حينما شدت «نوتيلوس» الغواصة الأميركية حبالها إلى مرفأ «مانيلا»، كنت أول من قفز منها إلى الشاطئ.
ولم يكن حافزي جوعي إلى النساء، أو شوقي إلى أكل الخضار والفواكه، ولا حدا بي إلى الإسراع تلك الأحلام التي تراود البحار في أسفاره من قناني وسكي، ويابسة صلبة تحت قدميه، وقامة مياسة بين ذراعيه، بل إن عواطفي كانت متوترة تواقة إلى لقاء جميل السغبيني.
فجميل هذا هو مواطن لي، سكن «مانيلا»، ويعرف كل شيء عن لبنان حيث شببت، حتى ليسرد من أمور بلدتي «بعلبك» أكثر مما أعرف، فهو يذكر شوارعها، وراس عينها، وقلعتها، وساستها وبساتينها، وخيولها، ويعرف كذلك «أبو علي» ملحم قاسم، وأولاد دندش، وقائمقام بعلبك صلاح اللبابيدي.
وكان سبيل تعرفي إلى المواطن جميل السغبيني، النجمة السينمائية «غريتاغربو»؛ إذ ظهرت على الشاشة البيضاء ذات مساء، فأفلتت من شفتي لفظة إعجاب عربية، فلم أشعر إلا ويدان قويتان تهزان كتفي، وفتى يصيح من المقعد الخلفي في دار تلك السينما: «ابن عرب؟» أجبت: «... وبعلبكي!»
ومنذ تلك الليلة نشأت بيني وبين جميل مودة أنمتها الأيام، وشدت قلبي إلى قلبه حبال أمتن من حبال غواصتنا «نوتيلوس»، فكنت كلما رجعنا من سفرة تمارين حربية، أو من زيارة إلى مرفأ مجاور، هرعت إلى جميل وفي يدي هدية له أو لزوجته وطفلته؛ تلك الصغيرة التي كانت تدعوني «عمو». وكانت زوجته تغتفر لجميل تأخره عن الرجعة إلى البيت في المساء، ما دام «أسطول بعلبك» في الميناء.
ولعل ما جذبني إلى جميل السغبيني تنوع شخصيته؛ فما أعاد علي سرد قصة، ولا ردد نكتة. وقد أترك «مانيلا» وجميل مستخدم في مصرف، فأرجع إليها وهو مدير شركة أوتوموبيلات، ولعله بين الوظيفتين كان قد غامر بصفقة بورصة، وفتح ثم أقفل معمل بوظة. وكان يعجبني منه ثقته بنفسه إلى درجة عجيبة؛ فهو يروي لك كيف سيبني الخزانات لنهري دجلة والفرات، وينشئ معامل الفخار والقرميد والخزف في شرقي الأردن، ويجعل من إحدى قرى «عكار» مزرعة عصرية مثالا أعلى للزراعة العلمية، ويؤسس المدارس العربية في «جاوى». وحين ينتهي من خطابه يسألني اقتراض خمسة دولارات.
وإن مثل هذا السلوك، من غير جميل، يوحي الهزء. ولكن الأثر الذي يتركه في النفس حديث جميل أن هذا الفتى سائر إلى مبتغى سيدركه ولا ريب، وأن هذه الحاجة الوقتية، وتنوع أعماله، هما محطتان لا بد من الوقوف بهما في الطريق إلى النجاح.
هكذا كانت «مانيلا» قاعدة «نوتيلوس» البحرية، تعبئ منها زيوتها ومؤنها وذخائرها، وكان جميل السغبيني قاعدتي الروحية أستمد منه الوحي والقوة والإيمان، وأدخر من ظرفه ونكاته وحكاياته ما يؤنس نفسي في أسفاري الموحشة.
لذلك كان قلقي عليه شديدا، حينما احتل اليابانيون مانيلا، وحينما دمرت تلك المدينة أساطيلنا الهوائية ومدافعنا البرية. وكنت كلما قرأت أنباء القتل والدمار التي نزلت بمانيلا، أسائل نفسي خائفا: ترى ما حل بجميل وعائلته؟ وفي صيف 1943م، أغرقنا باخرة يابانية شمالي الفيلبين، وأسرنا منها ثلاثة فيلبينيين من موظفي الحكومة، أخبرني أحدهم أنه يعرف جميلا، وأن جميلا في سجن ياباني كثر من يدخله، وندر من يخرج منه.
وها أنا ذا في خريف 1945م وقد استعادت قواتنا الأميركية «الفيلبين»، منذ شهور أجول «مانيلا» أسأل عن جميل، فلا ألقى من يعرفه، وأقصد إلى البيت الذي كان يسكنه، فلا أجد هناك إلا السور وقد اسود من دخان الحرائق، فسألت نفسي هلعا: ترى أين كان جميل وعائلته، إذ استحال منزله إلى دخان ورماد؟ واقتربت إلى رتاج البوابة ... لا، ليس في الأمر من شك؛ فالنمرة التي اختبأت تحت حجاب من دخان - وغبار وأقذار - هي هي نمرة 722.
Página desconocida