مِفْتَاح الْجنَّة فِي الإحتجاج بِالسنةِ
تأليف: جلال الدّين السُّيُوطِيّ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
مُقَدّمَة
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على عَبده وَرَسُوله نَبينَا مُحَمَّد الصَّادِق الْأمين وعَلى آله وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين أما بعد: -
فَإِن سنة رَسُول الله ﷺ وَحي أوحاه الله إِلَى نبيه مُحَمَّد ﷺ وَهِي مَعَ كتاب الله الْعَزِيز أساس الدّين الإسلامي ومصدره وهما مَعًا متلازمان تلازم شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَشَهَادَة أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَمن لم يُؤمن بِالسنةِ لم يُؤمن بِالْقُرْآنِ.
ومنذ أزمان غابرة حَتَّى يَوْمنَا هَذَا تتعرض السّنة لهجمات الْأَعْدَاء مِمَّن ينتمون إِلَى الْإِسْلَام وَمن غَيرهم.
وَمن الَّذين ذبوا عَن السّنة النَّبَوِيَّة وكشفوا عوار أعدائها الْحَافِظ جلال الدّين السيوطى فِي كِتَابه الْمُخْتَصر الْمُفِيد (مِفْتَاح الْجنَّة فِي الِاحْتِجَاج بِالسنةِ) وَيسر الجامعة
1 / 3
الإسلامية بِالْمَدِينَةِ المنورة أَن تنشر هَذَا الْكتاب وتوزعه بالمجان كَسَائِر مَا تطبعه دفاعا عَن سنة الْمُصْطَفى ﷺ وَنصحا لمن أحب لنَفسِهِ الْخَيْر والسعادة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَالله سُبْحَانَهُ الْمُوفق وَالْهَادِي إِلَى سَوَاء السَّبِيل
نَائِب رَئِيس الجامعة الإسلامية
عبد المحسن بن حمد الْعباد
فِي ١٣٩٩هـ
1 / 4
مِفْتَاح الْجنَّة فِي الإحتجاج بِالسنةِ
...
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله وَبِه ثقتي، وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى.
اعلموا - يَرْحَمكُمْ الله - أَن من الْعلم كَهَيئَةِ الدَّوَاء. وَمن الآراء كَهَيئَةِ الْخَلَاء. لَا تذكر إِلَّا عِنْد دَاعِيَة الضَّرُورَة، وَأَن مِمَّا فاح رِيحه فِي هَذَا الزَّمَان وَكَانَ دارسا بِحَمْد الله تَعَالَى مُنْذُ أزمان، وَهُوَ أَن قَائِلا رَافِضِيًّا زنديقا أَكثر فِي كَلَامه أَن السّنة النَّبَوِيَّة وَالْأَحَادِيث المروية - زَادهَا الله علوا وشرفا - لَا يحْتَج بهَا، وَأَن الْحجَّة فِي الْقُرْآن خَاصَّة، وَأورد على ذَلِك حَدِيث: "مَا جَاءَكُم عَنى من حَدِيث فاعرضوه على الْقُرْآن، فَإِن وجدْتُم لَهُ أصلا فَخُذُوا بِهِ وَإِلَّا فَردُّوهُ" هَكَذَا سَمِعت هَذَا الْكَلَام بجملته مِنْهُ وسَمعه مِنْهُ خلائق غَيْرِي، فَمنهمْ من لَا يلقِي لذَلِك بَالا. وَمِنْهُم من لَا يعرف أصل هَذَا الْكَلَام وَلَا من أَيْن جَاءَ. فَأَرَدْت أَن أوضح للنَّاس أصل ذَلِك، وَأبين بُطْلَانه، وَأَنه من أعظم المهالك.
فاعلموا رحمكم الله أَن من أنكر كَون حَدِيث النَّبِي ﷺ قولا كَانَ أَو فعلا بِشَرْطِهِ الْمَعْرُوف فِي الْأُصُول حجَّة، كفر وَخرج عَن دَائِرَة الْإِسْلَام وَحشر مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى، أَو مَعَ من شَاءَ الله من فرق الْكَفَرَة. روى الإِمَام الشَّافِعِي
1 / 5
﵁ يَوْمًا حَدِيثا وَقَالَ إِنَّه صَحِيح فَقَالَ لَهُ قَائِل: أَتَقول بِهِ يَا أَبَا عبد الله؟، فاضطرب وَقَالَ: "يَا هَذَا أرأيتني نَصْرَانِيّا؟ أرأيتني خَارِجا من كَنِيسَة؟ أَرَأَيْت فِي وسطي زنارًا؟ أروي حَدِيثا عَن رَسُول الله ﷺ وَلَا أَقُول بِهِ".
وأصل هَذَا الرَّأْي الْفَاسِد أَن الزَّنَادِقَة وَطَائِفَة من غلاة الرافضة ذَهَبُوا إِلَى إِنْكَار الِاحْتِجَاج بِالسنةِ والاقتصار على الْقُرْآن وهم فِي ذَلِك مختلفو الْمَقَاصِد، فَمنهمْ من كَانَ يعْتَقد أَن النُّبُوَّة لعَلي وَأَن جِبْرِيل ﵇ أَخطَأ فِي نُزُوله إِلَى سيد الْمُرْسلين ﷺ، تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا، وَمِنْهُم من أقرّ للنَّبِي ﷺ بِالنُّبُوَّةِ وَلَكِن قَالَ: إِن الْخلَافَة كَانَت حَقًا لعَلي فَلَمَّا عدل بهَا الصَّحَابَة عَنهُ إِلَى أبي بكر ﵃ أَجْمَعِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ المخذولون - لعنهم الله - كفرُوا حَيْثُ جاروا وَعدلُوا بِالْحَقِّ عَن مُسْتَحقّه، وكفَّروا - لعنهم الله - عليا ﵁ أَيْضا لعدم طلبه حَقه فبنوا على ذَلِك رد الْأَحَادِيث كلهَا لِأَنَّهَا عِنْدهم بزعمهم من رِوَايَة قوم كفار فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، وَهَذِه آراء مَا كنت أستحل حكايتها لَوْلَا مَا دعت إِلَيْهِ الضَّرُورَة من بَيَان أصل هَذَا الْمَذْهَب الْفَاسِد الَّذِي كَانَ النَّاس فِي رَاحَة مِنْهُ من أعصار.
وَقد كَانَ أهل هَذَا الرَّأْي موجودين بِكَثْرَة فِي زمن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فَمن بعدهمْ، وتصدى الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة
1 / 6
وأصحابهم فِي دروسهم ومناظراتهم وتصانيفهم للرَّدّ عَلَيْهِم، وسأسوق إِن شَاءَ الله تَعَالَى جملَة من ذَلِك وَالله الْمُوفق.
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي ﵁ فِي الرسَالَة وَنَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل: قد وضع الله رَسُوله ﷺ من دينه وفرضه وَكتابه الْموضع الَّذِي أبان جلّ ثَنَاؤُهُ أَنه جعله علما لدينِهِ. بِمَا افْترض من طَاعَته وَحرم من مَعْصِيَته وَأَبَان من فضيلته. بِمَا قرن بَين الْإِيمَان بِرَسُولِهِ الْإِيمَان بِهِ فَقَالَ ﵎: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ وَقَالَ ﷿: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ فَجعل كَمَال ابْتِدَاء الْإِيمَان الَّذِي مَا سواهُ تبع لَهُ الْإِيمَان بِاللَّه ثمَّ بِرَسُولِهِ مَعَه. قَالَ الشَّافِعِي: فَفرض الله على النَّاس اتِّباع وحيه وَسنَن رَسُوله، فَقَالَ فِي كِتَابه: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾، مَعَ آي سواهَا ذكر فِيهِنَّ الْكتاب وَالْحكمَة. قَالَ الشَّافِعِي: فَذكر الله الْكتاب وَهُوَ الْقُرْآن، وَذكر الْحِكْمَة، فَسمِعت من أرضاه من أهل الْعلم بِالْقُرْآنِ يَقُول: الْحِكْمَة سنة رَسُول الله ﷺ، وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا
1 / 7
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ فَقَالَ بعض أهل الْعلم: أولو الْأَمر: أُمَرَاء سَرَايَا رَسُول الله ﷺ، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُم﴾: يعْنى اختلفتم فِي شَيْء، يَعْنِي - وَالله تَعَالَى أعلم - هم وأمراؤهم الَّذين أُمروا بطاعتهم، ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾: يعْنى - وَالله تَعَالَى أعلم - إِلَى مَا قَالَ الله وَالرَّسُول ثمَّ سَاق الْكَلَام إِلَى أَن قَالَ: فأعلمهم أَن طاعةَ رَسُول الله ﷺ طاعتُه فَقَالَ: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وَاحْتج أَيْضا فِي فرض اتِّبَاع أمره بقوله: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وَقَوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وَغَيرهَا من الْآيَات الَّتِي دلّت على اتِّبَاع أمره، وَلُزُوم طَاعَته فَلَا يسع أحدا رد أمره لفرض الله طَاعَة نبيه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد إحكامه هَذَا الْفَصْل: وَلَوْلَا ثُبُوت الْحجَّة بِالسنةِ لما قَالَ ﷺ فِي. خطبَته بعد تَعْلِيم من شهده أَمر دينهم: "أَلا فليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب، فَرب مبلّغ أوعى من سامع"، ثمَّ أورد حَدِيث: "نضر الله امْرَءًا سمع منا حَدِيثا
1 / 8
فأداه كَمَا سَمعه، فَرب مبلغ أوعى من سامع " وَهَذَا الحَدِيث متواتر كَمَا سأبينه. قَالَ الشَّافِعِي: فَلَمَّا ندب رَسُول الله ﷺ إِلَى اسْتِمَاع مقَالَته وحفظها وأدائها دلّ١ على أَنه لَا يَأْمر إِن يؤدَّى عَنهُ إلاَّ مَا تقوم بِهِ الْحجَّة على من أدَّى إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يؤدَّى عَنهُ حَلَال يُؤْتى وَحرَام يجْتَنب وحدّ يُقَام، وَمَال يُؤْخَذ وَيُعْطى ونصيحة فِي دين وَدُنْيا.
ثمَّ أورد الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي رَافع قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: "لَا ألفيَنَّ أحدكُم مُتكئا على أريكته يَأْتِيهِ الْأَمر من أَمْرِي مِمَّا أمرت بِهِ أَو نهيت عَنهُ يَقُول: لَا أَدْرِي٢ مَا وجدنَا فِي كتاب الله اتَّبعنَا" أخرجه أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم، وَمن حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب أَن النَّبِي ﷺ حرّم أَشْيَاء يَوْم خَيْبَر مِنْهَا الْحمار الأهلي وَغَيره، ثمَّ قَالَ رَسُول الله ﷺ: "يُوشك أَن يقْعد الرجل على أريكته يحدث بحديثي فَيَقُول بيني وَبَيْنكُم كتاب الله فَمَا وجدنَا فِيهِ حَلَالا استحللناه، وَمَا وجدنَا فِيهِ حَرَامًا حرمناه، أَلا وَإِن مَا حرَّم رَسُول الله ﷺ مثل مَا حرَّم الله"، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا خبر من رَسُول الله ﷺ عَمَّا يكون بعده من رد المبتدعة حديثَه فَوجدَ تَصْدِيقه فِيمَا بعده، ثمَّ أخرج الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَن شبيب بن أبي فضَالة
_________
١ - فِي "الرسَالَة" للْإِمَام الشَّافِعِي "وحِفظِها وأداِئها امْرَءًا يُؤَدِّيهَا، والمرء وَاحِد دلّ" الخ، انْظُر الرسَالَة ص٥٥
٢ - فِي سنَن أبي دَاوُد "لَا نَدْرِي" والأريكة – بِوَزْن مَدِينَة -: السرير
1 / 9
الْمَكِّيّ: "أَن عمرَان بن حُصَيْن ﵁ ذكر الشَّفَاعَة فَقَالَ رجل من الْقَوْم: يَا أَبَا نجيد إِنَّكُم تحدثونا بِأَحَادِيث لم نجد لَهَا أصلا فِي الْقُرْآن، فَغَضب عمرَان وَقَالَ للرجل: قَرَأت الْقُرْآن؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَهَل وجدت فِيهِ صَلَاة الْعشَاء أَرْبعا وَوجدت الْمغرب ثَلَاثًا والغداة رَكْعَتَيْنِ وَالظّهْر أَرْبعا وَالْعصر أَرْبعا؟ قَالَ: لَا: قَالَ. فَعَن من أَخَذْتُم ذَلِك، ألستم عَنَّا أخذتموه وأخذناه عَن رَسُول الله ﷺ؟ أوجدتم فِيهِ من كل أَرْبَعِينَ شَاة شَاة وَفِي كل كَذَا بَعِيرًا كَذَا وفى كل كَذَا درهما كَذَا. قَالَ: لَا. قَالَ فَعَن من أَخَذْتُم ذَلِك؟ ألستم عَنَّا أخذتموه وأخذناه عَن النَّبِي ﷺ؟ وَقَالَ: أوجدتم فِي الْقُرْآن: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ أوجدتم فِيهِ فطوفوا سبعا واركعوا رَكْعَتَيْنِ خلف الْمقَام، أَو وجدْتُم فِي الْقُرْآن: لَا جلب وَلَا جنب وَلَا شغار فِي الْإِسْلَام؟ أما سَمِعْتُمْ الله قَالَ فِي كِتَابه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ قَالَ عمرَان: فقد أَخذنَا عَن رَسُول الله ﷺ أَشْيَاء لَيْسَ لكم بهَا علم.
ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: والْحَدِيث الَّذِي روى فِي عرض الحَدِيث على الْقُرْآن بَاطِل لَا يَصح، وَهُوَ ينعكس على نَفسه بِالْبُطْلَانِ، فَلَيْسَ فِي الْقُرْآن دلَالَة على عرض الحَدِيث على الْقُرْآن، انْتهى كَلَام الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل الصَّغِير. وَهُوَ
1 / 10
الْمدْخل إِلَى دَلَائِل النُّبُوَّة، وَقد ذكر الْمَسْأَلَة فِي الْمدْخل الْكَبِير وَهُوَ الْمدْخل إِلَى السّنَن بأبسط من هَذَا فَقَالَ: بَاب تَعْلِيم سنَن رَسُول الله ﷺ وفرضِ اتباعِها، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ إِلَى قَوْله: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قَالَ الشَّافِعِي: "سَمِعت مَن أَرضى مِن أهل الْعلم بِالْقُرْآنِ يَقُول: الْحِكْمَة سنة رَسُول الله ﷺ".
ثمَّ أخرج بأسانيده عَن الْحسن وَقَتَادَة وَيحيى بن أبي كثير أَنهم قَالُوا: "الْحِكْمَة فِي هَذِه الْآيَة السّنة"، ثمَّ أورد بِسَنَدِهِ عَن الْمِقْدَام بن معدي كرب عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: "أَلا إِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمثله مَعَه، أَلا إِنِّي أُوتيت الْقُرْآن وَمثله، أَلا يُوشك رجل شبعان على أريكته، يَقُول: عَلَيْكُم بِهَذَا الْقُرْآن فَمَا وجدْتُم فِيهِ من حَلَال فأحلُّوه، وَمَا وجدْتُم فِيهِ من حرَام فحرِّموه، أَلا لَا يحل لكم الْحمار الأهلي وَلَا كل ذِي نَاب من السبَاع وَلَا لقطَة مَال معاهد" الحَدِيث، ثمَّ أورد من طَرِيق آخر عَن الْمِقْدَام بن معدي كرب قَالَ: "حرم رَسُول الله ﷺ أَشْيَاء يَوْم خَيْبَر من الْحمار الأهلي وَغَيره فَقَالَ ﷺ: يُوشك أَن يقْعد الرجل مِنْكُم على أريكته يحدث بحديثي فَيَقُول: بيني وَبَيْنكُم كتاب الله فَمَا وجدنَا فِيهِ حَلَالا استحللناه وَمَا وجدنَا فِيهِ حَرَامًا حرَّمناه، وَإِنَّمَا حرَّم رَسُول الله ﷺ مثل مَا حرَّم الله".
1 / 11
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح أخرجه أَبُو دَاوُد فِي سنَنه، قلت: وَأخرجه أَيْضا الْحَاكِم، ثمَّ أورد الْبَيْهَقِيّ أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: " إِنِّي قد خلفت فِيكُم شَيْئَيْنِ لن تضلوا بعدهمَا أبدا: كتاب الله وسنتي، وَلنْ يفترقا حَتَّى يردا عليَّ الْحَوْض" أخرجه الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك، وَأورد بِسَنَدِهِ عَن ابْن عَبَّاس: "أَن رَسُول الله ﷺ خطب النَّاس فِي حجَّة الْوَدَاع فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي قد تركت فِيكُم مَا إِن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تضلوا أبدا: كتاب الله وسنتي" أخرجه الْحَاكِم أَيْضا، وَأورد بِسَنَدِهِ أَيْضا عَن عُرْوَة أَن النَّبِي ﷺ خطب فِي حجَّة الْوَدَاع فَقَالَ: "إِنِّي قد تركت فِيكُم مَا إِن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تضلوا أبدا، أَمريْن اثْنَيْنِ: كتاب الله وَسنة نَبِيكُم. أَيهَا النَّاس اسمعوا مَا أَقُول لكم تعيشوا بِهِ" وَأخرج بِسَنَدِهِ عَن ابْن وهب قَالَ: سَمِعت مَالك بن أنس يَقُول: "الزم مَا قَالَ رَسُول الله ﷺ فِي حجَّة الْوَدَاع: أَمْرَانِ تركتهما فِيكُم لن تضلوا مَا تمسكتم بهما: كتاب الله وَسنة نبيه ﷺ"، وَأخرج بِسَنَدِهِ عَن الْعِرْبَاض بن سَارِيَة قَالَ: "صلى بِنَا رَسُول الله ﷺ ذَات يَوْم ثمَّ أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت مِنْهَا الْعُيُون ووجلت مِنْهَا الْقُلُوب فَقَالَ قَائِل: يَا رَسُول الله كَأَنَّهَا موعظة مودِّع فَمَاذَا تعهد إِلَيْنَا؟ قَالَ: أوصيكم بتقوى الله والسمع وَالطَّاعَة، وَإِن تأمّر عَلَيْكُم عبد
1 / 12
حبشِي كَأَن رَأسه زبيبة، فَإِنَّهُ من يَعش مِنْكُم بعدِي فسيرى اخْتِلَافا كثيرا، فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين تمسكوا بهَا: وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ: وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور، فَإِن كل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة"، قلت: هَذَا الحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن ماجة وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه وَأخرج بِسَنَدِهِ عَن عَائِشَة أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: "سِتَّة لعنهم الله وكل نَبِي مجاب الدعْوَة: الزَّائِد فِي كتاب الله، والمكذب بِقدر الله المتسلط بالجبروت ليذل بذلك من أعز الله ويعز من أذلّ الله، والمستحلّ لحرم الله والمستحلّ من عِتْرَتِي مَا حرم الله، والتارك لسنتي" قلت أخرجه أَيْضا الطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَأخرج بِسَنَدِهِ عَن ابْن عَمْرو أَن النَّبِي ﷺ قَالَ: "إِن لكل عمل شِرة١ وَلكُل شرة فَتْرَة٢ فَمن كَانَت فترته إِلَى سنتي فقد اهْتَدَى، وَمن كَانَت إِلَى غير ذَلِك فقد هلك" وَأخرج بِسَنَدِهِ عَن أنس بن مَالك أَن النَّبِي ﷺ قَالَ: "من أَحْيَا سنتي فقد أَحبَّنِي، وَمن أَحبَّنِي كَانَ معي فِي الْجنَّة"، قلت: أخرجه أَيْضا التِّرْمِذِيّ. وَأخرج بِسَنَدِهِ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﵊: "الْقَائِم بِسنتي عِنْد فَسَاد أمتِي لَهُ أجر مائَة شَهِيد"، قلت: أخرجه أَيْضا الطَّبَرَانِيّ، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب
_________
١ - النشاط وَالرَّغْبَة
٢ - أَي سُكُون وتقليل
1 / 13
بَيَان وُجُوه السّنة: قَالَ الشَّافِعِي ﵁: وَسنة رَسُول الله ﷺ من ثَلَاثَة أوجه، أَحدهَا: مَا أنزل الله فِيهِ نَص كتاب فسن رَسُول الله ﷺ. بِمثل نَص الْكتاب. وَالثَّانِي: مَا أنزل الله فِيهِ جملَة كتاب فَبين عَن الله معنى مَا أَرَادَ بِالْجُمْلَةِ، وأوضح كَيفَ فَرضهَا عَاما أَو خَاصّا، وَكَيف أَرَادَ أَن يَأْتِي بِهِ الْعباد. وَالثَّالِث: مَا سنّ رَسُول الله ﷺ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَص كتاب، فَمنهمْ من قَالَ جعله الله لَهُ. بِمَا افْترض من طَاعَته وَسبق فِي علمه من توفيقه لرضاه أَن يسن فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَص كتاب. وَمِنْهُم من قَالَ لم يسن سنة قطّ إِلَّا وَلِهَذَا أصل فِي الْكتاب كَمَا كَانَت سنته، كتبيين عدد الصَّلَاة وعملها على أصل جملَة فرض الصَّلَاة، وَكَذَلِكَ مَا سنّ فِي الْبيُوع وَغَيرهَا من الشَّرَائِع، لِأَن الله تَعَالَى ذكره قَالَ: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ وَقَالَ: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ فَمَا أحل وَحرم فَإِنَّمَا بيَّن فِيهِ عَن الله كَمَا بَين فِي الصَّلَاة وَمِنْهُم من قَالَ: بل جَاءَتْهُ بِهِ رِسَالَة الله فأثبتت سنته بِفَرْض الله تَعَالَى وَمِنْهُم من قَالَ: ألْقى فِي رُوعه كل مَا سنّ وسنته الْحِكْمَة الَّتِي ألقيت فِي رُوعه عَن الله تَعَالَى. انْتهى بِلَفْظِهِ.
ثمَّ أخرج الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَن عمر بن الْخطاب أَنه قَالَ على الْمِنْبَر: يَا أَيهَا النَّاس إِن الرَّأْي إِنَّمَا كَانَ من
1 / 14
رَسُول الله ﷺ مصيبا لِأَن الله تَعَالَى كَانَ يرِيه، وَإِنَّمَا هُوَ منا الظَّن والتكلف. وَأخرج بِسَنَدِهِ عَن الشّعبِيّ أَن رَسُول الله ﷺ كَانَ يقْضِي بِالْقضَاءِ وَينزل الْقُرْآن بِغَيْر مَا قضى فيستقبل حكم الْقُرْآن وَلَا يرد قَضَاءَهُ الأول. وَاحْتج من ذهب إِلَى أَنه لم يسن إِلَّا بِأَمْر الله إِمَّا بِوَحْي ينزله عَلَيْهِ فيتلى على النَّاس، أَو برسالة ثَابِتَة عَن الله أَن افْعَل كَذَا بقوله ﷺ فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي قصَّة الزَّانِي: "لأقضين بَيْنكُم بِكِتَاب الله" ثمَّ قضى بِالْجلدِ والتغريب وَلَيْسَ التَّغْرِيب فِي الْقُرْآن، وَبِمَا أخرجه الشَّيْخَانِ عَن يعلى بن أُميَّة: "أَن النَّبِي ﷺ كَانَ بالجعرانة١ فَجَاءَهُ رجل عَلَيْهِ جُبَّة متضمِّخ٢ بِطيب وَقد أحرم بِعُمْرَة فَقَالَ: يَا رَسُول الله كَيفَ ترى فِي رجل أحرم بِعُمْرَة فِي جُبَّة بَعْدَمَا تضمخ بِطيب؟ فَنظر إِلَيْهِ النَّبِي ﷺ سَاعَة ثمَّ سكت فَجَاءَهُ الْوَحْي فَأنْزل الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه﴾ ِ ثمَّ سرى٣ عَنهُ فَقَالَ: "أَيْن الَّذِي سَأَلَني عَن الْعمرَة آنِفا؟ أما الطّيب الَّذِي بك فاغسله ثَلَاث مَرَّات، وَأما الْجُبَّة فانزعها ثمَّ اصْنَع فِي عمرتك مَا تصنع فِي حجك".
ثمَّ أخرج الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَن طَاوس "أَن عِنْده كتابا من
_________
١ - هُوَ مَوضِع قريب من مَكَّة وَهُوَ فِي الْحل وميقات الْإِحْرَام
٢ - التضمخ: التلطخ بالطيب وَغَيره والإكثار مِنْهُ
٣ - أَي زَالَ وكشف
1 / 15
الْعُقُول نزل بِهِ الْوَحْي وَمَا فرض رَسُول الله ﷺ من صَدَقَة وعقول١ فَإِنَّمَا نزل بِهِ الْوَحْي". وَأخرج بِسَنَدِهِ عَن حسان ابْن عَطِيَّة قَالَ: "كَانَ جِبْرِيل ﵇ ينزل على رَسُول الله ﷺ بِالسنةِ كَمَا ينزل عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ يُعلمهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعلمهُ الْقُرْآن" أخرجه الدَّارمِيّ، وَأخرج بِسَنَدِهِ من طَرِيق الْقَاسِم ابْن مخيمرة عَن طَلْحَة بن فَضِيلَة قَالَ: "قيل لرَسُول الله ﷺ فِي عَام سَنَة٢ سعّر لنا يَا رَسُول الله، قَالَ: "لَا يسألني الله عَن سُنَّة أحدثتها فِيكُم لم يَأْمُرنِي بهَا، وَلَكِن اسألوا الله من فَضله" وَأخرج بِسَنَدِهِ عَن الْمطلب بن حنْطَب أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: "مَا تركت شَيْئا مِمَّا أَمركُم الله بِهِ إِلَّا وَقد أَمرتكُم بِهِ، وَلَا تركت شَيْئا مِمَّا نهاكم الله عَنهُ إِلَّا وَقد نَهَيْتُكُمْ عَنهُ، وَأَن الرّوح الْأمين قد نفث فِي رُوعي أَنه لن تَمُوت نفس حَتَّى تستوفي رزقها فَاتَّقُوا الله وأجملوا فِي الطّلب" قَالَ الشَّافِعِي: وَلَيْسَ تعدو السّنَن كلهَا وَاحِدًا من هَذِه الْمعَانِي الَّتِي وضعت باخْتلَاف من حكيت عَنهُ من أهل الْعلم وكل مَا سنّ فقد ألزمنا الله تَعَالَى اتِّبَاعه، وَجعل فِي اتِّبَاعه
_________
١ - جمع عقل: وَهُوَ الدِّيَة وَأَصله أَن الْقَاتِل كَانَ إِذا قتل قَتِيلا جمع الدِّيَة من الْإِبِل فعقلها بِفنَاء أَوْلِيَاء الْمَقْتُول أَي شدها فِي عقلهَا ليسلمها إِلَيْهِم ويقبضوها مِنْهُ، فسميت الدِّيَة عقلا بِالْمَصْدَرِ.
٢ - السّنة: الجدب يُقَال أخذتهم السّنة إِذا أجدبوا وأقحطوا
1 / 16
طَاعَته، وفى العنود١ عَن اتِّبَاعه مَعْصِيَته الَّتِي لم يعْذر بهَا خلقا وَلم يَجْعَل لَهُ من اتِّبَاع سنَن نبيه مخرجا.
ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: بَاب مَا أَمر الله بِهِ من طَاعَة رَسُوله ﷺ، وَالْبَيَان أَن طاعتَه طاعتُه قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وَقَالَ: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه﴾ قَالَ الشَّافِعِي ﵁:. فأعلمهم أَن بيعةَ رَسُوله بيعتُه وَأَن طاعتَه طاعتُه فَقَالَ: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، قَالَ الشَّافِعِي: " (فِيمَا بلغنَا وَالله تَعَالَى أعلم) ٢ نزلت هَذِه الْآيَة فِي رجل خَاصم الزبير فِي أَرض فَقضى النَّبِي ﷺ بهَا للزبير وَهَذَا الْقَضَاء سنة من رَسُول الله ﷺ لَا حكم مَنْصُوص فِي الْقُرْآن. أخرج الشَّيْخَانِ عَن عبد الله بن الزبير: "أَن رجلا من الْأَنْصَار خَاصم الزبير فِي شراج الْحرَّة٣ الَّتِي يسقون بهَا النّخل فَقَالَ الْأنْصَارِيّ:
_________
١ - فِي بعض النّسخ: وَفِي العتو وَمَا هُنَا مُوَافق لما فِي الرسَالَة
٢ - الزِّيَادَة من الرسَالَة
٣ - الشراج مسيل المَاء من الْحزن إِلَى السهل واحده شرج. والحرة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء من الأَرْض الصلبة الغليظة، وَالْجمع حرات وبالمدينة حرتان: حرَّة واقم وحرة ليلى وَقيل هِيَ أَكثر من حرتين وَالله أعلم.
1 / 17
سرِّح المَاء يمرّ فَأبى عَلَيْهِ الزبير فاختصما إِلَى رَسُول الله ﷺ فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: اسْقِ يَا زبير ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك، فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: يَا رَسُول الله أَن كَانَ ابْن عَمَّتك، فتلوّن وَجه رَسُول الله ﷺ فَقَالَ: يَا زبير اسْقِ ثمَّ احْبِسْ المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر"، فَقَالَ الزبير: وَالله إِنِّي لأحسب أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي ذَلِك ﴿فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ الْآيَة". وَأخرج الشَّيْخَانِ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: "من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله، وَمن عَصَانِي فقد عصى الله"، وَأخرج البُخَارِيّ عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: "جَاءَت مَلَائِكَة إِلَى نَبِي الله ﷺ وَهُوَ نَائِم فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه نَائِم، وَقَالَ بَعضهم: إِن الْعين نَائِمَة وَالْقلب يقظان، فَقَالُوا: إِن لصاحبكم هَذَا مثلا فاضربوا لَهُ مثلا، فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه نَائِم، وَقَالَ بَعضهم إِن الْعين نَائِمَة وَالْقلب يقظان، فَقَالُوا: مثله كَمثل رجل بنى دَارا وَجعل فِيهَا مأدبة وَبعث دَاعيا فَمن أجَاب الدَّاعِي دخل الدَّار وَأكل من المأدبة، وَمن لم يجب الدَّاعِي لم يدْخل الدَّار وَلم يَأْكُل من المأدبة فَقَالُوا: أوِّلوها لَهُ: يفقهها، فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه نَائِم وَقَالَ بَعضهم: إِن الْعين نَائِمَة وَالْقلب يقظان، فَقَالُوا: فالدار الْجنَّة، والداعي مُحَمَّد ﷺ فَمن أطَاع مُحَمَّدًا ﷺ فقد أطَاع الله وَمن عصى مُحَمَّدًا ﷺ فقد عصى الله،
1 / 18
وَمُحَمّد ﷺ فرق بَين النَّاس"، وَأخرج البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: "كل أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة إِلَّا من أَبى، قَالُوا يَا رَسُول الله وَمن يَأْبَى؟ قَالَ: من أَطَاعَنِي دخل الْجنَّة وَمن عَصَانِي فقد أَبى". قَالَ الشَّافِعِي ﵀: وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ إِلَى قَوْله ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أخرج الْبَيْهَقِيّ عَن سُفْيَان فِي قَوْله ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ قَالَ يطبع الله على قُلُوبهم: قَالَ الشَّافِعِي: وَأمرهمْ بِأخذ مَا أَتَاهُم والانتهاء عَمَّا نَهَاهُم عَنهُ فَقَالَ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ . أخرج الشَّيْخَانِ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: لعن الله الْوَاشِمَات وَالْمُسْتَوْشِمَات وَالْمُتَنَمِّصَات وَالْمُتَفَلِّجَات١ للحُسن المغيِّرات خلقَ الله تَعَالَى فَبلغ ذَلِك امْرَأَة يُقَال لَهَا: أم يَعْقُوب فَجَاءَت فَقَالَت: إِنَّه بَلغنِي أَنَّك قلت كَيْت وَكَيْت، فَقَالَ: مَالِي لَا ألعن من لعن رَسُول الله ﷺ وَهُوَ فِي كتاب الله، فَقَالَت: لقد قَرَأت مَا بَين اللَّوْحَيْنِ فَمَا وجدته قَالَ: إِن كنت قرأتيه
_________
١ - الْوَاشِمَات: جمع واشمة من الوشم. وَالْمُسْتَوْشِمَات: جمع مستوشمة وَهِي الَّتِي تسْأَل وتطلب ذَلِك، وَالْمُتَنَمِّصَات جمع متنمصة من التنمص وَهُوَ نتف الشّعْر من الْوَجْه، وَالْمُتَفَلِّجَات: جمع متفلجة وَهِي الَّتِي تفعل الْفرج بَين أسنانها لِلْحسنِ
1 / 19
فقد وجدتيه أما قرأتِ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ قَالَت: بلَى قَالَ: فَإِنَّهُ نهى عَنهُ، قَالَ الشَّافِعِي: وَأَبَان أَنه يهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم فَقَالَ: ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ هـ﴾ قَالَ الشَّافِعِي: وَكَانَ فَرْضه على من عاين رَسُول الله ﷺ وَمن بعده إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَاحِدًا فِي أَن على كلٍّ طاعتُه، ثمَّ أخرج الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَن مَيْمُون بن مهْرَان فِي قَوْله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ قَالُوا: الرَّد إِلَى الله: إِلَى كِتَابه، وَالرَّدّ إِلَى الرَّسُول صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم إِذا قبض: إِلَى سنته. ثمَّ أورد الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي دَاوُد عَن أبي رَافع قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: "لَا أَلفَيْنِ أحدا مُتكئا على أريكة يَأْتِيهِ الْأَمر من أَمْرِي مِمَّا أمرت بِهِ أَو نهيت عَنهُ فَيَقُول: لَا نَدْرِي مَا وجدنَا فِي كتاب الله اتبعناه" قَالَ الشَّافِعِي وَفِي هَذَا تثبيت الْخَبَر عَن رَسُول الله ﷺ وإعلامهم أَنه لَازم لَهُم، وَإِن لم يَجدوا فِيهِ نصا فِي كتاب الله. ثمَّ أورد الْبَيْهَقِيّ حَدِيث أَبى دَاوُد أَيْضا عَن الْعِرْبَاض بن سَارِيَة قَالَ: "نزلنَا مَعَ النَّبِي ﷺ خَيْبَر وَمَعَهُ من مَعَه من أَصْحَابه، وَكَانَ صَاحب خَيْبَر رجلا ماردًا مُنْكرا، فَأقبل إِلَى النَّبِي ﷺ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد ألكم أَن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا
1 / 20
نِسَاءَنَا؟ فَغَضب النَّبِي ﷺ وَقَالَ: يَا ابْن عَوْف اركب فرسك ثمَّ نَاد أَن اجْتَمعُوا للصَّلَاة، فَاجْتمعُوا فصلى النَّبِي ﵊ ثمَّ قَامَ فَقَالَ: أيحسب أحدكُم مُتكئا على أريكته لَا يظنّ أَن الله لم يحرم شَيْئا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآن أَلا إِنِّي وَالله قد أمرت ووعظت ونهيت عَن أَشْيَاء إِنَّهَا لمثل الْقُرْآن أَو أَكثر، وَإِن الله ﷿ لم يحل لكم أَن تدْخلُوا بيُوت أهل الْكتاب إِلَّا بِإِذن، وَلَا ضرب نِسَائِهِم، وَلَا أكل ثمارهم إِذا أعطوكم الَّذِي عَلَيْهِم".
ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: بَاب بَيَان بطلَان مَا يحْتَج بِهِ بعض من رد الْأَخْبَار من الْأَخْبَار الَّتِي رَوَاهَا بعض الضُّعَفَاء فِي عرض السّنة على الْقُرْآن. قَالَ الشَّافِعِي: احتجَّ على بعض من رد الْأَخْبَار بِمَا رُوي أَن النَّبِي ﵊ قَالَ: "مَا جَاءَكُم عني فاعرضوه على كتاب الله فَمَا وَافقه فَأَنا قلته وَمَا خَالفه فَلم أَقَله". فَقلت لَهُ. مَا روى هَذَا أحد يثبت حَدِيثه فِي شَيْء صَغِير وَلَا كَبِير وَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَة مُنْقَطِعَة عَن رجل مَجْهُول، وَنحن لَا نقبل مثل هَذِه الرِّوَايَة فِي شَيْء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَشَارَ الإِمَام الشَّافِعِي إِلَى مَا رَوَاهُ خَالِد بن أبي كَرِيمَة عَن أَبى جَعْفَر: "عَن رَسُول الله ﷺ أَنه دَعَا الْيَهُود فَسَأَلَهُمْ فحدثوه حَتَّى كذبُوا على عِيسَى ﵇، فَصَعدَ النَّبِي ﷺ الْمِنْبَر فَخَطب النَّاس فَقَالَ: "إِن الحَدِيث
1 / 21
سيفشو عني، فَمَا أَتَاكُم يُوَافق الْقُرْآن فَهُوَ عني، وَمَا أَتَاكُم عني يُخَالف الْقُرْآن فَلَيْسَ عني" قَالَ الْبَيْهَقِيّ: خَالِد مَجْهُول، وَأَبُو جَعْفَر لَيْسَ بصحابي، فَالْحَدِيث مُنْقَطع. وَقَالَ الشَّافِعِي وَلَيْسَ يُخَالف الحَدِيث الْقُرْآن، وَلَكِن حَدِيث رَسُول الله ﷺ يبين معنى مَا أَرَادَ خَاصّا وعاما: وناسخا ومنسوخا ثمَّ يلْزم النَّاس مَا سنّ بِفَرْض الله فَمن قبل عَن رَسُول الله ﷺ فَعَن الله قبل.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوي الحَدِيث من أوجه أُخر كلهَا ضَعِيفَة، ثمَّ أخرج من طَرِيق ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن الْأصْبع بن مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور أَنه بلغه: أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: "الحَدِيث على ثَلَاث: فأيما حَدِيث بَلغَكُمْ عني تعرفونه بِكِتَاب الله فاقبلوه، وَأَيّمَا حَدِيث بَلغَكُمْ عني لَا تَجِدُونَ فِي الْقُرْآن مَوْضِعه وَلَا تعرفُون مَوْضِعه فَلَا تقبلوه، وَأَيّمَا حَدِيث بَلغَكُمْ عني تقشعر مِنْهُ جلودكم وتشمئز مِنْهُ قُلُوبكُمْ وتجدون فِي الْقُرْآن خِلَافه فَردُّوهُ" قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذِه رِوَايَة مُنْقَطِعَة عَن رجل مَجْهُول.
ثمَّ أخرج بِسَنَدِهِ من طَرِيق عَاصِم بن أبي النجُود عَن زر بن حُبَيْش عَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: " إِنَّهَا تكون بعدِي رُوَاة يروون عني الحَدِيث فاعرضوا حَدِيثهمْ على الْقُرْآن، فَمَا وَافق الْقُرْآن فَحَدثُوا بِهِ
1 / 22