87

أما في سائر مجامع الأسرة فالطاعة والتوقير سنة لا يخالفها صغار الأسرة في مجالس كبارها، فإذا جلس عميدها جلسوا وراءه وصمتوا في حضرته، لا يبدءون بالكلام إلا أن يدعوهم إليه. ومن هنا عجبهم أن يقبل الغلام اليتيم إلى مجلس جده فيقصد إليه ويجلس إلى جواره، وهم مع علمهم بإشفاق الجد عليه وتدليله إياه يستدعونه إليهم ليجلس معهم، حتى يأمرهم الجد فيسكتوا عنه وهم لا يقلون إشفاقا عليه.

ومن نظام الأسرة أن عبد الله خرج بعد زواجه مع أول قافلة حان موعدها، ولم يتخلف عامه ذاك إلى عام قابل، وهو لما يفرغ من عرسه الذي كان خليقا أن يطيله تلهف أبيه وآله على حياته بعد اليأس منه في قصة النذر المشهور، فخرج مع القافلة ولما ينقض على زفافه أسبوعان على أرجح الأقوال.

ولا شيء أشبه بالواقع المنظور في قصة زواج عبد الله بعد الوفاء بنذره واستبقاء حياته؛ فإن أباه - لا جرم - قد امتلأت نفسه زمنا بشبح الموت يطيف بولده الحبيب إليه، فليس أقرب إلى خاطره من تعويض ذلك الشعور الجاثم على صدره بالاطمئنان على بقاء فتاه، والغبطة بدوامه ودوام ذريته من بعده، ولا سيما الدوام بعد النذر الذي كان مبعثه تعبير الشانئين بقلة الذرية، وابتئاس الأب خوفا من انقطاع العقب مع ولد وحيد.

واختار الأب زوجة عبد الله من بني زهرة أحلاف بني هاشم والمطلب في كل خلاف: زوجه آمنة بنت وهب أعرق بني زهرة نسبا، وأكرمها محتدا، ومدره العشيرة كلها في مجامع قريش، وينتهي نسبه لأبيه وأمه إلى عبد مناف، وقد فخر رسول الله بانتسابه إلى هذه الأمومة فقال: «أنا ابن العواتك من سليم.»

روى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة بعد إسناد متصل: «أن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود، قال: فقال لي رجل من أهل الديور - يعني أهل الكتاب - يا عبد المطلب، أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قال: نعم، إذا لم يكن عورة، قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكا، وفي الأخرى نبوة، وأنا نجد ذلك في بني زهرة؛ فكيف ذلك؟ قلت: لا أدري! قال: هل لك من شاغة؟ قلت: وما الشاغة؟ قال: الزوجة! قلت: أما اليوم فلا، قال: فإذا رجعت فتزوج فيهم. فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن مناف بن زهرة، فولدت حمزة وصفية، ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب، فولدت رسول الله، فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة: فلج - أي فاز - وغلب عبد الله على أبيه.»

وهذا مثل من الأخبار التي لا تثبت على النظر وتبنى على حقيقة ثابتة، وهي اتصال النسب بين آل عبد المطلب وآل وهب، واتصال البيتين في الحياة الزوجية لما كان من الاتصال بينهما في الحياة العامة، ولم يأت هذا الاتصال القديم بنبوءة من ناسك في اليمن تنكشف من النظر في منخرين.

انتقل عبد الله بعروسه من حي وهب إلى حي عبد المطلب بعد أيام العرس، فلم يطل فيه البقاء إلا ريثما أذن مؤذن القافلة بالرحيل.

ولم يعد من رحلته تلك إلى داره؛ فإنها كانت الرحلة الأخيرة لكل راحل أو قاعد في هذه الحياة؛ رحلة من ظاهر الأرض إلى جوف الضريح.

وولد النبي - عليه السلام - بعد موت أبيه على أشهر الروايات، فأرضعته أمه وأرضعته معها ثويبة جارية عمه أبي لهب، ثم عهد به إلى حليمة بنت ذؤيب تستتم رضاعه في بادية قومها بني سعد على سنة العلية من أشراف مكة، يبتغون النشأة السليمة واللغة الصحيحة بعيدا من أخلاط مكة وأهوائها. ولم يكن الطفل اليتيم على يسار؛ لأن أباه مات في مقتبل الشباب، ولكن أسرة أبيه وأسرة أمه تكفلتا بنشأته كما ينشأ أبناء السراة من قريش، فأخذته المرضعة بعد تردد، ثم أعادته إلى مكة قبل أن يبلغ الثالثة؛ لأنها سمعت من ابنها أن أخاه القرشي قد صرع وهو معه، وأن رجلين أخذاه فإذا هما يشقان بطنه ولا يزالان يسوطانه، فلما ذهبت إليه حيث تركه ابنها وجدته قائما ممتقع الوجه، فبادرت به إلى مكة مخافة عليه، وطلبت إليها أمه أن تعود به إلى البادية؛ تخشى على الطفل من هواء البلد، ولا تخشى عليه من ذلك الخطر الذي خشيته المرضع الرءوم، بعدما سمعته من ابنها ورأته من امتقاع لون الوليد القرشي، وقيامه منفردا في الخلاء.

فلما عادت به إلى البادية أتم رضاعه فيها، ولبث معها إلى الخامسة أو قبلها بقليل، وتكلم وجرى لسانه بالعربية الفصحى وهو بين بني سعد. فذاك فخره بعد النبوة إذ يعجب الصحابة من فصاحته، فلا يرى عليه السلام عجبا في فصاحة عربي نشأ في بني سعد، وتربى في الذؤابة من قريش. •••

Página desconocida