وتمت المحنة الكبرى بالقتال الدائم بين الدولتين، فإذا بالبلد الواحد يتقلب في الحكم بين سيادة الفرس وسيادة الروم، فلا تهدأ له حال في نظام، ولا في سلام، ولا في معاش يأمن الناس على مرافقه ومسالكه بين ميادين القتال، وبطل الأمان كما بطل الإيمان، فلا خلاصة لهذه الأحوال جميعا غير خلاصة واحدة هي ضياع الثقة بكل منظور ومستور، فلا أمان من السياسة، ولا من الدين، ولا من الأخلاق، ولا من الواقع، ولا من الغيب.
هذه أحوال العالم، وهذه هي مقدمات الدعوة الإسلامية، من تلك الأحوال: مقدمات لا تأتي بنتائجها على وتيرة الداء الذي يتبعه الفناء، ولكنها مقدمات العناية الإلهية التي تدبر الدواء المستحكم على غير انتظار وبغير حسبان، عالم إذا صح أن يقال عنه: إنه كان ينتظر شيئا من وراء الغيب، فإنما كان ينتظر عناية من الله.
الفصل الثالث
الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية
كان في الجزيرة العربية مجوس ويهود ونصارى، وعرف أبناء الجزيرة هذه الأديان من طريق القدوة الفردية في رحلاتهم ومبادلاتهم مع الأمم التي تحيط ببلادهم، كما عرفوها من طريق الدعوة العامة التي يعززها سلطان الرؤساء على نحو ما حدث في أرض غسان والحيرة ونجران.
ويقول ابن قتيبة: إن المجوسية كانت معروفة في قبائل تميم، ومنهم زرارة بن عدس وابنه حاجب، وقد تزوج ابنته ثم ندم ... ويروى أنها كانت شائعة بين قبائل البحرين عامة على مقربة من فارس، وأن لقيط بن زرارة - كما جاء في ابن الأثير - تزوج بنته دختنوس، وسماها بهذا الاسم الفارسي ومات عنها، فقال وهو يجود بنفسه:
يا ليت شعري عنك دختنوس
إذا أتاها الخبر المرموس
أتحلق القرون أو تميس
لا، بل تميس إنها عروس
Página desconocida