حقا إننا لا نفهم كم هو شغفنا بشخص ما حتى نفقده، أو نخشى أن نفقده!
ونهضت من مقعدي، وعبرت الطريق إلى المخفر؛ حيث انتصب الخفير الأميركي، فسألته للمرة العشرين: متى تصل كميونات الإنقاذ؟ فابتسم وداعب بارودته قائلا: «لئن سألتني مرة ثانية لأطلقن عليك الرصاص! قلت لك: تصل الكميونات الساعة الثامنة عشرة.» وهذه الساعة العسكرية في لغة المدنيين تعني الساعة السادسة بعد الظهر؛ أي قبيل الغروب بساعة؛ أي بعد دقائق.
فوقفت أمام المخفر، وما طال انتظاري حتى أقبلت كميونات الإنقاذ، تحرس مقدمتها ومؤخرتها سيارتان مصفحتان، وهدأت أمام المخفر، وراح ركابها يثبون منها فرحين، وكان كلما قفز شخص من كميون، قفز قلبي من بين أضلاعي، وطفقت أتفرس بمن ترجل من الكميون؛ عله يكون إبراهيم.
وابتدأت الكميونات تسير وقد خلت من ركابها، منصرفة من أمام المخفر، وأحسست بالخوف واليأس يشلان ركبتي، وقد بردت يداي، وشعرت بظمأ إلى الوسكي شديد، وتماوجت الأبنية والشارع في نظري، وكادت السيارة التي تخفر مؤخرة القافلة تلطمني؛ إذ امتدت منها يد أمسكت بكتفي، وصاح منها صوت باسمي، ففركت عيني، وتثبت أن الجالس إلى يمين السائق في الثوب العسكري الأخضر هو إبراهيم.
وانحدر إبراهيم من السيارة متمهلا لم يثب، وسلم علي سلاما عاديا غير حار، وتمعنته فلم أبصر في عينيه تلك النار المشعة التي عهدتها، ولم أسمع في صوته تلك النبرة المتوثبة الحارة التي اشتقت إلى صداها، وحقا لقد تنكر علي، ونحن ما افترقنا إلا منذ أسبوع، حتى لوجدت فيه كل شيء تغير، إلا ذلك الكتاب الأحمر الذي تأبطه «مجاني الأدب»، وكان يسميه إنجيله وقرآنه وتلموده. وعرفني إلى رفيقه الفتى الأميركي الضابط؛ ماجور أندرسون، وراح يناديه باسمه «هري» عاريا عن اللقب، ومشى بنا إلى الخمارة في دعوة توهمت أنها شبه أمر.
وحقا لقد شعرت بالخيبة في لقاء إبراهيم، ولكني لست من الذين يطرحون جواهر الأمور لفشل في ظواهرها؛ فإبراهيم جوهر هو خليلي وصفيي لخمسة عشر عاما، وها هو قد نجا من الموت والمخاطر، وما عليه إن كان فاترا في سلامه، وهذه الحرب قد صيرت من العقلاء مجانين، ومن الأذكياء بلهاء أو قلقين. هي بادرة عارضة. فلنشرب هذه الوسكي، فسيصبح طعمها الآن مسكرا لذيذا.
وجلسنا إلى طاولة فغمز إبراهيم إحدى البنات، ودعاها إلى مجالسة الماجور بقوله: «عليك بهذا الأميركي، إنه فتى جندي عطشان جائع.» والتفت إلى الماجور وقال: «فيما أنت يا هري تتصابى ، اسمح لي أن أحدث مواطني هذا بلغتنا الغجرية.» فرجفت مشمئزا؛ متى كان إبراهيم وسيط البغايا؟ وكيف يدعوني ب «مواطن» وهو ما قدمني إلى الناس إلا مداعبا «أكبر أعدائي»، «وريثي»، «ابن عمي»، «أعظم مصائبي»؟ وكيف يقول إن لغتنا هي «الغجرية»، وهو ما تكلم عن العربية إلا بصوت مرتجف وصدر بارز فخور؟
وبلعت كأس الوسكي جرعة واحدة؛ إذ أخذ إبراهيم جوهر يخطب بي: أولا (قال إبراهيم واضعا سبابته بين عيني) سأحرق هذا الكتاب «مجاني الأدب». أتذكر راجي الراعي؟ - نعم، أذكره. - أتذكر ما كنا نقرأ من كتاباته؛ ما عنوانها؟ - قطرات ندى. - مضبوط. أتذكر قوله: «العقل جنون هادئ»؟ لقد كنت أنا خلال هذه الخمس عشرة سنة في جنون هادئ، ولقد أيقظتني من بحراني الجنوني كهربائية هزات هذه الحرب. ما كان أغباني! لقد نزلت إلى سوق التجارة متسلحا ب «مجاني الأدب». ما هي هذه العادات البدوية التي استعبدتنا: الوفاء، الشهامة، الكرم، العفو، الضيافة، العطاء؟! ما هذا الدستور الملائكي الذي حاولت تنفيذه في عالم الشياطين؟ وقبل أن أنسى، لئن رجعت إلى لبنان قبلي، فتش عن ضريح المعلم عباس. هل لك أن توليني منة وتبول عليه؟
وقهقه إبراهيم ونادى الغلام أن يملأ كئوس الوسكي من جديد، ثم عاد إلى الكلام: «أصغ إلى هذه المدافع التي تقصف حولنا، لعلك تحسب أنها حرب هذه التي نشهد ونسمع! ما هي بحرب. هي تجارة. الحرب، والسلم، والدين، والعلم، كلها تجارات.» هكذا قال لي رفيقي هذا هري الأميركي. تراك هل عرفت من هو؟ هو بطل «جواد الكنال» على صدره شارة أعظم نيشان. المجلة الأميركية التي نشرت خبر بطولته دفعت له خمسة وعشرين ألف دولار، وباعت أربعة ملايين نسخة من ذلك العدد الذي روى أنباء غماره. هوليوود دعته إلى صنع صورة. أتدري ما قال لي؟ قال لي: إنه يحارب ويتاجر معا! يبيع من بضاعة الجيش، لعلك تحسبها سرقة؟ ما أبلهك! بيع بضاعة الجيش هي سرقة في عرفك وعرف «مجاني الأدب» والمعلم عباس، أما هؤلاء الأذكياء مثل ميجور أندرسون فيحسبونها تجارة. أنا من الآن وصاعدا تاجر، أفهمت؟
وكانت الخمرة قد دارت في رأسه، فانتزع علبه الكبريت من جيبه، وأولع عودة فأدناها إلى كتاب «مجاني الأدب» يريد إحراقه، فاختطفته منه، وقلت: «أعطني إياه، مكتبتي احترقت، وأريد أن أحتفظ به فيكون عندي ولو كتاب عربي واحد.» فضحك إبراهيم وقال: «عجبا! هل فرغت من نهب اللغات الإفرنجية حتى تبدأ بسرقة الكتب العربية؟ لا بأس، فالكتابة تجارة. لئن كانت بضاعة الجيش حلالا، فحلال بضائع المؤلفين. هاك «مجاني الأدب».»
Página desconocida