أجبت: «لقد نطق بكلمة واحدة قبل أن يلفظ أنفاسه.» - أي كلمة؟ - كلمة «آخ!» - قل لي كيف صرع؟ - كان بين نارين. - اليابانيون والأميركان؟ - اليابانيون وزوجته. - وكيف كان ذلك؟ - أرادت زوجته أن تغسل فسطانها، فأمرت زوجها رشيد المغربي أن يملأ لها سطل ماء من قسطل قرب اليابانيين، فلما دنا منهم صوبوا البنادق وأمروه بالرجوع. - ولماذا لم يرجع؟ - لأن امرأته أمرته أن يملأ السطل ماء ... - إذن فقد مات ... - حاملا سطلا ...
قال الباشا: «أريد أن أصف - في كتابي الجديد - كيف يتفجر الدم من صدر قتيل. قل لي بم شعرت حين رأيت الدم يفور من صدر صديقك؟ - لم يكن هناك من دم. - إذن كيف قتل رشيد المغربي؟ - الخوف قتال يا باشا!
وقبل أن نترجل من السيارة في بيروت، شعرت أنه جاء دوري بإلقاء سؤال؛ فتطلعت إليه وسألته بلهجتنا أيام التلمذة: «مسعود! كيف حذقت هذا النفاق؟» فضحك حتى كاد يغمى عليه، وأمسك بكتفي الصحيحة وخاطبني بلهجة الحكيم يعظ أحمق، فقال: «الصدق قتال يا باشا!»
وحينما غابت سيارته عن عيني وانقطع صوت قهقهته، تبلجت لي الحقيقة المؤلمة، وهي أن مسعود ألبسنا في زمن الكهولة وفي مدرسة الحياة لقبا خلعناه عليه أيام الصبا وفي مدرسة التلمذة، فخاطبت نفسي معترفا بلقبي الجديد: «هذه حال الدنيا يا باشا.»
البرهان القاطع
بعد السلام والكلام، أسمعني تلك العبارة من جديد، فأمسكت بكلتا يدي قميصه من تحت عنقه وهززته هزا عنيفا رجرج نظارتيه، وصحت: انطق بهذه العبارة مرة ثانية، تر نفسك مضطجعا على مخمل هذا الرصيف تعد نجوم السماء في هذه الظهيرة ...
ولقد كنت فظا قاسيا على مخاطبي، ولكنها عبارة سمعتها من كل من لقيته بعد رجوعي إلى «مانيلا» على إثر دخول القوات الأميركية تلك المدينة، وتحريرها من اليابانيين؛ إذ طفت الشوارع والمتاجر أطلب وأتداول مع أصدقائي ومعارفي في شئون تحصيل الرزق. وكانت كل محادثة تبتدئ أو تنتهي بنفس العبارة: «افتح خمارة.»
كيف أفتح خمارة وقد ولدت وشببت في «بعقلين» لبنان، تدوي في أذني كلمة «حرام». بلى، حرام أن تقبض «فائضا» على دين؛ حرام أن ترمي بكسرة الخبز، أو تنفق من معاشات الحكومة أو من دفعات المهاجرين؛ حرام أن تدخن سيكارة أو تفوه بشتيمة؛ كل شيء حرام إلا عبادة الله، وقهر النفس، وحراثة الأرض، والعناية بها.
وهنا في «مانيلا» يريدونني أن أفتح خمارة! أي شيء من ماضي بان سافلا فشجعهم على مثل ذلك الاقتراح! فلا عجب إذن أن ثار حنقي حين سمعت تلك العبارة من جديد. وإني عصبي المزاج لا أقوى على كبح غضبي متى ثار، لا سيما إذا كان خصمي وضيع الحال، نحيل البنية. عجبا لسراع الغضب: كيف يضبطون عواطفهم أمام من يفوقهم قوة أو شأنا؟! ذكرني متى اجتمعنا أن أروي لك كيف استطعت أن أكبح جماح غضبي في حضرة ضابط ياباني يدغدغ كتفي بسوطه، ويصف السالفين من أهلي بكلمات تسمع ولا تطبع!
وحين أفلتت فريستي من يدي تابعت تسياري في الشوارع، فألفيت حوانيتها خمارة تجاور خمارة، فضلا عن متجولي الباعة الذين ملئوا جيوبهم وأيديهم بقناني الوسكي، والجنود والبحارة يملئون الشوارع والأقنية بأجسامهم وشتائمهم ودولاراتهم وعراكهم. ولئن جاز أن تسمى دمشق مطبخا كبيرا، فقد كانت «مانيلا» في تلك الأيام حانة كبيرة.
Página desconocida