كل سنة في الثلاثين من أيلول يسمع سكان نبع الصفا عواء ينحدر بين الصنوبر والأدغال قادما من ناحية النبع، تردده الأصداء وتتناقله الأوداء، وتظل كلاب الجيرة بعد ذلك أياما لا تنبح ولا تهر في وجه فقير، كئيبة حزينة تتلفت ناحية مصدر الصوت، فتسرح بنات آوى في تلك الفترة وتمرح يقينا منها أن كلاب الحي لن تتصدى لها بسوء، ولن تجري وراءها، ولن تعكر عليها صفو الصيد، أما الدواجن فتأوي قبل الغياب مزاربها لعلمها أن الكلاب لن تدفع عنها ضيرا، ولن تقيها الغزاة إذا ما قدموا بأظفارهم وأنيابهم.
قالت لي عجوز: بقي هذا السر مكتوما والناس يتأولون فيه، إلى أن كشف عنه ساحر من بلاد الشرق البعيد، كان يتنقل في تلك النواحي، فاتفق له أن حط ركابه في أواخر أيلول في الصفا، وكانت الليلة قمراء تغمر الفضة أعالي الصنوبر والشربين وتفرش الأرض، والنبع يغني أغنيته الأزلية في ذلك الوادي وينحدر متألقا حينا تحت ضوء القمر، مختبئا حينا في عتمة المنحدرات كأنما تسبح فيه ألف حورية بيضاء إلى جنب ألف مارد أسود.
قال الساحر: ولست أدري ما حداني أن أزور النبع تلك الليلة، فقمت إليه سالكا الضفة الشرقية من النهر حتى بلغته، فإذا هو يتدفق من تحت صخرة عريضة ويتجمع في غبيط قبل أن يكر كرته الكبرى، وإذا قبالته صخر كأنه مقعد من فوقه رفرف، فتمددت هناك أتأمل الماء والنور وتألق مجديهما. وبينا أنا على هذه الحال سمعت في الماء حركة غريبة، فالتفت فإذا مياه الغبيط تنفرج، ويقفز منها فتى بهي الطلعة حلو الملامح، موشح برداء قرمزي مؤتزر بزنار أبيض، وقفز معه كلب أنقى بياضا من ثلوج الباروك.
ويستوي الفتى فوق الصخرة العريضة الممتدة فوق النبع، ثم يلتفت الكلب ناحية القمر من السماء ويرسل عواءه الحزين الكئيب الطويل، فإذا بي أحس بكاء في الفضاء، وأسمع بكاء في أوراق الصنوبر، وبكاء ينحدر من أشجار الأرز الجاثمة هناك بعيدا فوق أعلى الجبال، وبكاء الصخور وارتعاشا في الأعشاب. ثم يحني رأسه فيربت الفتى على ظهره ويدور ناحيتي، فأقف مرتاعا وأحييه فيرد التحية ويقول: هي أول مرة منذ مئات السنين أرى فيها وجها لإنسان، ولطالما حننت إلى محادثتكم أنتم البشر من غير أن أدرك هذا الحنين، لقد كنت أميرا من الجن مؤمرا على هذه الناحية من البقاع، حتى وطئها إخوانك من الناس وأفسدوا علي الإقامة، فأويت إلى هذا النبع، أقطن مع عشيرتي جوف الأرض في مغاور النبع وجيوبه، لا أخرج إلا مرة في السنة مع كلبي هذا، فإذا متع عينيه بالقمر ونوره ونبح في وجهه نباحه، عدت وإياه من حيث أتينا.
قال الساحر، وهو المؤالف للجن وأحاديثها: لما رأيت هذا الأمير من الجن يحدثني بمثل هذه البساطة روح عني وعاد إلي روعي واجترأت على السؤال: وما قصة هذا الكلب الذي تخرج به كل سنة مرة من مملكتك تحت الأرض لينبح في وجه القمر؟
قال: أتاني هاربا من الناس القاطنين على ساحل البحر وانضم إلى فصيلة كلابي، غير أنه ظل فريد المسرى دائم الاكتئاب، تمر الطير فيرمقها بنظر حزين، وتشدو فيصغي إلي غنائها والدمعة في عينه، وتظهر الضبعان فلا يهم في أثرها، ولا يكشر عن أنيابه ولا ينبح، يربض إذا ما سجا الليل على صخرة من هذه الصخور، ويروح يتأمل النجوم البعيدة، ولولا أنه كان يهر في وجه القمر إذ يطل من وراء هذه الجبال لما خيل كلبا من الكلاب.
جاءني يوما متبرما: أف لهذا العيش! إننا نحن سلالة الكلاب لأقل حظا في الدنيا من سائر المخلوقات، فالإنسان الذي يحسب أنه سيد هذا الوجود، ما دب على الأرض وما ارتفع فوقها من نبات، وما اختلج في صدرها من كنوز وما تدفق من ينابيع، وأنه هو وحده صاحب العقل، وأن إنسانيته شيء من كنه الآلهة؛ لأقل وفاء من الذئاب.
لقد صادقناه نحن جماعة الكلاب ووفينا، وصرنا له عونا على سائر الضواري والجوارح، نحمي دياره وقطعانه، وندله على مكامن الطير إذا قام يسعى لصيد، ونصد عنه عدوان شقيقه الإنسان، وها هو يستعبدنا، ها هو يقيدنا بالسلاسل ويطعمنا من فتات مائدته، له اللحم ولنا العظام، يغضب فينتهرنا من غير أن نكون سببا في إغضابه، ويفرح فلا يصيبنا منه غير الرفس.
والطبيعة أيضا لم تنصفنا، ولست أدري أيحس إخواني الكلاب ما أحس من الظلم، أم تراني وحدي أشعر بالإجحاف الذي منيت به وفصيلتي، نحن إذا شئنا المسير من مكان إلى مكان تحتم علينا أن نقيس مدى الأرض الفاصل بينهما مشيا على الأربع، فلا بد من صعود التلال، ولا بد من هبوط الأوداء، فإذا قام بين المكانين حائط مرتفع، تعذر علينا الوصول أو اضطررنا إلى سلوك طرق ملتوية تضاعف المسافات، في حين أن الطير تستطيع أن ترتفع في الهواء، وأن تسلك أخصر الطرق إلى مزارها، ونحن لا نستطيع أن نتسلق شجرة ولا أن نترجح على غضن بينا من الحيوانات من تقوى على ذلك وتستطيبه.
ونحن إذا نطقنا فنباح لا تتغير وتيرته ولا تعذب رنته ولا يرق قراره: مقاطع واحدة للطلب والإعراض وللتشكي والتشكر، ولولا هزة الذنب لما استطاع واحدنا أن يعلن عن غبطته، وأنت، يا أميري، لو لم يكن لك بعض خصائص سليمان - عليه السلام - لما تمكنت من فهم ما أشكو إليك.
Página desconocida