كانت طفلة في المدرسة الابتدائية حين رأت لأول مرة صورة ملك، كان الوجه مليئا باللحم والعينان ضيقتان والشفتان رفيعتان مزمومتان في كبرياء أشبه بالوقاحة. وتذكرت صوت أبيها وهو يقول كان فاسقا وعاهرا، ولكنهم كلهم بهذا الشكل، وحين يقفون أمام آلة التصوير يظنون أنفسهم آلهة.
إنها لا تزال تحس بجسدها جالسا فوق الكرسي الخشبي، وهي أصبحت تشك في الأمر، فكيف تركوها تجلس كل هذا الوقت. والجلوس بهذا الشكل راحة وأي راحة؛ فهي تستطيع أن تجلس وتترك جسدها في وضع الجلوس، وتستمتع بتلك المقدرة الخارقة لجسم الإنسان. لأول مرة تدرك أن جسم الإنسان يتميز عن جسم الحيوان بشيء هام وهو الجلوس، لا يوجد حيوان يستطيع أن يجلس مثلها هكذا، وإذا جلس فكيف يتصرف في قوائمه الأربع؟ تذكرت المنظر الذي أضحكها في طفولتها، ذلك العجل الذي أراد أن يجلس على مؤخرته فانقلب على ظهره، وتقلصت شفتاها في محاولة يائسة لأن تفتح فمها لتقول شيئا أو تبتسم، لكن فمها ظل مطبقا كخط أفقي يشق نصف وجهها الأسفل نصفين. أيمكن أن تفتح فمها قليلا لتبصق؟ لكن حلقها جاف، ولعابها جاف، وعنقها جافة، وصدرها جاف، وكل شيء فيها جاف إلا ذلك الجرح المفتوح بين فخذيها.
ضمت ساقيها أكثر لتضم الجرح وتضم الألم وتستشعر لذة الجلوس فوق مقعد، وكان يمكن أن تظل في هذا الوضع إلى الأبد أو حتى تموت، إلا أنها سمعت فجأة صوتا يهتف باسمها: ليلى الفرجاني!
تنبهت حواسها الميتة، وارتجفت عضلات أذنيها لوقع الاسم الغريب؛ ليلى الفرجاني! كأنما هو ليس اسمها. لم يطرق أذنيها منذ زمن سحيق، وهو لفتاة اسمها ليلى، فتاة ترتدي ملابس الفتيات، وترى الشمس، وتمشي على ساقين ككل البشر. وقد رأت هذه الفتاة منذ زمن سحيق؛ لأنها منذ ذلك الزمن لم ترتد ملابس الفتيات، ولم تر الشمس ولم تمش على ساقين. منذ زمن سحيق وهو حيوان صغير داخل كهف سحيق مظلم، وحين ينادونها فهم لا ينادونها إلا بأسماء الحيوانات.
لا زالت عيناها تبحثان في محاولة للرؤية الواضحة، وقد أصبح رأس القاضي أكثر وضوحا وأكثر حركة، لكنه لا زال يدخل في بوز الحذاء إذا ما ارتفع، أو يدخل في فتحة عنقه إذا ما انخفض، والصورة المعلقة من خلفه أصبحت أكثر وضوحا. الحذاء لامع مدبب، والبدلة مشدودة كبدل فرسان الخيل، والوجه مشدود من الخارج بعضلات صناعية مليئة بالرصانة والغباء، ومن الداخل نظرة خليعة معربدة.
قوة بصرها لم تعد كما كانت، لكنها لا زالت ترى التشويه واضحا، ترى الوجه الممسوخ، وقد تذكرت كلام أبيها: إنهم يا ابنتي لا يصلون إلى مقاعد الحكم إلا لأنهم مشوهون نفسيا وفاسدون من الداخل.
وأي فساد من الداخل؟! فهي التي رأت فسادهم الحقيقي. تود في تلك اللحظة أن يعطوها قلما وورقة لترسم ذلك الفساد، ولكن أيمكن أن تظل لها أصابع قادرة على الإمساك بقلم وتحريكه فوق الورق؟ أو على الأقل ، أيمكن أن يظل لها إصبعان اثنان تضع بينهما القلم؟ وماذا تفعل إذا ما قطعوا إصبعا من هذين الإصبعين؟ هل يمكن أن تمسك القلم بإصبع واحدة؟ هل يمشي الإنسان فوق الأرض بساق واحدة؟ أحد الأسئلة التي كان يرددها أبوها. وكانت تكره أسئلة العاجزين وتقول لنفسها: سأشق الإصبع الواحد وأدس فيه القلم، كما شقت إيزيس ساق أوزوريس. لا زالت تذكر القصة القديمة، ولا زالت ترى منظر الساق المشقوقة وهي تنزف دما، أي كابوس طويل تراه، وكم تريد أن تهزها يد أمها لتفتح عينيها وتدرك أن ذلك الوحش الذي أراد أن ينهش جسدها لم يكن إلا حلما أو كابوسا كما كانت تسميه أمها. في كل مرة تفتح عينها وتفرح حين يختفي الوحش وتكتشف أنه لم يكن إلا حلما، لكنها هذه المرة فتحت عينيها ولم يذهب الوحش، فتحت عينيها وظل الوحش فوق جسدها. من هول الفزع أغمضت عينيها مرة أخرى لتنام؛ لتوهم نفسها أنه كابوس، لكنها فتحت عينيها وعرفت أنه ليس حلما، وتذكرت كل شيء.
أول ما تذكرته كانت صرخة أمها في سكون الليل، كانت تنام في حضنها كطفلة في السادسة مع أنها كبرت وأصبحت في العشرين، لكن أمها كانت تقول: ستنامين في حضني حتى إذا جاءوا في منتصف الليل شعرت بهم وأمسكتك بكل قوتي فإذا ما أخذوك أخذوني معك.
لم يعذبها مثل وجه أمها وهي تراه يبتعد ويبتعد حتى اختفى. كان وجهها شاحبا وعيناها شاحبتين وشعرها شاحبا، وأرادت أن تموت ولا ترى وجهها بمثل هذا الشحوب. وقالت لنفسها: أيمكن أن تغفري لي يا أمي لأنني تسببت لك بكل هذا الألم؟ وكانت أمها تقول لها دائما: يا ابنتي ما لك وللسياسة، أنت لست رجلا، والبنات من عمرك لا يفكرن إلا في الزواج. ولم تكن ترد على أمها حين تقول لها: السياسة لعبة قذرة لا يتقنها إلا الرجال العاطلون.
الأصوات الآن أصبحت أكثر وضوحا في أذنيها، والصور أيضا بدت واضحة، وإن كان الضباب لا زال كثيفا، هل كان الجو شتاء والقاعة بغير سقف؟ أم كان الجو صيفا وهم يدخنون في حجرة بغير نوافذ؟ واستطاعت أن ترى رجلا آخر جلس غير بعيد عن القاضي، رأسه كرأس القاضي، أملس وأحمر لكنه ليس تحت الحذاء تماما كرأس القاضي، إنه يشغل الناحية الأخرى، ومن فوق رأسه علقت صورة أخرى داخلها شيء كالعلم، أو الراية الصغيرة المتعددة الألوان، ولأول مرة تلتقط أذناها بعض الجمل ذات المعنى المفهوم. «تصوروا يا حضرات السادة المحترمين أن هذه الطالبة التي لم تصل إلى العشرين بعد تقول عنه - حفظه الله وأدامه على رأس هذه الأمة الكريمة مدى الحياة - تقول عنه إنه «غبي».»
Página desconocida