Posición ante la metafísica
موقف من الميتافيزيقا
Géneros
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة الطبعة الثانية
1
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب سنة 1953م، ونفدت تلك الطبعة الأولى في سنوات قليلة بعد صدورها، وكانت طبائع الأمور تقتضي أن يعاد طبع الكتاب فور نفاده، لكنني آثرت عندئذ ألا أخرج الكتاب في طبعته الثانية إلا بعد أن يضاف إليه - في صلب نصوصه - شروح توضح الأفكار التي غمضت حقائقها على القارئ، وذلك إما لاكتفائه بقراءة عجلى تخطف المادة المقروءة خطفا من أطرافها، وإما لسيطرة أفكار مسبقة على ذهنه سيطرة انتهت به إلى سوء الفهم، ثم من يدري؟ فلعل مؤلف الكتاب لم يحسن العبارة ولم يوضح الغامض؛ فكان من جراء ذلك كله أن وجهت إلى الكتاب هجمات نقدية، كنت يومئذ أدرك مواضع بطلانها، ومن هنا اعتزمت ألا تكون للكتاب طبعة ثانية إلا إذا جاءت مشتملة على ردود تبين لهؤلاء الناقدين مواضع البطلان.
لكن الأعوام أخذت تمضي سراعا، عاما بعد عام، وكانت كلما انقضى عام منها، ترك لي وراءه شاغلا فوق شواغل، فتزداد دواعي الإرجاء، حتى أوشكت على اليأس من أن تشهد الطبعة الثانية نور الحياة؛ بيد أن سؤال الدارسين والقارئين لم ينفك عن ملاحقتي، فماذا عسى أن أصنع وقد أضيفت إلى شواغلي الأولى علل وأمراض؟! وكيف لا يحدث وقد مضت بعد الطبعة الأولى ثلاثون عاما؟ فبات قريبا من المحال أن أحقق ما اعتزمت أداءه بادئ الأمر، وهو أن أعيد كتابة الكتاب إعادة تتيح لي أن أعرض الأفكار على صورة تتضمن الردود على معارضات الناقدين، فرأيت أن أكتفي بمقدمة أقدم بها الطبعة الثانية، واضعا فيها تلك الردود والشروح في شيء من الإيجاز، مبقيا على النص القديم كما هو بغير تعديل بكل ما فيه من قوة وضعف، ووضوح وغموض، وحسنات ومآخذ؛ فلقد بعد به العهد، وأصبح من حقه أن يصان ليكون بمثابة وثيقة تشهد على فكر المؤلف وطريقة تعبيره عن ذلك الفكر في مرحلة مبكرة نسبيا من مراحل عمره.
2
كان أوجع نقد وأبشعه، هو أن اختلط الأمر على الناقدين فخلطوا بين فلسفة ودين، حتى خيل إلي يومئذ أن بعض هؤلاء الناقدين - على الأقل - لم يقرءوا من الكتاب شيئا، وهم إما أن يكونوا قد اكتفوا بقراءة عنوانه - في طبعته الأولى - «خرافة الميتافيزيقا»، قائلين لأنفسهم شيئا كهذا: الميتافيزيقا هي ما وراء الطبيعة، وما وراء الطبيعة هو الغيب، وأيضا هو الله سبحانه وتعالي، وإذن فهذه الجوانب الهامة من الإيمان الديني خرافة عند مؤلف هذا الكتاب. أقول: إن بعض الناقدين إما أن يكونوا قد اكتفوا بقراءة عنوان الكتاب، ثم أخذت خواطرهم تتسلسل على النحو المذكور، وإما أنهم كانوا أقل من ذلك درجة، وطفقوا يرددون ما يسمعونه عن غير وعي ولا دراية.
نعم، إنهم خلطوا بين فلسفة ودين؛ فالفيلسوف عندما يقيم بناءه الميتافيزيقي من النوع الذي نرفضه؛ لأن هناك نوعا ثانيا من الميتافيزيقا مقبولا عندنا، وسنذكر ذلك بعد حين؛ أقول: إن الفيلسوف عندما يقيم بناءه الميتافيزيقي، إنما يضع في بداية طريقه «مبدأ» معينا ينطلق منه، معتقدا - بالطبع - صواب ذلك المبدأ، وليس لديه من سند يرتكز عليه في ذلك الاعتقاد، إلا ظنه بأنه قد رأى ذلك المبدأ بحدسه (أي ببصيرته) رؤية مباشرة؛ لكن اعتقاده في صواب مبدئه لا يمنع فيلسوفا آخر من أن يضع لنفسه مبدأ آخر يعتقد - بدوره - أنه هو الصواب.
ولنضرب لذلك مثلا أفلاطون، ثم أرسطو من بعده، فقد رأى الأول أن الأفكار المجردة التي هي بمثابة النماذج الأولى، وعلى غرارها جاءت الكائنات الجزئية، هي ذات وجود موضوعي مستقل وقائم بذاته، فالقط الذي تراه أمامك سائرا على أرض غرفتك، قد خلق وفق «المثال» الأزلي للقط، وما ذاك المثال إلا فكرة مجردة عن طبيعة القط الجوهرية كيف تكون. وكيف عرف أفلاطون ذلك؟ عرفه من رؤية مباشرة رأى بها تلك «المثل» حين صعد إليها في مدارج التأمل الفلسفي حتى بلغها، وجاء بعده أرسطو ليرى رؤية أخرى فيما يتخذه لنفسه «مبدأ» يقيم عليه بناءه الفلسفي، وهو فكرة «الصورة» التي من شأنها أن تتجسد المادة فتكون هذا الكائن أو ذلك، فليست صورة القط - أي جوهر طبيعته - فكرة مجردة مستقلة عن القط، بل هي سارية فيه مجسدة به ... إلى آخر ما يذهب إليه الفيلسوفان في ذلك، مما يمكن الرجوع إليه في كتب الفلسفة.
Página desconocida