موارد الظمآن
إلى زوائد ابن حبان
للحافظ نور الدين على بن أبى بكر الهيثمي
(٧٣٥ - ٨٠٧هـ)
الجزء الأول
حققه وخرج نصوصه
حسين سليم أسد الدّاراني
دار الثقافة العربية
دمشق- ص. ب:٤٩٧١ - بيروت-ص. ب: ٦٤٣٣/ ١١٣
1 / 1
موارد الظمآن
1 / 3
جمِيع الحقوق محفوظَة
الطبعة الأولى
١٤١١ هـ - ١٩٩٠ م
دار الثقافة العربية
دمشق- ص. ب:٤٩٧١ - بيروت- ص. ب: ٦٤٣٣/ ١١٣
المُدِيُر المسؤول
أحمد يوسف الدقاق
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
تميهد
من الواجب عليّ وأنا أقدم لهذا الكتاب أن أوضح للدارسين أمورًا ثلاثة، حتى لا يطول التساؤل، وحتى لا تختلف الآراء في التأويل والتخمين. الأمر الأول: بيان السبب الذي جعلني أقدم لِـ "موارد الظمآن" بالمقدمة نفسها التي كتبتها في تقديمي "صحيح ابن حبان". الثاني: هو أن أجيب على سؤال من يطالبني بطبع صحيح ابن حبان بتحقيقي، وهو ما أُحيل عليه في تخريجاتي "مسند أبي يعلى الموصلي" الذي نشرته دار المأمون للتراث. الممثلة بالأستاذين أحمد يوسف الدقاق، وعبد العزيز رباح. الثالث: توضيح السبب الذي دفعني إلى تحقيق هذا الكتاب الذي ما هو إلا جزء من صحيح ابن حبان الذي أطالب بإخراجه. ولتوضيِح هذا- محاولًا الإيجاز ما استطعت، مختصرًا مراحل زمنية طويلة، سائلًا الله تعالى السداد والرشاد- أقول: لقد سلمت مؤسسة الرسالة خمسة مجلدات محققة من "صحيح ابن حبان" مع مقدمة لهذا العمل، وذلك وفاءً بالعقد الموقع بيني وبين ممثل المؤسسة الأستاذ رضوان الدعبول، بتاريخ ٦/ ١٢/١٣٩٩هـ الموافق ٧/ ١٠/١٩٧٩ والذي يقضي بأن أقوم بتحقيق هذا السفر العظيم "صحيح ابن حبان"، وبأن تقوم المؤسسة بتعيين مراجع للعمل قبل إرساله إلى الطبع، على أن يثبت اسمي عليه محققًا، كما يثبت اسم المراجع عليه أيضًا مراجعًا.
1 / 5
وبالفعل فقد عينت المؤسسة مراجعًا يحظى بحبي واحترامي وهو الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط. وصدر المجلد الأول من هذا الصحيح وقد كتب على غلافه الخارجي: حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه شعيب الأرناؤوط وحسين أسد وقلت في نفسي: عسى أن يكون للمؤسسة وجهة نظر تجارية في هذا، والشيخ شعيب- كما قدمت- أخ نحبه ونحترمه، غير أنني استنكرت واستكبرت ما أحدث في المقدمة التي قدمت: فقد حذف منها وأضاف، وأدخل الحواشي في الأصل، وقدم وأخر ... وليت الأمر انتهى عند هذا وإنما أدخل فيها: "وكان الرأي الأخير في البت في درجة كل حديث للأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط". ورجعت إلى صاحبنا الشيخ شعيب، وطلبت إليه توضيح ذلك فتجاوز الإِجابة عن تساؤلي، وقال بلهجة ما عهدتها منه من قبل: "لقد أعطيت نعيم العرقوسي المجلدين الأخيرين ليكون شريكًا لك في هذا العمل" وهنا كان لا بد لي من إطلاعه على العقد الموقع بيني وبين الأستاذ رضوان، فازداد نفورًا، وقدمت احتجاجي إلى المؤسسة المذكورة، وطالبتها بالالتزام بالعقد، وطال الأخذ والرد، ولكنها- لظروف خاصة بها- آثرت مصلحتها وإرضاء الشيخ شعيب على إمضاء العقد والوفاء بالوعد، وطلب إلي أن أقيلها من العقد لأنها تريد لرئيس مكتب التحقيق فيها الشيخ شعيب أن يحقق الصحيح المذكور بأسلوب مغاير للأسلوب الذي اتبعته في عملي. وهنا تركت الفصل الحق في أمري إلى الله في يوم لا ينفع فيه مال، ولا شهرة، ولا جاه، وأجبتها إلى طلبها. ولم يمض طويل زمن حتى رأيت الجزء الثاني من صحيح ابن
1 / 6
حبان في الأسواق، وإذا على غلافه الخارجي: الإِحسان في تقريب صحيح ابن حبان.
المجلد الثاني
حققه وشرحه وعلق عليه
شعيب الأرناؤوط
واستنكرت ذلك أيضًا، وأعلمت المحكمين بذلك فاجتمعا وقابلا بين تحقيقاتي، وبين ما نشر في الجزء الثاني من تحقيقات، ووقَّعا على وثيقة جاء فيها: "وقد تبين لنا أن التحقيقات التي سلمها حسين أسد قد استخدمت من قبل الشيخ شعيب الأرناؤوط الذي نسب العمل إلى نفسه بعد أن أضاف في بعض الأماكن ما لا يزيد عن عشرة بالمئة ١٠/ من تحقيقات حسين أسد". وهنا قال الأستاذ بسام الجابي ممثل المؤسسة: "إن هناك خطأ وقع وعلي أو أوضحه إنصافًا للشركة، فقد تم ذلك بناء على معلومات قديمة كان قد اتفق عليها بين الأستاذ حسين أسد، وبسام الجابي، ولكن هذا الاتفاق نسخ بالاتفاق اللاحق الموقع من قبل الطرفين والملزم لهما بالتقيد بما فيه. وقد تعهد الأستاذ بسام الجابي ألا يتكرر هذا العمل بالنسبة لهذا الجزء والأجزاء الأخرى، وبناءً عليه نفتح صفحة جديدة، وعلى أساسها نحاسب مسقطين أعتراضنا على هذه الطبعة والله على ما نقول وكيل". ثم وقع الحكمان وذلك بتاريخ٢١/ ٦/١٤٠٧هـ الموافق ٢١/ ١/١٩٨٧. وهنا أكد الأستاذ بسام الجابي أن المؤسسة سوف تقوم بإعادة العمل من جديد وبأسلوب مميز ومختلف عن الأسلوب الذي صدر فيه الجزءان.
1 / 7
وخلال هذه الفترة الطويلة كنت منصرفًا إلى تحقيق "مسند أبي يعلى الموصلي" الذي نشرته دار المأمون للتراث، وكنت أحيل على تخريجاتي لصحيح ابن حبان ظنًا مني بان العمل سوف يصدر كما قدمته بترقيمي وتخريجي، وما كنت أتصور أن للمراجع حقوقًا كتلك التي جعلها الأخ الشيخ شعيب لنفسه. وفي عام ١٤٠٧هـ الموافق ١٩٨٧ م نشرت دار الكتب العلمية "الإِحسان بترتيب صحيح ابن حبان" كاملًا مع الفهارس، ولكنه غير محقق التحقيق العلمي اللائق بمثل هذا السفر الجليل الذي حاول صاحبه أن يستوعب فيه كل ما صح عن رسول الله ﷺ -فرأيت-وقد اقترح علي بعض الأفاضل- أن تحقيق "موارد الظمآن إلىِ زوائد ابن حبان" أصبح واجبًا عليَّ لأن تحقيق هذا الكتاب يُعد تحقيقًا للإِحسان بكامله إذ الأحاديث الواردة في الإحسان قسمان:
الأول منها: ورد في الصحيحين، أو في أحدهما، وورود هذه الأحاديث فيهما، أو في أحدهما يزيدنا ثقة بصحتها، واطمئنانًا لوجوب الالتزام بما جاء فيها.
الثاني منها: هو ما زاد على ما جاء في الصحيحين، وهو ما جمعه الحافظ الهيثمي في "موارد الظمآن" بعد أن رتبه على أبواب الفقه. وهذا القسم من الأحاديث هو الذي يحتاج إلى البحث الدقيق، والتحقيق الجاد، والتأني في الحكم على الأسانيد لبيان حالها.
ولذلك فإنني قد عزمت- معتمدًا على الله تعالى- على تحقيق هذا الكتاب، مقدمًا له بهذه الدراسة القديمة- الحديثة، التي سميتها "مقدمة التحقيق" بنصها الذي قدمته إلى مؤسسة الرسالة في التاريخ المدون في نهايتها، والله ولي التوفيق.
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
إنَّ الْحَمْدَ لله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيئاتِ أعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِل لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأشْهَدُ انْ لَا إِلهَ إلَاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (يا أَيهَا الّذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَاتِهِ، وَلَا تَمُوتُن إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: ١٠٢]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلحْ لَكُم أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاَ عَظِيمًا) [الاحزاب:٧٠].
أما بعد: "فإنَّ اللهَ -سبحانه- اخْتار محمدًا ﷺ -من عباده، واستخلصَهُ لنفسه من بلاده، فبعثه إلى خلقه بالحقّ بَشيرًا، ومنَ النّار لمَنْ زَاغَ عن سبيله نذيرًا، لِيَدْعُوَ الخلقَ من عبادِهِ إلى عبادَتِهِ، وَمِن اتَباعِ السّبُل إلى
1 / 9
لُزوم طاعتِهِ. ثم لم يجعَلِ الفَزَعَ عندَ وُقوع حادثةٍ، ولا الهربَ عند وجود نازلةٍ إلاّ إلى الَّذي أُنْزِلَ عليه التَّنزيلُ. وتفَضَّلَ عَلى عبادهِ بِوِلَايَتِهِ التأويل، فَسُنَّتُهُ الفاصلةُ بينَ المتنازعين، وآثارُه القاطعَة بينَ الخصمين" (١). ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥].
وقد آمن به مَنْ خاطبهم بقوله ﷺ "أنتم خير أهل الأرض" (٢)، وهم الذين لازَمُوهُ، واتَّبعُوا النورَ الذي أُنزلَ معهُ، وَعَلِمُوا أنَّ الأخذَ بسنّته "اتباعٌ لكتاب اللهِ، واستكمالٌ بطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تَغييرُها وَلَا تَبْديلُهَا، ولا النظرُ في شيءٍ خَالَفَهَا، مَنِ اهْتَدى بها فهو مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتنصرَ بها فهو منصورٌ، وَمَنْ تركها اتَّبَعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ، وَوَلَأه الله ما تولى، وَأصْلاهُ جَهنَّمَ وَسَاءت مَصيرًا" (٣).
وَلَا يخفى عَلى كل ذي بَصيرة أنَّ الحديثَ النبويَّ هو قولُ الرسول ﷺ وفعلُهُ، وَإقْرَارُهُ. وَفي كلَ ذلكَ هو مُبَيّنٌ وَمُوَضَحٌ لِمَا جاءَ في القرآنِ الكريمِ، من النصُوصِ العَامَّةِ، والْمُطْلَقَةِ، والْمُجْمَلَةِ. وَهُوَ ممَّا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ في قَوْلهِ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: ٤٤].
فالرسول ﷺ قد أُمِرَ- بمقتضى هذا النص- أنْ يُبَيِّنَ مَعانيَ القرآن، وما يُؤْخَذُ عَنْهُ مِنْ أحكام في العقائد، والعبادات، والمُعاملات، والأخلاق.
_________
(١) "الثقات" لابن حبان١/ ٢ - ٣.
(٢) جزء من حديث أخرجه البخاري في المغازي (٤١٥٤) باب: غزوة الحديبية، ومسلم في الإِمارة (١٨٥٦) (٧١) باب: استحباب مبايعة الإِمام الجيش عند إرادة القتال.
(٣) حلية الأولياء" ٦/ ٣٢٤، وسير أعلام النبلاء ٨/ ٨٨.
1 / 10
فكان ﷺ بسُنَتِهِ الْقَوْليةِ وَالْفِعْلِيةِ، هُوَ الْمُعَبِّرَ عَنْ كِتَاب اللهِ، الدَّالَّ عَلى مَعانيه، الْهَادِيَ إلى طرق تطبيقه. فالقرآن والحديث شيئان متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، وهما المصدران الأساسيان لدين الإِسلام. ولما كان الحديث النبوي مبينًا للقرآن وشارحًا له- وهو صادر عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، والمسدد بتَأْيِيدِ اللهِ لَهُ- فقد افترضَ الله ﷿ عَلى العباد طاعَتَهُ،- وَقَرَنَ ذَلِكَ بِطَاعَتِهِ- وَاتِّبَاعَ سُنَّتِهِ، والرجُوعَ إِلَيْها فيما اختلفوا فيه من شيء، والرِّضَى بِها، والتَّسْليمَ لَهَا، وَطَرْحَ مَا سِوَاهَا، وَعَدَمَ الْاعْتِدَادِ بقولِ أحدٍ - كائنًا من كانَ- إذَا كانَ يُخَالفها، أو يتأوَّلُهَا عَلى غَيْر وجهها، وَقَدْ جَاءَ ذلِكَ صَراحةً في عِدَّةِ آياتٍ مِنْ كتابِ الله: قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ َلايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُ ثُمَّ َلا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: ٦٥]. وقال: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون) [آل عمران: ١٣٢]. وقال: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفيقًا) [النساء: ٦٩]. وقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهمْ حَفِيظًا) [النساء: ٨٠]. وقال: (وَأَطِيعُوا اللهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) [المائدة: ٩٢]. وقال: (وَمَا كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَل ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: ٣٦].
1 / 11
وَقَالَ: (وَمَا آتَكمُ الرَسُولُ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: ٧]. ومن هنا اشتدت عنايةُ صَحابة الرسول ﷺ بما صدَرَ عَنْه من أقوال وأفعال فحفظوها في صدورهم، وقَيَّد بَعْضَهَا عَدَدٌ غَيْرُ قَليل منهم في الصحف وبلغوها لمن جاء بعدهم من التَّابعين، بِدِقَة بالغةٍ، وَعِنَاية لا نظيرَ لَهَا. ثمَّ جاءَ عصرُ التابعين، فَحَذَوْا حَذْوَ الصَّحابةِ في حِفْظِ الحديثِ وَكِتَابَتِهِ، فكان العالم منهم يتردَّدُ على صَحابة رسول الله ﷺ الذين كانوا في بلده، فيحفظ مَرْوَيَّاتِهِمْ، وَيَعْقِلُ فَتَاوِيَهُمْ، ويعي تأويلهم لِلآيِ الْكَريمِ. وَاسْتَقَرَّ الأمْرُ عَلَى ذلِكَ إلَى رَأسِ الْمِئةِ الأولى مِنَ الْهِجْرةِ في وِلايةِ الخليفةِ الرَّاشِدِ عمر بن عبد العزيز، فرأى جَمْعَ الحديثِ والسنن، وتَدْوينَهَا تَدْوينًا عامًا خشيةَ أن يضيعَ منها شيءٌ بِمَوْتِ حافظيها، فقد روى مالك في "الموطأ" برواية محمد بن الحسن أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم- وكان إذ ذاك على إمرة المدينة المنورة موئل العلماء والحفّاظ-: أن انْظُرْ ما كانَ من حديث رسول الله ﷺ أو سُنَّتِهِ، أو حديث عمر، أو نحو هذا، فاكتبه، فإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العلم، وذهابَ العُلماءِ، وَأوْصَاهُ ان يكتب ما عند عَمْرَةَ بنتِ عبد الرحمن الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وهما على رأس مَن جمع حديث أُم المؤمنين عائشة، وما عندها من العلم.
"وَكتَبَ أيْضًا إلى العالم الجليل، المحدّث الحافظ محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري ت (١٢٤) هـ، أنْ يُدَوِّن الحديث والْعِلْمَ، فكان كما قال أبو الزناد: "يَطُوفُ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَمَعَهُ الألْوَاحُ
1 / 12
وَالصحُفُ، يَكْتُبُ كُلَّ مَا يَسْمَعُ" (١).
ثُمَّ شاعَ التدوين في الطبقةِ الَّتي تَلِي طبقة الزهري، وَأبي بكر بن حزم، فصنّف عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، ت (١٥٠) هـ، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ت (١٥٦ هـ) بالشَّامِ، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري، ت (١٦١ هـ) بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار، ت (١٧٦ هـ) بالبصرة، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِد، ت (١٥١ هـ) باليمن، كتابه الجامع (٢)، ومحمد بن إسحاق، ت (١٥١ هـ) صاحب السيرة والمغازي، وعبد الله بن المبارك، ت (١٨١ هـ) بِخُرَاسَان، وهُشَيم بن بشير، ت (١٨٨ هـ) بواسط، وجرير بن عبد الحميد، ت (١٨٨ هـ) بالرَّي، والليث بن سعد ت (١٧٥ هـ) بمصر.
ثم تَلاهم كثير من أهل عصرهم في النَّسْج عَلى مِنْوَالِهم، إلى أنْ رَأى
بَعْضُ الأَئِمَّةِ منهم أنْ يُفْرِدَ حديثَ النبي ﷺ خاصةً، وَذلِك على رأس المئتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي، ت (٢١٣ هـ) مُسْنَدًا، وصنّف مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْبَصْري، ت (٢٢٨ هـ) مُسْندًا، وصنف أسَدُ بن مُوسى الأموي ت (٢١٢ هـ) مُسْندًا، وَصَنَّف نُعَيم بن حمَّاد الخزاعي، ت (٢٢٨ هـ) مُسْندًا- وكانَ نَزِيلَ مِصْرَ.
ثُمَّ اقْتَفَى الأئِمَّةُ- بعد ذَلِكَ- أثَرَهُمْ. فَقَلَّما نَجِدُ إِمامًا من الحفَّاظ إلا وصنّف حديثه على المسانيد، كالإمام أحمد بن حنبل، ت (٢٤١ هـ).
_________
(١) انظر "الأموال" لأبي عبيد ص ٣٥٨ - ٣٥٩، والبخاري في العلم، باب: كيف يقبض العلم، وسير أعلام النبلاء ٥/ ٣٢٨، وانظر مقدمة فتح الباري ص ٦ - ٧، وتدريب الراوي ٢/ ٩٠.
(٢) وهو ملحق بالمصنف، بدؤه فى ١٠/ ٣٧٩، ونهايتة نهاية المجلد (١١).
1 / 13
وإسحاق بن راهويه، ت (٢٣٨ هـ)، وعثمان بن أبي شيبة، ت (٢٣٩ هـ)، وغيرهم من النُّبَلَاءِ.
وَمِنْهم مَنْ صَنَّف على الأبواب، وَعَلَى المسانيدِ مَعًا، كأبي بكر بن عبد الله بن أبي شيبة، ت (٢٣٥ هـ).
فلما رأى البخاري -رحمه الله تعالى- هذه التَّصانيفَ ورواها، وَانْتَشَقَ رَيَّاهَا، وَاسْتَجْلَى مُحَيَّاهَا، وَجَدَها- بحسب الوضع- جَامِعَةً بين مَا يدخل تَحْتَ التصْحيح والتَّحْسين، والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال لغثه سمين، تحرَّكَتْ هِمَّتُهُ لِجَمْعِ الحديثِ الصَّحيح الذي لا يرتاب فيه أمين.
وَقوَّى عَزْمَهُ عَلى ذلكَ ما سَمِعَهُ مِنْ أُسْتاذه- أَمِير المؤمنين في الحديث والفقه- إِسْحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه- وقد كان البخاريُ عِنْدَه-: لو جمعتم كتابًا مُختصرًا لصحيح سُنَةِ رَسول الله ﷺ؟.
قالَ: فَوَقَعَ ذلِكَ في قَلْبِي، فَأخَذْتُ في جَمْعِ "الْجَامِعِ الصًحِيح" (١). ثم تلاه تلميذُهُ وَصَاحبُهُ: أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، فصنف ثاني كتابين مَلآَ الدنيا وَشَغَلا النَّاسَ، فَكَانا الْبِدَايَةَ- وَنِعْمَتِ الْبِدَايَةُ- وكانا النواةَ والمنهج للباحثين في هذا المضمار الشريف.
وَلكِنَّهُمَا -رحمهما الله- لَمْ يَسْتَوْعبا الصحيحَ بما جَمَعَاه، وَلا الْتَزَمَا ذلِكَ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَن الْبُخَاريَّ أنهُ قَالَ: "مَا أَدْخَلْتُ فِي كِتَابيَ "الْجَامِعَ " إلا مما صحً، وَتَرَكْتُ مِنَ الضَحَاحِ لِمَلالِ الطَولِ".
وَرَوَئنَا عَن مُسْلمٍ أنه قال. "لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٌ وَضْعَتْهُ هُنَا يعني في صحيحه- وَإِئمَا وَضعْتُ هُنا مَا أَجْمَعُوا عَلَى صِحَتِهِ" (٢).
_________
(١) هدى السارى ص (٦)،مقدمة ابن الصلاح ص:١٠.
(٢) هدى السارى ص (٧)،مقدمة ابن الصلاح ص:١٠.
1 / 14
ورَوى الحازمي والإسْماعيلي عن البخاري قوله: "وَمَا تَرَكْتُ مِنَ الصِّحَاحِ أَكْثَرُ" (١). وَهذِهِ النّقولُ اعْتِرافٌ صَريحٌ مِنْهُمَا بِأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا فِي كِتَابَيْهِمَا كُلَّ الصّحِيحِ. فَالْمَجَالُ إذًا وَاسِعٌ، والميدانُ فَسيحٌ أَمامَ مَنْ تَتَحقَّقُ فيه العزيمَةُ، وَصِدْقُ القَصْدِ، وَسَعَةُ الاطِّلاعِ، ودِقَةُ النَّقْدِ لِيُتِمَّ مَا بَدَأَ بِهِ هذانِ الإِمامان العظيمان. وَقَدْ نَهَضَ لِهَذِهِ الْمَهَمَّةِ، الحافظُ الكبيرُ، شيخ الإِسلام، إمام الأئمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة (٢٢٣ - ٣١١ هـ) مُحَاوِلًا استيعابَ الصَحيح في مصنف، قد ضاع مع ما ضاع من ميراثنا العظيم، ولم يبق منه إلا ربعه (٢)
ثُمَ تَلَقَّفَ الرَّايَةَ من بعده تلميذه النجيبُ، الإِمامُ الحافطُ، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، الذي نحن بصدد التعريف به وبكتابه الضخم المسمى بـ "الْمُسْندُ الصَّحِيحُ عَلَى التَّقاسِيمِ وَالأَنْوَاعِ، مِنْ غَيْرِ وُجُودِ قطعٍ فِي سَنَدِهَا وَلَا ثُبُوتِ جَرْحٍ. فِي نَاقِلِيهَا" (٣)، والمشهور بين أهل العلم ب "صحيح ابن حبان".
_________
(١) هدى الساري ص (٧)، مقدمة ابن الصلاح ص: ١٠.
(٢) وقد قام بتحقيق ما باقي من هذا المصنف العظيم، الدكتور محمد مصطضى الأعظمى، وقد أخرجه في أربعة أجزاء تبدأ بكتاب "الطهارة" وتنتهي بكتاب "الحج" باب: إباحة العمر قبل الحج.
(٣) ويقع في "سبعة أسفار". فقد روى الوادى أشي (٧٤٩) هـ في "برنامجه"ص (٢٠٤) أنه قرأ جميع التقاسيم والأنواع بسنده، بحرم الله تعالى تجاه الكعبه المعظمة، على إمام المقام الشريف رضي الدين أبي إسحاق إبراهيم الطبرى وكان فى سبعة أسفار دون ما اتصل به من الكلام عليه، ثم قال:" وناولنيه الشيخ شمس=
1 / 15
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء الزراد الصالحين، الدمشقي، بجامع الصالحية، وكان في ستة أسفار". وهذا النقل يعني أن كتاب "التقاسيم والأنواع " كانت أصوله متداولة بين أهل العلم في مكة والشام، يسمعونه على الشيوخ ليتصل سماعهم بمؤلفه توثقًا وضبطًا. غير أن هذا التداول وهذا الاهتمام، وهذا الجهد كان محدودًا، وما كان بالقدر الذي يتناسب مع المكانة العظيمة التي يحتلها هذا المصنف الجليل، والدليل على ذلك أننا- وللأسف- حتى ساعة كتابة هذه الأسطر لم نقف على أصل خطي كامل له، على الرغم من البحث والتفتيش عنه في المكتبات العامة والخاصة، وربما نقع على ذلك -إن شاء الله- فيما نستقبل من الأيام. لذلك فإننا نرجو أهل العلم أن يزودونا بعلمهم فيما إذا اهتدوا إلى مكان وجود نسخة كاملة من هذا المصنف الجليل لنسعى إلى الحصول عليها، ولن يذهب العرف بين الله والناس.
1 / 16
ابن حبان (١)
التعريف به وببيئته:
هوَ الإمام العَلَاّمَةُ، الحَافظ المجوِّدُ، المحقِّقُ الفَاضِلُ، شَيْخ خراسانَ، محمد بن حبان، بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد، بن سَعيد بن سَهِيد، ويقال: ابن معبد بن هدية بن مُرَّةَ، بن سعد بن يزيد بن زيد، بن عبد الله بن دَارم ابن مالك، بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مُرة بن أُدّ، بن طابخة بن إلياس، بن مُضر بن معد بن عدنان، أبو حاتم التميمي البستي، القاضي، أحد الأئمة الرحّالين والمصنفين.
_________
(١) مصادر الترجمة: الأنساب ٢/ ٢٠٩ - ٢١٠، معجم البلدان ١/ ٤١٥ - ٤١٩، إنباء الرواة ٣/ ١٢٢، الكامل لابن الأثير ٨/ ٢٦٦، اللباب ١/ ١٥١، المختصر في أخبار البشر ٢/ ١٠٥ - ١٠٦، مختصر طبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي الورقة (١٦٠)، سير أعلام النبلاء ١٦/ ٩٢ - ١٠٤، تذكرة الحفاظ ٣/ ٩٢٠ - ٩٢٤، ميزان الاعتدال ٣/ ٥٠٦ - ٥٠٨، العبر ٢/ ٣٠٠، دول الإِسلام ١/ ٢٢٠، الوافي بالوفيات ٢/ ٣١٧ - ٣١٨، عيون التواريخ/ ١١/ الورقة (١٣٠)، مرآة الجنان ٢/ ٣٥٧، طبقات الشافعية للسبكي ٣/ ١٣١ - ١٣٥، البداية والنهاية ١١/ ٥٩، لسان الميزان ٥/ ١١٢ - ١١٥، النجوم الزاهرة ٣/ ٣٤٢، طبقات الحفاظ للسيوطي ص: (٣٧٤ - ٣٧٥)، النحوم الزاهيه ٢/ ٣٤٣،شذرات الذهب ٣/ ١٦، هدية العارفين ٢/ ٤٤ - ٤٥، الرسالة المستطرفة للكتاني صر (٢٠ - ٢١). الأعلام ٦/ ٧٨، ومعجم المؤلفين ٩/ ١٧٣ - ١٧٤ وفيه كثير من مصادر الترجمة.
1 / 17
وُلِدَ بِبُست (١)؟ تلك البلدة التي ازدهت بجمالها، وكانت دُرَّةً في عِقْد الاسلام إذا مَا عُرِّجَ عَلَى ذكْر عُلمَائِهَا وَرِجَالِهَا: إِذَا قِيلَ: أَيُّ الأرْضِ فِي النَّاسِ زِينَةٌ ... أَجَبْنَا وَقُلْنَا: أَبْهَجُ الأرْضِ بُسْتُها فَلَوْ أَنَّنِي أَدْرَكْتُ يَوْمًا عَمِيدَهَا ... لَزِمْتُ يَدَ الْبُسْتِيِّ دَهْرًا وَبُسْتُهَا (٢) في هذه البقعة من العالم الإِسْلامي، التي حمل إليها الفاتحون- مَعَ العَدالة والدِّيَانَةِ، والرَّحمَةِ " وَالعِمْرَانِ- الحضارةَ والعلمَ والبيانَ وصُنُوفَ المعرفَةِ. فِي هذِهِ البقعة الطِّيبَةِ وُلِدَ هذا الإِمامُ العظيمُ، فَكَانَ عَدْنَانِيَّ النَّسَبِ، أَفَغَانِيَّ الْمَوْلِدِ وَالنَّشْاةِ. وَتدُور عَجَلَةُ الزَّمَنِ، وَيمْضي أَكْثَرُ مِنْ رُبْع قَرْنٍ عَلَى مولد هذَا الإِمام الكبيرِ، دُونَ أَنْ تُحَدِّثَنَا كُتُبُ التَّرَاجِمِ شَيْئًا عَنْ نَشاتِهِ الَأولَى، وَالأحْداثِ الَّتي تعرَّضَ لَهَا، وَطَلبِهِ للعلم، وَاشْتِرَاكِهِ فِي أحْدَاثِ عَصْرِهِ.
_________
(١) - مدينة كبيرة بين سجستان وغزنين وهداة، وهي كثيرة الأنهار والبساتين. سئل عنها بعض الفضلاء فقال: هي كتثنيتها- يعني: بستان. وقد خرج منها جماعة من أعيان الفضلاء منهم: الإِمام الكبير، الفقيه، اللغوي، أبو سليمان الخطابي صاحب "معالم السنن" و"إعجاز القرآن" و"غريب الحديث" وغيرها. ومنهم الأديب البليغ أبي الفتح علي بن محمد البستي صاحب القصيدة السائرة في الحكمة، ومطلعها: زِيادَةُ الْمَرْءِ في دُنْيَاهُ نُقُصَانُ ... وَرِبْحُهُ غَيْرَ مَحضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ
(٢) قائل ذلك- هو عمران بن موسى بن محمد بن عمران الطَّوْلَقِيّ، يمدح أبا الفتح البسبتي، الشاعر، الكاتب، صاحب التخميس. معجم البلدان١/ ٤١٥.
1 / 18
لقد ضَنَّتْ عَلَيْنَا كُتُبُ التَّرَاجِم بكُلِّ ذلِكَ، فَأصْبَحَ ضَائعًا فِي مَتَاهَةِ تاريخ بَعيدٍ لَمْ يُدْرَسْ، وَلَمْ تُسَلِّط، وَلَو شعاعًا وَاحِدًا عَلَى جَانبٍ مِنْ جَوانِب هذِهِ الْحَيَاةِ الْكَريمَةِ!! ..
أسباب خروجه من بلده:
بَعْد مُضي هذهِ الفترةِ الغامِضَةِ، نَجدُ ابنَ حبان شَريدًا طَريدًا، أُكْره عَلى مُفارقة الأهلِ الذين أَحَبَّ، وَالموْطِنِ الَّذي هَام بِهِ وترعرع فِيه. ونسأل عن سبب ذلكَ، فتحدد لنا كتب التراجم سببين لهذا الإخراج المقيت: يَقولُ الذَّهبي في "ميزان الاعَتدال" ٣/ ٥٠٧: "قال أبو إسماعيل الأنصاري، شيخ الإسلام: سألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم بن حبان: رَأيْتَهُ؟. فَقَالَ رَأيتُهُ، وَنَحْن أخْرَجناهُ مِنْ سَجستان، كان لهُ علمٌ كَثيِرٌ، ولم يكنْ لهُ كبيرُ دينٍ، قدمَ علينا، فَأنكرَ الحدَّ لله، فَأخرجْنَاهُ" (١). وقال أبو إسماعيل الأنصاري: "سَمِعْتُ عَبْدَ الصمدِ بْنَ مُحمد بن
_________
(١) تعقب الإمام الذهبي هذا القول في "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٩٧ - ٩٨ بقوله: "قلت: إنكارُكم عليه بِدْعَة أَيْضًا، والخوض في ذلِكَ مما لم يأذن بهِ الله، ولا أتى نصُّ بإثبات ذلك ولا بنفيه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وتعالى اللهُ أَنْ يُحَدَّ، أَوْ يُوصَفَ إِلَاّ بمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ، أَوْ عَلَّمَهُ رُسُلَة بالمعنى الَّذي أرادَ، بِلَا مِثْل وَلَا كَيْفٍ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهَ شَيْء وَهُوًالسمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. [الشورى: ١١] ". وقال ابن حَجَرٍ في"لسان الميزان" ٥/ ١١٤ بعد أن ذكر القول هِذا: "وَالحَقُّ أَنَّ الحَقَّ مَعَ ابْن حِبَّان". وقال السُّبْكى في "طبقات الشافعية الكبرى" ٣/ ١٣٢ - ١٣٣: "قُلْت َ، انْظُرْ مَا أَجْهَلَ هذَاَ الجارِحَ! وَلَيْتَ شِعْرِي مَن الْمَجْرُوحُ؟ مُثْبتُ الْحَدِّ، أَوْ نَافِيهِ؟. وَقَدْ رَأَيْتُ للحافظ صلاح الدين خَليل بن كيكلديَ العلائي ﵀ عَلَى هُنا كَلَامًا أَحْبَبْتُ نَقْلَهُ بعِبَارَتِهِ، قَالَ ﵀ ومن خطه نقلت: "يَا الله العجب!! مَنْ أَحَقُّ بِاْلإخْرَاجِ، وَالتَبْدِيعِ، وَقِلًةِ الدِّينِ؟!.
1 / 19
محمد يقول: سَمِعْتُ أبي يقول: أنكروا عَلَى ابن حبانَ قَوْلَهُ، النُبُوَّةُ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، وَحَكَمُوا عَلَيْهِ بالزَّنْدَقَةِ،- وهَجَرُوهُ، وَكَتَبُوا فِيهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأمَرَ بِقَتْلِهِ. وَسَمِعْتُ غَيْرَهُ يَقُولُ: لِذلِكَ أُخْرِجَ مِنْ سَمَرْقَنْد" (١).
_________
(١) لقد تدبرنا ما كتبه ابن حبان في صحيحه من تعليقات، وما نثره من تأويلات، علّنا نقع على هذه العبارة، أو على شيءٍ يدل عليها، أو تأويلٍ يقود إليها، فلم نجد من ذلك شيئًا، علمًا بأن سلوك ابن حبان، ودأبه الدائب فيْ تحصيل الحديث الصحيح، وحرصه على حفظه من قبل الدارسين للعمل به، بعد عقله وفهمه يجعلنا نرجح أن هذه المقولة ألصقها به بعض حاسديه من المتزهدين الذين زهدوا في العلم، فناصبوا أهله العداء، أو القائلين بالحد الذين أغرقوا فيه حتى كادوا أن يقعوا في التجسيم، أو بعض الذين ضاق صدرهم بالتأويل والمتأولين فاعتبروهم الأعداء الألداء، واتهموهم بما هم منه- أو من أكثره- برآء.
قال الحافظ ابن كثير في "البداية" ١١/ ٢٥٩: "وَقَدْ حَاوَلَ بعضهم الكلام فيه مِنْ جهَةِ مُعْتَقَدِهِ، وَنَسَبَهُ إِلَى القولِ بأن النبوة مُكْتَسَبَة، وهي نزْعَةٌ فَلْسفية، والله أعلَمُ بصِحَّةِ عَزْوِهَا إِلَيْهِ، وَنَقْلِهَا عَنْهُ".
وقال الحافظ الذهبي في. "سير أعلام النبلاء "١٦/ ٩٦ - ٩٧: "هذِهِ حِكَايَةٌ غريبةٌ، وابن حبان مِنْ كِبَار الأئمة، ولَسْنَا نَدَّعي فيه العِصْمَةَ مِنَ اْلخَطَأِ، لكِنْ هذِه اْلكَلِمةُ قَدْ يُطْلِقُهَا المُسْلِمُ، وَيُطْلِقُهَا الفَيْلَسُوفُ الزِّنْدِيقُ.
فَإِطْلَاقُ الْمُسْلِمِ لَهَاَ لَا يُبْتَغَى، لكِنْ نَعْتَذِرُ فَنَقُولُ: لَمْ يُردْ حَصْرَ المبتدأ فى الخبرِ، وَنَظيرُ ذلكَ قَوْلُهَ ﵊: "الْحَجُّ عَرَفَةُ". وَمَعْلُومٌ أنَّ الحاج لا يصير بِمُجَرَّدِ الوقوفِ بعرفةَ حَاجًا، بل تبقى عَلَيْهِ فروضٌ وَوَاجِبَات، وَإِنَمَا ذَكَرَ مُهِمَّ الْحَجِّ. وَكَذَا هذَا ذَكَرَ مُهِمَّ النُبُوَّةِ، إِذْ مِنْ أَكْمَلِ صِفَاتِ النَّبي كَمالُ العِلْمِ والْعَمَلِ، فَلا يَكونُ أَحَدٌ نَبِيًا إلا بِوُجُودِهِمَا، وَلَيْسَ كُل مَنْ بَرزَ فِيهمَا نبيًا، لأنَ النبوةَ مَوْهبةٌ مِنَ الحَقِّ تَعَالَى لا حِيلَةَ لِلْعَبْدِ في اكْتِسَابِهَا، بَلْ بِهَا يَتَوَلَّدُ العلْمُ الَّلدُنِّي، وَالَعَمَل الصالحُ. وَأَمَّا الْفَيْلَسُوفُ فَيَقُولُ: النبوة مُكْتَسَبَةٌ يُنْتِجُهَا العِلْمُ وَالْعَمَلُ، وَهذَا كُفْرٌ لَا يُريدُةُ أبو حاتم أصْلًا، وَحَاشَاه". =
1 / 20
وإمعانُ النَّظَرِ في هذين الخبرَيْن يُوَضِّحُ أُمورًا ينبغي التوقف عندها: أولًا: إنهما يَرْسُمان صورَةً لِبَعْضِ أدْعِيَاءِ العِلْم، الذينَ نَما الحسَدُ في نفوسهم، وَترعرع الحِقْدُ في قلوبهم، فتوهموا أن بيَدِهِمْ أمْرَ تَوْجِيهِ الفكر بَيْنَ النَّاسِ، وَمُصَادَرَةَ كُلِّ مَا لا يُناسِبُ مُيُولَهُمْ وأهْوَاءهَم، سِلاحُهُمْ في ذلِكَ إثارَةُ العَوَامِّ مِنَ النَّاسِ، والوشايةُ بهم إلَى الخليفة، يسند ذلِك افتراءٌ مَرْذولٌ، ويدعمُهُ بَاطل مَخْذولٌ. ثانيًا: إنهما يحدِّدَان جِهَةَ الرِّحْلَةِ الَّتي قامَ بِهَا ابن حِبَّان، فقد تَوَجَّهَ إلى مَشْرِق الخِلَافَة- الإِسلامية إشفاقًا عَلَى نَفْسِه من هياج الغَوْغَاءِ مِنَ العوامِّ، الذين يقول فيهم أبو يوسف كبير القضاة في زمن الخليفة هارون الرشيد: "لَوْ انَّ العَوَامَّ كُلَّهُمْ عَبِيدي لأَعْتَقْتُهُمْ". وَتَبَرَّأْتُ مِنْ وَلَائِهِمْ"، وَمِنَ المُتَطَفِّلينَ عَلَى مَوَائِدِ الْعِلْمِ، الْحاقِدينَ، ائَذينَ أَرادُوا بِهِ شَرًّا. وَلَعَلَّة اختارَ ذلِكَ المكانَ في أطرافِ الخِلَافَةِ حيث تضعُفُ قبضةُ السُّلطانِ، فَلَا يَنَالُهُ عقابُة، وَلا تَطالُهُ سياطُ عَذَابهِ، حتى إذَا مَا هَدَأ الْحَالُ، وتُنُوسِىَ مَا كَانَ، وَشَعَرَ بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالأمْنِ، عَادَ إِلى قلب الخِلافَةِ". وَجَابَ نَواحِيَهَا المختلِفَةَ، لِيُتِمَّ مَا بَدَأ بهِ، وَلِيُشْبِعَ نَهَمَهُ في طلَب الحديثِ، ولقِي الشُّيوخِ،- والأخذ عنهم، والإِفَادة منهم، ليتسنَّى لهُ أن يَتبوا مركزَ الصَّدَارَةِ بَيْنَ أهل العلم في بَلَدِهِ، وَيكُونَ الإمَامَ المَرْجُوعَ إِلَيْهِ في هذَا الْعِلْم الشَريفِ. ثالثًا: يُوَضِّحُ لَنا النَّص أنَّ سمرقند كانت مِنْ أوَائِل الْبلْدان الَّتي حَطَّ فيها عَصَا تَرْحَاله، وَفي هذا البلدِ الطيبِ اتَّصَلَ بشَيْخِهِ أبي حَفْص عمر بن
_________
= وتعقب الحافظ ابن حجر شي "لسان الميزان "٥/ ١١٤ هذه المقولة بقوله: "مَاذَا؟ إلا تَعَصّبٌ زَائِدٌ عَلَى الْمُتَأَوِّلينَ، وَابْنُ حِبَّانَ كَانَ صَاحِبَ فُنُونٍ، وَذَكَاءٍ مُفْرِطٍ، وَحِفْظٍ وَاسِعٍ إِلَى الْغَايَةِ".
1 / 21