرتي كلها.

أورستيس (لخادميه) :

ادفعاها إلى هذه المرأة كائنة من تكون، ادفعاها إليها ليست عدوا هذه التي تتقدم بهذا الرجاء، إنما هي صديق أو ذات قرابة تجمعها به صلة الدم.

إلكترا (وقد أخذت العلبة) :

أيتها البقية الأخيرة لمن آثرت بحبي على الناس جميعا، أيها العزيز أورستيس، لشد ما بين هذه الحال التي أراك فيها الآن وبين ما قد كنت عقدت بك من الآمال من فرق.

لست الآن إلا رمادا باطلا أحمله بين ذراعي، وإن كنت حين أبعدتك من هذا القصر - أي بني العزيز - لمملوءا قوة ونشاطا، آه! ما لي لم أفقد الحياة قبل أن أنقذتك من الموت، وبعثت بك إلى أرض غريبة!

وإذن لمت في اليوم النكد، ولكنك كنت تظفر بالمواراة في قبر أبيك، أما اليوم فقد قضيت بعيدا من وطنك، ومن ذراعي أختك هاربا منفيا، إني لشقية! لم تصب يداي على جسمك الماء المقدس، ولم أجمع بعد تحريقك ما بقي من رمادك، لقد قامت بهذا الواجب أيد أجنبية.

يا لك من شقي تعود إلى ذراعي، وإنك لخفيف الوزن في علبة ضئيلة تعسة، إلى أي حال صار ما بذلت من العناية بطفولتك، تلك العناية التي تعودتها، والتي كنت أحتمل في سبيلها هذه المشقة الحلوة؟ فما كنت في ذلك الوقت أعز على قلب أمك منك على قلبي؛ لذلك لم أعتمد على أحد في تغذيتك، لقد أخذت نفسي بذلك، وما كنت تدعو أختك إلا إياي ... وا حسرتاه! لقد اختفى كل شيء معك في يوم واحد، ولقد قضى موتك كأنه الصاعقة على كل ما أحب وآمل.

لقد قضى أبي ولقد قضيت، وها أنا هذه أموت.

ينتصر أعداؤنا؛ هذه الأم، هذه الضرة تثمل فرحا، ومع ذلك فكم وعدتني رسائلك السرية بأنك ستعود لتنزل بها العقاب! ولكن إلها عدوا لك ولي قد حرمنا هذا الانتقام؛ هو الذي بعث إلى مكان هذا الوجه الذي كنت أحبه وأوثره، والذي كانت صورته مرتسمة في نفسي بهذا الظل الذي لا وزن له، وهذا الرماد الذي لا غناء فيه، ويلي عليك! أيها التعس أورستيس أي عودة مشئومة ادخر لك هذا الإله! أأنت أيها الأخ العزيز ... أأنت الذي يعود في هذه الحال ليحرمني الحياة ولينزعها مني! استقبلني إذا في مستقرك الأخير، أضف ظلا إلى ظل لنستطيع أن نعيش معا أبد الدهر .

لقد كنت أحب أن أقاسمك الحياة ما تمتعت عيناك بضوء النهار، أما الآن فلا أتمنى إلا الموت لأقاسمك ظلمة القبر فليس الموتى بأشقياء.

الجوقة :

فكري أي إلكترا ... فكري في أن أباك لم يكن خالدا، وأن أخاك لم يكنه أيضا، خففي من ألمك واقتصدي في أنينك؛ فإن الموت ضريبة لا بد أن نؤديها يوما ما.

أورستيس (لنفسه) :

ويلاه! ماذا أقول لها؟ بم أستطيع أن أخاطبها في هذا الاضطراب الذي يملكني؟ لن أستطيع بعد أن أملك هذا الجأش المضطرب.

إلكترا :

أي ألم ينالك، ومن أين هذا الكلام الذي أسمعه؟

أورستيس :

ماذا! هذه إلكترا التي أرى؟ إلكترا ذات الصوت البعيد!

إلكترا :

نعم هي إلكترا في حال شديدة السوء.

أورستيس :

يا لك من حظ منكود!

إلكترا :

أيها الغريب مالك ترثي لشقائي؟

أورستيس :

أيتها الأميرة التعسة! إلى أي ذل وامتهان قد صارت حالك!

إلكترا :

ومع ذلك فهذا حظي، هذا هو الحظ السيئ الذي ادخره القضاء لإلكترا!

أورستيس :

أي حياة مؤلمة تحيين لا زوج ولا عون!

إلكترا :

لم تنظر إلي أيها الغريب متنهدا محزونا؟

أورستيس :

لم أكن أعلم مقدار شقائي.

إلكترا :

وكيف استطعت أن تعرفه؟

أورستيس :

حين رأيت الآلام التي تنوء بك.

إلكترا :

ومع ذلك فأنت لا ترى منها إلا شيئا قليلا.

أورستيس :

أيمكن أن أرى أشد منها سوءا.

إلكترا :

من غير شك، حين أمضي أيامي مع القتلة.

أورستيس :

القتلة! قتلة من؟ وبأي فظاعة ستنبئينني؟

إلكترا :

قتلة أبي، وقد قضت علي الضرورة أن أكون لهم قنا.

أورستيس :

وأي الناس استطاع أن يقهرك على ذلك؟

إلكترا :

أم لا تستحق هذا الاسم.

أورستيس :

وأي طريق سلكت إلى ذلك؟ القسر، أم العذاب اليومي؟

إلكترا :

العذاب، القسر وكل ألم متخيل.

أورستيس :

ولا صديق لك يحميك ويعينك؟

إلكترا :

لا، لم يكن لي إلا صديق واحد هو الذي تحمل إلي رماده.

أورستيس :

أيتها الأميرة البائسة إن منظرك ليثير إشفاقي.

إلكترا :

وا حسرتاه ... أنت وحدك بين الناس جميعا نالك الإشفاق مما أنا فيه.

أورستيس :

لذلك أنا وحدي الذي أتى ليقاسمك آلامك.

إلكترا :

من أين؟ ماذا! أيصل الدم بيننا وبينك؟

أورستيس :

أنبئك بذلك إن أمنت هؤلاء اللاتي يسمعن حديثنا.

إلكترا :

ثق بأنك آمن، فالصلة بيني وبينهن متينة.

أورستيس :

دعي هذه العلبة فسأنبئك بكل شيء.

إلكترا :

أيها الغريب ... باسم الآلهة لا تنزعها مني.

أورستيس :

اسمعي لي فلن تندمي على ذلك.

إلكترا :

آه ... لا تحرمني أعز شيء علي.

أورستيس :

لن أسمح بأن تحفظيها.

إلكترا :

ما أشقاني أيها العزيز أورستيس! أأحرم رمادك!

أورستيس :

دعي هذه اللهجة المحزنة، فليس لحزنك من أساس.

إلكترا :

ماذا! أليس لحزني أساس حين أبكي أخا فقد الحياة.

أورستيس :

ليس لك منذ الآن أن تنطقي بمثل هذه الألفاظ.

إلكترا :

ألست إذا كفئا لأن أبكي هذا الظل؟

أورستيس :

أنت كفء لكل شيء ولكن ليس ...

إلكترا :

ألست أحمل في يدي رماد أورستيس!

أورستيس :

ليس رماد أورستيس، وليس له منه إلا الاسم.

إلكترا :

في أي مكان توجد بقية هذا التعس؟

أورستيس :

لا بقية له، فليس للأحياء من قبر.

إلكترا :

آه ... يا للآلهة! ماذا قلت؟

أورستيس :

الحق.

إلكترا :

أهو حي؟

أورستيس :

إن كنته.

إلكترا :

ماذا، أيمكن أن تكون أورستيس؟

أورستيس :

ألق عينيك على خاتم أبي، ثم انظري أتشكين بعد ذلك.

إلكترا :

يا لك من يوم سعيد!

أورستيس :

آه! سعيد جدا، من غير شك.

إلكترا :

أيها الصوت الحلو، ها أنت ذا قد أتيت.

أورستيس :

هو بعينه.

إلكترا :

أأنت أورستيس الذي أقبل.

أورستيس :

وددت لو تملكين كل ما تشتهين، كما تملكينني اليوم.

إلكترا (للجوقة) :

أيتها العزيزات من بنات موكنيا، هذا أورستيس أمامكن، لقد قتله المكر والمكر يعيده اليوم سالما موفورا.

الجوقة :

إنا لنراه يابنتي، وإن هذا الحادث السعيد ليرسل من عيني دموع الفرح والابتهاج.

إلكترا (مضطربة) :

أيها السليل، سليل أب أحببته إلى أقصى غايات الحب، ها أنت ذا تعود آخر الأمر وتجد عند عودتك - كما ترى - من كنت تريد لقاءه.

أورستيس :

نعم، ها أنذا، ولكن احتفظي بالصمت وانتظري.

إلكترا :

ماذا؟

أورستيس :

خير لنا أن تصمتي حتى لا يسمع أحد من داخل القصر.

إلكترا :

كلا إني أقسم بأرتميس - هذه العذراء الخالدة - ما ينبغي أن أخشى أحدا من هذه الجماعات العاجزة، جماعات النساء المكنونات في القصر دائما.

أورستيس :

احذري فإن إله الحرب آرس يقيم بين النساء أحيانا، وقد جربت ذلك مرة في حياتك على الأقل.

إلكترا :

وا حسرتاه! وا حسرتاه! (ثلاثا) إنك لتذكرني شيئا لم أنسه، ولن أنساه، وهو ذلك الشقاء الذي ألم بنا، والذي لا سبيل إلى استدراكه.

أورستيس :

أنا أيضا أعرف هذا الشقاء، وكلنا سنتحدث بقصته عندما تسمح بذلك الظروف.

إلكترا (مضطربة) :

كل لحظة نعم، كل لحظة فرصة، فرصة سانحة تدفعني إلى ذكر هذه القصة، لقد احتملت كثيرا من المشقة، فقد آن لشفتي أن ترد إليها الحرية.

أورستيس :

إني أرى رأيك، ومن أجل هذا أرجو أن تحتفظي بهذه الحرية.

إلكترا :

ماذا يجب أن أصنع؟

أورستيس :

لا تطيلي فيما يضر.

إلكترا :

من ذا الذي يستطيع أن يصطنع الصمت مكان الكلام في الوقت الذي تعود إلي فيه، فقد عدت إلي اليوم على غير انتظار، وعلى غير توقع.

أورستيس :

لقد رأيتني حين ساقني إليك الآلهة.

إلكترا :

إن ما تقوله الآن ليضاعف شكري للآلهة، فإذا كان أحد الآلهة هو الذي أضاء طريقك إلى القصر فإن عودتك نعمة يجب أن يشكر الآلهة عليها.

أورستيس :

عزيز علي أن أكفكف من فرحك، ولكني أخشى أن تستسلمي لهذا الفرح أكثر مما ينبغي.

إلكترا (مضطربة حادة) :

أي هذا، الذي أراد بعد غيبة طويلة أن يعود إلي هذه العودة العزيزة ... لا تعمد بعد أن رأيتني شقية إلى ...

أورستيس :

ماذا يجب أن أجتنب؟

إلكترا :

لا تحرمني لذة الفرح الذي يفيضه وجهك في نفسي، لا تضطرني إلى مفارقتك.

أورستيس :

لو رأيت غيري يصنع هذا لأنكرت ذلك عليه.

إلكترا :

أنت إذن توافقني؟

أورستيس :

أتشكين في ذلك؟

إلكترا :

أيها الأخ العزيز، لقد تلقيت نبأ موتك ولم أكن قط أتوقعه، وقد تملكتني الثورة وظللت مع ذلك صامتة لا أنطق بكلمة، ما كان أشقاني، فأما الآن فقد عدت إلي، رأيت وجهك المحبوب، فلن أنساه حتى لو اتصلت آلامي.

أورستيس :

دعي الكلام الذي لا يغني، ولا تنبئيني بأن أمنا مجرمة وبأن إجستوس يعبث بثروة أبينا فيسرف فيها ويفنيها في غير طائل، فإن ذلك قد يضيع علينا الوقت، ولكن أشيري علي بما يلائم موقفنا الآن، أين يجب أن أظهر؟ وأين يجب علي أن أستخفي، بحيث تضع عودتي اليوم حدا لضحك أعدائنا؟ يجب أن نحتاط فلا ندخل القصر؛ فإني أخشى أن تتبين أمنا دخيلة نفسك حين ترى ما يتلألأ على وجهك من الفرح، أقيمي وهبي موتي حقيقة واقعة، وأعلني بكاءك وحزنك، فإذا تم لنا النصر فحينئذ نستطيع أن نبتهج أحرارا.

إلكترا :

ولكن أيها الأخ العزيز إن ما يرضيك يرضيني، فإن ما أجد من الفرح قد تلقيته منك، فليس هو ملكا لي، ولن أقدم إليك أيسر ما يسوءك مهما يعقب على ذلك من خير، فإن ذلك جحود لنعمة الآلهة الذين يحسنون إلينا، على أنك تعلم من غير شك ما يجري هنا، فقد أنبئوك بأن إجستوس غائب وبأن أمنا في القصر، فلا تخف أن ترى الابتسام يشيع في وجهي الإشراق. لقد شاع الحقد العنيف في نفسي والآن وقد رأيتك فسأبكي فرحا، وكيف أستطيع أن أكف عن البكاء وقد سافرت إلي مرة واحدة فرأيتك في وقت واحد ميتا وحيا؟ إنك بالقياس إلي مصدر أحداث لا تصدق، حتى لو رد إلي أبي لما أنكرت ذلك، بل لصدقته واطمأننت إليه، واعتقدت أني أرى شخصه ماثلا، وما دمت قد عدت إلينا فمر بما تشاء فسيكون أمرك مطاعا، لو كنت وحيدة لاخترت أحد الأمرين: فإما نجاة شريفة، وإما موت شريف.

أورستيس :

إني لأنصح لك بالصمت، إني لأسمع بعض أهل القصر يتقدم كأنه يريد الخروج.

إلكترا (لأورستيس وپيلاديس) :

ادخلا أيها الغريبان ما دام ما تحملانه يسر أهل القصر، وإن لم يكن فيه مصدر للسرور. (يدخل المربي)

المربي :

إنكما لمجنونان قد انتهى الجنون بكما إلى أقصاه، ألا تحفلان بالحياة؟ أذهب عنكما الرشد حتى نسيتما أنكما لا تقربان من الخطر؟ بل إن الخطر قد أحدق بكما من كل مكان، لو لم أقم على باب القصر حافظا محتاطا لعرف أهله ما تدبران قبل أن تنفذا إليه، ولكني قد احتطت لذلك، فكفا الآن عن الحديث وعن صيحات الفرح التي لا تنقضي، ادخلا إلى القصر، إن من الخطأ أن نتردد بعد أن انتهينا إلى هذا الموقف، لقد آن وقت العمل.

أورستيس :

ما عسى أن أجد حين أبلغ القصر؟

المربي :

كل شيء يجري على ما تحب، ليس في القصر من يعرفك.

أورستيس :

لقد أنبأتهم بأني قضيت، أليس كذلك؟

المربي :

تعلم بأن أهل القصر يؤمنون بأنك من أهل القبور.

أورستيس :

وهم بذلك فرحون، أليس هذا حقا؟ ماذا يقولون؟

المربي :

سأنبئك بذلك متى انتهينا من كل شيء، أما الآن فكل شيء حسن حتى ما يسوء.

إلكترا :

من هذا الرجل أيها الأخ العزيز، عرفه إلي بحق الآلة.

أورستيس :

ألا تعرفينه؟

إلكترا :

كلا.

أورستيس :

ألا تعرفين ... إلى من أسلمتني قديما؟

إلكترا :

إلى من؟ ماذا تقول؟

أورستيس :

إلى الذي عني بي مذعنا لأمرك حتى انتهيت إلى بلاد فوكيس.

إلكترا :

أهو الرجل الذي رأيته وحده قديما قد احتفظ لنا بالوفاء حين قتل أبونا.

أورستيس :

هو ذاك لا تكثري السؤال.

إلكترا :

أيها اليوم العزيز، أيها المنقذ الوحيد لبيت أجامنون، كيف أقبلت إلى هذا المكان؟ أأنت الذي أنقذه وأنقذني من الغرق؟ أيتها اليد العزيزة، أيتها القدمان العزيزتان، أي معونة قدمتن إلينا؟ كيف أقمت فينا منذ وقت طويل دون أن أعرف ذلك ودون أن أتبين مكانك، لقد كانت كلماتك تحمل إلي الموت، وأنت مع ذلك تحمل إلي الحياة. تحية إليك أيها الأب فإني أرى فيك أبا، تحية إليك، تعلم أنك الشخص الذي لم أبغض أحدا كما بغضته ولم أحبب أحدا كما أحببته، وكل ذلك في يوم واحد.

المربي :

حسبك هذا ... يكفي أن ما حدث منذ أعوام طوال ... يجب أن تمضي ليال كثيرة وأيام كثيرة ليمكن يا إلكترا أن يقص في وضوح - إلى أورستيس وپيلاديس - أما أنتما فاسمعا لي، هذا وقت العمل إن كلوتيمنسترا وحدها الآن وليس في القصر رجل، فإن أبطأتما فستضطران إلى جهاد هؤلاء الناس وقوم آخرين أبرع منهم في الحرب .

أورستيس :

إن العمل الذي نبدأ لا يحتاج إلى الكلام الطويل، پيلاديس لنسرع إلى دخول القصر، ولكن لنبدأ بعبادة هذه الأصنام آلهة الأسرة القائمين أمام الأبواب. (يدخل أورستيس وپيلاديس والمربي القصر بعد أن يتقدموا بالعبادة لهذه الأصنام وتبقى إلكترا وحيدة.)

إلكترا :

أيها الملك أپولون، أصغ إليهم عطوفا عليهم، وأصغ إلي أيضا رفيقا بي، أنا التي طالما تضرعت إليك ملحة على ضيق ذات يدي، وأنا في هذه المرة أيضا - أيها الإله - أدعوك وأتوسل إليك في أن تعيننا على تحقيق ما أقدمنا عليه، وليعلم الناس أي عقاب أعد الآلهة للآثمين. (تستخفي في القصر.)

الجوقة (مضطربة) :

انظروا أي طريق يسلكها آرس الجبار وهو ينفث الموت، هذه آلهة الانتقام هذه الكلاب الضارية التي لا تتقى، إنها تسعى وتنسل إلى القصر انسلالا لتعاقب على الإثم الشنيع، وكذلك لن يظل حلمي معلقا وقتا طويلا، هذا هو الثائر للمقتولين يخطف خطواته ليندس في القصر الأبوي حيث استقرت ثروة الأجداد، وقد أخذ بيديه سيفا صارما قد هيئ للمضاء. وهذا هو هرميس بن ميا قد أقبل سريعا لبقا، فأعد الشرك في غير إبطاء، وقاد هذا المنتقم في طريقه المستقيمة إلى الانتقام. (تخرج إلكترا من القصر محتاطة.)

إلكترا :

أيتها النساء العزيزات، سيتمون عملهم بعد وقت قصير. (لرئيسة الجوقة)

أقيمي على الصمت.

رئيسة الجوقة :

كيف؟ ماذا يصنعون الآن؟

إلكترا :

إنهم يهيئون العلبة المشئومة للدفن، وإن أخي وصاحبه يقومان عندها.

رئيسة الجوقة :

وأنت فيم خرجت؟

إلكترا :

لأحول دون أن يفجأهم إجستوس.

كلوتيمنسترا (من داخل القصر) :

وا غوثاه! إن هذا القصر الخالي من الأصدقاء لمملوء بالقتلة.

إلكترا :

أسمع صياحا في القصر ... ألا تسمعن أيتها الصديقات؟

رئيسة الجوقة (في استحياء وتوقف) :

بلى، لقد سمعت لشقائي ما لم أكن أحب أن أسمع.

كلوتيمنسترا (من داخل القصر) :

وا شقوتاه! إجستوس أين أنت؟

إلكترا :

اسمعي إن الصيحة تتصل.

كلوتيمنسترا (من داخل القصر) :

أي بني، أي بني، أشفق على أمك.

إلكترا :

ولكنك لم تشفقي عليه ولا على أبيه الذي منحه الحياة.

رئيسة الجوقة (مسرعة) :

أيتها المدينة، أيتها الأسرة التعسة ، الآن، اليوم يتم القضاء، نعم يتم تدميرك.

كلوتيمنسترا (من داخل القصر) :

آه ... لقد أصبت.

إلكترا :

اضرب - إن استطعت - ضربة أخرى.

كلوتيمنسترا (من داخل القصر) :

يا للآلهة ضربة أخرى!

إلكترا :

آه ... لو قضى على إجستوس مثل هذا القضاء.

الجوقة (في همس واضح) :

هذه نبوءات تتحقق، هؤلاء الموتى يستأنفون الحياة بعد أن تضمنتهم القبور، لقد ماتوا منذ أمد بعيد، ولكنهم الآن يسفكون دم الذين قضوا عليهم الموت. (يخرج أورستيس وپيلاديس من القصر.)

رئيسة الجوقة :

ها هما هذان تقطر أيديهما من دم الضحية التي قرباها إلى إله الحرب، لا أستطيع أن ألومهما.

إلكترا :

أي أورستيس، إلى أين انتهيت؟

أورستيس :

كل شيء على ما يرام في القصر، إن كان أپولون قد نصح لنا فيما أوحى إلينا من أمر.

إلكترا :

أماتت التعسة؟

أورستيس :

لا تشفقي أن تهينك بعد الآن وقاحة أمك.

رئيسة الجوقة (في حياء وتوقف) :

الصمت، الصمت، إني أرى إجستوس، ما أشك في أنه هو.

أورستيس : ...

إلكترا :

أيها الأصدقاء ألا تذهبون؟

أورستيس :

أترينه؟ أهو قريب منا؟

إلكترا :

إنه يقبل فرحا من القرية.

رئيسة الجوقة (مسرعة) :

ادخلا إلى بهو القصر في غير إبطاء، والآن وقد أحسنتما العمل مرة فأحسناه مرة أخرى.

أورستيس :

ثقي بأننا سنتم ما بدأنا.

إلكترا :

أسرع في إمضاء ما صممت عليه.

أورستيس :

سأدخل.

إلكترا :

سأعنى بكل شيء هنا. (يخرج أورستيس وبيلاديس.)

الجوقة (في همس واضح) :

يحسن أن نهمس في أذن هذا الرجل كلمات كأننا صديقاته؛ ليسرع في غير حذر إلى ما أعد له العدل من صراع. (يدخل إجستوس.)

إجستوس (للجوقة) :

أيكن تستطيع أن تدلني على مكان الضيف الفوكيين الذين أقبلوا يعلنون إلينا أن أورستيس قد أدركه الموت في غرق خيلي؟

15 (لإلكترا)

إليك أنت أوجه السؤال، نعم أنت التي ما زلت تظهري الوقاحة إلى الآن، أظن هذا النبأ يعنيك أكثر مما يعني أي امرأة أخرى وأنت أعلم به وأقدر على إجابته.

إلكترا :

إني أعرف هذا النبأ من غير شك، وكيف أجهل أهم ما يعنيني من الأنباء؟

إجستوس :

أين يوجد هؤلاء الغرباء ... إذن أنبئيني ؟

إلكترا :

هم في القصر ينعمون بما تلقوا من حسن الضيافة.

إجستوس :

احملوا موت أورستيس على أنه حق لا شك فيه.

إلكترا :

إنهم لم يحملوا النبأ فحسب، ولكنهم حملوا الدليل عليه.

إجستوس :

أمن اليسير أن أتحقق ذلك في وضوح؟

إلكترا :

ذلك يسير وإن المنظر ليملأ النفوس حزنا.

إجستوس :

إن حديثك ليسرني السرور كله على غير ما تعودت.

إلكترا :

لتسعد إن كان في ذلك ما يسعدك.

إجستوس :

إني آمرك بالصمت، لتفتح الأبواب لأهل موكينا ولأهل أرجوس؛ ليروا جميعا هذا المنظر، وأي الناس حدثته نفسه بالأمل في عودة أورستيس فليذعن لإرادتي بعد أن يرى جثته قبل أن أنزل به العقاب الذي يرده إلى الرشد.

إلكترا :

لقد تمت مهمتي، ولقد ردني الزمان إلى الحكمة فانحزت إلى جانب الأقوياء. (يفتح باب القصر ويدور اللولب، فتظهر جثة مسجاة وقد قام إلى جانبها أورستيس وپيلاديس.)

إجستوس :

أي زوس ما كان الذي أراه ليتم لولا غيرة الآلهة وحنقهم، على أني معتذر إن كان في اللفظ ما يغضبهم. (لأورستيس وبيلاديس)

ارفعا هذا الغطاء، هذا الغطاء كله فإنه يخفي علي هذا الميت، ارفعا هذا الغطاء لأبكي هذا الصريع من أهلي.

أورستيس :

ارفعه أنت؛ فليس ذلك إلي، أنت الخليق أن ترفعه وأن تتحدث إلى من دونه حديث الصديق.

إجستوس :

لقد أحسنت المشورة، وسأسمع لك. (لإلكترا)

إن كنت تعلمين أين تكون كلوتيمنسترا من القصر فادعيها.

أورستيس :

ها هي هذه أمامك لا تبعد للبحث عنها. (إجستوس وقد رفع الغطاء.)

إجستوس : ... ماذا أرى؟

أورستيس :

من ذا يخيفك؟ ألا تعرفها؟

إجستوس :

في أي شرك وقعت؟

أورستيس :

ألا ترى أنك تتحدث إلى الأحياء كما لو كانوا من الموتى؟

إجستوس :

لقد فهمت عنك من غير شك، هذا أورستيس.

أورستيس :

لقد كنت صادق الفراسة فكيف طال عليك الخطأ؟

إجستوس :

لقد هلكت لقد قضي علي، ولكن دعني أقل لك كلمة واحدة.

إلكترا :

لا تدعه ينطق بحق الآلهة، ولا تخل بينه وبين إطالة القول، وماذا عسى يربح من لحظات تمد له وقد قضي عليه أن يموت غارقا في آثامه، كلا ، اقتله مسرعا ثم أسلمه إلى الذين يدفنونه كما يستحق، وكذلك أخلص من آلامي.

أورستيس :

ادخل؛ فليس ينبغي لك الآن أن تتكلم، وإنما ينبغي لك أن تموت.

إجستوس :

لم تدخلني القصر؟ إن كان ما تقدم عليه حسنا فما حاجتك إلى إخفائه؟ لم لا تقتلني الآن؟

أورستيس :

ليس لك أن تأمر هنا، ولكن امض إلى المكان الذي قتلت فيه أبي لتموت حيث مات.

إجستوس :

أمن الضروري أن يرى هذا القصر ما قضي وما سيقضى على هذه الأسرة من الشقاء.

أورستيس :

مهما يكن من شيء فسيرى شقاءك ولن تخطئ نبوتي بالقياس إليك.

إجستوس :

إن هذا الفن الذي تتمدح به لم يكن يحسنه أبوك.

أورستيس :

إنك تسرف في الإجابة وتؤخر موتك، هلم، امض.

إجستوس :

قدني.

أورستيس :

عليك أن تسعى بين يدي.

إجستوس :

أتخاف أن أهرب؟

أورستيس :

لا أريد أن تموت كما تحب، يجب أن أحتفظ لك بهذه المرارة، يجب أن تنزل هذه العقوبة فورا، عقوبة الموت بالذين يخالفون عن أمر القوانين.

رئيسة الجوقة (متغنية) :

أي أسرة أتريوس، ما أشد ما احتملت من ألم لتظفري آخر الأمر بالحرية، التي قوامها هذا الجهد الأخير.

أياس

الأشخاص

أياس.

أتينا.

أوديسيوس.

تكروس أخو أياس.

تكمسا زوج أياس.

مينيلاووس.

الجوقة.

أجامنون.

رسول.

الجوقة تتألف من أهل سلامين.

تقع القصة في معسكر اليونان بإزاء طروادة أمام خيمة أياس. ***

كان أياس بن تيلامون ملك سلامين بطلا من أبطال اليونان أمام طروادة، حارب فأحسن البلاء، وظهر على الطرواديين في مشاهد عظيمة، وحمى اليونانيين جميعا بعد أن انهزم زعماؤهم وأبطالهم. فما زال يدافع عنهم حتى أقبل أخيل فرد أعداءهم منهزمين، فلما كان مقتل أخيل جعل اليونان سلاحه جائزة لأعظم أبطالهم شأنا وأجلهم خطرا، ففاز بها أوديسيوس، وغضب لذلك أياس فذهب عقله، وأنحى بسيفه على ما كان في حظائر اليونان من ماشية، فلما عاد إليه صوابه استخزى لما فعل، فقتل نفسه.

المنظر الأول (فضاء الريف المتسع عن شمال، وخيمة أياس في الوسط وخيام أخرى منسقة عن يمين، أوديسيوس مطوفا يدرس آثار الخطى في الرمل والإلهة أتينا ترقبه من عل بحيث لا يراها، وذلك في مطلع الصبح.)

أتينا :

ما زلت أراك يابن لايرتيس متربصا كالصائد تنتهز الفرصة لتبلو أعداءك، وها أنا ذي اليوم أراك على ساحل البحر قريبا من خيام أياس، حيث اتخذ مقامه في آخر المعسكر، تبحث منذ وقت طويل، تقيس الآثار التي لم تتغير بعد والتي تركتها خطاه؛ تريد أن تعلم أهو في خيمته أم هو بعيد عنها، لقد أشرفت على غايتك، إن كلاب الصيد في إسبرتا ليست أبرع منك في تقصي آثار الفريسة، لقد آوى أياس إلى خيمته يتصبب جبينه عرقا وتقطر يداه دما. لست في حاجة إلى أن تختلس النظر متحفظا من وراء هذا الباب، ولكن أنبئني فيم تكلف نفسك هذا الجهد؛ فإني حين أعرف ذلك أستطيع أن أعلمك ما تريد علمه.

أوديسيوس :

صوت أتينا أكرم الآلهة علي، إنك تستخفين ولكني أعرف صوتك؛ لأن جرسه يرن في قلبي كأنه جرس الأبواق النحاسية التي تتخذ في تيرانيا،

1

الآن قلت الحق، إنما أراقب عدوا، أراقب أياس ذا الترس المعروف،

2

هو وحده، هو ليس غيره الذي أتتبعه منذ وقت طويل، لقد اقترف هذه الليلة في ذاتنا إثما لا يكاد يصدق إن كان هو الذي اقترفه؛ فإننا لا نعلم شيئا على سبيل الجزم، فنحن نهيم شاكين وقد أخذت نفسي بتجلية هذا الأمر والكشف عن وجه الحق فيه، لقد رأينا لحظة جميع ماشيتنا وقد نزل بها البوار، نحرتها يد رجل وذبحت معها حراسها، وقد زعم لي من رآه وحده يعدو في السهل وفي يده سيف يبله دم رطب، وقد أنبأني هذا الشاهد بأنباء مفصله، فأسرعت في أثره وقد حققت بعض العلامات، ولكن علامات أخرى تركتني حائرا، لقد جئت في وقت الحاجة إليك أيتها الإلهة، إن يدك هي التي تهديني في كل شيء وفي كل وقت.

أتينا :

قد كنت أعلم كل شيء يا أوديسيوس، وأنا أتبع خطواتك منذ وقت طويل حفيظة على تتبعك.

أوديسيوس :

مولاتي العزيزة، أترين أني موفق فيما أبذل من جهد؟

أتينا :

نعم، كل هذا عمل أياس.

أوديسيوس :

ولم أقدم على هذا الجنون؟

أتينا :

أثاره أمر سلاح أخيل.

أوديسيوس :

لم أنحى هكذا على الماشية؟

أتينا :

كان يظن وهو يبيدها أنه يصبغ يديه بدمائكم.

أوديسيوس :

أكان حقا قد دبر في نفسه الاعتداء على اليونان؟

أتينا :

وكان خليقا أن يتم عدوانه عليهم لو أني خليت بينه وبين ما أراد.

أوديسيوس :

كيف انتهى إلى هذه الجراءة البالغة؟

أتينا :

لقد دفعه المكر أثناء الليل وحيدا إلى الإيقاع بكم.

أوديسيوس :

أوصل إلينا؟ أبلغ غايته؟

أتينا :

بل انتهى إلى باب القائدين.

أوديسيوس :

وكيف وقف ذراعه المندفعة إلى سفك الدماء؟

أتينا :

أنا التي حرمته هذا الفرح الأثيم حين خيلت لعينيه صورا مضللة، ودفعته إلى هذه الماشية التي غنمتموها من العدو ولم تقتسموها بعد، والتي كان يحرسها الرعاة مختلطة، فأنحى عليها وأوقع مذبحة بهذه الحيوانات ذات القرون من حوله. كان يقصم ظهورها، وكان يرى أنه يقتل بيده مرة الأتريين

3

ومرة زعيما آخر من زعماء اليونان.

أجل! هذا الرجل الذي أضله الجنون أنا التي كنت أثيره وأدفعه إلى شباك مهلكة، فلما أتم مهمته ورفع رأسه قرن ما بقي حيا من قطعان البقر والغنم وساقها إلى خيمته، وكان يرى أنها رجال لا حيوانات ذات قرون، وهو الآن في خيمته يمزقها تمزيقا، وسأظهرك على جنونه البين، فإذا رأيت ذلك قصصته على اليونان جميعا، لا تخف، أقم لا تخش شرا من هذا الرجل، سأحول عينيه فلا يرى مكانك. وأنت هذا الذي يشد وثاق أسراه، أقبل إني أدعوك، إنما أتحدث إلى أياس، ابرز أمام خيمتك.

أوديسيوس :

ماذا تصنعين يا أتينا؟ لا تطلبي إليه البروز.

أتينا :

ألا تلتزم الصمت! لا تخف.

أوديسيوس :

لا يخرج - بحق الآلهة - حسبه أن يبقى في خيمته.

أتينا :

ماذا تخشى؟ ألم يكن قبل ذلك رجلا؟

أوديسيوس :

نعم، وكان عدوي كما هو الآن.

أتينا :

وأي شيء أحب إلى النفس من أن يضحك الرجل من عدوه؟

أوديسيوس :

حسبي أن يبقى في خيمته.

أتينا :

تخشى أن ترى أمامك رجلا يهذي؟

أوديسيوس :

لو كان عاقلا لما تجنبته.

أتينا :

ولكنه الآن لن يراك ولو كنت قريبا منه.

أوديسيوس :

كيف يكون ذلك وما زال يرى بعينيه؟

أتينا :

وستظلان مفتوحتين ولكني سألقي عليهما غشاوة.

أوديسيوس :

تستطيعين ذلك؛ إن الآلهة يعرفون كل أنواع الكيد.

أتينا :

الصمت إذن، لا تتحرك، أقم كما أنت.

أوديسيوس :

طوعا، ولكن كم أود لو كنت بعيدا!

أتينا :

وأنت يا أياس! إني أدعوك للمرة الثانية، أهذا كل إكبارك لحليفتك؟ (يخرج أياس في أشد أطوار الجنون وفي يده سوط يقطر دما.)

أياس :

لك التحية يا أتينا، لك التحية يابنة زوس، لقد جئت وقت الحاجة إليك، سأتوجك ببعض الذهب الذي غنمته اعترافا بما لك علي من يد، فأنا مدين لك بكل هذه الغنائم.

أتينا :

ما أحسن هذا القول! ولكن أنبئني أغمست سيفك في دم جند اليونان؟

أياس :

أستطيع أن أفخر بذلك؛ فليس شيء أدنى منه إلى الصدق.

أتينا :

أرفعت قبضتك في وجه الأتريين؟

أياس :

أنا متحقق أنهما لن يسوءا أياس بعد اليوم.

أتينا :

لقد قضيا إن كنت قد فهمت عنك؟

أياس :

لقد ماتا فليأتيا لينزعا سلاحي.

أتينا :

حسن، وابن لايرتيس ماذا هيأت له؟ أأفلت منك؟

أياس :

تسألينني عن هذا الثعلب الماكر أين هو؟

أتينا :

نعم، إنما أتحدث عن أوديسيوس خصمك.

أياس :

أحبب إلي يا مولاتي بأن أراه أسيرا قد حبس من وراء هذا الباب، لا أريد أن يموت الآن.

أتينا :

ماذا تريد أن تصنع به قبل موته؟ أي منفعة تريد أن تحصل؟

أياس :

أريد أنه وقد شد إلى عمود من أعمدة الفناء ...

أتينا :

أي ضر تريد أن تحدث بهذا الشقي؟

أياس :

يدمي سوطي ظهره قبل أن يموت.

أتينا :

لا تعذب هذا التعس.

أياس :

سليني ما شئت يا أتينا، أما هو فلا بد من أن يتلقى هذا العذاب.

أتينا :

ما دام يلذك أن تسير هذه السيرة فاضرب إذن، أنفذ كل ما دبرت، لا تستثن منه شيئا.

أياس :

سأتم ما دبرت، أما أنت يا أتينا فأقيمي على حلفك لي كما صنعت اليوم. (يدخل إلى خيمته.)

أتينا :

أترى يا أوديسيوس إلى قوة الآلهة كم هي عظيمة! أي رجل يمكنه أن يكون أعقل منه وأشجع منه إذا جد الجد؟

أوديسيوس :

لا أعرف أحدا يعدله عقلا وبأسا، وإني لأرثي له وإن كان عدوي؛ فقد اتصل أمره بقضاء محزن، وإني لأفكر في مصيري كما أفكر في مصيره، وإني لأرى أننا جميعا ما حيينا لسنا إلا أشباحا، إلا ظلالا كاذبة.

أتينا :

تعلم من هذا المنظر ألا تكابر الآلهة، ولا تكاثرهم، ولا تنطق في ذاتهم بكلمة غرور، وألا يخدعك تفوقك على نظرائك في القوة أو الثروة؛ فإن يوما واحدا يضع الناس ويرفعهم، والآلهة يحبون القصد ويكرهون الفجور. (تستخفي أتينا ويذهب أوديسيوس وتدخل الجوقة إلى الملعب من يمين.)

رئيس الجوقة :

يا بن تليمون ساكن سلامين التي تحيط بها أمواج البحر إني لفرح حين أراك سعيدا، ولكني شديد الخوف عظيم الفزع إذا قصد إليك زوس بالسوء، أو أهانك اليونان بألسنتهم الحادة، مثلي في ذلك مثل العصفور الفزع الذي يهرب في الجو لا يلوي على شيء، وكذلك امتلأت آذاننا حول هذه الليلة المنقضية بلغط عظيم، بلغط سيئ. يقال إنك ذهبت إلى المرج الذي ترتع فيه الخيل فأفنيت قطعان اليونان وما بقي من الماشية التي غنموها مزقتها بسيفك الملتهب.

هذه هي القصة التي يهمس بها الناس، والتي يتخيلها أوديسيوس ويلقيها في آذان اليونان جميعا، ولا يجد مشقة في إقناعهم بها، والناس يقبلون الآن هذا الحديث في يسر، يجد سامعه في الشماتة بك والابتهاج بشقائك من الغبطة أكثر مما يجد ناقله.

إنما يبلغ الكائدون أغراضهم إذا مكروا بكبار النفوس، لو أن هذا الحديث أذيع عني لما صدقه أحد، إنما يدب الحسد إلى الأغنياء، ومع ذلك فإن صغار الناس إذا فقدوا سادتهم لا يحسنون الدفاع عن الأسوار، فإذا وجدوهم استقر التوازن بين الضعفاء والأقوياء، وبين أعظم الناس خطرا وأهونهم شأنا.

ولكن هذه الحكمة لا تغني ولا تبلغ من نفوس السفهاء ما دمت بعيدا، هؤلاء أعداؤك يلغطون بإهانتك والنيل منك، ونحن قاصرون عن ردهم إلى أطوارهم، عاجزون عن حمايتك من ألسنتهم؛ لأنك لست بيننا أيها السيد العظيم ، لقد أفلتوا من لحظك فهم يتصايحون كأنهم صغار الطير فرت أمام الصقر العظيم، ولو قد برزت لهم لما أبطئوا في الاستخفاء والاستخذاء والتزام الصمت العميق.

الجوقة (في قوة) :

ما مصدر هذا اللغط العظيم الذي أنتج لنا الخزي؟ أهي أرتيمس

4

بنة زوس قد أرادت أن تنتقم منك؛ لأنك لم تقرب إليها نصيبها مما ظفرت به من الصيد، ولم تهد إليها ما كان ينبغي من آيات هذا النصر، فدفعتك إلى قطعان اليونان تفعل بها الأفاعيل؟ أم هو آرس

5

ذو الدرع النحاسية قد ساءه تقصير في ذاته بعدما أعانك في الحرب، فهو ينتقم منك بإيقاعك في هذا الشرك الذي وقعت فيه هذه الليلة؟

فلو قد خلي بينك وبين عقلك لما اندفعت مختارا في هذه الحدة وبهذا العنف إلى هذه القطعان، إنما سلط عليك الآلهة طائفا من جنون، فليسمع لنا زوس، وليسمع لنا أپولون، وليحولا عنك إهانة اليونان، ولكن إذا كان هذا الحديث كذبا يذيعه الملك الأعظم

6

ويشيعه هذا الرجل الدنيء من سلالة سيزوبوس

7

فلا تسكت على هذا الكيد، ولا تعرض نفسك لهذه القالة السيئة بالاحتجاب في خيمتك على ساحل البحر (في بطء) .

بل على العكس من ذلك قم واخرج من منزلك الذي أطلت فيه المقام منغمسا في راحة مضطربة، فتركت هذا الحديث يعظم وينمو كأنه اللهب قد ارتفع حتى بلغ السماء. وكذلك ينتشر في الأودية ماضيا مع الهواء في غير خوف ولا حياء كيد أعدائك لك ومكرهم بك، إن اليونان جميعا يضحكون في قوة وعنف ساخرين منك عابثين بك والألم يملأ نفسي. (تدخل تكمسا)

تكمسا :

أي حماة سفينة أياس، أي سلالة أسرة أركتيوس! ما أجدرنا بالأنين نحن الذين يملأ قلوبهم الحب لهذا البيت البعيد، بيت تلمون، إن أياس الهائل ذلك البطل العظيم ذا الكتفين القويتين ملقى على الأرض الآن، قد صرعته عاصفة أفسدت عليه عقله.

رئيس الجوقة :

أي ثقل ثقيل ألم به الليلة فأذهب هدوء نفسه واعتدال مزاجه؟ أنبئينا يابنة تلوتاس الفريجي فأنت أسيرته، وإن أياس العنيف ليشرفك بحبه، فلن يكون حديثك عنه حديث الجاهلية.

تكمسا :

كيف أحدثك بما لا سبيل إلى وصفه؟ إن الألم الذي ستعرفه ليعدل الموت، لقد جن سيدنا أياس العظيم فجلب لنفسه العار هذه الليلة، لو ترى داخل خيمته هذه الضحايا التي نحرت بيده والتي تسبح في دمها والتي قدمها إلى الآلهة!

الجوقة (في عنف) :

بأي نبأ تنطقين عن هذا البطل الجريء؟ نبأ لا يطاق، ولكنه نبأ لا يكذب، إن رؤساء اليونان ليذيعونه، وإن اللغط المتزايد لينميه، ما أشد خوفي مما سيحدث! سيموت سيدنا؛ لأن يده الطائشة قد نحرت بسيفه الدامي قطعان اليونان ورعاتها في غير تفريق ولا تمييز.

تكمسا :

وا حسرتاه! من هناك، نعم من هناك أقبل علينا يقود قطيعا أسيرا، وكان ينحر داخل خيمته بعض هذا القطيع، وكان يمزق بعضه الآخر، وكان يشطر بعضه شطرين، ثم عمد إلى كبشين قوائمهما بيض؛ فأما أحدهما فقد احتز رأسه وقطع طرف لسانه ورماه بعيدا، وأما الآخر فقد شده إلى عمود ثم أهوى إلى سوطه وجعل يضربه به، وللسوط صفير وهو يهينه بألفاظ قبيحة لم يتعلمها من الناس، وإنما ألقاها في روعه بعض الآلهة.

الجوقة :

لقد آن لنا أن نستر وجوهنا وأن نمعن في الهرب مستخفين، أو أن نتخذ مجالسنا من السفينة ونمضي في البحر حتى نبلغ مأمننا، ما أعنف النذير الذي يرسله الملك وأخوه في أثرنا! إني لأخشى أن أموت معه رجما بالحجارة، فإن العارض الذي ألم به يجعل الدنو منه خطرا.

تكمسا :

لقد مر هذا الطائف مرا سريعا كأنه الريح لا يصحبها البرق الخاطف، لقد ثاب الآن إلى رشده، ولكنه يشقى بألم جديد، فإن مشاهدة الإنسان للشر الذي يقترفه وحده دون أن يشاركه أحد في اقترافه تزيد الألم وتضاعف الشقاء.

رئيس الجوقة :

ولكن إذا أدركه الهدوء فقد تستقيم الأمور له فيما أرى، فإن الشر إذا بعد قل التكفير فيه.

تكمسا :

أيهما أحب إليك إذا خيرت؛ أن تسعد وحدك ويشقى أصدقاؤك، أم أن تشاطرهم ما هم فيه من شقاء؟

رئيس الجوقة :

إذا تعدد الأشقياء يا امرأة كان الشقاء أعظم.

تكمسا :

لقد انقضى الألم، ولكننا ما نزال نشقى به.

رئيس الجوقة :

كيف تقولين؟ لا أفهم عنك شيئا.

تكمسا :

لقد كان أياس يألم وحده أثناء جنونه، وكنا نحن العقلاء نشقى بالنظر إليه، فأما الآن وقد ثاب إلى نفسه وانجاب عنه الألم فإنه يضطرب أشد الاضطراب ليأس شنيع، ونحن مثله لم ينقص ألمنا عما كان عليه، ألسنا نجد ألمين مكان ألم واحد؟

رئيس الجوقة :

إني أرى رأيك وأخشى أن يرسل الآلهة إلينا بعض المكروه، وكيف السبيل إلى غير ذلك، وهو بعد أن عاد إلى الهدوء ليس أسعد منه حين كان مضطربا؟

تكمسا :

هذه هي حاله ويجب أن تكون بها عليما.

رئيس الجوقة :

كيف ألم به هذا العارض؟ قصي علينا آلامك فإنا نشاركك فيها.

تكمسا :

ستعرف كل ما كان؛ فإن مصيرك ومصيره واحد، حين تقدم الليل وأمعن في الظلمة وخبت نار المساء أخذ سيفه ذا الحدين وتهيأ للخروج بغير سبب، فألومه في ذلك وأقول له: «ماذا تصنع يا أياس؟ لم يدعك أحد، ولم ينته إليك رسول، ولم يسمع نذير الأبواق، والجيش كله نائم الآن.» فأجابني بهذه الكلمات التي تعاد علينا دائما: «أيتها المرأة إن الصمت حلية النساء.» ففهمت ولجأت إلى الصمت واندفع وحده.

وأما ما عمل خارج الخيمة فلا أستطيع أن أصفه، ولكنه حين عاد كان يقود معه في قرن واحد ثيرة وكلابا وغنيمة عظيمة من الماشية ذات القرون، وكان يضرب أقفية بعضها، ويرفع في الهواء رءوس بعضها الآخر ينحرها، ويقصم ظهورها. كل هذه الكائنات المثقلة بالأغلال كان يعمل فيها السيف كأنها الرجال وما كان ينحى إلا على الماشية. ثم اندفع آخر الأمر من باب الخيمة وجعل يتحدث إلى ظل لا أعرفه في صوت تملؤه الكبرياء، يهين الأتريين مرة وأودسيوس مرة أخرى، ويفصل ذلك بقهقهة عالية.

وكان يصور ما أدرك عندهم من الثأر، ثم عاد بعد ذلك إلى مستقره وثاب إليه عقله قليلا قليلا. يرى خيمته قد ملئت بالأشلاء فيضرب رأسه ويبعث صيحة عالية، ثم يجلس بين هذه الأجزاء الهامدة للحملان المذبوحة وقد أدركه الهمود. وإذا هو ينتف شعره ملء يديه، وقد لبث صامتا وقتا طويلا، ثم أنذرني أعنف النذير إن لم أقص عليه تفصيل ما كان، يريد أن يعرف ماذا ألم به، وأنا أيها الأصدقاء وقد ملكني الخوف أقص عليه كل ما عمل أو على الأقل كل ما كنت أعرف.

هنالك بعث أنات مهلكة لم أسمع مثلها منه قط، قد كان يرى أن الشكوى لا تليق إلا بالجبناء والضعفاء، ولم يكن يبعث الصيحات عالية، وإنما كان يجمجم بالشكوى كأنه ثور يخور. والآن وقد أثقلته الكارثة فإن أياس دون أن يأكل أو يشرب ملقى بين هذه الحيوانات المصرعة، إنه ليدبر أمرا خطيرا تنبئ به كلماته وأناته. وهلم أيها الأصدقاء، إن العقل هو الذي جاء بي إليكم، ادخلوا وأعينوه إن استطعتم فإن أمثاله لا يذعنون إلا لدعاء رفاقهم.

رئيس الجوقة :

أي تكمسا، إنها لقصة هائلة يابنة تلوتاس هذه التي تقصين علينا، إن الألم قد دفع سيدنا إلى الجنون.

أياس (من داخل الخيمة) :

ما أشقاني! ما أشقاني!

تكمسا :

إن الأمور توشك أن تسرع إلى الفساد، ألم تسمعوا أياس؟ أي صيحة هذه التي أرسلها!

أياس :

ما أشقاني! ما أشقاني!

رئيس الجوقة :

كأن سيدنا يهذي، أو كأنه يندم على ما قدم بين يديه منذ حين.

أياس :

آه، وا ولداه، وا ولداه!

تكمسا :

وا شقوتاه! أوريزاسيس

8

إنه يدعوك أين أنت، ما أشد ما أجد من الألم!

أياس :

تكروس

9

أين تكروس؟ إني أدعوه! أينفق وقته كله في جمع الغنائم بينما أهلك أنا؟

رئيس الجوقة :

كأن سيدنا قد ثاب إليه عقله. افتحي إذن لعله إذا رآني ملك نفسه.

تكمسا :

انظر، سأفتح الباب وتستطيع أن ترى أمامك ماذا صنع وإلى أي حال صار. (يدار اللولب ويظهر أياس ملقى بين جثث الماشية المكدسة، وما زال يهذي.)

أياس (مضطربا) :

أيها البحارة أنتم وحدكم من أصدقائي قد أقمتم على المودة والوفاء لي، انظروا إلى هذا الموج تثيره عاصفة دامية، فهو يضطرب عن يميني وعن شمالي ومن حولي.

رئيس الجوقة (لتكمسا) :

إني لا أراه جيدا، لم تقولي إلا حقا، هذا الدليل على أن عقله مريض.

أياس :

أيها الجند الذي يعينني على تحريك سفني، أنت الذي أبحر معي وأدار المجاذيف، أنت ... أنت وحدك أراك قادرا على أن تذود عني الألم، أقبل إذن فانحرني.

رئيس الجوقة :

دع هذا الكلام الذي يملؤه الشؤم، ولا تصطنع دواء شرا من الداء، فتضيف شقاء إلى شقاء.

أياس (في اضطراب متصل) :

أترى إلي أنا الشجاع الكريم الجريء في المعركة المدمرة، ما أخطر يدي على هذه الماشية الوادعة! آه أأصبح موضوعا للسخرية وأهين نفسي على هذا النحو؟

تكمسا :

أياس ... مولاي! إني أضرع إليك ألا تتحدث على هذا النحو.

أياس :

اذهبي إلى وراء واستخفي! آه.

تكمسا :

بحق الآلهة إلا ما سمعت لدعائي وثبت إلى الرشد.

أياس :

ما أشقاني! لقد تركت الأتريين البغيضين يفلتان من يدي، وهجمت على الثيرة ذات القرون الملتوية وعلى قطعان شريفة من المعز فهرقت دمها الأسود!

رئيس الجوقة :

لم تمعن في الألم بعد أن كان ما كان؟ فليس إلى استدراك ذلك من سبيل.

أياس :

أيها الذي يرى كل شيء، أيها المثير لكل جريمة، أي سليل لايرتيس

10

أي حثالة الجيش، بأي ضحك عريض تعلن شماتتك؟

رئيس الجوقة :

كل إنسان يضحك ويبكي كما يريد الإله.

أياس :

لو أتيح لي أن أراه حتى في هذه الحال السيئة التي أنا فيها! وا حسرتاه!

رئيس الجوقة :

دع حديث الكبرياء، ألا ترى إلى شقائك؟

أياس :

أي زوس جد آبائي، لو استطعت أن أقتل هذا الخائن، هذه الحثالة الحقيرة للناس جميعا، عدوي، ثم أقتل بعده رئيس الجيش، ثم أموت أنا بعد ذلك!

تكمسا :

حين تتمنى ذلك تمن لي أيضا أن أموت، ولم أعيش حين تفارق الحياة؟

أياس (حادا مضطربا) :

أيتها الظلمة التي أصبحت لي ضوءا، أي دار الجحيم، هذا المستقر المضيء لكائن مثلي خذي، خذيني ساكنا جديدا خذيني، لم أبق أهلا لأن أرفع بصري إلى الآلهة الخالدين ولا إلى الناس الهالكين ألتمس منهم العون، إن ابنة زوس

11

المخوفة تهينني وتهلكني، أين المهرب؟ أين الملجأ الأمين ما دام كل شيء ينهار أيها الأصدقاء بمصرع هذه الماشية من حولي، ما دمت قد اندفعت إلى هذا الصيد الجنوني؟ لو ظفر بي جنود اليونان لأقبلوا علي شاهرين سيوفهم فمزقوني تمزيقا.

تكمسا :

وا شقوتاه! أيمكن أن ينطق رجل شجاع بمثل هذا الكلام الذي كان يستخذى لمثله قبل وقت قصير؟

أياس :

أيتها الطرق المشرقة المنتهية إلى الساحل، أيتها الأغوار البحرية، أيتها المروج الساحلية، لقد أمسكتني وقتا طويلا، نعم وقتا طويلا عند طروادة، ولكنكن لن تحتفظن بي، لن تحتفظن بي حيا، لقد فهمتن فلكن التحية! أي أمواج سكامندر

12

القريب التي أحسنت ضيافة اليونان، كلا لن تريني، أنا الذي يفاخر بأن طروادة لم تر مثله أحدا أقبل من بلاد اليونان، وهأنذا الآن طريحا على الأرض قد فقدت شرفي.

رئيس الجوقة :

أيجب أن أقفك عن الكلام، أم أن أخلي بينك وبينه؟ لا أدري؛ لأن الشقاء الذي صرت إليه عظيم. (صمت. ينهض أياس.)

أياس :

أي أي، من كان يظن أن اسمي يتفق إلى هذا الحد مع آلامي؟

13

فقد جاء الوقت الذي يجب أن أردد فيه هذه الشكاة المؤلمة، لقد تفوق أبي على الجيش كله، وظفر بجائزة البطولة في أرض إيدا هذه، ثم عاد إلى وطنه ماجدا موفورا، وها أنا ذا ابن هذا البطل العظيم قد أقبلت إلى هذه الأرض نفسها شجاعا مثله، فأبليت كما أبلى ولكني أفقد الشرف، ومع ذلك فهناك شيء أظنني أعرف، لو أن أخيل في حياته أراد أن يجعل سلاحه جائزة للبطولة لما منحه أحدا غيري، أما الآن فقد منح الأتريان هذا السلاح رجلا قادرا على كل شر، وجحدا شجاعتي وحسن بلائي، ولولا أن ضلت عيناي وضل عقلي فحولت عما كنت أريد لما أتيح لهما بعد اليوم أن يظلما رجلا آخر هذا الظلم.

ولكن ابنة زوس هذه العذراء ذات اللحظ المخيف قد انتظرت بي حتى هممت بالأمر وبسطت إليه يدي، ثم ألقت علي عارضا من الذهول حتى خضبت يدي بدماء هذا الحيوان، وهما الآن يضحكان؛ لأنهما أفلتا مني على رغمي من غير شك، وإذا أراد إله بنا شرا أفلت الجبان نفسه ممن هو أشد منه شجاعة وأعظم بأسا، والآن ماذا يجب أن أعمل؟ أنا من غير شك عدو للآلهة، الجيش يبغضني وطروادة، بل كل هذه الأرض تمقتني، أيجب أن أترك السفن، وأن أدع الأتريين وحدهما وأن أعود إلى وطني؟

وأي وجه أظهر به إذا وصلت إلى أبي تيلمون؟ وكيف يحتمل عودتي إليه صفر اليدين غير ظافر بمثل ما ظفر به من تاج المجد والفخار؟ كلا! هذا لن يكون. أأذهب إذن إلى أسوار الترواديين؟ أأهجم عليهم هجمة المستميت؟ أأجد الموت بعد أن أحسن البلاء؟ ولكني إن فعلت أقررت عين الأتريين! كلا هذا لا يمكن، يجب أن ألتمس وسيلة أثبت بها لوالدي الشيخ أني ابنه حقا، وأني قد ورثت شجاعته وبأسه، وقلبا قد وضع في موضعه، فإن من الخزي أن يرغب الرجل في أن تطول حياته حين يعجز عن تغيير ما ألم به من الشقاء.

وأي خير

اليوم لا يبعده من آخرته إلا ليقربه منها؟ لن أحفل بالرجل الذي تخدعه الآمال الكاذبة، إنما قصارى الرجل الكريم أن يعيش ماجدا أو أن يموت كريما. لقد قلت كل شيء.

رئيس الجوقة :

لن يستطيع أحد أن يدعي أنك يا أياس قد قلت غير ما يجمل بك أن تقول، ومع ذلك فثب إلى الهدوء وائذن لأصدقائك أن ينتصروا عليك فيما اعتزمت، ودع هذه الخواطر المؤلمة.

تكمسا :

أياس يا مولاي، ليس أشد على الناس من الضرورة، لقد ولدت لأب حر قوي غني بين الفريجيين جميعا، وأنا الآن أمة، كذلك أراد الآلهة، وكذلك أراد بأسك خاصة، ومن أجل هذا أخلصت لك؛ لأن الإخلاص واجب على من شاركتك في مضجعك، فأنا أضرع إليك بحق زوس إله البيت، وبحق هذا المضجع الذي وصل بينك وبيني ألا تعرضني لإهانة تنالني من عدوك إذا أسلمتني لسلطان غيرك، فإن اليوم الذي لا تعيش فيه اليوم الذي تتركني فيه بعد أن يدركك الموت هو اليوم الذي سيأخذني فيه الأرجيون قسرا، وسيأخذون فيه ابنك معي، ويومئذ سأعيش عيشة الرق والذل، وسيلقي إلي سادتي ألفاظا مرة تمزقني، سيقولون: «انظروا إلى أسيرة أياس الذي كان أقوى الجند وأعظمهم حظا من البطولة، أي ذل تعاني بعد أن كانت تثير الغيرة والحسد!» سيضطهدني الآلهة، وستكون هذه الإهانة عارا لك ولأسرتك، آه، ارحم أباك الذي تتركه في شيخوخة مظلمة.

ارحم أمك التي أثقلتها السنون، والتي تضرع إلى الآلهة دائما في أن يردوك إليها سالما موفورا، أشفق أيها الملك على ابنك الذي إن حرم رعايتك في صباه فسينفق شبابه خاضعا لسلطان وصاية بغيضة، فكر في الشقاء الذي ستفرضه عليه وعلي أيضا إذا قضيت على نفسك بالموت، فليس لي من أستطيع أن ألجأ إليه غيرك، لقد خربت وطني بسنانك، لقد ذهب القضاء بأمي ومضى أبي لسبيله أيضا، فهما الآن في دار الموتى، فأي الناس غيرك يقوم مني مقام الوطن ومقام الثروة والغنى؟ إنما أنت أملي كله، فكر في أيضا، فقد يجب أن يذكر الإنسان ما أتيح له من نعيم، إن الإحسان يلد الاعتراف بالجميل دائما، إن الذي ينسى ما قدم إليه من جميل لن يكون رجلا شريفا.

رئيس الجوقة :

أياس، وددت لو أحسست الشفقة كما أحسها فإنك تقر هذا الكلام.

أياس :

من المحقق أني أقرها على ما تقول إذا اصطنعت الشجاعة فأطاعت أمري.

تكمسا :

ولكني أيها العزيز أياس سأطيعك في كل شيء.

أياس :

احملي إلي ابني إذن لأراه.

تكمسا :

لقد أبعدته إشفاقا عليه.

أياس :

أبعدته أثناء ثورتي؟ ماذا تريدين أن تقولي؟

تكمسا :

أشفقت أن يموت التعس إذا لقيته.

أياس :

كان هذا خليقا أن يصدر عن الآلهة التي كانت تضطهدني.

تكمسا :

ولكني حلت دون ذلك.

أياس :

إني أقر عملك وما اصطنعت من الاحتياط.

تكمسا :

أي خدمة تريد أن أقدم إليك الآن؟

أياس :

أريد أن أتحدث إليه وأن أراه أمام عيني.

تكمسا :

إن الخدم يحرسونه غير بعيد.

أياس :

ما له إذن يتأخر في المجيء؟

تكمسا :

أيها الصبي إن أباك يدعوك، أحضره هنا أيها العبد الموكل به.

أياس :

أيقبل أم لعله لم يسمع دعاءك؟

تكمسا :

هذا العبد يقوده ها هو ذا؟ (يدخل عبد يقود بيده أريزاسيس.)

أياس :

خذيه خذيه وادفعيه إلي، لن يخلف الدم المسفوح إن كان ابني وكان خليقا بالانتساب إلي، على أن من الواجب أن ينشأ منذ الآن على شظف أبيه وشدته، وأن يؤخذ بأن يكون مثلي.

أي بني، إني أتمنى أن تكون أسعد من أبيك، وأن تشابهه فيما عدا ذلك، إذن فلن تكون جبانا، على أني أحسدك اليوم؛ لأنك لا تحس شناعة هذه الفظائع، إنما جمال الحياة بالقياس إليك أنك لا تفكر حتى يأتي اليوم الذي تجد فيه الفرح والحزن، فإذا بلغت هذا الطور فأظهر لأعدائك أنك ابن أبيك، وإلى أن يأتي هذا اليوم فانشأ نشأة النبات الرخص يغذوه النسيم العليل، وكن قرة عين لأمك هذه.

لن يسوءك يوناني بالإهانة حتى إذا افترقنا، سيحميك ويقوم دونك تكروس، ولكنه غائب اليوم في طلب العدو، وأنتم أيها الجند الذين يتخذون الدرق لهم جنة، أيها البحارة إني أنتظر منكم كما أنتظر من أخي هذا البر بي، أبلغوه أيضا أني آمره بأن يقود هذا الصبي إلى بيتي وبأن يعرفه إلى أبي تلمون وإلى أمي إيريبه، وليكن هذا الصبي لهما عضدا وعمادا حتى يهبطا إلى مستقر الموتى. أما سلاحي فإني لا أريد أن يعرض على اليونان جائزة يحكم فيها القضاء أو يقضي فيها الذي خانني، ولكن يا بني خذه هذه الدرقة التي منحتك اسمها، هذه الدرقة الكثيفة التي لا تنال، والتي اتخذت من جلود سبعة من الثيرة، خذها بهذه الحلقة المثبتة المتينة، وما بقي من سلاحي فليدفن معي. (إلى تكمسا)

خذي هذا الصبي مسرعة وأغلقي بيتي أمام الخيمة، لا بكاء ولا أنين، إن المرأة تحب العويل دائما، أسرعي إلى إغلاق البيت، ليس من مهارة الطبيب أن يصطنع العزائم أمام العلة التي تدعو إلى السكين.

رئيس الجوقة :

يملأني الخوف حين أسمعك تتحدث في هذا العزم، إن صوتك القاطع الذي تلقي به كلامك لا يعجبني.

تكمسا :

أياس، مولاي ، أي خطة يمكن أن تكون قد دبرت في عقلك.

أياس :

لا تفسير لا سؤال، إن الحياء أخلق بالكرام.

تكمسا :

آه، ما أشد قلقي، إني أستحلفك بابنك وبالآلهة ألا تتركنا.

أياس :

لقد أسرفت علي، ألا تعلمين أني قد أصبحت في حل من تكريم الآلهة.

تكمسا :

دع حديث الشؤم.

أياس :

تحدثي إلى من يسمع لك.

تكمسا :

وأنت فلن تلين؟

أياس :

لقد أسرفت في الكلام.

تكمسا :

ولكني خائفة أيها الملك.

أياس (إلى الخدم) :

ألا تسرعون إلى إغلاق الخيمة.

تكمسا :

باسم الآلهة دع قلبك يلين.

أياس :

إنك لمجنونة إن ظننت أنك تستطيعين الآن أن تغيري طبعي. (يدار اللولب ويستخفي أياس في خيمته وتخرج تكمسا ومعها ابنها.)

الجوقة (في بطء) :

أي سلامين ذات الصوت البعيد، إنك لتنعمين بالسعادة يحيط بك اصطخاب البحر، وإن مجدك لخالد أمام الناس جميعا، أما أنا الشقي التعس، فقد طال علي المقام في أرض إيدا مخيم في الشتاء والصيف منذ أشهر لا تحصى يلح علي الجهد ويفنيني مر الدهر، وأعلم حق العلم أني سأنتهي يوما ما إلى الهبوط عند ذلك الإله المخيف، إله الموتى.

وهذا أياس وقد ألم به داء لا دواء له يضيف إلى آلامي ويضاعف شقائي، لقد ألم به عارض من الآلهة، لقد أرسلته يا سلامين سيدا يقود الجيش إلى المعركة، أما الآن فقد خلا إلى نفسه وخواطره كأنه الراعي الوحيد وأصبح مصدر ألم عظيم لأصدقائه، وقد أعرض الأتريان عن بلائه الحسن ومآثره العظيمة (تسرع قليلا) .

وا رحمتاه لأمه التعسة! قد أثقلتها السنون واشتدت عليها الشيخوخة، ستبعث التعسة أنات تمزق القلوب حين تعلم ما ألم به من الجنون، لن تئن أنين البلبل الشاكي، بل ستصيح صيحات حادة وستضرب بيديها صدرها ضربا مضاعفا وستنزع بيديها شعرها الذي جلله الشيب.

خير للمريض الذي غلبه الجنون أن يستأثر به الموت، هذا الذي أنجبه أبوه فتحدر من أكرم عنصر يوناني قد فقد أخلاقه الكريمة وتغيرت طبيعته، أيها الأب الشقي أي شقاء ثقيل ينتظرك حين تعلم آخرة ابنك الذي لم يلق أحد من أسرته مثل ما لقي من البؤس. (يخرج أياس من خيمته هادئا وفي يده سيف وتتبعه تكمسا.)

أياس :

إن الزمن العريض الذي لا حد له يلد الأشياء الخفية، فإذا ظهرت للضوء أخفاها في نفسه،

14

كل شيء ممكن، ليس من الأشياء ما لا ينتظر حتى الحنث في اليمين وحتى ضعف القلوب التي لا تقر، وكذلك كنت أنطق منذ حين بألفاظ قوية قاسية، ثم ردتني هذه المرأة إلى اللين كما يصهر الحديد فقهرت إرادتي،

15

علي أن أترك بين العدو أيما ويتيما، سأذهب إلى الطهر، إلى تلك المروج التي تتابع ساحل البحر لأغسل عني أوضار الوزر ولأتخفف من غضب الآلهة الذي يثقلني، ثم أمضي بعد ذلك إلى مكان بعيد فأخفي هذا السيف المشئوم حتى لا يراه أحد، ليخفه الليل، ولتخفه ظلمة الجحيم، فإني تلقيت هذا السيف هدية من أشد أعدائي هكتور، لم ألق من اليونان إلا إهانة وشرا.

لقد صدق المثل: إن هدية العدو شر الهدايا. هي شؤم دائما، وسنعرف منذ اليوم كيف نذعن للآلهة وسنتعلم كيف نكرم الأتريين، هما يأمران فلنطع فليس إلى غير ذلك من سبيل، يجب أن تذعن القوة والبأس للسلطان، إن الشتاء المثلوج يمضي ليخلفه الصيف الخصب، إن قبة الليل المظلمة لتنهزم أمام النهار تقوده خيله البيض ليشعل جذوته، وإن عصف الريح العنيفة ليهدأ فيطمئن لهدوئه البحر المصطخب، وإن النوم الذي يسيطر على الكائنات جميعا ليتخلى عن الذين احتازهم ويخلصهم من قيوده، فما بالنا لا نصطنع الحكمة والاحتياط، سأصطنعهما. قد تعلمت أنه يجب أن نبغض العدو هونا ما لعلنا نحبه يوما ما، ولن أحب نفع الصديق إلا على أنه قد يستحيل عدوا، إن مودة الناس أضعف من أن تكون وفية دائما، نعم كل ما أفكر فيه سينتهي إلى الخير.

أيتها المرأة عودي إلى خيمتك وصلي للآلهة والتمسي منهم أن يتم كل ما أريد كما أريد، وأنتم أيها الأصدقاء اصنعوا صنيعها محبة لي وقولوا لتكروس إذا عاد ألا ينسانا وأن يكون بكم رفيقا؛ فإني ذاهب إلى حيث يجب أن أذهب، افعلوا ما أمرتكم به وستعلمون عما قليل أني وجدت الخلاص من شقائي. (يخرج وتدخل تكمسا إلى الخيمة.)

الجوقة (في نشاط وفرح) :

إني لأرتعد سرورا، وإن الفرح ليمنحني أجنحة، أي پان دع هذا السفح الصخري لجبل كولين الذي يغطيه الثلج وابرز إلينا على الساحل الذي تلطمه الأمواج أنت الذي يرأس جوقة الآلهة لتشاركنا في هذا الرقص الذي تحسن أنت معرفته، رقص نيسا

16

وكنوسوس،

17

أريد أن أؤلف جوقات؛ ليسرع إلى أپولون ملك بلوس عابرا بحر

18

أكار بأعين الناس جميعا، وليظهر أنه ما زال علي عطوفا.

لقد صرف عني أريس

19

ألما شنيعا، أي زوس، الآن يستطيع الضوء المشرق للأيام السعيدة أن يغمر سفننا السريعة ما دام أياس قد نسي آلامه وعاد إلى طاعة الآلهة، إن الزمن القوي ليمحو كل شيء، لن أرى شيئا غير قابل التحقيق ما دام أياس قد عدل عن غضبه على الأتريين وانصرف عن خصومته العنيفة. (يأتي رسول قد أقبل من معسكر اليونان.)

الرسول :

أيها الأصدقاء، أريد قبل كل شيء أن أعلن إليكم خبرا، لقد عاد تكروس مقبلا من جبال ميزيا، لم يكد يبلغ خيمة القائد في وسط المعسكر حتى أهانه اليونان جميعا، فقد عرفوه من بعيد بينما كان يسعى إلى الخيمة، فأطافوا به كالدائرة ثم جعلوا يستبقون إلى صب الإهانة عليه يدعونه أخا المجنون وأخا عدو الجيش، ويزعمون أنه لن يمنعهم من تمزيق جلده ورجمه بالحجارة حتى يموت.

وقد بلغ الأمر حدا سلت له السيوف من أغمادها، وانتهت الخصومة إلى أقصاها، وكادت تبلغ ما لا سبيل إلى استدراكه لولا أن ردتها حكمة الشيوخ إلى الهدوء، ولكن أين أياس؟ أريد أن أقص عليه النبأ، للسيد وحده ينبغي أن يكشف كل شيء.

رئيس الجوقة :

ليس في خيمته، لقد انطلق منذ حين، لقد تغيرت غايته حين تغير خلقه.

الرسول :

وا حسرتاه! إذن فقد أرشدني مرسلي إلى طريق بعيدة مع أني لم أقصر في العدو.

رئيس الجوقة :

فيم قصرت؟

الرسول :

لقد نهى تكروس عن أن يخرج أياس قبل أن يصل هو.

رئيس الجوقة :

لكنه مضى إلى أشرف الغايات، مضى ليصلح أمره مع الآلهة ويمحو من قلبه كل حقد.

الرسول :

ليس هذا الكلام إلا جنونا إن صدقت نبوة كلكاس.

20

رئيس الجوقة :

أي نبوءة؟ وما علمه بهذا؟

الرسول :

إليك كل ما أعرف فقد كنت حاضرا جماعة الشورى حيث كان الملوك يأتمرون، لقد نهض كلكاس وحده وترك الأتريين، ومضى حتى بلغ تكروس فصافحه وأمره أن يمسك أياس في خيمته، لا يهمل في سبيل ذلك شيئا حتى ينقضي هذا اليوم، لا بد من ذلك إن كان يريد أن يرى أخاه حيا، وكان يؤكد أن غضب الإلهة أتينا لن يتبعه إلا هذا اليوم، وكان الكاهن يقول: إن الرجال المغرورين المتكبرين يتردون في البؤس تدفعهم إليه إرادة الآلهة؛ ذلك أنهم يولدون ضعافا هالكين، فينسيهم الجهل والغرور طبيعتهم، وقد أظهر أياس بوادر الطيش والغرور قبل أن يفصل عن داره، وكان أبوه ينصح له ويرده إلى الأناة والحكمة.

وكان يقول له: يا بني إن السنان في يد البطل يدفع إلى النصر ولكن بمعونة الآلهة، وكان يجيب في غرور وحمق: «يا أبت إن معونة الآلهة تجعل الجبان شجاعا ماجدا، أما أنا فأستطيع بدونها أن أبلغ من المجد ما أريد.» كذلك كانت كبرياؤه، وذات يوم كانت الإلهة أتينا تحضه على الحرب، وتأمره أن يوجه سلاحه الدامي إلى العدو، فرد بهذا الجواب الفظيع الهائل: أيتها الملكة حضي غيري من اليونان وأيديهم بنصرك، أما أنا فحيث أكون من المعركة فلن تختل الصفوف.

وبهذا النحو من الكلام الذي لا يصور عواطف الرجال، أحفظ الإلهة وأثار غضبها عليه، ومع ذلك فقد نستطيع بمعونة الآلهة أن ننقذه إذا احتفظ بحياته هذا اليوم. هذا بالدقة ما قاله الكاهن.

هنالك أرسلني تكروس لأنهي إليك أمره بالقيام دونه والمحافظة عليه، أتراني وصلت متأخرا؟ لقد مات أياس إن كان كلكاس يحذق فنه.

رئيس الجوقة :

أيتها التعسة تكمسا، لقد ولدت لتألمي، تعالي فانظري ما يقول هذا الرجل، إن سعادتنا لفي خطر، إن الموسى لبين الجلد واللحم. (تدخل تكمسا ومعها إريساسيس.)

تكمسا :

ما أتعسني! لم أكد أخرج من آلامي المتصلة حتى تثيرني من مكاني، لماذا؟

رئيس الجوقة :

اسمعي لهذا الرجل، لقد جاء يقص علينا حول أياس أنباء تخيفني.

تكمسا :

آه! ماذا تقول أيها الرسول؟ أقضي في أمرنا؟

الرسول :

لست أدري ما عسى أن يلم بك، أما أياس فإن كان خارج الخيمة فلست مطمئنا عليه.

تكمسا :

نعم إنه خارج الخيمة، وإن ما تقوله ليملأ نفسي ألما وقلقا.

الرسول :

إن تكروس يأمر بأن يحبس في خيمته، وألا يخلى بينه وبين الخروج وحيدا.

تكمسا :

أين تكروس؟ وفيم يأمر بهذا؟

الرسول :

لقد عاد وهو يخشى أن يكون خروج أياس قاضيا عليه.

تكمسا :

ما أشقاني! من علمه ذلك؟

الرسول :

علمه هذا الكاهن ابن تستور في هذا اليوم الذي سيقضى فيه على أياس بالموت أو بالحياة.

تكمسا :

آه أيها الأصدقاء! أعينوني على هذه المحنة المحرجة (إلى خدمها)

أسرعوا أنتم إلى تكروس ليتعجل العودة (ثم إلى الجوقة)

أسرعوا إلى ساحل البحر، أما أنتم فمشرقين وأما أنتم فمغربين، وابحثوا عن أياس لتعلموا أين ذهب زوجي ليلتمس الموت. فقد أرى أنه خيب أملي وصرف عني عطفه القديم، أي بني ماذا أصنع؟ لا يجب أن أظل جامدة في مكاني، بل يجب أن أمضي مع الآخرين إلى حيث تبلغني قوتي، لنمض لنشتد في العدو، ليس هذا وقت القعود حين يجب إنقاذ من يسرع إلى الموت.

رئيس الجوقة :

أنا مستعد للعدو وسأثبت هذا بشيء غير الكلام، وسيكون إسراعي في العمل تابعا لإسراعي في العدو. (تخرج تكمسا مسرعة مع ابنها وتنقسم الجوقة إلى فريقين يمضي كل منهما لوجهة يمينا أو شمالا، ويظل موقف الجوقة خاليا ثم يتغير المنظر. مكان معتزل خال على ساحل البحر، وقد غرز أياس سيفه في الأرض وراء بعض الأعشاب، وجعل حده إلى الهواء.)

أياس :

هذا قاتلي قائما على هذا النحو يكون أقطع وأمضى حتى لمن يفكر ويروي، لقد أهداه إلي هكتور أبغض من ضيفني وأشد أعدائي عندي مقتا، لقد غرزته في أرض العدو أرض طروادة بعد أن شحذته على الحجر الذي يعض الحديد، لقد أثبته في الأرض، فهو الآن قادر على أن يمنحني من غير عناء هذا الموت السريع الذي أطلبه وأرغب فيه.

لقد فعلت كل ما كنت أستطيع أن أفعل، أما الآن فإن عليك يا زوس - قبل غيرك - أن تتم ما يجب عليك فتعينني، لا أطلب إليك شيئا ذا خطر، أوصل إلى تكروس هذا النبأ المحزن نبأ موتي، وليكن هو أول من يأتي ليداري جسم صديق قد ألقى بنفسه على سيفه الدامي، ليحذر كل الحذر أن يسبقه إلى هذا الجسم أحد الأعداء فيطرحه طعمة للكلاب، وسباع الطير، أي زوس، هذي صلاتي، ولكني إنما أضرع إلى هرميس، هذا الذي يقود الموتى في الدار الأخرى، ألا يكاد هذا السيف يخترق جسمي حتى يمهد لي إلى تلك الدار مهبطا سهلا هينا.

إنما أدعو هؤلاء العذارى المعينات اللاتي تغمضن أعينهن عن بؤس البائسين، أدعو آلهة الانتقام الجليلات المسرعات لينظرن إلى هذا الموت الذي ألقاه في شقاء وسوء حال بيد ابني أتريوس؛ لعلهن ينلن هذين الرجلين الشريرين بسخطهن، فيعدلن بين إثمهما وما يلقيان من عقاب.

إنهن ليرينني أسلب نفسي الحياة بيدي، فلعل هذين الرجلين يسلكان هذه الطريق التي أسلكها فيمزق كل منهما صدره ويجود بنفسه أمام أعز الناس عليه وأحبهم إليه، أقبلن إذا أيتها الآلهة المنتقمة، أسرعن لا تبقين على شيء، سلطن غضبكن على هذا الجيش كله. وأنت أيتها الشمس تقود عجلتها على قبة السماء إذا بلغت مسقط رأسي، حيث رأيت الضوء لأول مرة فأمسكي لجامك الذهبي وألقي إلى أبي الذي قد أثقلته السن وإلى أمي التعسة ما لقيت من بؤس، وما ادخر لي القضاء، يا لها من شقية، بأي أنين سيمتلئ بيتها حين يبلغها هذا النبأ، ولكن ماذا أصنع؟ لندع هذا البكاء الذي لا يجدي شيئا ولنسرع إلى إتمام ما بدأنا.

يا للموت، أيها الموت أقبل الآن، أعني، زرني لقد آن لك أن تفعل، عما قليل سأساكنك وسيتصل بيننا الحديث، أيها الضوء اللامع ضوء النهار، أيها النور المشرق، أيتها الشمس إني لأراك، إني لأناجيك لآخر مرة أيتها الأسوار المقدسة، أسوار سلامين وطني، أيتها المنازل العزيزة منازل أجدادي، أيتها المدينة الكريمة مدينة أتينا، أيها الأصدقاء الذين شبوا معي، أيتها العيون والأنهار والحقول تحيط بتروادة إليكم أهدي التحية. أي هذان اللذان منحاني الحياة في ذمة الآلهة، هذه آخر كلمة يوجهها إليكما أياس فلن ينطق بعدها في دار الموتى. (يقبل بعض الجوقة من جهة وبعضها من جهة أخرى.)

الفريق الأول :

تعب على تعب، تعب دائما، إلى أي مكان في الحق إلى أي مكان لم أذهب ولم يرن مكان، وقد استكشفت ما أبحث عنه، ماذا! ماذا؟ إني أسمع صوتا.

الفريق الثاني :

نحن الذين يصاحبونكم في السفر، نحن رفاقكم.

الفريق الأول :

إذن ماذا؟

الفريق الثاني :

لقد طوفنا كل الناحية الغربية من المعسكر الساحلي.

الفريق الأول :

وهل وجدت؟

الفريق الثاني :

وجدت تعبا كثيرا لا شيئا آخر، لم أر شيئا.

الفريق الأول :

وفي طريقنا من مشرق الشمس لم نستكشف أياس. (يصل الفريقان إلى وسط الملعب فيجتمعان.)

الجوقة (في اضطراب) :

أي الصائدين العاملين في البحر، أي آلهة أولمبوس، أي الأنهار الجارية التي تنصب في البوسفور؛ يستطيع أن يدلني على هذا الشقي أياس، إن من شقائي أنا الذي يهيم في أقطار الأرض ويحتمل أثقل الجهد منذ وقت طويل ألا أدركه ساعيا إلى غاية سعيدة، وألا أستكشفه وقد أعياه الجهد وألم به الشقاء. (يسمع عويل يأتي من بعيد.)

تكمسا :

وا حسرتاه! وا حسرتاه!

رئيس الجوقة :

من ذا الذي بعث هذه الصيحة تأتي من الوادي الذي تكسوه الغابات.

تكمسا :

ما أشقاني!

رئيس الجوقة :

الأسيرة، المرأة الشقية إني أراها إنها تكمسا تعول وقد أثقلها الشقاء.

تكمسا :

إني ضائعة ميتة فانية أيها الأصدقاء.

رئيس الجوقة :

ماذا!

تكمسا :

انظروا هذا أياس قتيلا، إنه صريع على الأرض، حيث لا تقع العين وقد اخترق صدره السيف.

الجوقة (مضطربة) :

آه! وعودتي أيها الأمير، لقد قتلت رفيقك في السفر إني لشقي، وإن محنتك لعظيمة أيتها المرأة.

تكمسا :

أما وقد مات فلم يبق لنا إلا البكاء.

رئيس الجوقة :

أي يد حملت إليه الموت، يا له من شقي .

تكمسا :

لقد حمل الموت إلى نفسه هذا جلي، يشهد بذلك هذا السيف المثبت في الأرض والذي هو صريع من حوله.

الجوقة (مضطربة) :

أي شقاء هذا الذي ألم بي، لقد قتلت نفسك إذن وحيدا بعيدا عن ملاحظة أصدقائك، وتركتك تعمل دون أن أفهم شيئا، دون أن أعرف شيئا، في أي مكان صرع أياس هذا البطل الجلد صاحب الاسم المشئوم.

تكمسا :

لن تراه، سألفه وأستره كله في هذا الثوب فلن يستطيع أحد - مهما تكن مودته أن يراه - وقد اندفع من أنفه وجرحه القاني دم أسود هو الذي سفكه، آه! ماذا أصنع؟ أي صديق يحملك؟ أين تكروس، إنه ليأتي في وقت الحاجة إليه ليدفن أخاه الذي قضى، أيها التعس أياس ماذا كنت، وأي شيء أنت الآن؟ إنك لخليق بالرثاء حتى من عدوك.

الجوقة (مضطربة) :

لقد كان يجب أيها الشقي، لقد كان يجب في يوم من الأيام أن تضع حدا لآلامك التي لا نهاية لها من أجل هذا كنت تئن في الليل والنهار، يملأ قلبك بغض الأتريين وتدفعك إلى الشر حدة مشئومة، لقد كان مصدر شر عظيم ذلك اليوم الذي قرر فيه الاستباق في الشجاعة للفوز بسلاح أخيل.

تكمسا :

وا حسرتاه! وا حسرتاه!

رئيس الجوقة :

إني لأعلم أن آلاما عنيفة تنفذ إلى قلبك.

تكمسا :

وا حسرتاه! وا حسرتاه!

رئيس الجوقة :

لا أدهش إن رأيتك تضاعفين الأنين بعد أن فقدت شخصا عزيزا عليك.

تكمسا :

لا يستطيع أحد أن يتخيل هذا الألم، أما أنا فأعرفه حق المعرفة.

رئيس الجوقة :

هذا حق.

تكمسا :

أي بني، أي استعباد ينتظرنا من هؤلاء الأعداء الذين يضمرون لنا الشر.

الجوقة (في اضطراب) :

إذا صب عليكما الأتريان هذا الألم الذي تتحدثين عنه كانا مسرفين في القسوة، فلتحمنا منهما الآلهة.

تكمسا :

لم نكن لنتعرض لهذا الشقاء لو لم يرد الآلهة.

رئيس الجوقة :

ما أثقل المحنة التي يمتحنوننا بها.

تكمسا :

ومع ذلك فهذا الشر كما هو يأتينا من ابنة زوس، من هذه الإلهة المخوفة بالاس

21

تريد أن تسربه أوديسيوس.

الجوقة (مضطربة) :

إنه من غير شك يهيننا في قلبه المظلم هذا الرجل الذي لا يتعب، وإنه ليلقى ما جر علينا جنون أياس من السوء بضحك عريض وا حسرتاه! ويشاركه في هذا الابتهاج الملكان الأتريان.

تكمسا :

ليضحكوا وليبتهجوا بشقاء أياس، ولعلهم - وإن لم يحبوه حيا - أن يفتقدوه محزونين عليه حين تذكرهم به ضرورات الحرب، فقد كان الحمقى يجهلون قيمته حين كان بينهم. إن آخرته لتثير في نفسي من المرارة أكثر مما تثير في نفوسهم من الرضى، أما هو فقد اطمأن، لقد ظفر بما كان يريد، الموت الذي كان يبتغيه، لم يضحكون منه إذن؟ لقد قضى الآلهة عليه بالموت دونهم، نعم دونهم، ليسرف أوديسيوس منذ الآن في الإهانة فلن ينال أياس منه شيء، أما أنا - وقد مات - فلم يترك لي إلا حزنا وأنينا. (وفي أثناء هذا الحديث يسمع عويل يدنو شيئا فشيئا.)

تكروس :

وا حسرتاه! وا حسرتاه!

رئيس الجوقة :

كفى، كأني أسمع صوت تكروس، إن صيحته لشكاة مؤلمة كشقائنا (يدخل تكروس) .

تكروس :

أيها العزيز أياس، أيها الأخ الحبيب، أحق ما تلهج به الأحاديث من أمرك؟

رئيس الجوقة :

لقد مات أياس فاعلم ذلك يا تكروس.

تكروس :

أي محنة مهلكة تلم بي!

رئيس الجوقة :

في هذا الحداد.

تكروس :

إني لشقي.

رئيس الجوقة :

من حقك أن تئن.

تكروس :

ألم مبهظ.

رئيس الجوقة :

أجل يا تكروس.

تكروس :

إن بؤسي لعظيم، ولكن أين ابنه؟ في أي مكان هو من أرض طروادة؟

رئيس الجوقة :

هو وحيد عند الخيام.

تكروس (إلى تكمسا) :

ألا تذهبين لتأتي به مخافة أن يأسره بعض العدو كما يصنع بالأشبال بعد مصرع الأسد، اذهبي أسرعي أعينيني، ما أكثر ما يحب الناس إهانة الموتى حين يصرعون. (تذهب تكمسا)

رئيس الجوقة :

نعم لقد أوصانا سيدنا قبل أن يموت بأن نبلغك رغبته إليك في حماية هذا الصبي كما تفعل الآن. (بينما يتحدث رئيس الجوقة يدنو تكروس من جثة أخيه.)

تكروس :

أيها المنظر الذي لم أر قط ما يبلغه شدة وإيذاء، أيتها الطريق التي قطعتها الآن والتي عذبتني كما لم تعذبني قط طريق أخرى ، أيها العزيز أياس لم أكد أعلم من أمرك ما علمت حتى أسرعت، حتى طرت باحثا عنك، لقد طار الصوت عنك سريعا كأنه صوت الآلهة، فانتشر في أندية اليونان يعلن أنك قد قضيت، فلما سمعت ذلك وكنت بعيدا جعلت أشكو وأمعن في الأنين. فأما الآن وقد رأيتك فإني أموت، وا حسرتاه! (ثم يتجه إلى أحد الخدم قائلا)

اذهب فاكشف عنه رداءه لأرى كل شقائي، (فيطيع الخادم)

منظر قاس، شجاعة مرة، أي بذر للألم تلقي في نفسي يا أياس بعد موتك، أين أستطيع أن أذهب، وإلى أي الناس أستطيع أن ألجأ بعد أن ألمت بك الأحداث فلم أمنحك معونة ما؟ من المؤكد أن أبانا تلامون سيلقاني بوجه بشر عطوف حين أعود إليه من غيرك، كيف أشك في ذلك؟ إن ابتسامه ليس محببا إلى النفس حتى أوقات سعادته.

أي شيء لن يقوله هذا الرجل وأي إهانة لن يوجهها إلي أنا الذي ولد من أمة قد أسرت في الحرب، سيتهمني بأنني خنتك جبنا أو خنتك ماكرا بك لأستأثر من دونك بالميراث، هذا ما سيقوله هذا الرجل الغضوب الذي منحته السن حدة واستعدادا للغيظ فأصبح يثير نفسه الشكسة أيسر الأشياء، وستنتهي بي الحال إلى أن أطرد من بيتي وأنفى عن بلدي وأعامل كما يعامل الرقيق بعد أن كنت خليقا بحرية الرجل الكريم، هذا ما ينتظرني عند أهلي، أما في أرض طروادة فما أكثر عدوي وما أقل صديقي، وهذه هي الآلام التي يجرها علي موتك مجتمعة. (صمت)

وا حسرتاه! كيف أستقبل أمري؟ كيف أخلصك من هذا السيف اللامع الحاد الذي قتلك وسلبك الحياة، أكنت قدرت أن هكتور حتى بعد موته سيهدي إليك الموت؟ (ثم يتجه إلى النظارة وفي يده السيف الذي انتزعه من جثة القتيل قائلا)

فكروا - بحق الآلهة - في آخرة هذين الهالكين، لقد شد هكتور إلى عجلة أخيل بالحمالة التي أهداها إليه أياس فما زالت هذه العجلة تسحبه حتى مزق تمزيقا، وحتى لفظ حياته، وتلقى أياس من هكتور هذا السيف هدية فسلبه الحياة، أليست آلهة الانتقام هي التي صاغت هذا السيف، أليس كبير آلهة الموت هو الذي صنع تلك الحمالة؟ أما أنا فأرى أن هذه الأحداث كغيرها مما يمر بالناس، عمل الآلهة يعدونه للإنسان فمن لم ير في دخيلة نفسه مثل ما أرى فله دينه ولي ديني. (وهنا يقبل منيلاووس ومعه حاشية عظيمة.)

رئيس الجوقة :

لا تسرف في الإطالة، فكر كيف تواري هذه الجثة وكيف تتكلم بعد حين، إني أرى عدوا، ولعله إنما أقبل ليهيننا في آمالنا فقد علمته رجل سوء.

تكروس :

أي رجال الجيش هذا الذي تراه مقبلا.

رئيس الجوقة :

هو منيلاووس الذي من أجله تجشمنا هذا السفر.

تكروس :

إني أراه يدنو وليس من العسير أن نعرفه.

منيلاووس (لتكروس) :

يا هذا إليك أسوق الحديث، لا توار هذه الجثة، دعها كما هي.

تكروس :

لم تنفق هذا الجهد في القول؟

منيلاووس :

هذه إرادتي، هذه إرادة قائد الجيش.

تكروس :

ألا تستطيع أن تبين لنا العلة التي تتكلفها لهذا الحظر؟

منيلاووس :

هي أننا قدرنا حين دعوناه لمعونتنا أنه أقبل معنا حليفا صديقا، فلما بلوناه وجدناه عدوا أشد عداوة لنا من الفريجيين، فقد هم بتقتيل الجيش كله وهجم علينا في الليل ليقتلنا برمحه، ولولا أن إلها أطفأ جذوة غضبه، لقد كان أنفذ فينا إرادته وقضى علينا الموت الذي دفع إليه هو واضطرنا إلى أشنع الخزي، ثم استمتع هو بالحياة.

ولكن الآلهة منذ حين قد حولت عنا غضبه وصبته على الشاة وعلى قطعان الماشية، ومن أجل هذا لن يستطيع أحد أن يواري جثته في قبره، سيظل ملقى على هذا الرمل الأصفر، رمل الشاطئ، حتى يصير نهبا لسباع الطير. (تكروس يظهر الغيظ)

لا تظهر هذا الغيظ ولا تخالف عن هذا الأمر، فإذا كنا لم نستطع أن نحمل أياس على الطاعة أثناء حياته فسنستطيع أن نحتكم فيه بعد موته، ولو قمت دونه معارضا ممانعا فليس ردك عن ذلك بالشيء العسير، لم يرد قط في حياته أن يسمع لي، وإن الرجل من أبناء الشعب لخائن إذا لم يستمع للرؤساء والقادة، ولن يكون للقوانين ما ينبغي من السلطان في أي مدينة إذا لم يحمها الخوف، ولن يسود النظام في جيش ما إذا لم تحمه الهيبة والاحترام.

يجب أن يقدر الفرد مهما يكن قويا أنه معرض للموت حتى لأهون الخطأ، تعلم أن من أحسن في نفسه الخوف والاحترام كان خليقا أن يسلم، وأن المدينة التي لا تحظر فيها الجرأة والإقدام على كل شيء خليقة أن تتردى في الهاوية بعد أن سارت سفينتها آمنة موفورة، وقد جرت لها الريح مواتية رخاء.

ولست أرى بدا من أن يسيطر على الناس خوف يردهم عن الشر ويضطرهم إلى الطاعة فلا نخيل إلى أنفسنا أننا إذا أرسلناها في سجيتها، وابتغيناها لذاتنا حيث نكون أمنا حسرة الندم، هذه أشياء يتبع بعضها بعضا، لقد كان أياس فيما مضى عنيفا عنيدا، فقد آن لي اليوم أن أكون قويا متحكما، وإني أعلن إليك أني أحظر عليك دفنه إلا إذا أردت أن تدفن معه.

رئيس الجوقة :

أي منيلاووس، لقد قلت الحق ونطقت بالحكمة، فلا تكن بعد ذلك آثما في ذات الموتى.

تكروس :

لن يدهشني - أيها الأصدقاء - أن يخطئ رجل من الدهماء بعد أن رأينا الذين ينحدرون من أسر كريمة يسرفون على أنفسهم في القول إلى هذا الحد. لننظر ولنراجع حديثك من أوله، تزعم أنك قدت أياس إلى هذا المكان حليفا لليونان، ولكن ألم يبحر مختارا حرا غير خاضع لأحد؟ على ما تعتمد حين تزعم أنك كنت له قائدا؟ وبأي حق تريد أن تسود الشعب الذي قاده هو؟ لقد جئت ملكا لأسبرتا لا سيدا لنا، ولم يكن لك الحق في أن تسوده كما لم يكن له الحق في أن يسودك.

لقد أبحرت خاضعا لغيرك ولم تستمتع قط بالسلطان الأعلى، ولم يذعن لك أياس قط، فأملك على رعيتك وأنبهم - إن شئت - بهذا الحديث الذي تملؤه الكبرياء، فأما هو فسواء منعت ذلك أنت أو منعه غيرك فسأضعه في قبره غير حافل بما تقول. إنه لم يحارب من أجل امرأتك كما تحارب رعيتك، وإنما حارب للعهد الذي قطعه على نفسه، لم يحارب قط من أجلك فإنه لم يكن يحفل بالذين لا يعدلون شيئا، بعد ذلك تستطيع أن تذهب فتستنجد بالأبطال، بل بالقائد نفسه أيضا فإن ضجيج ألفاظك لا يبلغني ما دمت على هذه الحال التي أنت عليها.

رئيس الجوقة :

ولست أحب كذلك لهجة كهذه اللهجة حين يكون الإنسان مثقلا بالشقاء، فإن الألفاظ العنيفة مهما تكن صائبة عادلة تؤذي كما يؤذي العض.

منيلاووس :

إن الرامي لا يظهر التواضع.

22

تكروس :

إن صناعتي ليست تزري بالرجل الحر.

منيلاووس :

ما أخطبك وأبلغك لو حملت الدرقة.

تكروس :

حتى مع حملي للسلاح الخفيف أستطيع أن أثبت لك رغم سلاحك الكامل.

منيلاووس :

ما أشد شجاعتك حين تتكلم.

تكروس :

من كان العدل نصيره حق له أن يكون شجاعا.

منيلاووس :

من الحق إذن أن يقتلني وأن ينتصر.

تكروس :

أن يقتلك! كلام جميل، أنت حي إذن بعد أن مت.

منيلاووس :

لقد أنقذني أحد الآلهة، ولو قد عاش أياس لما عشت أنا!

تكروس :

لا تهن الآلهة الآن وقد ضمنوا لك الحياة.

منيلاووس :

أنا أهين الآلهة وأزدري قوانينهم.

تكروس :

نعم حين تحظر دفن الموتى.

منيلاووس :

دفن أعدائي خطيئة إن أذنت به.

تكروس :

أكان أياس قط عدوا لك.

منيلاووس :

كان يبغضني وكنت أبغضه، وأنت تعرف ذلك.

تكروس :

لقد علم الناس أنك سرقت منه التحكيم.

23

منيلاووس :

هذا خطأ القضاة لا خطئي.

تكروس :

إنك ماهر في إخفاء السيئات.

منيلاووس :

هذه كلمة قد تكلف بعض الناس ثمنا باهظا.

تكروس :

لئن استلزمت بعض الشر فمن الهين أن تجزى بمثله.

منيلاووس :

ليس إلا كلمة واحدة: احذر أن تواري أياس.

تكروس :

ليس لي إلا جواب واحد: لأوارينه.

منيلاووس :

لقد رأيت رجلا عضب اللسان يشجع البحارة على أن يقلعوا أثناء العاصفة فما هي إلا أن اشتد قصف الزوبعة حتى خفت صوته، وحتى التف في ثوبه واستلقى على ظهره فالبحارة يطئونه بأقدامهم. ذلك شأنك، لغط كثير وسفه عظيم وجرأة لا حد لها، ولكن هذا كله سيخمد حين تناله أيسر ريح تبعثها سحابة هينة.

تكروس :

أما أنا فقد رأيت مجنونا يهين جيرانه في آلامهم، فيقول له رجل يشبهني حظه من الشجاعة قليل كحظي: أيها الرجل احذر أن تهين الموتى، وإلا فثق أن العقوبة نازلة بك. هذه هي النصيحة كان يهديها إلى هذا الرجل الدنيء الذي تراه عيناي الآن، والذي يخيل إلي أنه ليس إلا إياك، أترى في هذا شيئا من الخفاء؟

منيلاووس :

لأمضين فإني استخذي أن يراني الناس أعاتب باللسان حين أستطيع أن أستخدم القوة.

تكروس :

امض إذا؛ فأشد من ذلك خزيا أن أسمع لمجنون ينفق وقته في لغو الحديث. (يخرج منيلاووس)

رئيس الجوقة :

ستشتد الخصومة - فيما أرى - فأسرع ما استطعت يا تكروس في أن تجد حفرة عميقة، وتواري أياس في أرضها الرطبة حتى يشتهر قبره أبدا بين الناس. (تدخل تكمسا ومعها أوريساسيس.)

تكروس :

هذا ابن أياس وامرأته يدنوان، بل يصلان في الوقت الملائم ليهيأ قبر هذا الميت التعس. أيها الصبي: تعال هنا، ادن، وضع يدك ضارعا على جثة أبيك، أقم هنا، أدر عينك نحوه وخذ بيدك شعري وشعر أمك وشعرك أنت؛ فهذا قرباننا نحن الضارعين. وأي فرد من أفراد الجيش يجرؤ على أن ينزعك بالقوة من قرب هذا الميت، فلتقض الآلهة على هذا المجرم أن يطرد من وطنه ذليلا، وأن يموت دون أن يظفر بالقبر، وأن يحصد وتحصد أسرته كلها من أصلها بنفس الطريقة التي أجز بها هذه الخصلة من شعري.

خذها يا بني واحتفظ بها، ولا يبعدك أحد عن هذه الجثة، أقم إلى جانبها جاثيا، وأنتم كونوا رجالا كونوا أقوياء، أقيموا حوله، ذودوا عنه حتى أعود وقد هيأت قبرا لأياس برغم هذا الخطر. (يخرج تكروس)

الجوقة (في بطء وحزن) :

أي آخرة، متى تنقضي هذه الأعوام التي لا تنصب، والتي تجر علي في غير انقطاع هذه الآلام التي لا تنقضي، آلام الحرب حول طروادة الواسعة التي قضى بها الذل والشقاء على اليونان، ليته استخفى من قبل في الأرض العريضة أو في دار الموتى التي ينتهي إليها الناس جميعا، ذلك الرجل البغيض الذي علم اليونان الحرب مهما يكونوا وبأسلحة بغيضة، ما أكثر الآلام التي نشأت عن ذلك وولد بعضها بعضا، هذا الرجل أهلك الإنسانية كلها (يشتد الصوت) .

لقد حرم علي هذا الرجل أن أستمتع بالراحة بين الأهل والأصدقاء متوج الرأس مديرا للأكواب العميقة مستمعا لنغمات المزمار ناعما بلذات الحب في هدوء الليل ... لقد حرمت علي لذاته، وقضى علي أن أظل على هذا النحو مستلقيا يبل شعري هذا الندى الغزير في أرض طروادة.

لقد كان أياس منذ حين سورا يقوم من دوني لا تخيفه أهوال الليل ولا سهام العدو، فأما الآن فقد صرعه قضاء عنيف، فأي لذة، أي لذة تحتفظ بها لي الأيام؟ ليتني كنت في ذلك الوطن هناك، حيث يتقدم في البحر رأس تكلله الغابات وتلطمه الأمواج في آخر سونيوم أحي تلك المدينة المقدسة مدينة أتينا. (يدخل تكروس ويتبعه أجامنون.)

تكروس :

لقد أسرعت الخطو حين رأيت زعيم الجيش أجامنون يعدو إلى هذا المكان، ما أشك في أنه يتميز من الغيظ وسيتفجر كلاما مشئوما.

أجامنون :

أنت إذن حسب ما أنبئت الذي يجرأ في غير خوف على أن يقيء إهانة خطرة توجه إلينا، أنت ابن الأمة؟ لو أنك انحدرت من أم حرة كريمة فماذا عسى كنت تقول من لفظ تملؤه الكبرياء، وكيف كنت ترفع رأسك في السماء ما دمت - برغم أنك لست شيئا - تستطيع أن تجاهد في سبيل من مات؟ وتقسم أني حين وصلت إلى هذه الأرض لم أكن قائدا ولا زعيما لليونان ولا لك في البر ولا في البحر، بل زعمت أن أياس كان سيد نفسه حين وجه سفنه إلى هذا الساحل. أليس استماع هذا من أفواه العبيد، هو الإهانة التي لا إهانة بعدها؟ في سبيل أي شخص تملأ آذاننا بهذا الصياح الوقح؟ إلى أي مكان ذهب؟ ألم يقف حيث وقفت؟ أليس بين اليونان شجاع غيره؟ لقد كانت مسابقة نكبة تلك التي أعلناها بين اليونان على سلاح أخيل، إذا كانت نتيجتها أن يتهمنا تكروس بالجور في كل مكان، وألا يعجبك - برغم ما أصابك من الخذلان - ألا تذعن لحكم القضاة، بل تتهمنا دائما وتلقي في وجوهنا الإهانة وتسيء القالة فينا رغم هزيمتك.

مع أخلاق كهذه لا يمكن أن تسود القوانين ولا أن تستقر إذا كنا ملزمين أن ننحي الظافرين بالحق ونقدم عليهم في أول الصف من قضي بأن يتأخروا. يجب أن تحظر هذه السيرة، إن الرجل لا يتقدم بضخامة جسمه ولا ببعد ما بين منكبيه، وإنما يتقدم بالعقل والذكاء، إن السوط مهما يكن رقيقا نحيفا يكره الثور الضخم على أن يمضي في طريقه مستقيما لا ينحرف عنها، وهذا هو الدواء الذي أراه معلقا على رأسك إذ لم يثب إليك شيء من الرشد، ما دمت تجرؤ بعد أن ذهب أياس وأصبح ظلا على أن تهيننا وتواجهنا بهذه الألفاظ الوقحة، ألا تجنح إلى الاعتدال؟ ألا تندب رجلا حرا يتحدث إلينا مكانك، وقد علمت من أنت بحكم مولدك؟ فإنك إذا مضيت في الحديث لم أفهم عنك شيئا؛ لأني لا أفهم لغة الأجانب.

رئيس الجوقة :

لعل كليكما يجنح إلى الاعتدال، فهذا خير ما أستطيع أن أقدم إليكما من النصح.

تكروس :

وا حسرتاه! ما أسرع ما يجحد الناس صنيع الموتى، وما أسرع ما يتهمونهم بالخيانة ما دام هذا الرجل لا يحتفظ لك يا أياس بشيء من الذكرى مهما يكن ضعيفا. ومع ذلك فما أكثر ما عرضت حياتك للخطر، واحتملت جهود الحرب من أجله، لقد نسي كل ذلك واحتقر، وأنت الذي تحدث إلينا بكل هذا السخف ألا تذكر شيئا؟ أنسيت أنه ذات يوم أسرع وحيدا من بين الهاربين، فرد عنك العدو وأنقذك وقد كنت محصورا تفرق عنك النصير؟ لقد كان اللهب يرتفع حول مقدمات السفن وعند مقاعد البحارة، ولقد كان هكتور ينحط كالصاعقة نحو السفن بعد أن اقتحم الخنادق. من رد هذا الهجوم؟ ألم يكن أياس الذي تزعم أنه لم يتقدم قط إلى العدو بخطى ثابتة؟ ألم ترض عما فعل ذلك اليوم؟ ألم ترض عنه كذلك يوم قضى عليه الاقتراع أن يبرز لهكتور وحيدا فلم يحتل كما يحتال الضعفاء للعبث بحكم الاقتراع، وإنما دعاه وتعجله؟

لقد كنت حاضرا ذلك اليوم أنا الرقيق ابن الأجنبية. بأي جراءة أيها الشقي تستطيع أن تنطق بهذه الكلمات؟ أتجهل أن جدك لأبيك بيلوبس قد كان أجنبيا فريجيا؟ وأن أتريوس الذي ولدك قد قدم إلى أخيه طعاما بغيضا لحم أبنائه؟ وأنت لقد ولدتك امرأة من جزيرة أقريطش - كريت - أراد أبوها أن يهلكها غرقا؛ لأنه أخذها وهي تأثم مع أجنبي، تستطيع وهذا أصلك أن تهينني؟

إن أبي تليمون الذي تفوق على الجيش كله، وظفر بالجائزة فأصبحت أمي له قرينا، وكانت أمي ملكة، كانت بنت لوميدون أهداها إليه هرقل بن ألكمن، أيمكن لرجل شريف قد انحدر من أبوين شريفين أن يهين دمه؟ أيمكن أن أدعك تحرم أخي في محنته شرف القبر، دون أن تخجل من الاعتراف بذلك؟ تعلم أنك إن ألقيت هذه الجثة بالعراء في أي مكان فسنلقي معها جثثنا نحن الثلاثة،

24

فقد يشرفني أن أموت مجاهدا في سبيله أمام الناس جميعا، ذلك أشرف لي من أن أموت في سبيل امرأتك أو امرأة أخيك،

25

وبعد هذا كله فكر في نفسك لا في؛ فإنك إن أهنتني تمنيت ذات يوم لو أنك كنت ضعيفا، وأنك لم تستطع أن تسوءني. (وفي أثناء هذا الحديث يدخل أودسيوس.)

رئيس الجوقة :

أيها الملك أودسيوس تعلم أنك جئت في وقت الحاجة إليك، إن كنت قد أقبلت لا لتعقد الأشياء، بل لتصلحها.

أودسيوس :

ماذا أيها الأصدقاء! لقد سمعت من بعيد صحية الأتريين عند جثة هذا البطل؟

أجامنون :

ألم تسمع الإهانة توجه إلينا أيها الملك أودسيوس من هذا الرجل؟

أودسيوس :

ماذا قال؟ إني أعذر من وجهت إليه الإهانة إن أجاب بمثلها.

أجامنون :

لقد احتقرته كما احتقرني.

أودسيوس :

وماذا وجه إليك من الإهانة؟

أجامنون :

لقد أعلن إلي أنه لا يسمح بأن تحرم هذه الجثة شرف القبر، وأنه سيدفنها برغمي.

أودسيوس :

أيستطيع الصديق أن يقول لك الحق ويحتفظ بصداقتك؟

أجامنون :

تحدث أني إن أبيت عليك ذلك كنت أحمق، فأنت أخلص أصدقائي بين اليونان.

أودسيوس :

اسمع إذن، باسم الآلهة لا تقس على هذا الرجل ولا تلقه بالعراء في غير قبر، لا ينتصر عليك الغضب ولا يحملك على بغضه إلى هذا الحد الذي تطأ فيه العدل بقدميك. لقد كان أياس من أشد الناس عداوة لي منذ ظفرت دونه بسلاح أخيل، ومع ذلك فمهما يكن رأيه في وبغضه لي فلن أجيب على ذلك بإهانته حين أنكر أنه كان أشجعنا جميعا. نحن الذين أقبلوا لحرب طروادة لا استثني إلا أخيل، وإذن فإنك حين تهينه تأثم؛ لأنك لا تهينه وحده، وإنما تهين قوانين الآلهة. إذا صرع بطل من الأبطال كان من الإجرام أن تسوءه ولو كان موضع بغضك وعدائك.

أجامنون :

ماذا! أأنت الذي يعينه علي.

أودسيوس :

لقد كنت أبغضه حين كنت أستطيع البغض.

أجامنون :

أليس من الحق عليك أن تهينه ميتا كما أفعل؟

أودسيوس :

يا أتريوس لا يغرنك ما لك عليه الآن من فضل غير مشرف.

أجامنون :

ليس من اليسير على الملوك أن يتبعوا العدل دائما.

أودسيوس :

من اليسير عليهم أن يسمعوا لنصح الأصدقاء.

أجامنون :

إن من حق الرعية المخلصة أن تطيع ذا السلطان.

أودسيوس :

قف، أليس من الحكمة أن تذعن لنصيحة الأصدقاء.

أجامنون :

أتذكر حال هذا الذي تريد أن تكرمه الآن؟

أودسيوس :

لقد كان عدوي، ولكنه كان كريما.

أجامنون :

ماذا تزعم؟ أتزعم إجلال عدو قد مات.

أودسيوس :

إن فضله لأشد قوة من بغضي.

أجامنون :

لقد رأيت رجلا شديد الميل إلى أن يتغير رأيه.

أودسيوس :

إن من الناس من هم أصدقاؤك اليوم وأعداؤك غدا.

أجامنون :

أتود أن يكون لك مثل هؤلاء الأصدقاء.

أودسيوس :

لا أريد أن يكون لي صديق لا يلين.

أجامنون :

لتكونن سببا في أن ينظر إلينا اليونان نظرهم إلى الجبناء.

أودسيوس :

كلا، بل نظرهم إلى من يؤثر العدل.

أجامنون :

إذا فأنت تريد أن أدع هذا الجسم يوارى.

أودسيوس :

من غير شك ما دام يجب أن أهبط أنا إلى القبر.

أجامنون :

كذلك لا يعمل الإنسان إلا ذاكرا منفعته.

أودسيوس :

وأي منفعة يجب أن أذكر إذا لم أذكر منفعتي أولا؟

أجامنون :

سيقولون إن مواراته أثر من آثارك لا من آثاري.

أودسيوس :

لتنالن من الشرف بمقدار عملك.

أجامنون :

إذا، فثق بأن ليس هناك ما لا تستطيع أن تناله مني، ولكن أياس سيظل لي عدوا في دار الموتى كما كان على الأرض، لك أن تفعل ما تريد. (يخرج)

رئيس الجوقة :

من لم يعترف بعد هذا يا أودسيوس بأنك رجل حكيم فهو أحمق.

أودسيوس :

والآن أعلن إلى تكروس أني - على رغم ما كان - قد أصبحت له صديقا بعد أن كنت له عدوا، وأني أود أن أعينه على دفن الميت، وأن أحتمل معه المشقة في ذلك، ولا أهمل شيئا مما يجب أن يؤدى إلى كرام الناس.

تكروس :

ما أكرمك يا أودسيوس، إنك لخليق بالمدح من جميع جوانبك، ولقد كذبت سوء ظني بك، لقد كنت أشد اليونان عداوة لأياس، ثم ها أنت ذا وحدك تذود عنه لم تتخذ حياتك سبيلا إلى إهانة هذا الميت، كما فعل القائد المجنون وأخوه الذي أراد أن تترك جثته بالعراء، وألا توارى في التراب.

ومن أجل هذا أضرع إلى أبي الآلهة وسيد السموات، وإلى آلهة الانتقام والعدل الذين يعاقبون الناس على آثامهم في أن يهلكوا - على شر حال - هذين الشقيين كما أرادا أن يهينا أبطال الحرب. ومع ذلك فإني أتردد يابن لايرتيس في أن أخلي بينك وبين ما تريد من مشاركتنا في دفن أياس؛ لأني أخاف أن أسوء الموتى. أعنا على غير ذلك، وإذا أذنت بأن يعيننا بعض الجند على نقل الجثة لم أجد بذلك بأسا، وعلي أنا ما دون ذلك، أما أنت فثق بأني أرى فيك بطلا نبيلا.

أودسيوس :

لقد كنت أريد أن أعينك، فأما إذ لم تجد في معونتي خيرا فإني أقرك على ما ترى وأنصرف. (يخرج)

تكروس :

حسبنا ما ضاع من الوقت، فأما أنتم فأسرعوا في حفر القبر، وأما أنتم فأوقدوا النار وأسخنوا الماء الذي لا بد منه للغسل المقدس، وليمض بعضكم إلى حيث يحمل سلاح أياس الذي كان يحمله من وراء درقته، أيها الصبي أقبل - في حنان - إلى جثة أبيك، وخذ بأحد جانبيها، وأعني - ما استطعت - على إقامتها؛ فإن عروقها ما زالت تنضح دما أسود. ليسرع كل من يرى نفسه صديقا له، ليسرع إلى أداء ما له من واجب عليه؛ فقد كان كريما شجاعا لم يعدله أحد في الشجاعة ولا في الكرم.

رئيس الجوقة :

ما أكثر الأحداث التي تقع أمام أعين الناس، ولكنهم لا يستطيعون أن يتنبئوا بها قبل أن تكون.

أنتيجونا

الأشخاص

أنتيجونا.

أسمينا.

كريون.

هيمون.

تريسياس.

أوريديس.

حارس.

رسول.

والجوقة تتألف من أهل ثيبة.

تقع القصة في مدينة ثيبة عند قصر كريون.

المنظر الأول (مدينة ثيبة عند شروق الشمس أمام قصر كريون.)

أنتيجونا :

أيتها العزيزة أسمينا، أيتها الأخت العزيزة، تعرفين عدد الآلام ومقدار الشقاء الذي أورثناه أويديپوس، والذي أراد زوس أن ينغص به حياتنا كلها. لقد كان يخيل إلي أن لم يكن من الآلام والمصائب ما يبلغ مبلغ ما ليقينا قسوة وخزيا، ولكن أتعلمين أن الملك قد نشر في المدينة كلها أمرا جديدا؟ أسمعت به أم لا تزالين تجهلين المخازي التي يعدها أعداؤنا لمن هم علينا أعزاء؟

أسمينا :

وا لهفتاه! أيتها العزيزة أنتيجونا لم يصل إلي عن أحبائنا وما أضمر لهم القضاء خبر حسن أو سيئ منذ حرمنا في يوم واحد أخوينا، وقد جادا بنفسيهما معا في أثر ضربتين تبادلاهما. ولم أعلم بخير ولا بشر منذ استخفى جيش الأرجيين في ظلمة الليلة البارحة.

أنتيجونا :

لقد كنت أعلم ذلك؛ ولأجل أن أنبئك النبأ ولأتحدث معك بمعزل عن راء أو سامع دعوتك إلى الخروج من القصر.

أسمينا :

بماذا تريدين أن تنبئيني؟ يخيل إلي أن أمرا ذا بال قد شغلك واستولى عليك.

أنتيجونا :

ماذا؟ ألم يمنح كريون أحد أخوينا ما حرمه على الآخر من شرف القبر؟ لقد وفى بحق العدل والقانون (كما يذيعه أبناء ثيبة)

فأمر أن يوارى إيثيوكليس في التراب، وأن يؤدى إليه من الواجبات الدينية ما يسر نفوس الموتى، بينما أعلن الأمر ألا يدفن الشقي بولينيس ولا يبكى، وأن يترك - من غير أن يقبر أو تؤدى إليه فروض الدين - نهبا لسباع الطير التي تتأهب لافتراسه.

هذا ما أنبئت أن كريون ذا القلب الكريم سيعلنه إليك وإلي، أجل إلي أنا سيأتي هنا ليثبت أمره أمام من يجهله، وهو أمر ليس بذي الخطر القليل؛ فإن من خالفه أو حاول الخروج عليه فهو واثق بأنه سيلقى أقصى أنواع العذاب وسط المدينة وبمشهد من مواطنيه. هذا ما يعدون لك، وعما قريب ستظهرين أنك خليقة بهذا الدم الطاهر الذي منحك نعمة الوجود ...

أسمينا :

وا حسرتاه! إني لشقية تعسة! ماذا عسى أن أوثر بعد أمر كهذا؟ أأذعن له أم أنبو عليه؟

أنتيجونا :

روي، أتريدين أن نعمل معا؟

أسمينا :

إلى أي خطر تريدين أن تلقي بنفسك، وماذا تديرين في خلدك؟

أنتيجونا :

روي، أتعينني على أن ندفن هذه الجثة.

أسمينا :

أتزعمين مواراة من قد حظر على الناس هنا أن يخصوه برحمة وإشفاق؟

أنتيجونا :

أريد أن أواري أخي وأخاك، أجل هو أخوك وإن جحدت ذلك وأنكرته، كذلك لن يلومني الناس؛ لأني تركته غير مقبور.

أسمينا :

ماذا! أي أنتيجونا التعسة! أتقدمين على ذلك رغم أمر كريون!

أنتيجونا :

أله الحق في أن يقطع ما يصل بيني وبين ذوي؟

أسمينا :

آه! تدبري أيتها الأخت، إن أبانا - وقد أثقله العار والبغض - قد قضى بعد أن فقأ عينيه بيده معاقبا نفسه على ما اقترف من إثم حين عرفه، وإنه لم يكد يفعل ذلك حتى استعانت هذه الملكة التي قضي عليها الشقاء المضاعف أن ترى نفسها في وقت واحد أما وزوجا، حبلا مشئوما يستنقذها من آلام الحياة.

ثم إن أخوين تعسين قد قتل كل منهما صاحبه وقضى عليهما موت واحد في يوم واحد، والآن وقد مكثنا وحيدتين في أسرتنا فانظري أي آخرة سيئة تنتظرنا إذا اجترأنا خارجتين على القانون أن نخالف أمر السلطان ذي القوة والبأس.

فكري في أنه ليس للنساء أن ينصبن الحرب للرجال، وأن الذين يأمرون أشد منا قوة، وأن علينا أن نذعن لما يريدون ولو أنه كان أشق علينا وأعظم في نفوسنا أثرا، أما أنا فسأتوسل ما استطعت إلى الموتى أن يغفروا خطيئتي. ولئن خنعت للقوة فأنا مطيعة لمن بيدهم السلطان، فإن من الخطل أن يعرض الإنسان لما لا يستطيع إنفاذه.

أنتيجونا :

لن ألح عليك بعد، ولئن أردت الآن أن تشاركيني فيما أريد أن أفعل فأنا لهذه الشركة رافضة، افعلي ما تؤثرين. أما أنا فموارية أخي، فإذا أديت هذا الواجب فما أجمل بي أن أموت، ولئن مت فإنما أنا صديقة لحقت بصديقها، سأؤدي واجبا عدلا ملؤه التقوى؛ لأن الوقت الذي سأروق فيه إلى الموتى أطول من الوقت الذي سأروق فيه إلى الأحياء، فسأكون قرينته أبد الدهر، أما أنت فإن شئت فازدري ما يجل الآلهة.

أسمينا :

بعيد ما بيني وبين هذا الازدراء، ولكني أضعف قوة من أن أخرج على الدولة.

أنتيجونا :

اتخذي لك من هذه المعذرة وقاية، بينما أحاول أنا تأدية الواجب وإقامة القبر لهذا الأخ العزيز.

أسمينا :

لهف نفسي عليك أيتها الأخت الشقية! إن فرائصي لترتعد إشفاقا عليك!

أنتيجونا :

لا تشفقي على حياتي، واجتهدي في المحافظة على حياتك.

أسمينا :

ولكن على أقل تقدير لا تبيحي سرك لأحد، اكتميه على الناس كما سأكتمه أنا أيضا.

أنتيجونا :

كلا، كلا، سارعي إلى إفشائه، إنك لتسيئين إلي بكتمانه أكثر مما تسيئين إلي بإذاعته.

أسمينا :

إنك لتسرفين في العناية بجسم هامد.

أنتيجونا :

ولكني أعلم أن ذلك يروق من أريد أن أرضيهم.

أسمينا :

نعم، إذا استطعت تنفيذ ما تريدين، ولكنك تحاولين محالا.

أنتيجونا :

لا بأس، سأقف حيث تنتهي قواي.

أسمينا :

خير لك أن تبدئي بألا تحاولي ما لا تستطيعين.

أنتيجونا :

كلما حاولت سلوك هذا الطريق بعثت سخطي عليك واستوجبت من أخيك عداءه العدل، دعيني وما أحاول، ألقى ما يضمر لي القدر، فليس من المصائب والآلام ما يحول بيني وبين ما أطلب من موت ماجد.

أسمينا :

دونك وما تريدين؛ ما دمت عليه حريصة، ولكن لا تنسي حين تقدمين على هذا الخطل أنك لا تزالين عزيزة على أصدقائك.

الجوقة :

أي أشعة الشمس النقية وعين النهار المبصرة، ها أنت ذي تعودين إلى الإشراق يجلوك ضوء شديد البهجة والرواء، على ثيبة ذات الأبواب السبعة تمشين فوق ينابيع دركا وتحملين على الهرب والفرار في ضجيج وعجيج. هذا الأرجي تحميه درقة لامعة، أديستوس هذا الذي أقبل في عدد وعدة يحصر أسوارنا، لقد كان يشتعل غيرة وحماسة منتصرا لمزاعم بولينيس.

لقد طار يمشي ممزقا الهواء بصراخه كالنسر ينقض على فريسته، وقد بسط جناحيه يجلوهما بياض البرد، يتبعه جمع ضخم من السلاح والخوذ، وقف على أسوارنا وقد أحاطت به أسنته عطاشا إلى دمائنا، لقد كان يخيل إلى من يراه أنه يوشك أن يلتهم أبواب المدينة. ولكنه اختفى قبل أن تنقع دمائنا غلته، وقبل أن تحيط نيرانه الملتهبة ببروجنا ومعاقلنا؛ لأن أريس صديق الثعبان الذي كان يهاجمه هذا العدو قد ملأ أذنيه بما أحدث من ضوضاء، إن زوس ليمقت الغطرسة والكبرياء، لقد رأى أمواج الأرجيين تسعى إلينا حثيثة، وقد زهاهم صرير أسلحتهم الذهبية، فأرسل على أحدهم صاعقته الملتهبة حين كان يمني نفسه أن يتغنى على أسوارنا نشيد الانتصار.

انظر إلى هذا البطل في يده جذوة من النار وقد خر صعقا، هذا الذي قد كان منذ حين مقداما شديد الجرأة كأنه الزوبعة القاصفة، ما أسرع ما تغير كل شيء، وما أسرع ما ألقى أريس ذو القوة والبطش مقاتلا في ميمنتنا على صفوف أعدائنا ما كانوا قد أعدوا من شر ووبال.

لقد ترك الزعماء السبعة الذين كانوا يحاربون مثلهم من زعماء ثيبة لنا أسلحتهم اللامعة لنرفعها آية مجد وعز إلى زوس منتصرا، ولم يبق إلا هذان الشقيان منحهم الحياة دم واحد، فأمضى كل منهما رمحه في صدر صاحبه، وكان لهما من الموت مورد واحد. ولكن النصر الذي يخلد الأسماء قد زار ثيبة فأنزل فيها الفرح والسرور منزل الحزن والألم.

إذا فدعوا عنكم ذكرى الحرب يا معشر أبناء ثيبة! ولنذهب إلى معابد الآلهة فنقبلها طوال الليل، وليقم ديونوسوس - بعد أن أمدنا جميعا بنشوته - من ألعابنا مقام الرئيس، ولكن هذا كريون بن مينيكيوس ملكنا الجديد الذي ولته أمورنا نعمة الآلهة، إنه ليقبل وكأنه يدير في خلده أمرا ذا خطر، فإن أمرا منه قد جمعنا الآن ليؤلف منا مجلس شوراه من جماعة الشيوخ.

كريون :

أيها الشيوخ، لقد أنقذ الآلهة من الغرق هذه المدينة التي كانت تكتنفها زوبعة قاصفة، وقد أردت أن أجمعكم هنا خاصة دون بقية المواطنين؛ لأني أعلم مقدار ما تضمرون من الإجلال لصولجان لايوس، وأعلم أيضا مقدار ما احتفظتم به من الوفاء لأويديپوس في حياته ولأبنائه من بعده، أما الآن وقد قضى كل من الغالب والمغلوب على صاحبه فقتل الرجلان وقضى عليهما قضاء واحد، فأنا صاحب الملك بحق الوراثة.

ليس من سبيل إلى أن تعرف نفس الرجل وذكاؤه وأخلاقه إذا لم يجلس مجلس الحكم، ولم يوكل إليه تدبير الدولة وحماية قوانينها. أما أنا فأعتقد وقد اعتقدت دائما أن ذلك الرجل الذي يكلف الحكومة وحماية القوانين فلا يقف نفسه على النصح للدولة وتحية كل شيء في سبيلها، بل يمنعه الخوف من ذلك؛ أعتقد أن هذا الرجل شرير ممقوت، ولا أستطيع إلا أن أزدري ذلكم الذي يؤثر منفعة الصديق على منفعة الوطن، يشهد علي بذلكم زوس الذي يحيط بكل شيء. لن أخفي ما يحدق بالمدينة من خطر أو يهدد راحة مواطني، ولن يكون صديقا لي من هو للدولة عدو، فإني واثق كل الثقة أن سلامتنا في سلامة الدولة، وأن وجود الأصدقاء ميسور إذا جرت سفينة المدينة آمنة هادئة.

على هذه القاعدة أريد أن أرفع شأن الدولة، وأوفر عليها أسباب النعيم، ومن هذه القاعدة نشأ ما أصدرت من الأمر في شأن ابني أويديپوس، أريد أن يقبر إيثيوكليس الذي امتاز بالشجاعة والإقدام، ووقف بيننا موقف المدافع عن وطنه، وأن تقام له الواجبات الدينية التي تؤدى إلى نفوس عظماء الرجال، أما بولينيس الذي خرج من وطنه طريدا فعاد إليه ومعه جيش من العدو ليدمره ويحرق أسواره وآلهته، وليجعلنا أرقاء، ولينقع غلته من دمائنا فقد أمرت أن لا يدفن ولا يبكى، وأن يكون جسمه بالعراء فريسة للكلاب وسباع الطير.

ذلكم ما أريد وما آمر به، فلن تنال الجرائم مني من المكافأة والجزاء ما هو موقوف على الفضيلة، فمن أبلى في خدمة وطنه بلاء حسنا فله مني الشرف وحسن المكافأة حيا وميتا.

الجوقة :

يابن منيكيوس! ما أحسن ما ادخرت لعدو الدولة وصديقها من جزاء، إنك لتملك تدبير القوانين، وإنا - على اختلاف طبقاتنا - لخاضعون لها أثناء الحياة وبعد الموت.

كريون :

إذا فاحرصوا على تنفيذ ما أمرت به.

الجوقة :

كلف هذا الواجب من هم أشد منا قوة وأكثر شبابا.

كريون :

قد كلفت من يجب عليهم حراسة جسم بولينيس، وهم الآن يقومون بعملهم.

الجوقة :

إذا فماذا تريد منا؟

كريون :

أن لا ترقوا ولا تلينوا لمن يخرج عن أمري.

الجوقة :

ليس بين الناس من فقد الرشد إلى حيث يسعى إلى الموت.

كريون :

هذا في الحق جزاء المخالفين، ولكن الأمل يذكيه حب المال كثيرا ما ساق الناس إلى الموت. (يقبل حارس مختلط الهيئة يتكلم بعد تردد طويل.)

الحارس :

لا أقول لك إني قد طرت إلى هذا المكان سريع الخطى، فإن الخواطر المختلفة التي كانت ملء نفسي في هذه الطريق قد اضطرتني إلى أن أرجع أدراجي أكثر من مرة.

فقد كان قلبي يحدثني مرة قائلا: أيها الشقي! ما بالك تسرع إلى ما ينتظرك من العقاب؟ ومرة أخرى: أيها التعس! ماذا يقف بك؟ لو أن كريون علم هذا النبأ من غيرك فأي عذاب قد قدر لك؟ وأنا في هذا الاضطراب والتردد لم أكن أتقدم إلا بطيئا، فإن أقصر الطرق يطيله مثل هذا التردد، وبعد فقد أكرهت نفسي وأتيت.

سأتكلم وإن كنت لا أستطيع أن أشرح لك شيئا، فإني قد جئت وأنا واثق أني لن ألقى إلا ما قدره لي القضاء.

كريون :

ما مصدر هذا الاضطراب الذي أراك فيه؟

الحارس :

سأتكلم عما يتعلق بي، فلست أنا مقترف الذنب، ومن الجور أن أعاقب على ما لم أقترف.

كريون :

إنك لحسن السعي إلى غايتك، وإنك لتحسن الحيطة والاحتراس، ولكن يخيل لي أنك تحمل إلي نبأ جديدا.

الحارس :

ليس من اليسير أن يسرع المخبر إذا كان يحمل نبأ سيئا.

كريون :

وبعد فأدل بما عندك ثم انصرف إذا أديت رسالتك.

الحارس :

لك الطاعة، قد دفنت الجثة، ووريت في التراب، وأقيمت الواجبات العادية واستخفى من أقامها.

كريون :

ماذا تقول؟ وأي الناس استطاع أن يجرؤ على هذا؟

الحارس :

لا أدري، فلم يظهر لنا أن الأرض في هذا المكان قد احتفرت أو عملت فيها الفئوس، لقد كانت كما هي مستوية يابسة، ويخيل إلينا أنها لم تتأثر بمرور عجلة ما. وعلى كل حال فلم نجد أثرا ما يدل على مقترف الجريمة، لم يكد ينبئنا بذلك الحارس الذي كانت عليه النوبة مطلع الفجر، حتى رأينا فيه معجزة ليس إلى تصورها من سبيل.

قد اختفى الجسم ولم يكن مدفونا إنما كان يواريه بعض التراب، كأنما أراد المجرم أن يتقي الخطيئة ليس غير، ولم يكن يظهر من الآثار ما يدل على أن الكلاب الجياع أو السباع المفترسة قد أقبلت تتخذ هذا الجسم نهبا. لم نكد نعلم بذلك حتى أخذ بعضنا يهين الآخر، كل يتهم صاحبه، لقد كدنا نقتتل، ولم يكن بيننا من يستطيع أن يمنعنا من ذلك، كلنا كان مجرما، ومع ذلك فليس منا من يظهر أنه مجرم، أو من كان يمكن اتهامه بذلك من غير شك.

لقد كنا جميعا مستعدين لأن نأخذ الحديد الملتهب بين أيدينا، وأن نمشي على النار، وأن نقسم بالآلهة أنا لا نعرف من أمر هذه الجريمة شيئا، لم نشعر بإعدادها، ولم نشهد تنفيذها، فلما يئسنا من استكشاف أي شيء عرض أحدنا علينا رأيا جمدت له الدماء في عروقنا هلعا وغضت له أبصارنا، فقد كنا لا نستطيع إنكاره، ولا نستطيع تنفيذه من غير أن نتعرض للهلكة.

كان هذا الرأي ألا نخفي عليك شيئا، وأن نفضي إليك بكل ما جرى، أجمعنا على قبول هذا الرأي، ووقع اختيار الحظ علي أنا الشقي التعس لأظفر بهذه الزلفى؛ لذلك أجدني هنا الآن على كره مني وعلى كره منك أيضا، فليس مما يبعث على الرضى والاستبشار حمل الأنباء السيئة.

الجوقة :

مولاي! إني لأسأل نفسي حائرا: أليس هذا الأمر عمل الآلهة؟

كريون (للجوقة) :

دعوا هذا اللغو الذي يثير غضبي، ولا يدل إلا على تقدم سنكم وضعف عقولكم، ومن ذا الذي يستطيع أن يسمعكم تقولون: إن الآلهة قد نزلوا إلى العناية بهذا الميت؟ أتظنون إذا أن الآلهة قد حرصوا على أن يشرفوه تشريف الأخيار، فواروه، وهو الشقي الآثم الذي جاء ليحرق صورهم وتماثيلهم، ويدمر أرضهم وقوانينهم؟ أرأيتم قط أن الآلهة شرفوا مجرما؟ كلا، ولكن هذا عمل الساخطين الذين يهزون رءوسهم سرا وينالونني بالذم.

والذين لا يذعنون لحكمي إلا كارهين، ولا يضمرون لي إلا العداوة والبغضاء، هؤلاء هم الذين واروا هذا المجرم رغبة في المكافأة، ذلك شيء لا أشك فيه، فإن المال أشد ما اخترعه الإنسان خطرا، المال يدمر المدن ويفني الدول ويفسد الطبائع الخيرة فيجعلها شريرة آثمة، هو الذي ألهم الناس كل خيانة، وحملهم على كل جور، ولكن الذين باعوا أنفسهم واقترفوا هذا الإثم إنما أعدوا لأنفسهم عذابا أليما عهدهم به غير بعيد.

أجل، إذا كان من الحق أني لا أزال أكبر «زوس» وأجله فثقوا - وأنا مقسم لكم بهذا - أنكم إذا لم تستكشفوا المجرم ولم تقودوه بين يدي فالموت وحده لا يكفي لعقابكم. يجب أن تصلحوا ما قدمتم إلي من الإساءة معلقين في الهواء أحياء، سترون إلى أي حد يجب أن تمتد منافعكم، وإلى أي حد يجب أن ينتهي شرهكم، فقد أرى أن المنفعة غير المشروعة تضيع أكثر الناس.

الحارس :

أيتاح لي أن أتكلم أيضا؟ أم يجب علي أن أعود أدراجي؟

كريون :

ألم تعلم بعد أن كلامك يؤذيني أشد الإيذاء؟

الحارس :

أيؤذي كلامي أذنك أم قلبك؟

كريون :

ماذا! أتسأل أين مقر حزني؟

الحارس :

قد جرح المجرم قلبك، أما أنا فلم أسئ إلا إلى أذنيك.

كريون :

إنك لراغ ثقيل.

الحارس :

ولكني بريء من الإثم.

كريون :

إنك لتستطيع أن تبذل حياتك في سبيل المال.

الحارس :

إن الظن لإثم عظيم إذا لم يقم على أساس متين.

كريون :

انثر بيننا الآن فرائد الحكم، ولكن ثق بأنكم إذا لم تقودوا إلي المجرم فستعلمون أن الربح غير المشروع يستتبع العذاب الشديد.

الحارس :

لعل الآلهة تمكننا من استكشافه (يكلم نفسه)

ولكن سواء استكشف أم لم يستكشف فإن المصادفة وحدها صاحبة الكلمة في ذلك، فلست أخشى أن تراني هنا، لقد نجوت رغم مخاوفي، وما كنت آمل النجاة فلأشكر ذلك للآلهة.

الجوقة :

لقد ملئ العالم بالمعجزات، ولكن لا أشد إعجازا من الإنسان، هو الذي يستعين الهواء القاصف على أن يطير بعد أن اتخذ للسفن أجنحة، فيعبر البحر الملتطم وهو يبيض من حوله. هو الذي يستخدم الخيل والمحراث؛ ليمزق - في كل سنة - جوف الأرض، هذه الإلهة الجليلة التي لا تعيا لا ينالها الفساد.

هو الإنسان حول يوقع في ثنايا شباكه أنواع الطير الهوج وأنواع الحيوان المفترس وبنات البحر، يذلل بمهارته أشد سكان الغابات وحشية، ويستخدم لسلطانه السوابق ذات الأعراف العراض، وثيرة الجبال تأبى على من يريد تذليلها. تعلم المنطق، وعرف مذاهب الريح، أدرك سلطان القوانين على المدن.

عرف كيف يقي مساكنه سهام البرد والرطوبة، سبر كل شيء بتجربته، ووجد من الحيل ما يتقي به أحداث الزمان، واستكشف ما يحول بينه وبين أشد العلل قسوة وأعظمها فتكا. الموت وحده هو العلة التي لم يستطع أن يجد عنها محيصا.

على أن مهارته وافتنانه في الحيلة لا تطيعان أمله دائما، فهما إن أعانتاه على إدراك الخير فقد توقعانه في الشر، خليق بالشرف والكرامة في وطنه هذا الرجل وحده الذي يجل قوانين بلده وعدل الآلهة المقدسة، فمن جرؤ على مخالفتها والخروج عليها فليس من وطنه في شيء.

وددت لو لم تجمع بيني وبينه دار، ولم تصل بيني وبينه صلة، ولكن أي معجزة أشهد! كيف أستطيع أن أناقض عيني ولا أعرف أنتيجونا! فتاة شقية لأب منكود! ماذا؟ أأنت التي خالفت عن أمر الملك؟ أنت التي جنت هذه الجناية الحمقاء! أنت التي تقاد؟

الحارس (وهو يقود أنتيجونا) :

نعم، ها هي ذي التي اقترفت الإثم، لقد أخذناها وهي تدفن يولينيس، ولكن أين كريون؟

الجوقة :

ها هو ذا يخرج من قصره وقت الحاجة إليه.

كريون :

ماذا وأي فوز تعس جئت تعلن إلي؟

الحارس :

مولاي، لا ينبغي أن نقسم على شيء، فكثيرا ما نرى الرأي فيكذبه الرأي الذي يليه.

لقد أخافني وعيدك، فأزمعت ألا أظهر مرة أخرى في هذا المكان، ولكن أتوجد سعادة تشبه هذه السعادة التي ظفرنا بها ولم نكن نجرؤ أن نطمع فيها؟ ها أنا ذا أعود رغم قسمي، وأقود إليك هذه الأميرة، فقد فاجأتها وهي تؤدي إلى الميت شرف الدفن، ولم نحتج هذه المرة إلى أن نستشير القرعة، فقد أسرعت، وأنا وحدي أقودها إليك، لا يشاركني أحد في هذا المجد.

والآن يا مولاي عاملها كما ترى، اقض عليها، سلها، أما أنا فمن العدل وقد أديت واجبي وحررت نفسي من أغلاله أن أخلص من سوء ظنك بي.

كريون :

كيف وأين أخذتها لتقودها إلي؟

الحارس :

كانت تدفن الجثة، إنك لتعلم الآن كل شيء.

كريون :

ولكن أتفقه حقا ما تقول؟ ألست مخدوعا؟

الحارس :

رأيتها معنية بدفن هذا الأمير الذي حرمته القبر، أما يزال في كلامي شيء غامض أو مبهم؟

كريون :

وكيف رأيتموها؟ وكيف أخذتموها؟

الحارس :

إليك وصف هذا كله، لم نكن نعود إلى مخفرنا حتى يأخذنا الإشفاق من وعيدك القاسي، فنزيل التراب عن جثة بولينيس، ونترك عاريا هذا الجسم الدامي قد أخذ فيه الفساد، ثم نصعد إلى ربوة قريبة فنجلس عليها اتقاء لريح هذا الجسم، وقد أخذ بعضنا يحرض بعضا بكلمات لاذعة على تأدية الواجب في غير إهمال ولا تقصير.

ولبثنا على هذه الحال حتى صعد ذلك القرص اللامع، قرص الشمس في الهواء، فأشعله بنيرانه، وما هي إلا أن تبعث السماء طائفا من شرها عاصفة قاصفة تثير فوق الأرض سحابا من التراب، تملأ به الفضاء، وتجرد الأشجار من زينتها، فنثبت لهذه الزوبعة، وقد أغمضنا عيوننا ولا تكاد تسكن حتى تظهر لنا هذه الأميرة الشابة، وكانت تبعث صيحات عالية كصيحات الطير، وقد رأت عشها خلوا من صغارها.

نعم أمام هذا الجسم العاري كانت تملأ الهواء بشكاتها ولعناتها على الذين نالوه بهذه الإهانة، ثم تسرع وقد سترت هذا الميت بتراب يابس، إلى أن تسقيه ثلاث مرات من إناء من النحاس المطروق.

هنالك نطير إليها ونسرع جميعا إلى أخذها ، فلا تظهر خوفا ما، نسألها عن هذا الإثم وعما سبقه، فتعترف بهما جميعا، ووقع هذا الاعتراف في نفسي لذيذ ومؤلم معا، فإذا لم يكن شيء أحب إلينا من أن ننجو من الشر الذي يتهددنا فإن من المؤلم أن نعرض لهذا الشر أصدقاءنا، ولكن لا ينبغي أن يكون شيء أعز علي من نفسي.

كريون (لأنتيجونا) :

ماذا! أتظلين مطرقة إلى الأرض من غير أن تنكري ما تؤخذين به!

أنتيجونا :

كلا، بل أنا أعترف به، وأنا أبعد الناس من إنكاره.

كريون (إلى الحارس) :

انصرف واذهب حيث شئت فلا بأس عليك. (إلى أنتيجونا)

أما أنت فأجيبيني من غير محاولة، أتعلمين أني قد كنت حظرت مواراة بولينيس.

أنتيجونا :

نعم، أعلم ذلك، وهل كان يمكن أن أجهله وقد أعلن إلى الناس كافة؟

كريون :

وكيف جرئت على مخالفة هذا الأمر؟

أنتيجونا :

ذلك لأنه لم يصدر عن «زوس» ولا عن «العدل» مواطن آلهة الموتى، ولا عن غيرهما من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم. وما أرى أن أمورك قد بلغت من القوة بحيث تجعل القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والإذعان من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين، تلك القوانين التي لم تكتب، والتي ليس إلى محوها من سبيل.

لم توجد هذه القوانين منذ اليوم ولا منذ أمس، هي خالدة أبدية، وليس من يستطيع أن يعلم متى وجدت، ألم يكن من الحق علي إذن أن أذعن لأمر الآلهة من غير أن أخشى أحدا من الناس؟ قد كنت أعلم أني ميتة، وهل كان يمكن أن أجهل ذلك حتى لو لم تنطق به؟ لئن كان موتي سابقا لأوانه فما أرى في ذلك إلا خيرا.

ومن ذا الذي يعيش من الآلام في مثل هذه الهوة التي أعيش فيها ثم لا يرى الموت سعادة وخيرا، فأنت ترى أني لا أرى هذه الآخرة كأنها عقوبة.

ولقد كنت أتعرض لما هو أشد لنفسي إيذاء لو أني تركت بالعراء أخا حملته الأحشاء التي حملتني.

ذلك وحده هو الذي كان يجعلني نهب اليأس والقنوط، أما ما دونه فما كان ليحزنني أو يؤثر في، فإذا قضيت بعد ذلك على ما فعلت بأنه نتيجة جنون، فمثل هذا القضاء لا يصدر إلا عن أحمق مأفون.

الجوقة :

إن أخلاق «أويديپوس» لتظهر واضحة، في هذه الأخلاق شدة لا تعرف اللين وعزة لا ينال منها الشقاء.

كريون (للجوقة) :

ثقوا بأن هذه الأنفس الآنفة سريعة الانكسار، ألا ترون إلى الحديد - على شدته وصلابته - كيف تعمل فيه النار فتلينه وتثنيه، أليست أقل شكيمة تكفي لتذليل أشد الجياد إباء وشموسا؟ مثل هذا الكبر لا يحسن بمن كان عبدا لذوي قرابته، قليل ما فعلت من مخالفة القانون. فهي تجرأ على معارضتي وتضيف إلى هذه الإهانة إهانة أخرى فتعجب بما فعلت، إذا فمن الحق علي أن لا أكون رجلا وأن تكونه هي لو أني تركتها تستمتع بما انتحلت من السلطان من غير أن تلقى في ذلك ما هي أهل له من العقاب ... نعم ستلقى ما هي أهل له من العذاب ولو وصلت بينها وبين إلهنا المقدس - زوس حامي الأسرة - أوثق الصلات، ستلقاه هي وأختها، فلا شك في أن أختها قد قاسمتها ما اقترفت من إثم، فعلي بها، لقد رأيتها منذ حين وإنها لتكاد تفقد الرشد، إن قلبا يدبر الجريمة في الخفاء، ينم على نفسه من غير عناء، ما أشد بغضي لهؤلاء الذين يؤخذون وهم يقترفون الإثم فيحاولون تزيينه وتنميقه.

أنتيجونا :

أتتمنى أكثر من موتي؟

كريون :

لا! تقر عيني حين أشهد مفارقتك لهذه الحياة.

أنتيجونا :

فما يمنعك من أن تأمر بها، وما ينفعك هذا الكلام الذي لا طائل فيه، والذي يزيد سخطي، كما أن كلامي لا يستطيع أن يرضيك؟ وأي مجد أحب إلي من أني قد واريت أخي؟ وأي مدح لا يهديه إلي السامعون لو لم يعقد ألسنتهم الخوف؟ ألا إن أكبر مزايا الظلم أن يستطيع أن يقول ويفعل ما يريد من غير أن يخشى عقوبة.

كريون :

أتظنين أنك أبعد نظرا من أهل «ثيبة» جميعا؟

أنتيجونا :

إنهم يرون رأيي، ولكنهم يلتزمون الصمت بين يديك.

كريون :

ألا يخزيك إذا أن تسلكي سبيلا غير التي سلكوها؟

أنتيجونا :

ليس هناك ما يحمل على الخزي إذا شرف الإنسان من يصل الدم بينهم وبينه.

كريون :

ماذا؟ أليس أخاك أيضا هذا الذي مات في سبيل وطنه!

أنتيجونا :

هو أخي لأبي وأمي.

كريون :

فأي شرف آثم قدمت إليه؟

أنتيجونا :

ليست هذه الشهادة هي التي أنتظرها منه.

كريون :

إنك تسوين بينه وبين المجرم.

أنتيجونا :

إن «بولينيس» أخو «إيثيوكليس» لا عبده.

كريون :

لقد جاء يدمر وطنه بينما قاتل الآخر للدفاع عنه.

أنتيجونا :

سواء على ذلك، فإن «أديس» هو الذي يأمرني بتشريفهما جميعا.

كريون :

ماذا! أيأمرك «أديس» بالتسوية بين الجريمة والفضيلة؟

أنتيجونا :

ومن يدري، أيقبل الموتى تمييزك بين الأشياء!

كريون :

إن أعداءنا لن يصبحوا أصدقاءنا بعد الموت؟

أنتيجونا :

ولدت لأحب لا لأبغض.

كريون :

هذا حسن، اذهبي إلى الجحيم فأحبي من شئت، أما أنا فلن أذعن لسلطان امرأة ما حييت.

الجوقة :

أرى أسمينا الحنون مشفقة على أختها، قد انهمرت دموعها أمام باب القصر، قد ستر عينيها سحاب من الألم فغير وجهها فهو مصبوغ بالدم تنهل دموعها على خديها الأسيلين.

كريون (لأسمينا) :

أقبلي، أنت التي تزحف كالثعبان محاولة من وراء ستار أن تنقع غلتها بدمي، ما كنت أعلم أني أطعم في بيتي عدوين خطرين على دولتي. أقبلي ونبئيني، أشاطرت أختك دفن «بولينيس»، أم تقسمين أنك لم تعلمي بهذا الأمر؟

أسمينا :

هذا الأمر! لقد أخذت بحظي منه، ولئن سمحت لي أختي بأن أقول الحق، فعلي أن آخذ نصيبي من الذنب.

أنتيجونا :

العدل يحظره عليك، لقد سألتك المعونة فأبيتها، وقمت بما قمت به منفردة.

أسمينا :

ولكني حين أراك شقية لا أتردد في أن أشاركك في الشقاء.

أنتيجونا :

لقد علم الجحيم وسكانه من قام بهذا العمل، لا أستطيع أن أحب من تتجاوز محبته الكلام.

أسمينا :

لا تحرميني أيتها الأخت شرف الموت معك، وأني قد قمت لأخي بالواجب الديني.

أنتيجونا :

إياك أن تموتي معي، وأن تنتحلي لنفسك شرفا لم تأخذي منه بنصيب، موتي وحدي يجب أن يكفي.

أسمينا :

كيف أستطيع أن أحب الحياة إذا فرق الدهر بيني وبينك؟

أنتيجونا :

اطلبي ذلك إلى كريون فأنت له شديدة الإخلاص!

أسمينا :

لم تؤذينني بهذه السخرية المرة، وما نفعها؟

أنتيجونا :

لم أسمح لنفسي بذلك إلا راغمة متألمة.

أسمينا :

ماذا عسى أن أفعل الآن لأنفعك؟

أنتيجونا :

احتفظي بحياتك فلست أحسدك عليها.

أسمينا :

إني لشقية تعسة! ماذا! أليس لي أن أقاسمك ما قدره القضاء.

أنتيجونا :

قد آثرت الحياة، وآثرت أنا الموت.

أسمينا :

لقد كنت أنبأتك بهذا كله.

أنتيجونا :

تعجبين بما في كلامك من حكمة، وأنا أعجب بما في كلامي من غناء.

أسمينا :

آه! لقد استوى حظنا من الجريمة.

أنتيجونا :

طيبي نفسا بالحياة، لقد ماتت نفسي منذ أمد بعيد وأصبحت لا تنفع إلا الموتى.

كريون :

لست أخشى أن أقول: إن هاتين الأختين لمأفونتان، إحداهما كانته دائما، والأخرى قد بدأت تكونه منذ الآن.

أسمينا :

أيها الملك لا يستطيع العقل أن يثبت على حاله الطبيعية حين يبلغ الألم أقصاه.

كريون :

مهما يكن من شيء، فهذا نصيبك حين أردت مشاركة الأشرار في الشر.

أسمينا :

ما عسى أن تكون حياتي وحدي وبدونها.

كريون :

لا تذكريها فقد ماتت.

أسمينا :

ماذا؟ أتقتل خطب ابنك.

كريون :

هناك أرض أخرى يمكن أن تحرث.

أسمينا :

ليس هذا ما اتفقا عليه.

كريون :

إني لأكره شرار النساء لأبنائي.

أسمينا :

أيها العزيز هيمون، ما أشد ما يزدريك أبوك.

كريون :

إنك لتثقلين علي بهذا الزواج.

الجوقة :

أحقا أنك ستحرم ابنك إياها؟

كريون : «هادس» هو الذي سيقطع هذا الزواج.

الجوقة :

إذا فقد قضى عليها بالموت.

كريون :

إن رأيك هو رأيي. (للخدم)

لا تبطئوا قودوهما إلى القصر أيها العبيد، وأحكموا غلهما وحولوا بينهما وبين الحرية؛ فإن الشجعان أنفسهم يفرون حين ينذرهم «هادس» بالموت. (يذهب الخدم ومعهم الفتاتان.)

الجوقة :

سعيد هذا الذي لم يذق ثمرة الشر، إذا غضب الآلهة على أسرة، ألح الشر في غير مهلة على ذريتها، كذلك موج البحار، حين تدفعه الريح العاصفة من تراقيا، فيكتسح سطح هوة البحر، ويحرك في الأعماق ذلك الرمل الأسود الذي يثيره الهواء، بينما يصخب الساحل ويئن حين يضربه الماء .

إني لأرى منذ زمن بعيد في أسرة لبدكوس مصائب وأهوالا يتبع بعضها بعضا؛ تضاف آلام الباقين إلى آلام السابقين، دون أن يعفي جيل منها الجيل الذي يليه، وإن الإله ليلح عليها بغضبه، لا ملجأ لها، لقد كان شعاع الأمل ينتشر في بيت أويديپوس حول آخر ذريته، فانظر إلى هذا التراب الدامي يقدم إلى آلهة الموتى، وإلى كلمات حمقاء وعقل مضلل، إنها لتمحو هذا الشعاع (في بطء)

أي زوس، أي كبرياء إنسانية تستطيع أن تقف قوتك؟ لن يستطيع النوم الذي يقود الكائنات كلها إلى غاياتها أن يسيطر على القوة، إنك لفي أمن من الشيخوخة لتملك متسلطا على هذه البهجة المشرفة في أولمبوس سيسيطر أبدا كما سيطر دائما هذا القانون.

لن يعظم حظ الناس من السعادة حتى يمازجها الشقاء، إن في الأمل المضطرب لخيرا لكثير من الناس، ولكنه لكثير من الناس أيضا ليس إلا خداعا من رغباتهم الساذجة، لا يعرف الإنسان شيئا ولكن الأمل ينساب فيه، فيدفعه حتى تحرق النار قدميه، ما أبلغ هذه الحكمة السائرة: إن الشر ليظهر خيرا لمن يدفعه إلى التهلكة، فليس هو بمأمن من المصائب إلا وقتا قصيرا. (يدخل هيمون من الباب المتوسط.)

الجوقة :

هذا هيمون، أحدث أبنائك سنا، أتراه يقبل محزونا لما أصاب أنتيجونا التي كاد يتزوجها، أتراه يبكي زواجه الضائع.

كريون :

عما قليل سنعلم هذا خيرا مما يعلمه الكهنة، أي بني، ألم تأت وقد عرفت القضاء الصارم على خطبك ثائرا على أبيك؟ أم لا نزال عليك أعزاء مهما تكن أعمالنا؟

هيمون :

أي أبت، أنا لك، وإن نصائحك لترشدني وإني لها لمذعن، وما كنت لأؤثر زوجا كائنا ما كانت على إرادتك العادلة.

كريون :

هذه هي القاعدة التي ينبغي أن تحرص عليها يا بني! لكل شيء إبانه بعد قرار الآباء. إن الباعث الوحيد الذي يبعث الرجال على أن يتمنوا أن تولد لهم وتنشأ في بيوتهم ذرية مطيعة إنما هو أن يعين الأبناء آباءهم، فيصبون الشر على أعدائهم، ويقدمون الشرف إلى أصدقائهم.

فأما الذي يولد له أبناء غير كفاة فماذا صنع أكثر من أن خلق لنفسه مصادر الألم ولأعدائه مصادر السخرية منه؟ فاحذر يا بني أن تضيع - في سبيل اللذة ومن أجل امرأة - هذا الشعور الذي يملأ قلبك. واعلم أنها باردة جدا في البيت تلك القبلات تنالها من قرينة سيئة، وأي شر في الأرض أقبح من صديق سيئ؟

فادفع إذا هذه الفتاة كما لو كانت لك عدوا، وأرسلها إلى الجحيم تقترن فيه بمن تشاء، فقد أخذتها وإنها لتظهر العصيان وحدها بين أهل المدينة، لن أظهر نفسي أمام المدينة مظهر الكاذب، لأقتلنها، فلتدع زوس إلهة الأسرة فإني إن أبق على أبناء أسرتي رغم ثورتهم فما أجدر ذلك أن يكون حقا لغيرهم.

ومن أحسن التصرف لأمور بيته فهو خليق أن يصرف أمور الدولة بالعدل، وما كان لمن يخرج على القانون أو يزعم لنفسه التسلط على أولي الأمر أن ينال مني ثناء، إنما يجب لمن ولته الدولة أمورها أن يطاع في كل شيء صغيرا كان أو كبيرا، عدلا كان أو جورا.

وإني لواثق بأن من أطاع على هذا النحو كان خليقا أن يأمر فيحسن الأمر كما يطيع فيحسن الطاعة، فإذا تعرض لعواصف الحرب كان فيها وليا أمينا شجاعا، لا أعرف خطرا أشد نكرا من العصيان، فهو الذي يدمر المدن ويفسد أمور الأسر ويقضي بالهزيمة على أسلحة المتحالفين.

وعلى العكس من ذلك إنما ينقذ الجماعات إذا أحسنت تدبير أمورها أن تذعن للرؤساء بطاعة حرة، كذلك يجب أن نحوط النظام العام ولا نخضع بحال من الأحوال أمام امرأة، وخير من ذلك أن ينحينا الرجل عن السلطان فلا يقال: إن امرأة غلبتنا.

الجوقة :

أما نحن - فإذا لم تكن السن قد أضعفت عقولنا - فإنا نرى كلامك صوابا.

هيمون :

يا أبت، إن الآلهة حين يهبون العقل للناس يمنحونهم أجل المنح خطرا، أأنت مخطئ فيما قلت؟ لا أستطيع أن أعلن ذلك، ولعل الآلهة تمنعني من قوله! على أن غيرك قد يرى صوابا. وعلى كل حال فإن النصح لك يقضي علي أن أمتحن ما يقول الناس وما يعملون وما يصوبون إليك من نقد. إن وجهك ليخيف ابن الشعب أن يتحدث بما لا تحب أن تسمع، أما أنا فأستطيع أن أسمع خفية عطف المدينة على هذه الفتاة، وأنها أقل النساء استحقاقا لهذا الموت الشائن في سبيل عمل مجيد؛ هذا أخوها قتيلا طريحا لا قبر له، فقد كرهت أن تمزقه الكلاب الضارية، وأن تنهسه سباع الطير، «أليست خليقة أن تظفر بتاج من الذهب؟»

هذه هي الأحاديث الخفية التي تدور في صمت، أما أنا فأرى سعادتك يا أبت أعز الأشياء علي، وأي زينة أجمل للأبناء من مجد آبائهم، وأي حلية أحب إلى الآباء من مجد أبنائهم؟ فلا تكن لك إذا طريق واحدة في النظر إلى الأشياء، ولا تعتقد أن ما تراه وحده هو الصواب، إن الذين يرون أنهم وحدهم الأذكياء، وأنهم وحدهم البلغاء، وأنهم وحدهم أصحاب النفوس الرفيعة؛ هؤلاء إذا امتحنوا كانت أفئدتهم هواء، مهما يكن الرجل حكيما فليس من العار أن يتعلم ويتجنب العناد.

إنك لترى الأشجار التي تنحني للسيل تزيده العاصفة قوة قد حفظت عليها أغصانها النضرة، بينما التي تقاوم لا تلبث أن تجتث من أصلها، وكذلك الربان إذا شد الشراع إلى أقصاه ولم يدع له فسحة أضاع سفينته فإذا هي قد انقلبت تسبح، وإن مؤخرها لفي الهواء، فاعدل إذا عن رأيك وألغ ما أصدرت من أمر.

وإذا كنت - رغم شبابي - قادرا على أن أشير فأحسن المشورة، فإني أزعم أن الرجل ذا الحظ العظيم من التجربة خير من غيره، ولكن لما كان هذا الرجل نادرا كان من الخير أن ننتفع بما يقدم إلينا من النصح.

الجوقة :

أيها الملك، من الخير أن تسمع له إذا أحسن المشورة، وعليك أنت أيضا له مثل ذلك، فكلاكما قال فأحسن القول.

كريون :

كيف! الآن وقد بلغت هذه السن يجب أن أتلقى الحكمة من هذا الغلام الحدث!

هيمون :

ما شبابي؟ لا تنظر إلى سني، ولكن انظر إلى نصيحتي.

كريون :

بم تنصح لي! بأن أشرف من يخرج على القانون!

هيمون :

لم أدعك إلى تشريف الأشرار.

كريون :

أليست أنتيجونا أهلا لهذا الوصف؟

هيمون :

ليس هذا ما يقول أهل ثيبة.

كريون :

ألأهل ثيبة أن يملوا علي ما أصدر من أمر؟

هيمون :

لا تنس أنك بعرشك حديث العهد.

كريون :

وأي الناس غيري يستطيع أن يملك في هذه المدينة؟

هيمون :

ولكن الدولة لم تخلق لرجل واحد.

كريون :

أليست الدولة لمن يحكم؟

هيمون :

نعم، هذا حسن، ولكن البلد إذا كان خاليا مقفرا فعلى من تحكم؟

كريون :

أرى أنه يجاهد في سبيل امرأة.

هيمون :

إن أعجبك أن تكون امرأة؟ فإن إنما أجاهد في سبيل منفعتك.

كريون :

شقي! أتجرؤ على أن تتهم أباك!

هيمون :

حين أراه يقترف الظلم.

كريون :

أمن الظلم أن أحتفظ بحقي؟

هيمون :

إن من سوء الاحتفاظ بالحق أن توطأ بالأقدام قوانين الآلهة.

كريون :

أي خائن! يصلح لأن تملكه امرأة!

هيمون :

لن تراني على الأقل وقد قهرتني شهوة مخجلة.

كريون :

لا تتكلم إلا دفاعا عنها.

هيمون :

بل دفاعا عنك وعن نفسي وعن آلهة الموتى.

كريون :

لن أسمح بأن تكون لك زوجا، إنها ستموت.

هيمون :

لئن ماتت فليتبعن موتها موت آخر.

كريون :

كيف! أتبلغ بك الجرأة أن تهددني!

هيمون :

أأهددك حين أحارب فيك عواطف ظالمة؟

كريون :

سأعلمك أن تكون أشد عدلا في عواطفك وميولك.

هيمون :

لو لم تكن أبي لقلت: إن عواطفك تضاد العقل.

كريون :

أيها العبد الدنيء تملكه امرأة، لا تثقل علي بلغطك.

هيمون :

تريد أن تتكلم من غير أن تسمع شيئا؟

كريون :

قد يكون ذلك، ولكني أقسم بأوليمبوس أنك لن تثقل علي بإنكارك من غير أن تلقى في سبيل ذلك ما تستحق من جزاء (إلى حرسه)

لتقد هذه المرأة البغيضة، ولتجد بنفسها في أسرع وقت بأعين حبيبها.

هيمون :

لن تجود بنفسها بين يدي، لا تظن ذلك، ولكن عينيك لن ترياني بعد، لأتركنك نهبا لما يملكك من غيظ مع أصدقائك الذي يتملقونك. (يخرج)

الجوقة :

أيها الملك لقد خرج يملكه الغيظ، وإن اليأس على مثله في هذه السن لخطر.

كريون :

ليعمل، ليقدر أن يعمل فوق ما يستطيع الإنسان فلن يحمي هاتين الفتاتين من الموت.

الجوقة :

فأنت إذا تفكر في موت الاثنتين.

كريون :

لا، لن تموت التي لم تأثم، لك الحق.

الجوقة :

على أي نحو تريد أن تميت الأخرى؟

كريون :

سأقودها من طريق مقفرة، وسأحبسها في نفق خال واضعا أمامها قليلا من الطعام لأتقي غضب الآلهة، ولنخلص المدينة كلها من دنس الإثم، وهناك يمد في الحياة لها هادس، هذا الإله الذي لا تعبد غيره، وإلا فستعلم حقا أن من التعب الضائع تشريف الموتى. (يخرج)

الجوقة :

أي إيروس الذي لا يغلب، والذي ينقض على الكائنات كلها فيستأثر بها، والذي يستقر في الليل على تلك الخدود الرخصة خدود العذارى؛ إنك لتهيم في عرض البحار وحيث تأوي الوحوش، لا يفلت منك خالد، ولا يفلت منك هالك، ومن ملكته فقد فقد الرشد، بك ينحرف أهل العدل إلى الجور ويدفعون إلى مصارعهم، بك شجر هذا الخلاف بين هؤلاء الأشخاص يصل بينهم الدم. إن الحب لينتصر حين يلمع في عين الخطب الشائقة، إنه ليشارك القوانين العليا في تدبير هذا الكون، إن الإلهة أفروديت لتعبث بنا غير مغلوبة. (هنا تظهر أنتيجونا مغلولة اليدين يقودها اثنان من خدم كريون.)

الجوقة :

وأنا الآن أيضا أمام هذا المنظر الذي تقع عليه عيني، أندفع إلى الخروج عن القانون، ولا أستطيع أن أمسك عبرات بكائي حين أرى أنتيجونا تسير نحو السرير، سرير عرسها حيث ينام الناس جميعا.

أنتيجونا :

أي مواطني! انظروا إلى أنتيجونا تبدأ سفرها الأخير وتلقي على كوكب النهار آخر نظرة من نظراتها، ويلاه، لن أرى هذا الكوكب منذ الآن.

إن إله الجحيم الذي يقبر كل شيء سيقودني حية إلى شاطئ الأكرون قبل أن أخضع لقوانين الزواج، وقبل أن أسمع أناشيد الزفاف تغني لي، ويلاه ... إنما إلى الأكرون سيكون زفافي.

الجوقة :

أي ثناء وأي مجد ستحملين حين تلجين دار الموتى؟ أنت التي تهبط إلى دار هادس حية حرة، لم تصبها علة مهلكة ولم يقض عليها حد الحسام.

أنتيجونا :

أعلم كيف احتملت ابنة تنتلوس شر ما قدر لها القضاء؛ إذ اكتنفتها في أرجاء فريجيا، وعلى قمة جبل سيبل صخرة شاهقة تلين من حولها لين اللبلاب، وإن البرد الأبدي - فيما يزعمون - يتوج رأسها الذي يخيل إلى من رآه أنه ينهل انهلال السيل، وقد تنهمر على وجهها عبرات لن ترقأ. لقد ادخر لي القضاء ما ادخر لها، ولقد أعد لي سريرا كسريرها الأبدي.

الجوقة :

ولكنها إلهة بنت إله، أما نحن فلسنا إلا هالكين أبناء هالكين، ومع ذلك فإذا انقضت حياتك فسيكون مجدا عظيما لك أن يكبرك الناس، حتى يقولوا: إن حظك يعدل حظ الآلهة في حياتك وبعد موتك.

أنتيجونا :

ويلاه إنك لتسخر مني، إني لأنشدك آلهة الآباء، هلا انتظرت بي الموت، ولما تهينني بمرأى من الناس جميعا؟ يا للمدينة، يا لمواطني السعداء، يا لينبوع دركا، يا للأسوار المقدسة لثيبة المحاربة؛ كونوا أنتم - على الأقل - شهداء. انظروا كيف، دون أن يبكيني أصدقائي، انظروا بأي قانون جديد أذهب نحو هذا الطين المتراكم، الذي سيكون لي قبرا من نوع جديد!

آه ما أشقاني! لا فوق الأرض ولا بين الظلال لن أسكن مع الأحياء ولا مع الأموات.

الجوقة :

لقد أسرفت في الجرأة واصطدمت في عنف يابنتي بالعرش الذي رفعه العدل، إنما تكفرين عن بعض خطايا الآباء.

أنتيجونا :

أي خاطر مؤلم تثير في نفسي حين تذكرني الأحزان التي أرددها في غير انقطاع على أبي، وعلى حظنا كله حظ هذه الأسرة التعسة، أسرة لبدكوس، وا حسرتاه أيها الزواج المحتوم! زواج أمي التعسة بأبي الذي منحته الحياة! من أي أبوين ولدت أنا الشقية! وها أنا ذي أذهب إليهما، ولما أتزوج لأساكنهما في دار الموتى، أي أخي، أي زواج مشئوم عقدت! لقد قتلتني حيا وميتا.

الجوقة :

ربما كان تشريف الموتى نحوا من التقوى، ولكن من إليه السلطان لا يقبل الخروج عن أمره، لقد أضاعك عزمك الذي لا يستشير أحدا.

أنتيجونا :

دون أن أبكي، دون أن أجد صديقا، دون أن أسمع غناء الزفاف، أنا الشقية أقاد إلى هذه الساحة القريبة، هذه العين المقدسة، عين الشمس لن أراها، ولا صديق يرثي لهذا الحظ، لا يندبه أحد. (يدخل كريون )

كريون (للحرس الذي يقود أنتيجونا) :

أتعلمون أن ليس للشكاة ولا للأنين حد قبل الموت، إذا استطاع الإنسان أن يستسلم لهما! ألا تسرعون بها؟ احبسوها - كما قلت - في قبر ذي قبة، دعوها وحيدة مجفوة لتمت ولتدفن حية في هذا المأوى، أما نحن فقد برئت ذمتنا من هذه الفتاة. ولكن شيئا لا شك فيه هو أنها لن تساكن الذين يعيشون على الأرض.

أنتيجونا :

يا للقبر! يا لسرير العرس! يا لك من منزل تحت الأرض لن أبرحه أبد الدهر، فيك سألقى من استقبلتهم پرسيڨنيه في مقر الموتى من أسرتي. سأهبط إلى الجحيم قبل أن يحل الأجل الذي كتبه لي القضاء، وإني لآخر أسرتي وأشقاها، ولكني أهبط وإني لمملوءة أملا أن يكون محضري مصدر سرور لأبي، وقرة عين لك يا أماه! ولك يا أيها الأخ العزيز أيضا، فإن يدي لم تهمل بعد موتك ما كان يجب من عناية بك، وسقي لثراك وتقريب إلى نفسك.

فانظر أي بولينيس العزيز! ماذا ألقى من جزاء على القيام بواجبي، ولكن قلوب أصحاب الفضيلة لن تبخل علي بإعجابها بي ورضاها عني، وفي أني لو كنت أما فقدت ولدها أو كنت زوجا فقدت زوجها لما فعلت ما فعلت مخالفة إرادة الوطن! ولوجدت من العزاء ما يحول بيني وبين اقتراف هذا الإثم؛ فإن الزوج إذا فقد سهل أن يخلفه غيره، وإن المولود قد يعزي عن المفقود، ولكن إذا استأثر القبر بمن منحنا الحياة، فليس من الميسور التعزي عن الإخوان.

لذلك أيها العزيز بولينيس آثرتك على كل شيء، جرئت على كل شيء، ولم أخش أن أقف من كريون موقف العاصية، ادن إذا وضمني إليك تقبل أختك التي تهبط إلى مقر الموتى وحيدة لا صديق لها. لم تبل حلاوة الزواج ولا حنان الزوج ولا لذة الأمومة، أي ذنب جنيت إذا على الآلهة؟

ولكن وا حسرتاه! إني لتعسة شقية، ما ينفعني أن أرفع نظري إلى السماء؟ وأي معونة أستطيع أن أسأل وقد لقيت على ما قدمت من التقوى جزاء الآثمين؟ لئن رضي الآلهة عن من قضوا علي بهذا العقاب فأنا معترفة بأني مجرمة غافرة لهم ما سألقى من عذاب، ولكن إذا كانوا ظالمين مجرمين فليصرف الآلهة عنهم كل سوء، وليكن ما أحتمل من ألم مكفرا عن سيئاتهم.

الجوقة (لكريون) :

ما زالت أنتيجونا نهب ما يملأ نفسها من الغضب.

كريون :

ويل للذين يقودونها مع هذا البطء.

أنتيجونا :

ويلتاه! إذا فهذا آخر قضاء علي بالموت.

كريون :

لا تخدعي نفسك بالإفلات منه.

أنتيجونا (يقودها الحرس) :

يا لأسوار ثيبة! يا لوطني! يا لآلهة مدينتي! لقد نفذ القضاء إنهم ليقودونني، انظروا إلى ملكتكم وحيدة مخذولة، ماذا يثقلها من إهانة! ومن أي يد ينالها السوء؛ لأنها قامت بما يجب عليها من التقوى!

الجوقة (في بطء وحزن) :

لقد لقيت «دناية» مثل هذا الحظ حين أكرهت على أن تودع ضوء النهار لتقضي في سجن من النحاس، لقد أخضعت لغير الضرورة ودفنت في سرير جعل لها قبرا. ومع ذلك فقد كانت هي أيضا رفيعة النسب، يابنتي، لقد كانت تحتفظ في أحشائها بالبذر، بالغيث الذهبي الذي أسبله زوس.

ولكن سلطان القضاء لا مرد له لا يفلت منه الثراء ولا آريس ولا أسوار المدن، ولا السفن القاتمة تلطمها الأمواج.

وكذلك خضع لسلطان الضرورة ذلك الفتى العنيف ابن درياس ملك الأيدونيين، ذلك الذي أسرف به عنفه حتى اضطره ديونوسوس إلى سجن من الصخر.

وكذلك هدأت ثورة جنونه الهائلة الصاخبة، عرف أن من الجنون إهانة إله بألفاظ وقحة، فقد كان يزعم لنفسه الحق في أن يكبح جماح العابدات لدنيوسوس في إبان صياحهن، وكان قد أثار صاحبات المزامير من الآلهة (ثم يقوى الصوت شيئا) .

إن المقبل من صخرة «سيانية» بين البحرين يلقى ساحل البوسفور وتلك القرية الموحشة سالمديس من قرى تراقيا، هنالك رأى آرس الذي يعبد في هذا المكان ابني فينه، وقد أصابتهما من علتهما القاسية ضربة بغيضة أفقدتهما البصر، فقأت أعينهما الحساسة لا بحد السيف، بل بيديها الدميتين ومغزلها.

وكان هذان التعسان يهلكان ويبكيان شقاءهما الذي جره عليهما زواج أمهما، على أنهما كانتا تتحدران من أسرة «أرلتيوس » القديمة ، وقد شبت في غار منعزل بين عواصف أبيها. فقد كانت ابنة «بوريه» وكانت تعدو عدو الخيل في الجبل الوعر؛ لأنها من بنات الآلهة، ولكن غازلات القضاء كن وجهن إليها ضرباتهن يابنتي. (صمت. ثم يصل تريسياس يقوده صبي.)

تريسياس :

أي زعيم ثيبة لقد سعينا إليك معا يبصر أحدنا لصاحبه، فليس يسعى المكفوفون بغير قائد يهديهم السبيل.

كريون :

ماذا حدث أيها الشيخ تريسياس.

تريسياس :

سأنبئك بما حدث فأطع أمر الكاهن.

كريون :

لم أنحرف إلى الآن عن مشورتك.

تريسياس :

ولذلك سرت بالمدينة في الصراط المستقيم.

كريون :

أستطيع بعد التجربة أن أشهد بأني انتفعت بنصائحك.

تريسياس :

تعلم أن أمرك قد عاد إلى الحرج.

كريون :

ماذا حدث؟ إني لأرتعد لما تقول.

تريسياس :

ستعلم بما حدث حين أنبئك بالآيات التي أظهرها لي فني، لقد كنت جالسا على مقعد العيافة القديم حيث أستطيع أن ألاحظ كل فأل، فإذا أنا أسمع أصواتا مختلطة تصدر عن الطير التي كانت تصيح في نشاط مشئوم صيحات غامضة كأنها صيحات البرابرة، فعرفت أن بعضها كان يمزق بعضا بالمخالب وأنها كانت تقتل. وكان خفق أجنحتها يعين على تمييز ذلك في وضوح.

فما هي إلا أن يأخذني الخوف، فأجتهد في أن أقرب للإله من طريق النار على المذبح المضطرم، ولكن أفيستوس لم يكن يصعد من القربان في لهب صريح، إنما كان شحم الفخذ يتساقط على الرماد في دخان ونشيش، وكانت المرارة تصعد في الهواء بخارا، وكان عظم الفخذ يبقى عاريا يبله الشحم الذي كان يغطيه.

وكان هذا الصبي ينبئني بأن الفأل لا يظهر، وبأن الضحية لا تنبئ بآية ما، فإن هذا الصبي يهديني كما أني أهدي آخرين، والمدينة تشقى بهذا الشؤم وأنت مصدر هذا الشقاء، هذه المذابح التي هي بيوت الآلهة قد جللتها الطير والكلاب بقطع اللحم التي نهشت من جثة ابن أوديبوس.

ولذلك لا يتقبل الآلهة منا الصلاة ولا التضحية، ولا اللهب الذي يرتفع من أفخاذ الضحايا، وليس من بين الطير ما يبعث صوتا ينبئ بخير؛ لأنها قد امتلأت من شحم الإنسان ودمه .

فكر في هذا يا بني، إن الخطأ شائع بين الناس جميعا، ولكن الرجل الحكيم السعيد إذا أخطأ أصلح خطأه ولم يصر عليه، إن الإصرار يلد الهوج، أسمح للموتى، لا تعاقب جثة هامدة، أي نفع في أن تقتل مرة ثانية من ليس له حظ من حياة؟ إنما أتحدث إليك مخلصا؛ لأني شديد الحرص على مصالحك، وأي شيء أحب إلى النفس من نصيحة خالصة فيها النفع والفائدة.

كريون :

أيها الشيخ إنما أنتم جميعا كالنبالة، تتخذونني غرضا وتصوبون إلي سهامكم، بل إنكم لا تجنبونني تنبؤكم. أما أبناء أسرتي فقد باعوني وتخلوا عني منذ عهد بعيد. أغنوا أنفسكم، اشتروا معادن «سارد» كلها إن شئتم وذهب الهند أيضا.

فأما بولينيس فإنكم لن تدفنوه حتى ولو احتمل نسر زوس بقية جثته إلى عرش الإله في أولومب. كلا، سأحول دون دفنه لا أخشى في ذلك مثل هذا الإثم، فأنا واثق بأن أحدا لن يستطيع أن يدنس الآلهة. إن أمهر الناس أيها الشيخ تريسياس ليخفقون في خزي حين يتحدثون في مهارة بالمخجل من الحديث رغبة في المال.

تريسياس :

وا حسرتاه! أتعلم حقا! أتتصور ...

كريون :

عم تتحدث؟ ما هذا الكلام المبهم؟

تريسياس :

إن الحكمة لأقوم من الخير كله.

كريون :

كما أن قلة الحذر هي أعظم الشر.

تريسياس :

ومع ذلك فهو الشر الذي ألم بك.

كريون :

لا أريد أن ألقى كاهنا بمثل ما يلقاني به من الإهانة.

تريسياس :

ومع ذلك فهذا ما تفعل حين تصف نبوتي بأنها كاذبة.

كريون :

كل أمر الكهان جشع.

تريسياس :

وكل أمر الطغاة حب للنفع المخزي.

كريون :

أتعلم أن هذا الكلام يساق إلى ملك؟

تريسياس :

أعلم أنك أنقذت المدينة بفضلي.

كريون :

أنت كاهن بارع، ولكنك تجد لذة في الإساءة.

تريسياس :

توشك أن تدفعني إلى أن أعلن ما تخفي نفسي.

كريون :

أعلنه، ولكن لا يدفعك الجشع إلى الكلام.

تريسياس :

أكذلك يظهر لك حقا ما أقول حين أتحدث عنك؟

كريون :

لن تغير رأيي مهما تبذل، يجب أن تعلم ذلك.

تريسياس :

إذن فاعلم أنت أيضا أنك لن ترى الشمس تطلع مرات دون أن تؤدي - بموت كائن أنت أبوه - دية موت آخر؛ لأنك ألقيت في بطن الأرض كائنا كان يعيش على ظهرها، ولأنك أخزيت نفسك. حبست حيا في القبر وخليت جثة بالعراء بعيدا عن آلهة الموتى في غير ما ينبغي لها من الشرف والمأوى.

ليس لك هذا الحق، بل ليس لك ولا لأي إله من آلهة السماء، هذا عدوان تقترفه؛ لذلك ترقبك الآلهة اللاتي يعاقبن المجرمين ويوكلهن آديس بالانتقام. وستتردى في مثل الشر الذي جنيته، فانظر أتراني أقول هذا الكلام ابتغاء المال؟ انتظر قليلا فسيرتفع في قصرك عويل الرجال والنساء، إنما تنهض مخاصمة لك كل المدن المضطربة حيث الجثث الممزقة لم تظفر من القبور إلا ببطون الكلاب وسباع الوحش والطير ذات الأجنحة. كل هذه الحيوانات التي تدنس برائحتها النجسة المدينة وبيوت الموتى، هذه هي السهام التي صوبتها إليك كأني أحد النبالة؛ لأنك تهيجني فلن تجتنب لذعها.

أيها الصبي عد بي إلى الدار فسيصب غضبه على قوم أدنى إلى الشباب مني، وسيتعلم كيف يحتفظ بلسانه هادئا مستقرا، وكيف يجيل في رأسه آراء أحكم وأدنى إلى الصواب. (يخرج. صمت.)

رئيس الجوقة :

لقد مضى الرجل أيها الملك بعد أن أنذر بأشياء مفظعة، وإنا لنعلم منذ استحال شعر رأسي من سواد إلى بياض أنه لم يكذب المدينة قط.

كريون :

أنا أيضا أعلم ذلك وإني لمضطرب النفس، إن الإذعان لعسير، ولكن المقاومة ومصادمة الشر ليستا أقل عسرا.

رئيس الجوقة :

يجب الحذر يابن منيسيوس، أي كريون.

كريون :

ماذا يجب أن أصنع؟ أشر سأستمع لك؟

رئيس الجوقة :

اذهب فأطلق الفتاة من سجنها في بطن الأرض، وأقم للميت قبرا.

كريون :

أبهذا تشير علي، تريد أن أذعن؟

رئيس الجوقة :

وفي أسرع وقت ممكن أيها الملك، إن عقاب الآلهة لسريع الخطى إلى المذنبين.

كريون :

وا حسرتاه! إني لأعدل كارها عما أزمعت، ولكني مع ذلك سأفعل، لا خير في مقاومة الضرورة.

رئيس الجوقة :

اذهب واعمل ولا تكل هذا الأمر إلى غيرك.

كريون :

أنا ذاهب الآن، هلم، هلم، أيها الخدم من كان منكم هنا ومن لم يكن، أسرعوا وفي أيديكم المعاول إلى هذا المكان الذي يرى من هنا. أما أنا فما دمت قد غيرت رأيي فسأطلق بيدي أنتيجونا بعد أن ألقيتها في هذا السجن، إني لأخشى أن يكون الخير في أن ننفق حياتنا مطيعين للقوانين القائمة. (يخرج)

الجوقة (في نشاط وحدة) :

أي هذا الذي يدعى بأسماء كثيرة، فخر ابنة كادموس بن زوس ذي الرعد القاصف، أنت الذي يحمي إيطاليا ذات الصوت البعيد، والذي يملك في وادي ديمتر الإيلوسية، حيث يلتقي اليونان جميعا. أي باكوس ساكن ثيبة موطن عابداتك في العهد القديم، على المجرى الرطب لنهر أسمينوس وبقرب الأرض التي ألقي فيها البذر ذلك التنين الوحشي.

فوق الصخرة ذات القمتين حيث تمرح عذارى البرناس عابداتك، قد رآك دخان المشاعل الساطع، لقد رآك ينبوع كاستاليا، إنك لتأتي من ذلك الساحل تكسوه الكرم خضرة رائعة، ومن حولك الأغاني الإلهية حين تزور شوارع ثيبة، هذه المدينة التي تؤثرها بالتشريف أنت وأمك التي أخذتها الصاعقة.

والآن - وقد تعرضت المدينة وسكانها جميعا لخطر عنيف - أقبل فطهرها، تخط قمم البرناس أو ذلك المضيق الشاكي مضيق أوريبوس.

أي معلم جوقة النجوم الملتهبة، أي صاحب صياح الليل، أي ابن زوس؛ اطلع علينا أيها الملك مع رفيقاتك العابدات لك، اللاتي يتغنين راقصات طول الليل، مجد ذلك الذي وهبن له حياتهن ياكوس. (يدخل رسول)

الرسول :

أي هؤلاء الذين يسكنون قريبا من كدموس ومن معبد أمفيون لن أحمد حياة إنسانية ولن أرثي لها ما بقيت، إن الحظ ليقيم، إن الحظ ليسقط دائما الرجل السعيد، والرجل الشقي لن يستطيع أحد أن يتنبأ بما أضمر الغيب للهالكين، لقد كنت أرى كريون منذ حين خليقا أن يغبط، لقد أنقذ من العدو أرض كدموس، لقد صار إليه الأمر كله، لقد كان يدبر المدينة، لقد كان يزهر في أسرة عديدة نبيلة، والآن قد انهدم كل شيء إذا فقد الرجل اللذة والغبطة فلست أراه حيا، وإنما هي جثة متحركة.

تستطيع أن تكدس في دارك - إن أحببت - ما شئت من الثراء ، ومن فخامة الملوك وأبهتهم، فإذا لم تجد لهذه الحياة لذة فإني لا أشتري هذا كله بظل الدخان؛ لأنه ليس من السعادة الصحيحة في شيء.

رئيس الجوقة :

أي نبأ سيئ عن ملوكنا أقبلت تعلن إلينا.

الرسول :

لقد ماتوا، وقد دفعهم الأحياء إلى الموت.

رئيس الجوقة :

من القاتل ومن المقتول؟ تكلم.

الرسول :

لقد هلك هيمون ولقد سفكت دمه يد صديقة.

رئيس الجوقة :

يد أبيه أم يده هو؟

الرسول :

لقد قتل نفسه بيده ثائرا على أبيه بسبب ما اقترف من جريمة القتل.

رئيس الجوقة :

يا للكاهن ما أدق ما تممت نبوتك.

الرسول :

إن كان ذلك فيجب التفكير فيما سيكون. (ترى أوريديس خارجة من الباب الأوسط للقصر.)

رئيس الجوقة :

أرى التعسة أوريديس زوجة كريون تدنو، إنها تأتي من القصر، لقد سمعت حديث ابنها أو قادتها المصادفة.

أوريديس :

أيها المواطنون لقد سمعت أحاديثكم جميعا حين كنت خارجة من القصر لأحيي «بلاس»، لقد كنت أسحب الرتاج وأفتح الباب حين طرق سمعي نبأ كارثة ألمت بالأسرة، فأهوى مرتعدة بين إمائي، وقد جمد الدم في عروقي هلعا. ماذا كان يقال؟ أعيدوه فسأستمع لكم بعد أن جربت الشقاء.

الرسول :

مولاتي العزيزة، سأقص ما رأيت بعيني ولن أهمل من الحقيقة شيئا، وما لي أتلطف لك في أشياء لا ألبث أن أتهم فيها بالكذب؟ إن الحق هو الصراط المستقيم الذي يجب أن نسلكه دائما.

لقد كنت أرافق وأرشد زوجك إلى هذا المكان المرتفع من السهل حيث كانت جثة بولينيس ملقاة في غير رحمة - وقد مزقتها الكلاب - وقد غسلنا هذه الجثة بالماء المقدس بعد أن دعونا إلهة الطريق وإله الموتى أن يقفا غضبهما، ثم حرقنا ما بقي منها مع أغصان الزيتون الرطبة، ثم دفناه في أرض الوطن وأقمنا عليه قبرا.

ثم أخذنا طريقنا نحو ذلك الغار الصخري الذي دفنت فيه الفتاة، والذي اتخذ حجرة عرس لأديس، وإذا أحدنا يسمع صيحة بعيدة وأنينا حادا يأتيان من هذا القبر الذي حرم ما ينبغي للموتى من تشريف، فيعلن ذلك إلى الملك، إلى كريون، والملك كلما دنا سمع أصواتا مختلطة شاكية وإذا هو يئن، وإذا هو يدفع هذه الصيحة المؤلمة «ما أشقاني! أيمكن أن يكون هذا حقا؟ أأراني أسلك أشقى ما سلكت في حياتي كلها من طريق؟ إنه ابني هذا الذي أسمعه، إني لأجد حنان صوته، هلم أيها الخدم أسرعوا أطيفوا بالقبر، انزعوا هذه الصخرة التي تسد فجوته، ادخلوا منها انظروا أأسمع صوت هيمون أم تعبث الآلهة بي؟»

فنذعن لأمر سيدنا الواله، وننظر فنرى في أعماق القبر أنتيجونا وقد علقت من عنقها، لقد خنقت نفسها بمنطقتها.

وهذا هيمون متهالكا قد طوق خصرها، لقد كان يبكي موت هذه التي كان ينبغي أن تخلص له وقسوة أبيه وضياع حبه.

وهذا كريون يراه فيدفع شكاة جشاء ثم يدخل في القبر، ثم يسرع إليه ثم يصيح من الألم، ثم يدعوه: «أيها الشقي ماذا صنعت؟ أي رأي عرض لك؟ أي حادث أضاع صوابك؟ اخرج يا بني إني أتوسل إليك، إني أضرع إليك»، ولكن ابنه ينظر بعين حائرة ثم يبصق في وجهه، ثم يسل سيفه ذا الحدين دون أن يقول شيئا وإذا أبوه يتقهقر ثم يهرب، فإذا هو قد أخطأه. هنالك يحول الشقي ثورته إلى نفسه، وقد أمسك سيفه ومد ذراعيه، وإذا هو يعتمد عليه بصدره فيغمده فيه، ثم يعانق جثة العذراء عناقا متهالكا، وإن قليلا من النفس ليردد بين جنبيه، ثم يدفع موجا عنيفا من الدم الذي يلطم بحمرته خده الشاحب، وها هو ذا ميت قد صرع إلى جانب الميتة، لقد عرف الشقي لذة الزواج في دار الموتى. مثل سيئ ضرب للناس يبين لهم ماذا يجر الهوج على الملوك أنفسهم. (تعود أوريديس إلى القصر. صمت.)

رئيس الجوقة :

ماذا يجب أن نفكر؟ لقد عادت الملكة دون أن تنطق بكلمة تفاؤل أو تشاؤم.

الرسول :

وأنا أيضا دهش، وأرجو أن يكون الحياء قد منعها أن تعول على ابنها أمام المدينة، وأنها ستطلب إلى نسائها داخل القصر أن يبكين شقاء هذه الأسرة، إنها لأحكم من أن تقترف خطأ.

رئيس الجوقة :

لا أدري، ولكن صمتا مسرفا في العمق ينذرني بالشر كالصيحات المسرفة التي لا تجدي.

الرسول :

سنرى بعد حين إذا دخلنا القصر أتخفي بعض السر في قلبها اليائس، أنت مصيب إن في الصمت العميق لنذيرا مخيفا. (يخرج. يدخل كريون ومعه جماعة من الخدم وهو يحمل جثة هيمون.)

رئيس الجوقة :

هذا الملك يأتي بنفسه وإنه ليحمل بين ذراعيه دليلا قاطعا، وإذا أذن لي أن أقول ما أرى فإن هذا الشقاء لا يأتيه من قبل غيره، بل هو مصدره.

كريون (مضطربا) :

يا لهول حكمتي الحمقاء! يا للعناد المهلك، إنكم لترون في أسرة واحدة قاتلين ومقتولين، يا له من قضاء قاس وا ولداه! لقد كنت شابا فاغتالك موت شاب، وا حسرتاه! وقد تركت الحياة لجنوني لا لجنونك.

رئيس الجوقة :

وا حسرتاه! لقد فات الوقت، يخيل إلي أنك ترى الحق.

كريون :

وا حسرتاه! أعلم ذلك الآن إني لتعس، لقد صب الإله على رأسي صدمة ثقيلة، لقد دفعني في طرق قاسية، لقد ألقى علي الأرض ووطئ بقدميه لذة حياتي، يا للجهد الضائع يبذله الناس. (يأتي رسول من القصر.)

الرسول :

مولاي ما أعظم الكوارث التي تلم بك، إن بعضها لتدل عليه هذه الآية بين ذراعيك، وإن بعضها الآخر لفي قصرك، وإنك لتستطيع - فيما أرى - أن تذهب لتشهده.

كريون :

ماذا حدث أيضا؟ أيوجد أشد شقاء من الشقاء نفسه؟

الرسول :

لقد ماتت زوجتك، هذه الأم الرءوم لهذا الميت لقد قتلت الشقية نفسها الآن.

كريون (مضطربا) :

أي آدس الذي ينتظرنا جميعا، والذي لا تهدئ غضبه ضحية ما، لماذا، لماذا تهلكني؟ أي رسول الألم أي نبأ تحمل إلي؟ لقد كنت ميتا وإنك لتضربني الضربة الأخيرة، ماذا تقول يا صاحبي؟ ما هذه الضحية الجديدة تنحر بين يدي إلى جانب هذا الذي مات منذ حين. (يفتح باب القصر ويدور لولب وتظهر جثة أوريديس.)

رئيس الجوقة :

تستطيع أن تراها فليست في داخل القصر.

كريون :

آه، هذا المصدر الآخر للألم إني لا أراه، ما أشقاني! أي عاقبة تنتظرني بعد هذا؟ ها أنا ذا أحمل ابني بين ذراعي وها هي ذي جثة أخرى أمام عيني، آه أيتها الأم التعسة، آه، وولداه!

الرسول :

لقد ضربت نفسها بحديدة قاطعة عند المذبح، ثم أغمضت عينيها اللتين كانتا تظلمان شيئا فشيئا بعد أن ندبت ذلك الحظ المجيد الذي قدر لابنها «ميجاريوس» الذي مات قبل أخيه، وبعد أن بكت موت هيمون، وبعد أن استنزلت عليك المصائب كلها؛ لأنك قاتل ابنها.

كريون (مضطربا) :

آه، إن الهول ليخرجني عن طوري، ما لي لم أطعن في صدري بسيف قاطع ذي حدين؟ ما أتعسني إن الشقاء ليأخذني من كل وجه.

الرسول :

لقد ألقت عليك - وهي تحتضر - التبعة في موت ابنيها.

كريون :

كيف قتلت نفسها؟

الرسول :

لقد طعنت نفسها بيدها دون الكبد حين تلقت نبأ الموت المنكر الذي ألم بهيمون.

كريون :

وا حسرتاه! أنا أصل هذا الشقاء كله، ولن يمكن أن تلقى تبعته على أحد غيري. أنا. نعم أنا التعس الذي قتلك ليس هذا إلا حقا، أيها الخدم قودوني مسرعين قودوني إلى مكان بعيد، لست موجودا لقد فنيت.

الجوقة :

إن ما تطلبه لخير إن كان الخير ممكنا أثناء الألم، وكلما كانت الآلام قصارا كان احتمالها يسيرا.

كريون (مضطربا) :

فليأت، فليأت أجمل أشكال الموت الذي كنت مصدره، والذي سينتهي بي إلى آخر أيامي! فليأت حتى لا أرى مطلع نهار آخر.

الجوقة :

هذا أمر المستقبل فلنعن بالحاضر، إنما أمر المستقبل إلى الذين سيكون إليهم تدبيره.

كريون :

كل ما أتمناه مختصر في هذا الدعاء.

الجوقة :

لا تقترح شيئا فليس من حق الهالكين أن يستنقذوا أنفسهم من الشر الذي كتبه عليهم القضاء.

كريون :

قودوني إلى مكان بعيد، أنا هذا الشخص المجنون! أي بني لقد قتلتك دون أن أريد، ولقد قتلتك أنت أيضا أي أوريديس، وا حسرتاه! لست أدري إلى أيكما أنظر، ولا إلى أي جهة أتحول، لقد فقدت كل شيء، لقد ألح على رأسي قضاء لا يطاق.

رئيس الجوقة :

إن الحكمة لأول ينابيع السعادة، لا ينبغي أن نقصر في تقوى الآلهة، إن غرور المتكبرين ليعلمهم الحكمة بما يجر عليهم من الشر، ولكنهم لا يتعلمون إلا بعد فوات الوقت وتقدم السن.

أويديپوس ملكا

الأشخاص

أويديپوس.

كريون.

تريسياس.

يوكاستيه.

كاهن.

رسول.

خادم.

الجوقة تتألف من أشراف ثيبة.

تقع القصة في مدينة ثيبة أمام قصر الملك. ***

كان لأيوس بن لبدكوس ملكا على مدينة ثيبة، فأنذره وحي الآلهة بأنه سيقتل بيد ابن يولد له، وما هي إلا أن ولد له صبي فأمر الملك بطرحه في العراء على جبل يقال له كيتيرون. ولكن الراعي الذي أمر بذلك أشفق على الصبي فأسلمه إلى رعاة بوليبوس ملك مدينة كورنتوس، وهؤلاء أسلموه إلى مولاهم فرباه وقام دونه حتى شب.

ثم أخذ الفتى يسمع تعريضا بمولده فخرج يستشير الآلهة، فأوحوا إليه أنه إن عاد إلى وطنه فسيقتل أباه وسيتزوج أمه، فعدل الفتى عن مدينة كورنتوس وقصد إلى مدينة ثيبة، والتقى في طريقه إليها برجل شيخ في بعض حرسه فكان بينهم وبين الشيخ شجار، فعدا الفتى على الشيخ فقتله.

ومضى في طريقه حتى وصل إلى مدينة ثيبة، وإذا حيوان غريب مهلك قد قام على صخرة قريبا من المدينة، يلقي على كل من مر به لغزا فإن لم يحله عدا عليه الحيوان فافترسه. وكان أهل ثيبة قد عرفوا موت ملكهم الشيخ في طريقه، ولم يعرفوا قاتله، وكان الهلع قد ملأ قلوبهم لمكان هذا الحيوان من مدينتهم وسوء أثره فيهم.

فأعلن كريون الوصي على الملك في المدينة أن أي الناس استطاع أن يخلص المدينة من هذا البلاء فله عرشها، وله أن يتزوج الملكة، فلما أقبل الفتى ألقى عليه الحيوان لغزه، فحله، وخر الحيوان صريعا، وآل ملك ثيبة إلى هذا الفتى أويديپوس وتزوج الملكة وولد له منها أبناء.

ثم ظهر وباء في المدينة واشتد خطره على أهلها، فأرسل الملك يستشير الآلهة، فأوحى الآلهة أن هذا الوباء لن يرفع عن المدينة حتى يعاقب قاتل الملك على جريمته، وأعلن أويديپوس في الناس أن قاتل الملك عدو للشعب، فلا ينبغي إيواؤه ولا التستر عليه، ثم استكشف أنه هو قاتل الملك، وأنه قد تزوج أمه، وأن أبناءه هم في الوقت نفسه إخوته لأمه، فاقتص من نفسه وفقأ عينيه بيده ونفى نفسه من المدينة، وقتلت أمه نفسها خنقا.

وهذه القصة التي سنترجمها تصور الجزء الأخير من هذا الحديث، فتعرض إلمام الوباء بالمدينة، وأمر الآلهة بعقاب القاتل، واستكشاف الملك أنه هو القاتل، واقتصاصه من نفسه.

تقع القصة في مدينة ثيبة أمام قصر الملك حيث يقوم أمام كل باب من أبوابه مذبح مرتفع على بعض الدرج، وقد كللت هذه المذابح بأغصان من الغار والزيتون جمع بعضها إلى بعض بشرائط بيض. وجثا أهل المدينة أمام هذه المذابح في هيئة الضارعين، وقد اختلفت طبقاتهم وأعمارهم، وقام بينهم شيخ، هو كاهن زوس، يفتح الباب الأوسط من أبواب القصر ويخرج منه أويديپوس فينظر إلى هذه الجماعة لحظة، ثم يتحدث إليها في حنان الأب.

أويديپوس :

أي أبنائي، أيتها الذرية الناشئة من نسل كادموس ما بالكم تجثون على هذا النحو ومعكم هذه الأغصان تتوجها هذه الشرائط؟ على حين قد ملأ المدينة دخان البخور وارتفعت فيها الأصوات بالأناشيد وشاع بين أهلها الأنين. لم أرد أن أتلقى جواب هذا السؤال من فم أجنبي، ومن أجل ذلك أقبلت إلى هذا المكان أنا أويديپوس الذي يعرفه الناس جميعا. هلم أيها الشيخ تحدث فإن سنك تؤهلك للنيابة عنهم، ما مصدر هذه الهيئة التي أنتم عليها؟ أرهبة أم رغبة؟ ثق بأني شديد الحرص على معونتكم، فقد أكون خليقا بالغلظة والقسوة إن لم يمسسني الإشفاق عليكم مما تضيقون به وتشكون منه.

الكاهن :

أي ملك وطني أويديپوس أترى إلينا كيف اجتمعنا هنا حول مذابح القصر، أترى إلى أعمارنا؟ منا من لا يزال ضعيفا لم يشب ولم يستطع أن يبعد عن المدينة، ومنا من ثقلت به السن فهو لا يستطيع انتقالا، ومنا كهنة زوس أمثالي، ومنا هؤلاء صفوة الشباب وسائر الشعب قد اتخذوا أكاليل من الغار وأحاطوا بمعبد پلاس قريبا من الرماد المقدس لموقد أپولون.

هذه ثيبا كما ترى تهز هزا عنيفا، وقد اضطرت إلى هوة عميقة، فهي لا تستطيع أن ترفع رأسها، وقد أحدقت بها الأخطار الدامية من كل مكان، إنها تهلك فيما تحتوي الأرض من البذر، إنها تهلك في القطعان الراتعة في المراعي، إنها تهلك بما تصيب النساء من إجهاض عقيم.

إن الإله الذي يحمل نار الحمى قد اندفع في المدينة مدمرا مخربا، إنه الوباء المهلك يأتي على مدينة كدموس ويرضى آدس المخوف بما يبلغه من أنيننا وبكائنا، نعم إنا لا نرفعك إلى مكانة الآلهة لا أنا ولا هؤلاء الأبناء من حولي حين نطيف بقصرك، ولكنا نراك أحق الناس بأن نفزع إليك حين تلم بنا الخطوب، فقد أنقذت مدينة كادموس، ورفعت عنها تلك الضريبة التي كنا نؤديها إلى المغنية القاسية

1

دون أن نعينك على ذلك بشيء أو نعلمك من أمره شيئا، أعانك فيما نعتقد جميعا بعض الآلهة فأصلحت أمرنا، ورددت حياتنا إلى الاستقامة والاعتدال.

وها نحن أولاء اليوم نعود إليك ضارعين متوسلين أن تعيننا وتأخذ بأيدينا، سواء أعانك على ذلك وحي الآلهة أو أشار عليك فيه بعض الناس، فإني أرى أن مشورة أصحاب الرأي والتجربة هي التي تنفع وتغني في مثل هذه المواطن.

هلم يا أحكم الناس أصلح أمر المدينة، فكر في شهرتك وما ينبغي لك من حسن الأحدوثة، إن هذا البلد يسميك اليوم منقذه بما قدمت إليه فيما مضى، فاحرص على ألا تذكر في يوم من الأيام أنك أنقذتنا مرة لنهوي في المكروه مرة أخرى، بل أنقذ وطننا وارفع أمره، لقد أرشدك الآلهة إلى إنقاذنا فيما مضى، فكن اليوم كما كنت أمس، فقد أرى أنه إذا أتيح لك أن تحكم هذه الأرض، فالخير في أن تحكمها معمورة لا مقفرة، ما قيمة الأسوار وما قيمة السفن إذا خلت ولم يوجد من يلوذ بها ويحتمي من ورائها؟

أويديپوس :

أيها الأبناء إنكم لخليقون بالإشفاق، إن الذي تطلبونه إلي ليس غريبا بالقياس إلي فإني أعرفه، نعم أعرفه حق المعرفة، لست أجهل أنكم تألمون جميعا، ولكن ثقوا بأن ليس منكم من يألم كما آلم، كل واحد منكم يألم لنفسه لا يتجاوزه الألم إلى غيره، أما أنا فإني آلم لثيبة وآلم لكم وآلم لنفسي، وإذن فإنكم لا توقظون بهذا الحديث مني رجلا نائما.

تعلموا أني سفحت كثيرا من الدمع، وأني فكرت في كثير من الوسائل إلى النجاة، فلم أجد إلا وسيلة واحدة ظفرت بها بعد طول التفكير، فلم أتردد في ابتغائها والالتجاء إليها، فقد أرسلت كريون بن منيسيوس إلى معبد أپولون ليعلم لي من الإله ما ينبغي أن أصنع، وقد طالت غيبته إذا ذكرت الأيام التي مضت منذ فصل عن المدينة، ماذا يصنع؟ لقد تجاوزت غيبته ما كنت أقدر لها من الوقت، ولكن إذا عاد فحق علي أن أمضي كل ما يأمر به الإله وأنا آثم إن قصرت في بعض ذلك.

الكاهن :

حقا لقد تكلمت في الوقت الملائم فهؤلاء ينبئونني بمقدم كريون. (يرى كريون مقبلا من شمال المسرح وعلى رأسه تاج.)

أويديپوس :

أي أپولون إيذن في أن يكون ما يحمل إلينا من أمرك مشرقا كهذا الإشراق الذي يرى على وجهك.

الكاهن :

نعم يخيل إلي أن أخبارا سارة وإلا لما أقبل مبتهجا قد توج رأسه بإكليل الغار.

أويديپوس :

سنعلم جلية ذلك، فإنه قد صار قريبا منا، أيها الأمير يابن منيسيوس أي جواب تحمل إلينا من الإله؟

كريون :

جواب ميمون فإني أرى أن الأحداث السيئة نفسها خير إذا كانت عاقبتها خيرا.

أويديپوس :

ولكن ماذا كان جواب الإله؛ فإن كلامك لا يذيع في قلبي ثقة ولا خوفا؟

كريون (مشيرا إلى أهل المدينة الجاثين) :

إن شئت أن تسمع لي أمامهم تكلمت، كما أني أستطيع أن ننتظر حتى ندخل القصر.

أويديپوس :

تكلم أمامهم جميعا، إن آلامهم لتثقل علي، وإن الأمر لأخطر من أن يمسني وحدي.

كريون :

سأقول إذا ما سمعته من فم الإله، إن الملك أپولون يأمرنا أن ننقذ هذا الوطن من رجس ألم به، وألا نسمح لهذا الرجس بأن يبقى حتى ينمو ويصبح شفاؤه عسيرا.

أويديپوس :

بأي نوع من أنواع الطهر؟ وإلى أي نوع من أنواع الشر يشير الإله؟

كريون :

أما الطهر فأن ننفي مجرما وأن نقتص من القاتل بالقتل، فإن الإجرام والقتل هما أصل الشر في ثيبة.

أويديپوس :

عن أي قتيل يتحدث الإله؟

كريون :

أيها الملك، لقد حكم هذه المدينة لايوس قبل أن يصير أمرها إليك.

أويديپوس :

أعرف ذلك أنبئت به، ولكن لم أر هذا الملك قط.

كريون :

أما وقد قتل فإن الإله يأمر بعقاب قاتليه مهما يكونوا.

أويديپوس :

أين هم؟ كيف نقص آثار هذه الجريمة القديمة؟

كريون :

قال الإله: إنهم في هذا الوطن، من بحث عن شيء وجده، ومن أهمل شيئا أفلت من يده. (أويديپوس يفكر قليلا.)

أويديپوس :

أقتل الملك في قصره، أم قتل في الحقول، أم قتل في أرض غريبة؟

كريون :

أعلن أنه يريد أن يستشير الآلهة فخرج من المدينة ثم لم يعد إليها.

أويديپوس :

ألم ينبئكم رسول من رسله أو رفيق من رفاقه بأنه رأى ما يفيدكم أن تعرفوه؟

كريون :

قتل رفاقه جميعا لم ينج منهم إلا رجل واحد، ولكن الخوف ملك عليه أمره ففر ولم يقل إلا شيئا واحدا.

أويديپوس :

أي شيء؟ إن أيسر الأمر إذا عرف كان خليقا أن يدل على أعظمه.

كريون :

قال: إن جماعة من قطاع الطريق لقوا الملك فقتلوه، لم يقتله واحد وإنما قتلته جماعة. (صمت)

أويديپوس :

كيف يمكن للقاتل أن يقدم على عمل جريء كهذا إذا لم يكن قد دبر أمره هنا رغبة في المال؟

كريون :

خطر لنا هذا الخاطر، ولكن المصائب تتابعت علينا بعد موت الملك، فلم يفكر أحد في أن يقتص له.

أويديپوس :

وأي خطب منعكم من التفكير في تعرف الأمر بعد أن زال سلطان الملك.

كريون :

ذلك الحيوان، وما كان يلقي من الألغاز اضطرنا إلى أن نعرض عن شيء مشكوك فيه لنشغل بأمر كنا نشهده ونراه بأعيننا.

أويديپوس :

إذن فسأرجع بالأمر إلى أصله حتى أرده إلى الجلاء، خليق بأپولون وخليق بك أن تعنيا بهذا الأمر الخطير، ومن أجل هذا ستريانني جادا في معونتكما حتى أثأر لهذا البلد وللآلهة أنفسهم. لن أمحو هذا الرجس إيثارا لأصدقاء بعداء، بل إيثارا لنفسي. أي الناس قتل الملك فهو خليق أن يبسط يده علي بالشر نفسه، فأنا حين أعينكم إنما أوثر نفسي بالخير.

هلم إذن يا أبنائي قوموا عن هذا الدرج وخذوا أغصانكم هذه التي تتوسلون بها ضارعين، وليدع إلى الاجتماع هنا شيوخ كدموس فلن أهمل شيئا ولن أحجم عن شيء. لنبلغن بمعونة الآلهة ما نريد من السعادة جهرة بمشهد من الناس جميعا أو لنهوين إلى القاع.

الكاهن :

هلم يا بني، فإنما جئنا هنا لنلتمس منه ما هو آخذ فيه الآن، فلعل أپولون الذي أرسل إلينا وحيه أن يسرع إلى معونتنا ليرفع عنا هذا الوباء. (يخرج أويديپوس وكريون وكاهن زوس والشعب، ثم تقبل الجوقة مؤلفة من خمسة عشر من أشراف ثيبة.)

الجوقة (في سعة وحسن توقيع) :

أيتها الكلمة الحلوة كلمة زوس ماذا تحملين من دلف الغنية بما فيها من ذهب إلى ثيبة ذات الصوت البعيد؟ إن قلبي ليملؤه الإشفاق، إني لأرتعد من الخوف، أي أپولون شافي العلل! إلاه ديلوس حين أسأل نفسي عما ادخرت لي من غيب القضاء الآن أو فيما يستقبل من الزمان، أنبئني بهذا السر يابن الأمل الذهبي اللامع، أيها الصوت الخالد.

إني لأبدأ بدعائك يابنة زوس، إني لأسألك أي أتينا الخالدة كما أسأل أختك إلهة هذا البلد أرتميس هذه التي تجلس على عرش مجيد في الميدان المستدير، وأسأل أپولون الذي يرمي سهامه فيبعد المرمى، أسألكم جميعا أن تقبلوا علي وأن تعينوني إن كنتم قد رددتم عن المدينة نار الشقاء الذي كان يحيق بها قديما فأقبلوا اليوم (في حدة) .

وا حسرتاه! إني لأحتمل آلاما لا تحصى، لقد سرت العدوى في الشعب كله، وعجز العقل عن أن يخترع سلاحا يذود به عن إنسان، لقد جمدت ثمرات الأرض فهي لا تنمو، وهمدت الأمهات فهن لا ينهضن من مراقدهن قد ألحت عليهن آلام الوضع، وجعل الموت يرسل ضحاياه متتابعة في سرعة النار التي لا ترد إلى آلهة الجحيم.

وجعلت المدينة - وقد فقدت أبناءها بغير حساب - تهلك ويلح عليها الدمار في غير رحمة ولا رفق، وهذه الجثث مجندلة على الأرض لا تجد من يبكيها وهي تنشر العدوى في المدينة نشرا . وهؤلاء الأزواج وهؤلاء الأمهات ذوات الشعر الناصع قد أحطن بالمعبد من كل وجه، وأقمن على درجه باكيات شاكيات باعثات أنينا مالئات به الفضاء، ضارعات إلى الآلهة في أن تضع حدا لهذا الشقاء، وهذا نشيد الدعاء يندفع ممزوجا بالعويل، من أجل هذا كله نضرع إليك يابنة زوس في أن تمنحينا معونتك الباسمة في حدة وعنف.

أعينينا على آرس هذا الذي يصليني ناره في غير حرب، وبين الشكاة والبكاء، حوليه عنا إلى ذلك السرير الرحب الهادئ سرير إنفيتريت

2

أو إلى ذلك البحر المضطرب الخطر المهلك في تراقيا، فقد ألح علينا هذا الإله بشره حتى إن النهار ليفني ما حفظ الليل، أي زوس إله القوة ومدبر البرق الخاطف اسحقه، هذا الإله الذي لا طاقة لي به ولا صبر لي عليه.

أي أپولون ما أشد حرصي على أن تشد قوسك الذهبية فترسل منها سهامك الصائبة لتعينني وتحميني، وما أشد حرصي على أن تعينني أرتميس بمشاعلها المضطربة أيضا التي تطوف بها في جبل لوكايوس، كذلك أدعو الإله ذا القلنسوة الذهبية الذي ينتسب إلى هذه المدينة، أدعو باكوس ذا الوجه الأرجواني إله الصيحات المرحة متوسلا إليه في أن يسرع إلينا غير متبوع ومعه مشعله المضطرم ليعيننا على آرس ذلك الإله البغيض الذي ينفرد من بين الآلهة بانصراف الناس عنه وإعراضهم عن عبادته. (يخرج أويديپوس في أثناء القطعة الأخيرة من الغناء.)

أويديپوس (لرئيس الجوقة) :

إنك لتضرع إلى الآلهة، وإنما دعاؤك في أن يحموك ويعينوك، ويردوا عنك الشر المستجاب إن استمعت لي وأجريت أمرك وسيرتك كما تقضي ضرورة الشر الذي نشقى به، سأتحدث إليك بما أريد دون أن أعرف شيئا عن قصة القتل، دون أن أعرف شيئا عن القتل نفسه، فإني لا أستطيع وحدي أن أقتص آثار المجرم إذا لم تعينوني بشيء من الإرشاد.

إنكم لتعلمون أني لم أصبح مواطنا لكم إلا بعد أن وقعت الحادثة فاسمعوا لي، فإني أعلن إليكم أيها المواطنون أني آمر أيكم عرف قاتل لايوس بن لبدكوس بأن يدلني عليه، حتى وإن أشفق من ذلك ، حتى وإن كان هو القاتل؛ فإن أقصى ما يتعرض له إن دل على نفسه إنما هو أن ينفى من الأرض دون أن تتعرض حياته لخطر، وأيكم عرف أن القاتل ليس من أهل المدينة فلينبئني بذلك فسينال مكافأته وسيظفر بشكري.

ولكن إذا آثرتم الصمت أو أخفى أحد منكم القاتل إيثارا له وضنا بمودته فإليكم ما ينبغي أن تنتظروا مني، إني أحظر على أهل هذه المدينة التي أنا صاحب العرش والسلطان فيها أن يستقبلوا هذا الرجل كائنا من يكون، أو أن يسوقوا إليه حديثا أو أن يشاركوه في صلواتهم وتضحياتهم أو أن يقاسموه الماء المقدس، يجب أن يردوه جميعا عن بيوتهم، فإنه رجس بالقياس إلى المدينة كلها، قد أنبأنا بذلك وحي الإله.

كذلك أريد أن أنفذ أمر الآلهة وأن أثأر للملك المقتول، وإني لأتمنى لمقترف هذا الإثم - سواء أكان فردا أم جماعة - عيشا ملئه الوحدة والذلة بعيدا عن أرض وطنه، كما أتمنى أن تلح عليه هذه اللعنات التي أرسلتها حتى ولو كان من أهل بيتي يشاركني في العيش على غير علم مني، إني آمركم أن تنفذوا هذا كله؛ لترضوني، ولترضوا الآلهة، ولترضوا هذا الوطن الذي يهلكه الجدب وانصراف الآلهة عنه؛ فقد كان من الحق عليكم أن تطهروا المدينة وتعاقبوا المجرم ولو لم يأمركم الآلهة بذلك، فإن ملككم المقتول قد كان رجلا خيرا كريما، قد كان يجب عليكم أن تبحثوا وتستقصوا.

فأما الآن وقد آل إلي سلطان الملك الذي كان قبلي وآل إلي سريره وأصبحت امرأته لي زوجا وكاد أبناؤنا يكونون إخوة لو لم يصب في ذريته، الآن أدافع عنه كما لو كان أبي، وأسلك كل سبيل إلى اكتشاف القاتل لابن لبدكوس سليل بوليدور وكدموس وأجنور، وإني لأتمنى على الآلهة أن ينزلوا غضبهم على الذين يخالفون عن أمري، فلا تنبت لهم أرضهم الزرع ولا تلد لهم نساؤهم البنين، وإنما يلم بهم من الشقاء مثل ما يلم بنا أو أشد منه ثقلا. أما أنتم يا أبناء كدموس أنتم الذين يطيعونني ويسمعون لي فإني أتمنى أن يكون العدل لكم حليفا وعونا.

رئيس الجوقة :

سأتكلم أيها الملك؛ لأن هذه اللعنات التي ترسلها تضطرني إلى الكلام. لم أقتل ولا أستطيع أن أدل على القاتل، فقد كان حقا على أپولون الذي يأمرنا بالبحث والاستقصاء أن يدلنا على المجرم.

أويديپوس :

إنك لتقول الحق، ولكن ليس لأحد أن يكره الآلهة على ما لا تريد.

رئيس الجوقة :

أأضيف إلى ما قيل شيئا ثانيا؟

أويديپوس :

بل إن كان عندك شيء ثالث فلا تتحرج من إضافته.

رئيس الجوقة :

إني أعرف إنسانا ملكا يخترق رأيه حجب الغيب ويرى ما وراءها كما يراها أپولون نفسه، وهو تريسياس، فإذا سألته أيها الملك فسينبئك صادقا بكل ما كان.

أويديپوس :

لم أهمل هذه الخطة، لقد استمعت لمشورة كريون وأرسلت خادمين يدعوانه إلي، وإني لدهش لتأخره إلى الآن.

رئيس الجوقة :

أكبر الظن أن الأنباء التي تطيرها الإشاعات باطل وغرور.

أويديپوس :

أي أنباء؟ إني معنى بكل ما يقال.

رئيس الجوقة :

زعموا أن لايوس قد قتل بأيدي قوم مسافرين.

أويديپوس :

سمعت ذلك أيضا، ولكن أحدا لم يلق من شهد الواقعة بنفسه.

رئيس الجوقة :

إذا كان المجرم عرضة للخوف ولو قليلا فلن يستطيع أن يخفي نفسه إذا سمع بما استنزلت من لعنات.

أويديپوس :

إن من لم يخف عمل السوء لا يشفق من الكلام.

رئيس الجوقة :

هذا هو الذي سيدلنا عليه، إن هؤلاء الناس يقودون الكاهن الذي تلهمه الآلهة، والذي يستطيع وحده أن ينبئنا بالخبر اليقين. (يدخل الكاهن تريسياس بين خادمين من خدام الملك، وهو شيخ ضرير قد أخذ بيده قائده الصبي.)

أويديپوس :

أي تريسياس، أنت الذي يظهر على كل شيء، على ما يمكن أن يعلم وما ينبغي أن يخفى، على آيات السماء وعلامات الأرض، إنك لتعرف الشر الذي تشقى به المدينة، إنا نريد أن ندفعه عنها، إنا نريد أن ننقذها أيها الملك،

3

فلا نجد إلى ذلك سبيلا غيرك.

يجب أن تعلم - إن لم يكن رسولاي قد أنبآك - أن أپولون قد أجابنا بأن خلاصنا من هذا الوباء رهين بأن نستكشف قاتل لايوس فنقتله أو ننفيه من الأرض، فقد آن لك ألا تبخل بما توحيه إليك الطير من العلم، وبما تلقيه في نفسك الآيات المختلفة من المعرفة.

أنقذ المدينة، أنقذ نفسك، أنقذني أنا أيضا، ارفع عنا كل رجس، إن أمرنا كله إليك، وإن الرجل القوي حقا هو الذي يستطيع أن ينفع الناس حين تتاح له وسائل النفع.

تريسياس :

وا أسفاه! إن العلم لعظيم الضرر إذا لم ينفع أصحابه، لقد كنت أعرف ذلك ثم أنسيته، ولولا هذا لما أقبلت إلى هذا المكان.

أويديپوس :

ماذا؟ إني لأراك محزونا فاتر الهمة مستسلما لليأس.

تريسياس :

ردني إلى بيتي وصدقني؛ فهذا خير لك ولي.

أويديپوس :

هذا كلام لا حظ له من العدل، ولا مكان فيه للرحمة والحب لهذه المدينة التي غذتك ورعتك وأنت تبخل عليها الآن بالجواب.

تريسياس :

ذلك لأني أعلم أن سؤالك هذا لا يلائم منفعتك، وإذن فتجنبا للشر وإيثارا للعافية ...

أويديپوس :

بحق الآلهة لا تعرض عنا أنبئنا بما تعلم، ها نحن أولاء جميعا نتوسل إليك ضارعين.

تريسياس :

ذلك لأنكم جميعا حمقى، أما أنا فلن أعلن مصائبي وأحزاني - بل مصائبك أنت وأحزانك.

أويديپوس :

ماذا تقول؟ إنك تعرف الحق ثم لا تعلنه، أنت تفكر في أن تخوننا وتهلك المدينة؟

تريسياس :

لا أريد أن أوذيك ولا أن أوذي نفسي، لماذا تسألني في غير طائل! لن تظفر مني بشيء.

أويديپوس :

ماذا؟ يا أشد الناس ضعة وأجدرهم بالمقت؟ إنك لتثير قلب الصخر ألا تريد أن تتكلم؟ أتلبث مكانك جامدا لا ترق ولا تلين؟

تريسياس :

إنك لتأخذني بما أحدث في نفسك من ثورة، إنك لا ترى أن الذين يساكنونك يحدثون مثل هذه الثورة أيضا، ولكنك تلومني وحدي.

أويديپوس :

من ذا الذي لا يثور حين يسمع هذا الكلام الذي تهين به المدينة كلها!

تريسياس :

ستتكشف الأحداث عن نفسها على رغم هذا الصمت الذي أسترها به.

أويديپوس :

وإذن فالخير في أن تنبئني بما لا بد من وقوعه.

تريسياس :

لن أزيد على هذا شيئا، فإن شئت فأسلم نفسك إلى أشد الغضب قسوة وعنفا.

أويديپوس :

إذن فلن أخفي مما في نفسي شيئا ما دام الغضب لم يسكت عني. تعلم أني أتهمك بأنك اشتركت في الجريمة. دبرتها وهيأت لها، ولم تبرأ منها إلا يدك، ولو أنك كنت بصيرا لما ترددت في أن أؤكد أنك وحدك القاتل.

تريسياس :

أحق هذا؟ إني إذن أكلفك أن تنفذ الأمر الذي أصدرته، وألا تتحدث منذ اليوم إلى أحد لا إلي ولا إلى هؤلاء؛ فأنت الرجس الذي يدنس المدينة.

أويديپوس :

أيبلغ بك فقدان الحياء أن تنطق بمثل هذا الكلام؟ وأين تستطيع أن تضع نفسك بمأمن مما تستحق من العقاب؟

تريسياس :

لقد قضي الأمر، إني أحتفظ في نفسي بالحقيقة التي لا حد لقوتها.

أويديپوس :

من أنبأك بهذه الحقيقة؟ لم ينبئك بها فنك.

تريسياس :

أنت، أنت أكرهتني على أن أتكلم.

أويديپوس :

ماذا تقول؟ أعد؛ لأفهم خيرا مما فهمت.

تريسياس :

ألم تفهم لأول وهلة أم تريد أن تحملني على الكلام ليس غير؟

أويديپوس :

لم أفهم في وضوح، هلم، أعد.

تريسياس :

أؤكد أنك قاتل هذا الرجل الذي تبحث عمن أورده الموت.

أويديپوس :

آه! ولكنك لن تعيد هذا الحديث مرة أخرى.

تريسياس :

أتريد أن أتكلم أيضا لأزيد غضبك.

أويديپوس :

قل ما شئت فإن حديثك لا أثر له.

تريسياس :

أزعم أنك تعيش - على غير علم - عيشة الخزي مع أقرب الناس إليك وأدناهم منك.

أويديپوس :

أتظن أنك ستحمد عاقبة كلامك هذا؟

تريسياس :

نعم إن كان الحق قويا.

أويديپوس :

إن الحق قوي إلا بالقياس إليك، فإنه في فمك ضعيف، لقد أغلق سمعك وبصرك وعقلك.

تريسياس :

أأنت أيها الشقي تصفني بذلك الذي سيصفك به الناس جميعا عما قليل.

أويديپوس :

أنت لا تعيش إلا من الظلمة، لن تستطيع أن تسوءني، ولا أن تسوء أحدا من الذين يرون الضوء.

تريسياس :

لم يقض عليك بأن تقع النقمة عليك من يدي، إنما ينهض بذلك أپولون وهو عليه قادر.

أويديپوس :

إنما هذا تدبيرك وتدبير كريون؟

تريسياس :

ليس كريون مصدر شر لك، وإنما أنت مصدر الشر لنفسك.

أويديپوس :

أيتها الثروة، أيها السلطان، أي تفوق الفن، أي حسد تثيرين في النفوس بالقياس إلى الرجل البارز الذي يلحظه الناس، هذا كريون قد أحفظه السلطان الذي أهدته إلي ثيبة دون أن أطلبه إليها، فإذا هو ينسل من تحتي يريد أن يسقطني ويثل عرشي مستعينا على ذلك بهذا الساحر، بهذا الماكر، بهذا المشعوذ الخائن الذي لا يرى إلا المال، والذي هو أعمى في فنه.

وإلا فأنبئني متى كنت كاهنا بصيرا، ما بالك حين كانت تلك الكلبة تلقي عليك ألغازها لم تقل كلمة لتنقذ أهل هذه المدينة؟ فلم يكن تفسير ذلك اللغز لأول طارق على المدينة، وإنما كان خليقا بكهانة الكهان. لقد ظهر حينئذ ألا حظ لك من علم تلقيه في نفسك الطير، أو توحيه إليك الآلهة.

وأقبلت أنا الذي لم يكن يعلم شيئا فاضطررت تلك الكلبة إلى الصمت، ألهمني عقلي ذلك الجواب لم توحه إلي الطير، أما الآن فأنت تحاول ردي عن السلطان، تريد أن تجلس إلى جانب عرش كريون، وما أرى إلا أنك ستدفع مع شريكك ثمنا غاليا لتطهير المدينة، ولولا أنك شيخ فان لعرفت كيف أردك إلى العقل وأحولك عن الخيانة.

رئيس الجوقة :

أرى أن الغضب هو الذي أنطق تريسياس، وهو الذي أنطقك أنت أيضا، ولسنا في حاجة إلى الخصومة، وإنما نحن في حاجة إلى أن نتبين كيف ننفذ أمر الآلهة.

تريسياس :

مهما تكن ملكا فإن لي أن أتحدث إليك كما يتحدث الند إلى نده، هذا حقي، لست عبدك إنما أدين بالطاعة لأپولون، ولن أكون مولى لكريون في يوم من الأيام، فلأقل لك في صراحة إذن ما دمت تعيرني فقدان البصر: إن عينيك مفتوحتان للضوء، ولكنك لا ترى ما أنت فيه من شر، ولا ما اتخذت لنفسك من منزل، ولا من تعاشر من الناس.

أتعرف ممن ولدت؟ إنك تجهل أنك بغيض إلى أسرتك في الدنيا وفي دار الموتى، وستصيبك اللعنة من أبيك وأمك في يوم واحد فتخرجك عن أرض الأمن والطمأنينة. إنك لترى الضوء الآن، ولكنك عما قليل ستعيش في ظلمة الليل. ستهيم بشكاتك في كل مكان، وستردد الجبال كلها أصداء صياحك حين تعلم هذا الزواج التعس الذي انتهيت إليه في بيتك البائس بعد سفر سعيد.

إنك تجهل أيضا هذه الشرور الكثيرة التي تحيط بك، والتي ستردك إلى موضعك الذي ينبغي لك، وتجعلك مواسيا لأبنائك، والآن تستطيع أن تسيء القالة في وفي كريون، فلن تصب المصائب على أحد من الناس كما ستصب عليك.

أويديپوس :

أمن المحتمل أن أسمع منه مثل هذا الكلام؟ ألا تمضي مسرعا إلى الهلكة؟ ألا تنصرف عن هذا القصر عائدا إلى دارك؟

تريسياس :

لو لم تدعني لما أقبلت.

أويديپوس :

لم أكن أعلم أنك ستقول هذه الحماقات، ولو قدرت ذلك لاستأنيت في دعوتك إلى قصري.

تريسياس :

إني لأحمق في رأيك، ولكني كنت عاقلا رشيدا في رأي أبويك اللذين منحاك الحياة.

أويديپوس :

أي أبوين؟ أتمم. من منحني الحياة؟

تريسياس :

إن هذا اليوم سيمنحك الحياة والموت.

أويديپوس :

ما أشد الغموض والألغاز فيما تقول.

تريسياس :

ألست بطبيعتك ماهرا في حل الألغاز؟

أويديپوس :

أهني في مصدر عظمتي.

تريسياس :

ومع ذلك فهذه العظمة قد أهلكتك.

أويديپوس :

ولكن إذا أنقذت المدينة فما يعنيني بعد ذلك.

تريسياس :

سأنصرف إذن، قدني أيها الصبي.

أويديپوس :

نعم ليقدك هذا الصبي فإن محضرك يسوءني وغيبتك تريحني.

تريسياس :

سأنصرف، ولكني سأقول قبل ذلك فيم جئت هنا فإني لا أخاف وجهك؛ لأنك لا تستطيع أن تهلكني، وإذن فأنا أعلن إليك أن الرجل الذي تبحث عنه موعدا منذرا؛ لأنه قتل لايوس مقيم هنا على أنه غريب وسيعرف الناس أنه من أهل ثيبة، ولن يستمتع بهذا الاستكشاف، إنه يرى ولكنه سيفقد بصره.

إنه عظيم الثراء، ولكنه سيسأل القوت ليعيش، وسيسعى على قدميه إلى منفاه متلمسا طريقه بعصاه. سيعلم الناس أنه في الوقت نفسه أب وأخ للصبية الذين يعيشون معه، وأنه زوج وابن للمرأة التي ولدته، وأنه قد اقترن بزوج أبيه بعد أن قتل أباه. اذهب إلى قصرك وفكر في هذا كله، فإذا أثبت علي الكذب فقل حينئذ: إن الكهانة لا تعلمني شيئا. (يخرج تريسياس ويدخل أويديپوس في القصر.)

رئيس الجوقة (في حدة وعنف ) :

من عسى أن يكون هذا الذي أنبأت صخور دلف بأنه مقترف الإثم الشنيع بيديه الأثيمتين؟ لقد آن له أن يندفع إلى فرار عنيف سريع كأنه الخيل تشبه في عدوها الزوبعة القاصفة، فإن الذي يطلبه هو أپولون بن زوس، وقد اتخذ له من النار سلاحا وتبعته آلهة الانتقام.

لقد انبعث من جبل البرناس - ذلك الذي تكسوه الثلوج - صوت عظيم ملأ الفضاء، يأمر الناس جميعا بأن يقصوا آثار هذا المجرم المجهول، إنه ليهيم في الغابات المتكاثفة وفي ثنايا الأغوار والصخور كأنه الثور الهائج، إنه لشقي، إن عدوه التعس ليقطع ما بينه وبين الناس من صلة، إنه ليحاول أن يفلت من هذه النذر التي صدرت عن محور العالم،

4

ولكن هذه النذر تحيط به وتملأ الجو من حوله في ثبات عنيف، نعم عنيف هذا الاضطراب الذي يثيره في نفسي هذا الكاهن البارع، لا أصوبه ولا أخطئه، لا أعرف كيف أقول؟

إن عقلي ليهيم مترددا لا يرى شيئا في الحاضر ولا في المستقبل، أي خصام كان فيما مضى بين هاتين الأسرتين، أسرة لبدكوس وأسرة بوليبيوس،

5

لم أعلم - قديما ولا حديثا - شيئا يبيح لي أن أعيب أويديپوس أو أن آخذه بذنب لم يجنه وأنتقم منه لجريمة لا يعرف مقترفها، ولكن زوس وأپولون بصيران بالغيب خبيران بما أتى الناس من الأعمال. ليس من الحق أن يكون الكاهن أعلم مني بجلية الأمر، إنما يتمايز الناس بحظوظهم من البراعة، لن أقر الذين يتهمون أويديپوس قبل أن أرى الدليل على ما زعم الكاهن، فقد رآه الناس جميعا حين أقبلت عليه العذراء

6

ذات الجناحين، فأظهر من البراعة والمهارة ما حمل المدينة على أن تحبه وتؤثره، فلن يحمل عليه عقلي جريمة من الجرائم. (يدخل كريون وهو شديد التأثر.)

كريون :

أيها المواطنون لقد سمعت أن سيدنا أويديپوس يوجه إلي تهما خطيرة، وإذ كنت لا أستطيع أن أحتمل ذلك فقد أسرعت إلى هذا المكان، فإني لا أستطيع أن أعيش مثقلا بهذه التهمة، وهي أني قد أسأت إليه بالقول أو بالفعل في أثناء هذه الآلام التي نشقى بها جميعا، إنه لا يهينني إهانة يسيرة، وإنما يهينني إهانة لا قبل لي بها حين يعرضني لأن أدعى منكم ومن أهل المدينة بالخائن.

رئيس الجوقة :

لعل الذي دفعه إلى هذه الإهانة أن يكون الغضب لا التفكير الهادئ.

كريون :

ما الذي طوع لأويديپوس أن يظن أن الكاهن إنما أعلن ما أعلن من الكذب متأثرا بتحريضي له؟

رئيس الجوقة :

لقد قال ذلك، ولكني لا أدري لماذا؟

كريون :

أتراه كان مستقيم النظر مستقيم التفكير حين اتهمني بذلك؟

رئيس الجوقة :

لا أدري؛ فإن عيني لا تنقد أعمال السادة. ولكن ها هو ذا يخرج من القصر. (يدخل أويديپوس فجأة.)

أويديپوس :

ها أنت ذا ماذا تصنع هنا؟ أتبلغ بك الجرأة أن تأتي إلى هذا المكان وأنت الحريص على أن تهلكني وتنتزع مني السلطان؟ لننظر، حدثني - بحق الآلهة - أعرفت قط أني جبان حتى تخيل إلى نفسك القدرة على ما دبرت؟ أكنت تظن أني لا أعرف ما تصنع في الخفاء، وأني لا أبطش بك عقابا لك على ما تجني؟ أليس من الجنون أن يطمع الإنسان في السلطان وليس له ثروة ولا صديق مع أن السلطان لا سبيل إليه بغير المال والصديق؟

كريون :

أتعرف ماذا يجب أن تصنع؟ دعني أرد على ما قلت ثم اصنع بعد ذلك ما شئت.

أويديپوس :

إنك بارع في القول، ولست مستعدا لأن أستمع لك، وقد استكشفت فيك عدوا خطرا.

كريون :

استمع - قبل كل شيء - لجوابي.

أويديپوس :

لا تزعم أنك لم تقترف إثما.

كريون :

إن زعمت أن الإصرار على الحمق خير فأنت مخطئ.

أويديپوس :

إن ظننت أنك تستطيع أن تعتدي على قريب لك دون أن تلقى عقابا فأنت واهم.

كريون :

أنت محق في هذا، ولكن نبئني بما جنيت عليك من ذنب.

أويديپوس :

أحق أم باطل أنك أشرت علي بأن أرسل رسولا إلى الكاهن.

كريون :

هذا حق وما زلت أرى هذا الرأي.

أويديپوس :

أي أمد مضى على لايوس منذ ...

كريون :

ماذا؟ لم أفهم.

أويديپوس :

أتراه ذهب مقتولا.

كريون :

مضى على ذلك زمن طويل.

أويديپوس :

أكان هذا الكاهن يصطنع فنه حينئذ؟

كريون :

نعم، كان يصطنعه وكان - كما هو الآن - بارعا مشرفا.

أويديپوس :

أسماني في ذلك الوقت؟

كريون :

كلا لم يسمك بمحضر مني - على أقل تقدير.

أويديپوس :

ألم تلتمسوا الحقيقة في مصرع الملك؟

كريون :

بحثنا - من غير شك - ولكنا لم نهتد إلى شيء.

أويديپوس :

ما بال هذا الرجل البارع لم يقل حينئذ ما يقوله اليوم؟

كريون :

لا أدري، وإذا لم أفهم فمن الحق علي أن أؤثر الصمت.

أويديپوس :

أنت لا تجهل مع ذلك، وقد تقول حين تحين الفرصة.

كريون :

ما الذي سأقول؟ إن كنت أعرفه فلن أبطئ في الجهر به.

أويديپوس :

إنه لم يكن ليقول: إني قاتل لايوس لو لم يكن قد دبر هذا الأمر معك.

كريون :

إن كان يؤكد هذا فأنت تعرفه، ولكن من حقي أن أسألك الآن.

أويديپوس :

سلني فلن تثبت علي جريمة القتل.

كريون :

لننظر، لقد تزوجت من أختي؟

أويديپوس :

لا أستطيع أن أجيب عن سؤالك هذا بالنفي.

كريون :

وأنت تملك على هذا البلد مثلها بهذا السلطان الذي تشاركك فيه.

أويديپوس :

إنها تظفر مني بكل ما تريد؟

كريون :

ألست ندا لكما وأنا ثالثكما.

أويديپوس :

ومن أجل هذا كنت صديقا خائنا.

كريون :

كلا، لو فكرت كما أفكر، سل نفسك أيفضل الإنسان العرش وما يحيط به من الخوف على الهدوء والأمن إذا ضمنا له من السلطان مثل ما لصاحب العرش؟ أما أنا فأؤثر سلطان الملك على أن أكون ملكا، وأرى أن هذا شأن الناس جميعا إذا عرفوا كيف يحدون من شهواتهم.

إني أبلغ منك كل ما أريد دون أن أتعرض لخوف ما، ولو قد كنت ملكا لأقدمت على كثير من الأمر وإني له لشديد الكره. فكيف تظن أني أؤثر العرش على سلطان لا يعرضني لمكروه؟

لست من الحمق بحيث أعدل شيئا بما أنا فيه من شرف وجاه، إن الناس جميعا يحيونني، إن الناس جميعا يحتفون بي، إن الناس جميعا يتوسلون بي إليك إن كانت لهم عندك حاجة، إنهم يرون أنهم يظفرون عندي بكل ما يريدون ، فكيف أعرض عن هذا كله لأطلب ما تزعم أني أطلبه؟

هذه الخيانة حمق - إن جنيتها - لست أميل إلى مثل هذا المطمع، ولو قد أعانني الناس عليه لما سمت نفسي إلى تحقيقه، والدليل على ذلك أنك تستطيع أن تذهب إلى دلف لتتبين أكنت أمينا فيما حملت إليك من وحي الإله؟ ودليل آخر على براءتي وهو أنك إن استطعت أن تثبت علي ما تتهمني به فلن تقضي وحدك علي بالموت، بل سينطق بهذا القضاء صوتان صوتك وصوتي.

لا تتهمني بمجرد الوهم، بل دون أن تسمع لي، وليس من العدل أن تقضي في خفة على الأخيار بأنهم أشرار وعلى الأشرار بأنهم أخيار. إني أرى أن الذي ينبذ صديقا أمينا إنما ينبذ حياته العزيزة عليه. إن الزمن سيعلمك حقيقة الأمر في غير شك؛ فالزمن وحده يظهر الرجل الخير، فأما الشرير فإن يوما واحدا يلقي عنه القناع.

رئيس الجوقة :

أما بالقياس إلى من يخشى التورط في الخطأ فقد تكلم هذا الرجل وأحسن الكلام، إن الذي يسرع إلى الحكم خليق أن يجور عن القصد.

أويديپوس :

إذا أسرع الناس في العدوان علي خفية كان حقا علي أن أسرع في الدفاع عن نفسي، ولو قد انتظرت هادئا لحقق هذا الرجل آماله ولفسد علي كل تدبير.

كريون :

ماذا تريد إذن، أتريد أن تنفيني من هذه الأرض؟

أويديپوس :

كلا، إنما أريد موتك لا نفيك.

كريون :

بعد أن تبين لي أني قد اقترفت في ذاتك إثما.

أويديپوس :

أتتكلم كما لو كنت تريد المقاومة؟

كريون :

لست أراك تحسن الحكم.

أويديپوس :

بل أنا أحسنه فيما يعنيني.

كريون :

يجب أن تحسنه فيما يعنيني أيضا.

أويديپوس :

ولكنك خائن.

كريون :

إن كنت مخطئا في هذا الرأي.

أويديپوس :

يجب أن تطيع برغم ذلك.

كريون :

كلا، لا طاعة إذا كان القاضي جائرا.

أويديپوس :

يا للمدينة، يا للمدينة!

كريون :

وأنا أيضا أحد أبناء المدينة، ليست المدينة لك وحدك.

رئيس الجوقة :

حسبكما أيها الأميران، هذه يوكاستيه تخرج من القصر في وقت حاجتكما إليها فاجتهدا في أن تستعينا بها على إصلاح هذا الأمر. (تدخل يوكاستيه)

يوكاستيه :

لماذا آثرتما أيها البائسان هذه الخصومة الحمقاء؟ ألا تخجلان من إثارة الخصومة الخاصة في أثناء هذه الكارثة الهائلة التي حاقت بالمدينة؟ عد إلى القصر يا أويديپوس، وعد أنت إلى دارك يا كريون، لا تحولا أمرا يسيرا هينا إلى أمر ذي خطر.

كريون :

أيتها الأخت إن زوجك أويديپوس يرى من العدل أن يسومني الخسف فيخيرني بين شرين؛ النفي من أرض الوطن أو الموت.

أويديپوس :

هذا حق فقد أثبت عليه أيتها المرأة أنه كان يخونني ويأتمر بي.

كريون :

ما أشقاني! لأمت ولتنزل علي اللعنة إن كنت قد أتيت شيئا مما تتهمني به.

يوكاستيه :

بحق الآلهة إلا ما قبلت منه قوله يا أويديپوس إكبارا للقسم العظيم الذي أقسمه، واحتراما لي ولهؤلاء الشيوخ.

رئيس الجوقة (في بطء) :

أجب إلى ما تدعى إليه أيها الأمير في حرية وروية.

أويديپوس :

إلام تريد إذن أن أجيب؟

رئيس الجوقة :

ارع حرمة هذا الرجل الذي تقدمت به السن وأكبر قسمه.

أويديپوس :

أتعرف ماذا تطلب إلي؟

رئيس الجوقة :

نعم أعرفه.

أويديپوس :

أبن عنه.

رئيس الجوقة (في سرعة) :

هذا الرجل الذي يستنزل بنفسه اللعنة على نفسه ليبرأ مما تتهمه به لا ينبغي أن يؤخذ ظلما بتعلات غامضة ولا أن يغض من شرفه.

أويديپوس :

تعلم أنك حين تطلب إلي ذلك إنما تريدني على أن أموت أو على أن أنفي نفسي من هذه الأرض.

رئيس الجوقة (مضطربا) :

كلا، أقسم على ذلك بكبير الآلهة جميعا، أقسم بأپولون، لأمت شقيا مقتولا مطرحا من الآلهة والناس إن كان هذا الخاطر قد ألم بي، ولكني شقي تعس يقرض الحزن نفسي قرضا حين أرى أننا نضيف إلى هذه الآلام الجسام التي تلم بهذا البلد آلاما أخرى.

أويديپوس :

ليذهب إذن، وإن لم يكن لي بد من أن أموت لذلك أو أنفى من هذا البلد، إن دعاءك هو الذي يبلغ قلبي ويثير إشفاقي لا ضراعته هو، سأبغضه أشد البغض في أي مكان وجدته.

كريون :

إنك لا تجيب إلا كارها، إني أرى ذلك رأي العين، ولكنك ستثقل على نفسك حين يسكت عنك الغضب، إن أخلاقا كأخلاقك مصدر ألم لأصحابها.

أويديپوس :

ألا تريد أن تتركني؟ ألا تريد أن تخرج من ثيبا؟

كريون :

سأذهب مغضوبا علي منك، ولكني سأظل في نفوس هؤلاء الناس كما عرفوني دائما. (يخرج)

رئيس الجوقة (في بطء) :

أيتها المرأة لم تبطئين في العودة بأويديپوس إلى القصر؟

يوكاستيه :

سأفعل حين أعرف ماذا جرى.

رئيس الجوقة :

ألفاظ أثارت شكوكا في وقت تفسد القلوب فيه حتى لما ليس له أصل.

يوكاستيه :

وكانت هذه الألفاظ متبادلة؟

رئيس الجوقة :

نعم.

يوكاستيه :

وماذا كانا يقولان؟

رئيس الجوقة (مسرعا) :

حسبك، صدقيني حسبك، يجب أن تقفي حيث وقفت خصومتهما.

أويديپوس :

ترى إلى أين تنتهي حين يفتر حبك لي ويفتر دفاعك عني مهما يكن وفاؤك لي.

رئيس الجوقة (مضطربا) :

أيها الأمير لقد قلت لك كثيرا: إني أرى نفسي أحمق جاهلا إن أعرضت عنك أو قصرت في ذاتك، وأنا أعلم أنك أنقذت وطني العزيز من ذلك البلاء العظيم، وأنك الآن تقوده إلى الخير والسعادة - ما استقامت لك الأمور. (صمت)

يوكاستيه :

بحق الآلهة أنبئني أيها الأمير فيم هذا الغضب العظيم الذي دفعت إليه؟

أويديپوس :

سأنبئك بذلك؛ لأني أكبرك أيتها المرأة أكثر مما يكبرك هؤلاء الناس، إنما دفعني إلى هذا الغضب كريون وائتماره بي.

يوكاستيه :

أبن عما تريد؛ لأتبين أحق ما ترميه به من الخيانة؟

أويديپوس :

يزعم أني قاتل لايوس.

يوكاستيه :

أيعرف ذلك بنفسه أم أنبأه به شخص آخر.

أويديپوس :

أرسل إلي بذلك كاهنا شريرا، فأما هو فزعم أنه لا يعرف شيئا.

يوكاستيه :

لا تحفل بهذا القول واسمع لي فإني أعتقد أن ليس بين الناس من يحسن فن الكهانة، وسأثبت لك هذا في ألفاظ قليلة. لقد ألقي - فيما مضى من الزمان - إلى لايوس وحي لا أقول: من أپولون نفسه، ولكن من بعض خدامه، وكان هذا الوحي ينبئ بأن الملك مقتول بيد ابنه الذي يولد له مني، ومع ذلك فالناس جميعا يؤكدون أن لصوصا من الأجانب قد قتلوا لايوس منذ زمن بعيد في طريق ذات ثلاث شعب . فأما ابنه فلم تمض على مولده ثلاثة أيام حتى قيده ودفعه إلى يد أجنبية طرحته بالعراء على جبل وعر، وكذلك لم يتمم أپولون وحيه فلم يقتل ابن لايوس أباه، ولم يقتل لايوس بيد ابنه.

وما أكثر ما كان قد رسمه الوحي، فلا تحفل بذلك ولا تلتفت إليه، إذا رأى الآلهة أن يظهروا الناس على شيء من علمهم أعلنوه إليهم بأنفسهم. (صمت)

أويديپوس :

أيتها المرأة ما أشد ما تثير هذه القصة في نفسي من الشك والاضطراب.

يوكاستيه :

ما هذا الخوف الذي يثيره في نفسك رجوعك إليها؟

أويديپوس :

أظنني سمعتك تقولين: إن لايوس قد قتل في طريق ذات شعب ثلاث.

يوكاستيه :

قيل ذلك، وما زال يقال.

أويديپوس :

وفي أي مكان وقع هذا الحدث المنكر؟

يوكاستيه :

في بلاد الفوكيين حيث تلتقي الطريقان الآتيتان من دلف ودوليس.

أويديپوس :

وكم مضى على هذا الحدث من الزمن؟

يوكاستيه :

أذيع نبأه في المدينة قبل أن ترقى إلى عرشها بزمن قليل.

أويديپوس :

أي زوس ماذا أردت أن تصنع بي؟

يوكاستيه :

ماذا يا أويديپوس، ماذا يدفعك إلى هذا القلق؟

أويديپوس :

لا تسأليني. كيف كان لايوس؟ وماذا كانت سنه؟

يوكاستيه :

كان رجلا طويلا قد وخط الشيب رأسه، وكانت فيه ملامحك.

أويديپوس :

ما أشقاني! يخيل إلي أني إنما استنزلت اللعنة على نفسي منذ حين وبغير علم.

يوكاستيه :

ماذا تقول؟ إني لأخاف أن أرفع إليك عيني أيها الأمير.

أويديپوس :

أخشى أشد الخشية أن يكون الكاهن قد رأى جلية الأمر، ولكنك تزيدينني علما إن أضفت كلمة واحدة.

يوكاستيه :

وأنا أيضا قلقة، ولكنك لن تلقي سؤالا إلا أسرعت بالإجابة عنه.

أويديپوس :

أكان مسافرا في جماعة صغيرة أم كان يتبعه حرس ضخم كما يصنع الأقوياء؟

يوكاستيه :

كانوا خمسة ليس غير، وكان بينهم مناد، وكانت عجلة واحدة تحمل لايوس.

أويديپوس :

آه! الآن يتضح الأمر. ولكن من أنبأك بهذا كله أيتها المرأة؟

يوكاستيه :

خادم نجا وحده.

أويديپوس :

أهو الآن في القصر؟

يوكاستيه :

لا، لقد عاد فرأى أمور المدينة إليك بعد موت لايوس فتوسل إلي آخذا بيدي في أن أرسله مع القطعان يرعاها بعيدا عنك وعن المدينة. وقد أجبته إلى ما أراد فقد كان يستحق مني أحسن ما يستحقه المولى الأمين.

أويديپوس :

أيمكن أن يعود إلينا مسرعا؟

يوكاستيه :

من غير شك، ولكن لم تريد ذلك؟

أويديپوس :

أخشى أيتها المرأة أن أكون قد أسرفت في القول؛ ولهذا أريد أن أراه.

يوكاستيه :

سيعود، ولكني أستحق - فيما أظن - أن تنبئني بما يقلقك أيها الملك.

أويديپوس :

سأنبئك بما يقلقني بعد أن لم يبق لي إلا هذا الأمل الوحيد، وإلى من أتحدث في حرية وصراحة إذا لم أتحدث إليك؟ وقد اضطررت إلى هذا الموقف الحرج (صمت) .

إن أبي هو بوليبيوس ملك كورنت، وأمي ميروبا دورية الأصل، وكنت أعظم الناس خطرا في المدينة، ولكن حادثا وقع مصادفة وكان خليقا أن يدعوني إلى التفكير فيه، لا أن يملك علي أمري كله كما حدث بالفعل، أهانني رجل في بعض مجامع اللهو، وكان قد أسرف في الشرب حتى سكر فزعم أني لم أولد لرشدة،

7

فأثارني ذلك حتى أنفقت اليوم كله لا أكاد أملك نفسي.

فلما كان الغد لقيت أبي وأمي وجعلت أسألهما، فيثور في نفسيهما السخط على من وجه إلي هذه الإهانة، ويسرني ذلك منهما، ولكن تلك الكلمة كانت تنغص علي كل شيء؛ لأنها كانت قد نفذت إلى أعماق نفسي، فأذهب إلى دلف على غير علم من أمي وأبي، فلما سألت أپولون ردني بغير جواب، ولكنه أعلن إلي في وضوح كوارث أخرى، كوارث بغيضة لا تطاق.

أنبأني بأن القدر قد كتب علي أن أتزوج أمي، وأن أترك في الناس ذرية ممقوتة، وأن أكون قاتل الذي منحني الحياة، فأتحول عن المدينة التي يقيم فيها أبواي مستشيرا نجوم السماء فيما أسلك من طريق، مقدرا أني سأنفي نفسي إلى مكان لا يتاح فيه لهذه النبوءات البغيضة أن تتحقق.

وما أزال أمضي أمامي حتى أبلغ المكان الذي تنبئينني بأن الملك قد قتل فيه، وسأنبئك بالحق كله أيتها المرأة، كنت ماضيا في طريقي فلما قاربت المكان ذا الشعب الثلاث رأيت عجلة يقودها مناد وعليها رجل كالذي وصفته لي وكانت العجلة تدنو مني. فيدفعني قائد العجلة ويدفعني الشيخ أيضا في عنف لينحياني عن الطريق، فأثور وأضرب القائد الذي نحاني، وإذا الشيخ ينتظر حتى أحاذي العجلة ثم يرفع سوطه المزدوج ويهوي به على رأسي.

وقد أدى ثمن هذه الضربة غاليا، فما هي إلا أن أصب على رأسه عصاي بهذه اليد التي ترين فيهوي صريعا، وأقتل كل الذين كانوا معه، فإذا كان هذا الرجل الغريب الذي قتلته متصلا على نحو ما بلايوس فأي الناس أشد مني شقاء؟ وأي الناس أشد مني مقتا عند الآلهة، ليس لأحد من سكان هذه المدينة سواء أكان غريبا أم مواطنا أن يتلقاني في داره، يجب عليهم جميعا أن ينبذوني نبذا، والشر كل الشر أني أنا الذي استنزل على نفسه هذه اللعنة لم يستنزلها علي أحد غيري.

إني أدنس زوج هذا القتيل حين أضمها بين ذراعي؛ لأن ذراعي هما اللتان قتلتا زوجها. ألست بائسا، ألست دنسا إلى أقصى غايات الدنس؟ إذا وجب علي أن أنفي نفسي وإذا حرم علي بعد ذلك أن أرى أهلي وأن تطأ قدمي أرض الوطن، فإن فعلت كنت معرضا لأن أتخذ أمي لي زوجا، وأقتل أبي بوليبيوس وهو الذي منحني الحياة، ونشأني حتى نموت.

وأي الناس يستطيع أن يدافع عني حين يعلم أن هذا كله قد وقع مني بقضاء من إله قاس؟ كلا، كلا، إني أعوذ بجلال الآلهة المقدس من أن تطلع علي شمس لذلك اليوم الذي أقترف فيه هذه الآثام، لأمحق محقا ولأمح من الأرض محوا قبل أن أجني ثمرها البغيض.

رئيس الجوقة :

ونحن كذلك أيها الملك يملؤنا كل هذا خوفا، ولكن احتفظ بالأمل حتى يوضح لك الشاهد جلية الأمر.

أويديپوس :

نعم لم يبق لي إلا هذا الأمل في مقدم هذا الرجل الراعي.

يوكاستيه :

وفيم ينفعك مقدم هذا الرجل؟

أويديپوس :

سأنبئك بذلك فإن هذا الرجل إن يقل مثل ما تقولين ينجني من الشقاء.

يوكاستيه :

أي كلمة خطيرة سمعت مني.

أويديپوس :

ألم تنبئيني بأنه يزعم أن جماعة من قطاع الطريق هم الذين قتلوا الملك، فإذا أعاد علينا هذا فلست أنا القاتل فرجل واحد ليس جماعة، ولكنه إذا لم يتحدث إلا عن قاتل واحد فأنا مقترف الإثم.

يوكاستيه :

تعلم أنه أنبأنا بما قلت لك، وما أراه يستطيع أن يغير قوله فلم أسمعه وحدي، وإنما سمعته المدينة كلها. ومع ذلك فلو غير كلامه فلن يستطيع أن يثبت أن مصرع لايوس قد تم كما تنبأ به الوحي، فقد أعلن أپولون أنه سيقتل بيد ابن يولد له مني، ومن المحقق أن هذا الابن ليس هو الذي قتل لايوس؛ لأنه هلك قبل أبيه، ومن هنا لن ألتفت إلى يمين ولا إلى شمال لأتلقى الفأل.

8

أويديپوس :

أنت محقة ومع ذلك فأرسلي في طلب العبد.

يوكاستيه :

سأرسل من فوري، ولنعد إلى القصر فلن أصنع شيئا يسوءك. (يخرجان)

رئيس الجوقة (في ثبات) :

ما أشد حرصي على أن يسبغ الآلهة علي الطهر في كل ما أقول وفي كل ما أفعل، فمن أجل هذا الطهر شرعت القوانين العليا التي هبطت من السماء، أنتجها الآلهة أنفسهم. لم تحدثها طبيعة الناس الهالكين، لن يدركها النسيان، ولن يدفعها إلى النوم، فيها يحيا إله عظيم لا تدركه الشيخوخة.

إن الكبرياء لتلد الطغاة، إن الكبرياء إذا تجاوزت الحد وأضافت جهلا إلى جهل وغرورا إلى غرور وانتهت إلى أقصاها لا تلبث أن تنحدر إلى هوة من الشقاء دون أن تجد منها مخرجا، ولكني أضرع إلى الآلهة في ألا يصرفوا الناس عن هذا الجهاد الشريف في سبيل الوطن، إني واثق بأن الآلهة سيحمونني دائما (مسرعا) .

إن الذي يسترسل مع الكبرياء في قوله أو فعله، دون أن يخشى العدل ويرعى الأماكن المقدسة حيث تقيم الآلهة، خليق أن يحيق به المكروه عقابا له على جراءته الآثمة على ما اكتسب من المال في غير حق، على ما اقترف من استخفاف بحرمة الآلهة، على ما انتهك في جنونه حرمة الأشياء المقدسة. أي الناس يستطيع أن يحتفظ في نفسه بالهدوء والطمأنينة إذا انتهكت هذه الحرمات؟ وإذا اقترفت مثل هذه الآثام فأي نفع في أن أؤلف الجوقة.

9

لن أذهب إلى قلب

10

الأرض المقدس لأعبد الآلهة، ولا إلى معبد آبيا ولا إلى أولمبيا إذا لم يكن وحي الآلهة ملائما لما يقع من الأحداث بحيث تكون موضع العبرة والموعظة للناس جميعا، أي زوس أيها الإله الجبار إن كنت خليقا بهذا الاسم فلا يفلت منك هذا

11

ولا يخرج عن سلطانك الخالد، لقد فقد الوحي الذي ألقي إلى لايوس قيمته، إنه يزدرى، إن الناس ليقصرون فيما ينبغي لأپولون من إجلال، إن حقوق الآلهة لتهمل. (تدخل يوكاستيه ومعها وصائفها.)

يوكاستيه :

أي رؤساء المدينة، لقد خطر لي أن أذهب إلى معبد الآلهة أحمل إليها بيدي هذه التيجان وهذا الطيب، فإن أويديپوس يعلق نفسه بأوهام مختلفة، ولا يفسر الوحي الجديد بالوحي القديم كما يفعل الرجل العاقل، وإنما يستسلم لكل من تحدث إليه ما دام ينبئه بالفظيع من الأمر.

وما دمت لا أبلغ منه شيئا فإني أفزع إليك أي أپولون مقربة إليك هذا القربان؛ لتصرف عنا الرجس ولتحمل إلينا الأمن وتنقذنا من الشر، فقد استأثر الخوف بنا جميعا فأصبحنا كالبحارة حين يرون أمير السفينة وقد استولى عليه الفزع. (وبينما تقدم قربانها يدخل الرسول من ناحية الشمال.)

الرسول :

أتستطيعون أن تنبئوني أيها الغرباء أين يكون قصر أويديپوس؟ أنبئوني بنوع خاص أين الملك إن كنتم تعرفون ذلك؟

رئيس الجوقة :

إنك ترى قصر الملك أيها الغريب، وإن الملك لفي قصره وهذه امرأته أم بنيه.

الرسول :

لتتح لها السعادة دائما ولتتح لها الحياة بين قوم سعداء هذه الزوج الكريمة لهذا الرجل.

يوكاستيه :

ليتح لك مثل ما تتمنى لي أيها الغريب، فأنت خليق بذلك من أجل كلماتك الطيبة، ولكن أنبئني فيم أقبلت وماذا تريد أن تعلن إلينا.

الرسول :

أنباء سارة لبيتك ولزوجك أيتها المرأة.

يوكاستيه :

ماذا تعني؟ ومن أين أقبلت؟

الرسول :

أقبلت من كورنته والنبأ الذي أحمله يمكن أن يسرك، بل سيسرك من غير شك، ولكنه يمكن أن يسوءك أيضا.

يوكاستيه :

ما هذا النبأ؟ وما هذا الأثر المزدوج الذي يمكن أن يحدثه.

الرسول :

إن سكان المضيق

12

سيختارون أويديپوس ملكا عليهم كما سمعت منهم.

يوكاستيه :

ماذا؟ أأفلت السلطان من يد بوليبيوس الشيخ.

الرسول :

نعم؛ لأن الموت قد رده إلى القبر.

يوكاستيه :

ماذا تقول أمات بوليبيوس؟

الرسول :

لأمت أنا إن لم يكن هذا حقا.

يوكاستيه :

أيتها المرأة أسرعي فاحملي النبأ إلى الملك، أي وحي الآلهة إلام انتهيت؟ لقد نفى أويديپوس نفسه مخافة أن يقتل هذا الرجل فهذا هو الموت يستأثر به. (يدخل أويديپوس)

أويديپوس :

أيتها الزوج العزيزة يوكاستيه فيم دعوتني من القصر؟

يوكاستيه :

استمع لهذا الرجل وانظر إلى أين يذهب بنا وحي الآلهة.

أويديپوس :

من هذا الرجل وبماذا أقبل ينبئني؟

يوكاستيه :

أقبل من كورنته ينبئ بأن أباك بوليبيوس قد مات.

أويديپوس :

ماذا تقول أيها الغريب؟ تكلم أنت.

الرسول :

إذا كان هذا أول ما ينبغي أن أعلن إليك فاعلم أن أباك قد مات.

أويديپوس :

أقتلته الخيانة أم أصابته علة من العلل؟

الرسول :

إن أيسر صدمة تقضي على من تقدمت بهم السن.

أويديپوس :

إنه لمسكين أراه قد قضت عليه إحدى العلل.

الرسول :

ولم يكن شابا.

أويديپوس :

أيتها المرأة فيم نسرف في العناية بوحي دلف وبصياح الطير في جو السماء؟ لو صدق هذا كله لكنت قاتل أبي، فها هو ذا قد مات وواره التراب، وها أنذا هنا لم أجرد سيفا (ساخرا)

إلا أن يكون قد قتله الحزن لفراقي، وإذن فأنا سبب موته، وعلى كل حال فقد هبط بوليبيوس إلى دار الموتى حاملا معه وحي الآلهة، كلا إن هذا الوحي لا يدل على شيء.

يوكاستيه :

ألم أنبئك بهذا منذ وقت طويل؟

أويديپوس :

لقد أنبأتني بالحق، ولكن الخوف كان يضلني.

يوكاستيه :

لا تحفل بالوحي منذ الآن.

أويديپوس :

وكيف لا أخاف سرير أمي؟

يوكاستيه :

ماذا يجدي على الإنسان أن يملأ نفسه ذعرا؟ إنما المصادفة وحدها هي المسيطرة على أمره كله دون أن يستطيع التنبؤ بأيسر ما سيعرض له، والخير في أن يستسلم الإنسان للحظ ما استطاع. أما أنت فلا تخف من فكرة الاقتران بأمك؛ فكثير من الناس من اقترنوا بأمهاتهم في أحلام الليل. ومن ازدرى هذا الخوف الذي يصدر عن الوهم كان خليقا أن يحتمل الحياة في كثير من اليسر.

أويديپوس :

كنت خليقة أن تصيبي في هذا كله لو لم تكن أمي بين الأحياء، فأما وهي حية فإني مضطر - على رغم ما تقولين من الحق - إلى شيء من الخوف.

يوكاستيه :

ومع ذلك فإن قبر أبيك يحط عنك ثقلا عظيما.

أويديپوس :

لا أشك في ذلك، ولكني ما زلت أخاف أمي التي لم تمت.

الرسول :

ومن هذه المرأة التي تثير في نفسك هذا الهلع؟

أويديپوس :

هي ميروبا التي كان يعايشها بوليبيوس أيها الشيخ.

الرسول :

وماذا يخيفك منها؟

أويديپوس :

وحي من الآلهة وحي خطير أيها الغريب.

الرسول :

أتستطيع أن تنبئني به؟ أم يحظر على غيرك أن يعرفه؟

أويديپوس :

ستعلم، لقد تنبأ أپولون بأني سأتزوج أمي وسأسفك بيدي دم أبي، من أجل هذا أقمت بعيدا عن كورنته منذ زمن طويل، وكنت محقا في ذلك، ومع ذلك فحبيب إلى النفس أن نرى وجوه آبائنا وأمهاتنا.

الرسول :

من أجل هذا الخوف نفيت نفسك من المدينة؟

أويديپوس :

نعم، لم أرد أن أكون قاتل أبي أيها الشيخ.

الرسول :

لم لم أنقذك من هذا الخوف أيها الملك وقد أقبلت يملؤني الحب لك.

أويديپوس :

إذن أكافئ هذه الخدمة بما تستحق.

الرسول :

ومن أجل هذا أقبلت راجيا أن ينفعني ذلك بعد عودتك إلى كورنته.

أويديپوس :

ولكني لن أعيش مع أهلي في مكان واحد.

الرسول :

واضح جدا يا بني أنك لا تعرف ما تصنع.

أويديپوس :

وكيف ذلك أيها الشيخ أنبئني بحق الآلهة.

الرسول :

إذا كانت هذه هي الأسباب التي تمنعك من العودة إلى وطنك.

أويديپوس :

أخشى أن تصدق نبوءة أپولون.

الرسول :

أتخشى أن تأتي الإثم مع أبويك؟

أويديپوس :

هذا ما يفزعني دائما أيها الشيخ.

الرسول :

أتعلم أن خوفك لا أساس له!

أويديپوس :

كيف ذلك إذا كنت ابن هذين الشخصين.

الرسول :

لأن بوليبيوس لم تكن بينه وبينك صلة النسب.

أويديپوس :

ماذا تقول؟ لم يكن بوليبيوس أبي؟

الرسول :

لم يكن أباك كما أني لست أباك .

أويديپوس :

وكيف يكون أبي مساويا لمن لا صلة بينه وبيني؟

الرسول :

لأنه لم يلدك كما أني لم ألدك.

أويديپوس :

ولم كان يدعوني ابنه إذن؟

الرسول :

تعلم أنه تلقاك هدية مني.

أويديپوس :

وعلى رغم أنه تلقاني من يد أجنبية فقد أحبني كل ذلك الحب؟

الرسول :

ذلك لأنه كان عقيما لا ولد له.

أويديپوس :

وأنت كنت قد اشتريتني أم التقطتني حين أهديتني إليه؟

الرسول :

التقطتك في واد من تلك الوديان التي تظللها الغابات في جبل كتيرون.

أويديپوس :

وفيم ذهبت إلى هذه الوديان؟

الرسول :

كنت أرعى القطعان في الجبل.

أويديپوس :

كنت راعيا إذن تهيم لحساب غيرك؟

الرسول :

وكنت في ذلك الوقت منقذك يا بني.

أويديپوس :

أي ألم كنت أحتمل حين وجدتني في تلك الحال السيئة؟

الرسول :

تنبئ بهذا مفاصل قدميك.

أويديپوس :

إنك لتذكرني بآلام قديمة قاسية.

الرسول :

فككتك وكانت قدماك قد ثقبتا في أطرافهما.

أويديپوس :

أي ذكرى سيئة أحتفظ بها لأعوام الصبا؟

الرسول :

من هذا الشر اشتق اسمك.

13

أويديپوس :

بحق الآلهة أنبئني أجاءني هذا الشر من أمي أم من أبي؟

الرسول :

لا أدري، وإنما علم ذلك عند الذي دفعك إلي.

أويديپوس :

فقد تلقيتني إذن من رجل آخر ولم تجدني في الطريق؟

الرسول :

تلقيتك من راع آخر.

أويديپوس :

من عسى أن يكون؟ أتستطيع أن تدل عليه.

الرسول :

كان يقال إنه من خدم لايوس.

أويديپوس :

من خدم الملك القديم لهذا البلد؟

الرسول :

نعم، كان راعيا لهذا الرجل.

أويديپوس :

أما زال حيا؟ أأستطيع أن أراه؟

أويديپوس (لأعضاء الجوقة) :

أنتم أعلم بهذا؛ لأنكم من أهل هذه المدينة.

أويديپوس (للجوقة) :

أيوجد بينكم من يعرف هذا الراعي سواء رآه في المدينة أم في ريفها؟ أجيبوا فقد آن أن يتبين الأمر.

الجوقة :

أظن أنه ليس إلا هذا الريفي الذي كنت تريد أن تراه منذ حين، ولكن يوكاستيه أعلم بذلك منا.

أويديپوس :

أيتها المرأة أتظنين أن هذا الرجل الذي كنا ننتظره منذ حين هو الذي يشير إليه هذا الرسول.

يوكاستيه :

ماذا؟ عمن تتحدث؟ لا تلتفت إلى هذا، اجتهد في أن تنسى هذا الكلام الذي لا يغني.

أويديپوس :

ليس من المعقول ألا تعينني هذه الأمارات على أن أعرف مولدي.

يوكاستيه :

بحق الآلهة إلا ما تركت هذا البحث إن كنت معنيا بحياتك الخاصة (لنفسها)

إن شقائي يكفي.

أويديپوس :

لا بأس عليك فلو قد ثبت أني ابن أجيال ثلاثة من الرقيق لم يلقك من هذا أي عار.

يوكاستيه :

مهما يكن من شيء فإني أضرع إليك في أن تسمع لي، وألا تمضي في هذا البحث.

أويديپوس :

لا سبيل إلى طاعتك، لا بد من أن يتبين هذا اللغز.

يوكاستيه :

ومع ذلك فأنا أفكر في منفعتك وأنصح لك في المشورة.

أويديپوس :

نعم ولكن نصحك هذا يؤذيني منذ حين.

يوكاستيه :

أيها الشقي وددت لو جهلت دائما من تكون.

أويديپوس :

ألا يراد أن يؤتى إلي بهذا الراعي (يسرع أحد الخدم في طلبه)

دعوها تفخر بأسرتها العظيمة.

يوكاستيه :

وا حسرتاه أيها الشقي! هذا هو الاسم الذي أستطيع أن أسميك به ولن أستطيع أن أدعوك باسم آخر. (تخرج)

رئيس الجوقة :

لماذا انطلقت زوجك يا أويديپوس يملؤها يأس فظيع؟ إني لأخشى أن ينفجر من هذا الصمت شر عظيم.

أويديپوس :

لينفجر ما يريد أن ينفجر، ولكني حريص على أن أعرف أصلي مهما يكن وضيعا، إن هذه المرأة قد ملأتها الكبرياء فهي تستخذي من مولدي الوضيع، أما أنا فأرى نفسي ابن الجدود الخيرة، ولا يغض من شأني نسب مهما يكن. نعم هذه الجدود هي التي كبرت معي قد خفضتني حينا ورفعتني حينا آخر، هذا هو نسبي لا سبيل إلى تغييره، لماذا أعدل عن استكشاف مولدي؟

الجوقة (في نشاط وفرح) :

إن كنت كاهنا، إن كنت ذكي القلب، فإني أقسم بأپولون أي جبل كتيرون أن القمر لن يتم في السماء حتى ترى إقبالنا عليك واحتفالنا بك، أنت موطن أويديپوس أنت الذي غذاه وكان له أبا، سنحتفل بك راقصين؛ لأنك كنت مصدر الخير لسادتنا، أي أپولون حامينا أرجو أن يروقك ما أقول.

14

من يا بني؟ من ولدتك؟ من عسى أن تكون هذه العذراء الخالدة التي منحتك الحياة بعد أن اقترنت بالإله بان أبيك الذي يهيم في الجبال بعد أن كان أثيرا عند أپولون؟ إنه يحب السهول الريفية كلها، ومن يدري لعل الإله هرميس الذي يملك على جبل كيلين حيث يقيم باكوس نزيل الجبال الشاهقة قد تلقاك رضيعا من إحدى العذارى الخالدات اللاتي يعشن في جبل إليكون واللاتي يداعبهن الإله كثيرا. (يرى الراعي الشيخ للملك لايوس وهو يقبل بين عبدين.)

أويديپوس :

إذا كان حقا علي أيها الشيوخ أن أتوسم رجلا لم أره قط فإني أظن أن هذا المقبل هو الراعي الذي نبحث عنه منذ زمن طويل، فإن شيخوخته التي بعد العهد بها تلائم شيخوخة هذا الرسول، على أني أعرف هذين اللذين يقودانه فهما من خدمي، ولكنك أنت وقد رأيت هذا الراعي من قبل تستطيع أن تنبئنا بعلم ذلك.

رئيس الجوقة :

تعلم أني أعرفه؛ فقد كان ملكا للايوس وكان من أشد رعاته أمانة له ووفاء.

أويديپوس :

سأبدأ بسؤالك أنت أيها الغريب الكورنتي، أهذا هو الرجل الذي تتحدث عنه؟

الرسول :

هو بعينه، إنك لتراه.

أويديپوس :

أيها الشيخ انظر إلي وأجب عن كل ما ألقي عليك من سؤال، أكنت فيما مضى من الدهر ملكا للايوس؟

الخادم :

كنت عبده لم يشترني، ولكني ولدت ونشأت في قصره.

أويديپوس :

ماذا كنت تصنع؟ وأي حياة كنت تحيا؟

الخادم :

أنفقت معظم حياتي راعيا للقطعان.

أويديپوس :

في أي مكان كنت تقيم؟

الخادم :

كنت أقيم على جبل الكتيرون أحيانا وأحيانا في بلد يجاوره.

أويديپوس :

هذا الرجل أتذكر أنك رأيته هناك؟

الخادم :

ماذا كان يصنع؟ عن أي الرجال تتحدث؟

أويديپوس :

عن هذا الذي تراه، ألقيته قط؟

الخادم :

لا أستطيع أن أجيب من الفور؛ لأني لا أذكر.

الرسول :

لا غرابة في ذلك يا مولاي، لقد نسي كل شيء، ولكني سأذكره في وضوح وجلاء، أنا واثق بأنه عرفني حين كان يرعى طائفتين من القطعان، وكنت أرعى طائفة واحدة وقد أقمنا معا على الكتيرون ثلاثة فصول من الربيع إلى أن ظهر الدب، فلما أقبل الشتاء عدت إلى حظائري وعاد هو إلى حظائر لايوس ، أهذا حق؟ ألم تجر الأمور كما وصفت؟

الخادم :

حقا، ولكن هذا بعيد العهد.

الرسول :

والآن أتذكر أنك دفعت إلي صبيا لأربيه كما لو كان ابني؟

الخادم :

ماذا تقول؟ لم تلق هذا السؤال؟

الرسول :

ها هو ذا أيها الصديق ذلك الذي كان صبيا حينئذ.

الخادم :

لتهلكك الآلهة، ألا تؤثر الصمت.

أويديپوس :

لا تغضب عليه أيها الشيخ فإن ألفاظك أنت هي الخليقة أن تثير الغضب لا ألفاظه.

الخادم :

أي خطيئة اقترفت يا خير السادة؟

أويديپوس :

خطيئتك أنك لا تجيب بشيء عن أمر الطفل الذي يسألك عنه.

الخادم :

إنه يتحدث عن غير علم ويضيع وقته.

أويديپوس :

إن لم تجب طائعا فستجيب كارها.

الخادم :

إني أقسم عليك بالآلهة ألا تعذبني ولا تشق علي؛ فإني شيخ كبير.

أويديپوس :

ألا تريدون أن تسرعوا فتجمعوا يديه خلف ظهره.

الخادم :

ما أشقاني، فيم هذا العذاب؟ ماذا تريد أن تعلم؟

أويديپوس :

هذا الصبي الذي يتحدث عنه هل دفعته إليه؟

الخادم :

نعم، وددت لو مت في ذلك اليوم.

أويديپوس :

سينزل بك الموت إن لم تقل ما يجب أن تقول.

الخادم :

وأشد من ذلك تأكيدا أني هالك إن تكلمت.

أويديپوس :

يخيل إلي أن هذا الرجل يريد أن يدور.

الخادم :

كلا، لقد أنبأتك بأني دفعت الصبي إليه.

أويديپوس :

وممن تلقيت هذا الصبي؟ أكان ابنك أم تلقيته من إنسان آخر؟

الخادم :

لم يكن ابني، بل تلقيته من بعض الناس.

أويديپوس :

من أي المواطنين من هنا؟ من أي بيت؟

الخادم :

بحق الآلهة يا مولاي لا تسلني عن أكثر من هذا.

أويديپوس :

إنك ميت إن اضطررت إلى أن أعيد عليك هذا السؤال.

الخادم :

إذن فقد ولد هذا الصبي في قصر لايوس.

أويديپوس :

أولد لعبد من عبيده؟ أم ولد له هو؟

الخادم :

وا حسرتاه! هذا ما يفظعني أن أقوله.

أويديپوس :

ويفظعني أن أسمعه، ومع ذلك يجب أن تتكلم.

الخادم :

كان يقال إنه ابن الملك، ولكن في القصر امرأتك تستطيع أن تنبئك بجلية الأمر.

أويديپوس :

أهي التي دفعته إليك؟

الخادم :

نعم أيها الملك.

أويديپوس :

لماذا؟

الخادم :

لأهلكه .

أويديپوس : «أم» تقدم على ذلك؟ ما أشقاها.

الخادم :

خوفا من وحي مشئوم.

أويديپوس :

أي وحي؟

الخادم :

كان يقال: إن هذا الصبي لو عاش لقتل أبويه.

أويديپوس :

ولم دفعته إلى هذا الشيخ؟

الخادم :

إشفاقا عليه يا مولاي، قدرت أن سيحمله إلى بلد آخر حيث يعيش هو. وهو أنقذ حياته فكان ذلك مصدر شقاء عظيم، فلو قد صدق ما يقول لكنت أشقى الناس وأنكدهم حظا.

أويديپوس :

وا حسرتاه! وا حسرتاه! لقد استبان كل شيء، أيها الضوء، أيها الضوء لعلي أراك الآن للمرة الأخيرة، لقد أصبح الناس جميعا يعلمون، لقد كان محظورا علي أن أولد لمن ولدت له وأن أحيا مع من أحيا معه، وقد قتلت من لم يكن لي أن أقتله. (يسرع إلى القصر، ويذهب الراعيان، أما الكورنتي فإلى الشمال، وأما الآخر فإلى اليمين، الملعب خال.)

الجوقة (في هدوء وحزن) :

وا حسرتاه أي أبناء الهالكين! إن وجودكم عندي ليعدل العدم، أي الناس عرف من السعادة غير ما تخيل، إنما تدفعون إلي الوهم ثم لا تلبثون أن تردوا إلي الشقاء؟ إذا كان حظك مثلا، نعم إذا كان حظك مثلا أيها الشقي أويديپوس فلن أرى حياة الناس أهلا للسعادة.

لقد رمى فأبعد، لقد ظفر بالنعيم والجد، أي زوس! لقد أهلك تلك العذراء ذات المخالب الحجن والأغاني الغامضة، ولقد كان قائما في بلدنا كأنه البرج الشاهق يرد عنا الموت منذ ذلك الوقت. أي أويديپوس، دعوناك الملك الخير وقدمنا إليك أعظم الشرف، فجعلناك صاحب الأمر والنهي في هذه المدينة القوية مدينة ثيبة (في أناة) .

واليوم أي الناس يشقى بما هو أشد إيلاما من هذا؟ أي الناس يغرق في أمواج من العذاب أعنف من هذا العذاب؟ وا حسرتاه! أيها العزيز أويديپوس ذا الصوت البعيد كيف كتب عليك أن تكون ابنا وأبا وزوجا، وأن يئويك نفس المرفأ الذي آوى أباك ويئوي والدتك، كيف استطاع حرث أبيك أن يحتملك في صمت طول هذا الوقت.

لقد استكشفك - على الرغم منك - هذا الزمان الذي يرى كل شيء، إنه ليمقت زواجك هذا البغيض الذي جعل لك من أمك أولادا، يا بن لايوس، ليتني لم أرك قط، إني لأشكو أن فمي لا يستطيع أن يبعث إلا صيحات الألم، ومع ذلك فيجب أن أقول الحق، بفضلك استطعت أن أتنفس، بفضلك استطعت أن أغمض عيني. (يدخل خادم مقبل من القصر.)

الخادم :

أي أشراف هذه الأرض وأحق أهلها بالكرامة: على أي عمل ستقدمون، وإلى أي ألم ستنظرون، وفي أي حداد ستمعنون؟ إن كنتم ما تزالون تحبون أسرة لبدكوس ففي الحق أني لا أظن أن ما يجري في نهر الأستير والفاس من الماء يستطيع أن يغسل هذا القصر مما علق به من أوضار الجرم، على أنه سيفتح بعد حين عن آلام أخرى كسبتها الإرادة كسبا دون أن يكره عليها أصحابها، وأشد الآلام إيذاء للناس ما يجنيه الناس على أنفسهم بأنفسهم.

رئيس الجوقة :

إن ما نعرفه ليكفي ليدفعنا إلى الشكاة والأنين، فبماذا تريد أن تنبئنا؟

الخادم :

بشيء يسير أن يقال ويسير أن يعلم أيضا، أن يوكاستيه ملكتنا قد فارقت الحياة.

رئيس الجوقة :

يا لها من بائسة، وماذا قضى عليها الموت؟

الخادم :

قتلت نفسها وقد جنبتم من هذا كله ما هو أشد نكرا فلم تشهدوه ولم تروا فظاعته، ومع ذلك فستعلم مقدار ما احتملت تلك البائسة من الألم كما حفظته ذاكرتي، لقد مضت ذاهلة حتى إذا عبرت البهو قذفت نفسها نحو سرير الزوجية مستأصلة شعرها بكلتا يديها، ثم تدخل وتغلق الباب من دونها في عنف داعية لايوس ذلك الذي مات منذ وقت طويل مستحضرة ذكر ابنها الذي منحته الحياة منذ سنين، ابنها الذي كان يجب أن يلقى لايوس الموت من يده ليترك الأم تلد أبناء - إن صح أن يسموا بهذا الاسم - لابنها.

وكانت تعول وتنتحب على هذا السرير الذي تلقى من ولدها جيلين، أزواجا من زوجها وأبناء من ابنها، كيف ماتت بعد ذلك لا أدري، لقد أقبل أويديپوس صارخا صاخبا فلم أستطع أن أرى موت الملكة، إنما وقفنا أبصارنا عليه وهو يهيم مضطربا غائب الرشد، كان يذهب إلى غير وجه يسألنا أن نعطيه سيفا، وأن ننبئه عن مكان امرأته، بل عن مكان تلك التي حملته وحملت أبناءه ومنحتهم جميعا الحياة، ثم هداه إليها في هذه الثورة إله لا أدري من هو، ولكن المحقق أننا لم ندله على مكانها.

هنالك بعث صيحة منكرة واندفع إلى الباب المغلق فيدير حديده المجوف ثم يقذف نفسه في الحجرة، وهناك نرى امرأته وقد خنفت نفسها، وكان الحبل المبرم لا يزال يدور حول عنقها.

فلا يكاد الشقي يشهد هذا المنظر حتى يدفع من فمه زئيرا مروعا، فيحل العقدة التي كانت تعلقها في الهواء وتسقط المرأة البائسة على الأرض، هنالك رأينا هولا أي هول، نرى أويديپوس ينتزع المشابك الذهبية التي كانت قد اتخذتها زينة، ثم يدفع بها في عينيه صائحا أنه لن يرى شقاءه ولا جرائمه، ثم يتحدث إلى عينيه قائلا: «ستظلان في الظلمة فلا تريان من كان يجب ألا ترياه، ولا تعرفان من لا أريد أن أعرف بعد اليوم.»

كان يدفع هذه الصيحات ويرفع جفنيه مضاعفا ضرباته وهاتان عيناه الداميتان تخضبان ذقنه لم تكونا ترسلان قطرات رطبة من الدم، وإنما كان ينفجر منهما مطر مظلم دام.

لقد اشتركا في أحدث هذه الآثام فاشتركا فيما أنتجت من شقاء، لقد استمتعا من قبل بتراث قديم من السعادة فلم يبق منه الآن إلا أنين ولعنات وموت وخزي، كل الآلام لا ينقص منها شيء.

رئيس الجوقة :

والآن ما بال الشقي عاد إليه الهدوء؟

الخادم :

إنه يصيح بالخدم أن اقتحموا الأبواب وأظهروا لأهل ثيبة جميعا قاتل أبيه، الابن الذي كان من أمه ... لا أستطيع أن أعيد عليكم هذه الكلمات الآثمة، إنه يزعم أنه سينفي نفسه من الأرض، وأنه لن يقيم في القصر بعد أن صبت عليه اللعنة التي استنزلها هو، وهو مع ذلك محتاج إلى من يعينه ومن يهديه؛ فإن آلامه أثقل من أن يستطيع لها احتمالا، وسيظهرك عليه، هذه الأبواب تفتح، سترى منظرا يثير إشفاق العدو نفسه. (يدخل أويديپوس داميا وقد فقئت عيناه.)

رئيس الجوقة (في غناء) :

يا للألم ذي المنظر الفظيع أفظع ما رأيت قط، أي جنون قد صب عليك أيها الشقي؟ أي إله قد انتهى بالقضاء فيك إلى أقصاه، فصب عليك من الآلام ما يتجاوز طاقة الناس؟ آه! إنك لتعس، لا أجد القوة على أن أدير طرفي نحوك، ومع ذلك فما أشد حرصي على أن أسألك وأسمع لك، وأنظر إليك، إلى هذا الحد بلغ ما تثير في نفسي من الهول والفزع.

أويديپوس (وهو يتقدم متحسسا) :

آه ما أشقاني! أين أذهب؟ إلى أي بلد؟ إلى أين يحمل الهواء صوتي؟ أي جدي العاثر أين هويت؟

رئيس الجوقة (متحدثا) :

في حزن مخيف لا يطاق وصفه ولا النظر إليه.

أويديپوس (مضطربا) :

أيها السحاب المظلم، يا للسحاب البغيض الذي صب علي، يا للسحاب الذي لا يوصف ولا يقهر ولا يتقى! واحسرتاه! نعم وا حسرتاه! بأي سنان يطعنني الألم والذكرى؟

رئيس الجوقة :

من حقك وقد ألحت عليك المصائب أن تضاعف الشكاة كما تتضاعف آلامك.

أويديپوس (مضطربا) :

أيها الصديق، أنت الرفيق الوحيد الذي بقي لي ما دمت ترضى أن تعطف على ضرير، وا حسرتاه! إني أعرف أنك هنا؛ لأني - وقد غمرتني الظلمة - ما أزال أسمع صوتك.

رئيس الجوقة :

على أي أمر فظيع أقدمت؟ كيف وجدت الشجاعة التي مكنتك من إطفاء عينيك؟ أي إله دفعك إلى ذلك؟

أويديپوس (مضطربا) :

دفعني إلى ذلك أپولون، نعم أپولون أيها الصديق هو مصدر آلامي التي لا تطاق، ولكن لم يفقأ عيني إلا أنا وحدي أنا الشقي! لماذا كان ينبغي أن أبصر بعد أن قضي علي ألا أرى شيئا يحلو منظره.

رئيس الجوقة :

أكان الأمر كما تقول حقا؟

أويديپوس :

ماذا أستطيع أن أرى أو أحب؟ أي كلام أستطيع أن أستمع له في لذة أيها الأصدقاء؟ قودوني إلى مكان بعيد عن هذه الأرض في أسرع وقت، قودوا أيها الأصدقاء موضوع البغض واللعنة أبغض الناس إلى الآلهة.

رئيس الجوقة :

إنك لخليق بالرثاء لشقائك وتقديرك لهذا الشقاء، ووددت لو أني لم أعرفك قط.

أويديپوس (مضطربا) :

ليهلك ذلك الذي فك رجلي من القيد في مكان قفر، واستنقذني من الموت ونجاني للشقاء وحده؛ فلو قد مت حينئذ لما كنت الآن مصدر ألم لأصدقائي ولي.

رئيس الجوقة :

وددت ذلك كما توده.

أويديپوس :

إذن، لما قتلت أبي ولما دعيت زوجا للتي ولدتني، أما الآن فقد تخلى الآلهة عني فأنا سليل أم دنسة، وأنا أب لإخوتي، فإذا كان هناك شقاء أفظع من الشقاء نفسه فقد قسم لأويديپوس وكتب عليه.

رئيس الجوقة :

أكنت مصيبا فيما أقدمت عليه؟ لا أدري! لقد كان خيرا لك أن تموت من أن تعيش ضريرا.

أويديپوس :

لا تحاول أن تظهر لي أني كنت أستطيع أن أفعل خيرا مما فعلت، لا تشر علي فلست أدري بأي نظرة كنت أقبل على أبي في دار الموتى أو على أمي التعسة، فقد اقترفت في ذاتهما آثاما لا يكفر عنها الموت خنقا، وأواجه أبنائي الذين ولدوا كما تعلم، أكانت منظرا جميلا لعيني؟ كلا لم يكن لعيني أن ترياهم، كما لم يكن لعيني أن تريا المدينة والأسوار ولا أصنام الآلهة المقدسة.

وا حسرتاه! لقد عشت في ثيبة أسعد العيش وأرغده، ثم صرفت نفس هذا العيش بنفسي حين أصدرت الأمر إلى الناس جميعا أن ينبذوا قاتل الملك. فقد ظهر أن قاتل لايوس هو سليل لايوس، فبعد أن أظهرت الناس كلهم على هذا الإثم أكنت أستطيع أن أراهم دون أن أغض الطرف خزيا؟ كلا، ولو كان من الممكن أن يمنع الصوت من الوصول إلى النفس، إذن لحرمت السمع على هذا الجسم الحقير حتى لا أدري شيئا ولا أسمع شيئا، فإن من الراحة ألا تصل إلى النفس هذه الآلام (صمت) .

أي جبل كتيرون لماذا تلقيتني؟ لماذا لم تقتلني حين تلقيتني؟ إذن لما أظهرت الناس على نسبي. أي بوليبيوس، أي كورنته، أيها القصر الذي كنت أدعوه قصري، أي خزي نميت في دون ذلك الجمال الذي كان يستره، فأنا الآن مجرم قد ولدت لشخص مجرم، كل الناس يعرف ذلك.

أيتها الطريق المثلثة، أيها الوادي الظليل، أي غابة البلوط، أيها الممر الضيق في المفارق الثلاثة: أنتن اللاتي شربن دمي، دمي الذي سفحته بيدي حين قتلت أبي، أتذكرن الجريمة التي دنستكن بها، أتذكرن الجرائم التي اقترفتها بعد أن بلغت هذه المدينة. أيها الزواج، أيها الزواج لقد منحتني الحياة، ثم لم تلبث أن أنبت البذر نفسه مرة أخرى، أظهرت للضوء آباء إخوة لأبنائهم، وأبناء إخوة لآبائهم، وزوجات هن لأزواجهن أمهات وزوجات وظهرت للضوء أشنع ما يمكن أن يكون بين الناس من الآثام والسيئات.

هلم؛ فليس يحسن أن نقول ما لا يحسن أن نعمل، أسرعوا - بحق الآلهة - فأخفوني حيث شئتم في مكان بعيد عن هذه الأرض، اقتلوني، ألقوني في البحر في حيث لا ترونني آخر الدهر، ادنوا لا تستكبروا أن تمسوا رجلا تعسا، صدقوني لا تخافوا شيئا، إن شقائي لأعظم وأثقل من أن يحتمله بين الناس أحد غيري. (يدخل كريون)

رئيس الجوقة :

هذا كريون قد أقبل، وهو الذي يستطيع أن يجيبك إلى ما تريد، وأن يشير عليك ناصحا لك، فإليه وحده يئول الأمر من بعدك.

أويديپوس :

آه! ماذا أستطيع أن أقول له؟ وأي شيء يحق لي أن أنتظر منه؟ لقد أسرفت في الجور عليه آنفا.

كريون :

لم آت إلى هذا المكان لأسوءك يا أويديپوس ولا لألومك على ما قدمت من خطأ، ولكن اسمعوا لي أنتم يا أبناء ثيبة: إذا لم ترعوا حرمة الناس فلا أقل من أن ترعوا حرمة هذه الجذوة، جذوة الإله هليوس،

15

هذه الجذوة التي تغزو كل شيء، وأن تخجلوا من أن تظهروا هذا الكائن الدنس بارزا غير مقنع، هذا الذي لا تستطيع أن تتلقاه الأرض ولا الغيث المقدس ولا الضوء، قودوه مسرعين إلى القصر، إنما تفرض التقوى على الأقربين وعليهم وحدهم أن يروا وأن يسمعوا شقاء ذوي قرباهم.

أويديپوس :

بحق الآلهة إلا ما استمعت لي ما دمت قد كذبت ظني وأظهرت هذا العطف الشديد على أشد الناس إجراما، فإني سأقول ما ينفعك لا ما ينفعني.

كريون :

ماذا تطلب إلي؟

أويديپوس :

اقذفني بعيدا عن هذه المدينة في حيث لا يراني أحد أتحدث إلى إنسان.

كريون :

تعلم أني كنت خليقا أن أفعل ذلك لولا أني أريد أن أتلقى فيه الأمر من الإله.

أويديپوس :

إن أمر الإله معروف، فإن قاتل أبيه والخارج عن طاعة الآلهة يجب أن يقتل.

كريون :

نعم بذلك أمر الإله، ولكننا في هذه الضرورة القاسية نؤثر أن نعرف في وضوح ودقة ما ينبغي أن نفعل.

أويديپوس :

وكذلك تريد أن تستأمر الوحي في شأن بائس مجرم؟

كريون :

ولن تكذب في هذه المرة ما يقول.

أويديپوس :

وأتوسل إليك في أن تمنح القبر الذي تراه أنت ملائما لهذه التي في القصر، فأنت صاحب الحق في أداء هذا الواجب لكائن تجمع بينه وبينك صلة الدم. أما أنا فلا تتمنى يوما من الأيام أن تراني مدينة أبي ما حييت، ولكن دعني أعش في الجبال حيث يقوم الكترون وطني الحزين الذي اختاره لي أمي وأبي يوم ولدت ليكون لي قبرا؛ فقد آن أن أموت حيث أرادا لي الموت.

على أن هناك شيئا أعرفه حق المعرفة فلن يختم حياتي مرض أو شيء يشبه المرض، فما نجوت من الموت لو لم أكن مهيئا لشقاء فظيع، ولكن ليبلغ بي الكتاب أجله مهما يكن، أما ابناي فلا تتكلف في أمرهما جهدا، فهما رجلان ولن تخطئهما وسائل العيش حيثما وجدا.

ولكن ابنتاي التعستان ما أشد حاجتهما إلى الشفقة، لم يقدم إليهما الطعام قط على المائدة إلا وقد كنت حاضرا، ولم تمتد يدي إلى طعام قط إلا وقد كان لهما منه نصيب، اشملهما بعطفك إني أضرع إليك في ذلك، ودعني أمسسهما بيدي وأندب شقاءهما. إني أتوسل إليك أيها الملك الذي تحدر من أصل نبيل، فإني إن أمسسهما بيدي أخيل إلى نفسي أني أحققهما كما كنت أفعل حين كنت أراهما بعيني، بل ماذا أقول؟ يا للآلهة، ألست أسمع غير بعيد ابنتي تبكيان؟ أأشفق علي كريون فأرسل إلي أعز أبنائي علي وآثرهم عندي؟ أهذا حق؟

كريون :

نعم أنا الذي دعاهما، فقد كنت أعلم حاجتك إليهما، ورغبتك في لقائهما. (تدنو أنتيجونا وأسمينا من أبيهما، وقد جاء بهما خادم بإشارة من كريون ، وهما في نضرة الشباب.)

أويديپوس :

إذن فكن سعيدا، وليكافئك الآلهة على ما مكنتني من لقائهما، فيحفظوك خيرا مما حفظوني، أيتها الصبيتان أين أنتما؟ ادنوا مني، ادنوا من يدي ... الأخويتين، هما اللتان حرمتا الضوء كما تريان عيني أبيكما اللتين كانتا تبصران منذ حين، لم أكن أرى بهما إذ ذاك، ولم أكن أعلم شيئا يا ابنتي، وكذلك أخرجتكما من الأحشاء التي خرجت منها، وإني لأبكي عليكما بعد أن حيل بيني وبين رؤيتكما، أبكي عليكما حين أقدر كل الآلام المرة التي يجب أن تلقياها طول حياتكما من الناس.

إلى أي مجمع من مجامع ثيبة، إلى أي عيد من أعيادها تستطيعان أن تذهبا دون أن تعودا باكيتين، وقد كنتما تؤثران أن تبقيا لتريا ما يرى غيركما، وإذا بلغتما هذه السن المزهرة سن الزواج، فأي الناس، أي الناس يبلغ من الجرأة أن يحتمل كل هذه المخزيات التي ستكون مصدر شقاء لذريتي ولذريتكما؟ أي شقاء لم ينزل بكما أبوكما، قتل أباه وتزوج أمه، ومنحتكما الحياة من حيث أستمدها، هذه هي الإهانات التي ستساق إليكما، وإذن فأي الناس يستطيع أن يتزوجكما؟ لن يتزوجكما أحد يا ابنتي، ستضطران إلى أن تفنيا حياتكما في العقم والوحدة.

يابن منيسيوس لقد بقيت لهما وحدك أبا بعد أن هلك أبواهما اللذان منحاهما الحياة، لا تدعهما إنهما من أسرتك، لا تخل بينهما وبين البؤس والجوع، لا تسو شقاءهما بشقائي. أشفق عليهما حين تراهما في هذه السن قد حرمتا كل عون إلا عونك، أظهر آية قبولك لما أعرض عليك أيها الرجل الكريم، امسسني بيدك. وأنتما يا ابنتي، لقد كنت خليقا أن أوجه إليكما النصح لو أن لكما حظا من رشد، حسبكما أن تتمنيا مهما تكن داركما أن تكون حياتكما خيرا من حياة أبيكما.

كريون :

حسبك ما بكيت، ادخل إلى القصر.

أويديپوس :

لك الطاعة وإن كنت عليها مرغما.

كريون :

كل شيء حسن إذا وقع في إبانه.

أويديپوس :

أتعرف على أي شرط أمضي؟

كريون :

قل ... فسأعرف بعد أن أسمع لك.

أويديپوس :

أن تنفيني من هذه الأرض .

كريون :

إنك تطلب ما يستطيع الإله وحده أن يمنحك.

أويديپوس :

ولكني بغيض إلى الآلهة.

كريون :

إذا فستجاب فورا إلى ما تريد.

أويديپوس :

أتقول حقا؟

كريون :

لا أقول إلا ما أعتقد.

أويديپوس :

أخرجني إذن من هذا المكان.

كريون :

تعال إذن ودع ابنتيك.

أويديپوس :

لا تنتزعهما مني، إني أضرع إليك في ذلك.

كريون :

لا تحاول دائما أن تكون صاحب الأمر، فإن ما أفادك ظفرك قديما لم يصاحبك في أطوار حياتك كلها. (يدخل أويديپوس إلى القصر يقوده كريون في بطء وتتبعه ابنتاه والخدم.)

رئيس الجوقة :

أي أبناء ثيبة وطني العزيز، انظروا إلى أويديپوس هذا الذي حل اللغز العجيب الذي أعجز غيره من الناس، هذا الرجل القوي، أي أبناء المدينة لم يكن ينظر إلى رخائه وسعادته في شيء من الحسد! والآن في أي بحر هائل من الشقاء قذف به! ما ينبغي أن نقول عن أحد من الناس: إنه سعيد قبل أن يقضي الساعة الأخيرة من حياته دون أن يتعرض لشر ما.

Página desconocida