المتسكعة أمام تلك الدكاكين الغريبة، كل دكان يكون له صندوق من الحديد يفتحه صاحبه ليعرض كتبه، ويغلقه عليها عندما يقفل راجعًا قبل الغروب، حيث لا إنارة في هذا السوق العجيب. فأصبحت أتردد عليه مع من يتردد، فأقف أطالع حتى أنسى أحيانًا البائع الذي يترك كلًا وشأنه، دون أن يزعج أحدًا يحجز كتابًا ومكانًا أمام صندوقه، وتمر الساعات الصامتة تقطعها من حين لآخر صرخة سيدة تمر وراء صف القراء الواقفين:
- الله! .. الله! ..
إن صاحبة الصرخة قد أصابتها، فوق شعرها أو فوق معطفها الجميل، فُضالة ألقاها عصفور من أعلى الشجرة. العصافير الباريسية هي بدون مواربة (أقبح سكان باريس)، تنشر الذعر على أرصفة المدينة في حدائقها عندما تتخلص مما في بطونها، خاصة فوق رؤوس السيدات.
كانت تلك العشيات الخريفية، من فترة انتظاري الدخول لمعهد الدراسات الشرقية، خصبة جدًا في الانطباعات من كل نوع، تلك الانطباعات التي كونت بالنسبة لي المعلومات الأولية عن وسطي الجديد.
ذهبت ذات يوم مع (رونيه) إلى حفلة استقبال أقامتها أسرة خطيبته. وقد أخذ صديقي باقة زهور طبقًا للعرف الذي كنت أجهله، لأننا بـ (تبسة) أو (أفلو) عندما ندعى لمأدبة، نذهب لنأكل (كسكوسي) ونشرب لبنًا دون أن نفكر- في الزهور لسيدة البيت، ولم يكن مع هذا ليفوتني رونق ورِقة العرف في الوسط الجديد. فوجدنا عند وصولنا جماعة من سيدات جالسات ورجال واقفين، هذا يدخن وذاك يأكل من لذائذ صغيرة أعدت خصيصًا، وتلك تتحدث بينما يصل مدعوون آخرون، وكان صديقي مهتمًا بالجانب الشكلي، ككل من يداعب مهنة التصوير، فوجه اهتمامي إلى أحد الحاضرين وكانت تبدو عليه الكياسة والملاحة بوجه خاص.