مطالع الأنوار
على صحاح الآثار
في فتح ما استغلق من كتاب الموطأ والبخاري
ومسلم وإيضاح مبهم لغاتها وبيان المختلف
من أسماء رواتها وتمييز مشكلها وتقييد مهملها
تأليف
الفقيه المحدث العلامة الحافظ
أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم الحمزي الوهراني
ابن قُرْقُول
(٥٠٥ - ٥٦٩ هـ)
تحقيق
دار الفلاح
للبحث العلمي وتحقيق التراث
المجلد الأول
(أب)
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
دولة قطر
1 / 1
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية
دولة قطر
جميع الحقوق محفوظة لدار الفلاح
ولا يجوز نشر هذا الكتاب بأي صفه
أو تصويره إلا بإذن خطي من
صاحب الدار الأستاذ/خالد الرباط
الطبعة الأولى
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
دار الفلاح
للبحث العلمي وتحقيق التراث
١٨ شارع أحمس - حي الجامعة - الفيوم
ت ٠١٠٠٠٠٥٩٢٠٠
[email protected]
رقم الإيداع
١٦٠٥٠/ ٢٠١١
ترقيم دولي
١ - ٢٩٥ - ٧١٦ - ٩٧٧ - ٩٧٨
1 / 2
مطالع الأنوار
على صحاح الآثار
(١)
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مطالع الأنوار
على صحاح الآثار
التحقيق والمقابلة والتعليق
أحمد عويس جنيدي
أحمد فوزي إبراهيم
ربيع محمد عوض الله • عصام حمدي محمد • خالد مصطفى توفيق
محمد عبد الفتاح علي
بمشاركة الباحثين بدار الفلاح
بإشراف
وئام محمد عبد العزيز • خالد الرباط
1 / 5
مقدمة التحقيق
إِنَّ الحَمْدَ للهِ نحمَدُهُ تَعَالى ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بالله تَعَالى مِنْ شُرُورِ أَنْفسنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، إِنَّهُ مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَه وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إِلَّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ..
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
وبعد،،
فإنَّ المتتبعَ لِما كُتِب عن السُّنَّةِ ومكانتِها من التشريعِ، وطُرقِ تدوينها وحِفْظِها، وتَمْييزِ صحيحها من سَقيمِها، وضبطِ ألفاظِها، ليجدُ كمًّا هائلًا من المُؤلفاتِ القديمةِ والحديثةِ التي تُظْهرُ بجلاءٍ دِقةَ المَنْهجِ العلميّ الفَريد في نقلِ النصوصِ والذي لا مَثيل لهُ عند أُمَّة مِنَ الأُممِ، ولكن من العجيب ظهور طوائفَ معاصرةٍ من المُتعالمين الذين يُشكِّكُونَ في السُّنَّة ووجدوا مَنْ يناصرهم في السِّرِّ والعلانية، وجعلُوا مِن بَعضِهم أسماءً كِبارًا لها دَويٌّ وضَخامةٌ، وإنَّما هي طبلٌ فارغٌ، وزِقٌ مِلْؤه هواءٌ، فضَلُّوا وأضلُّوا، وأَوغلوا في طريقِ الأوهامِ، وأكثرهم - إنْ لم يكُن كلُّهم - لم يطلع ويتأمَّل حججَ ثقاتِ العلماء وأئمةِ الدين، والتي تدلُّ على صحةِ السنَّةِ، وسلامةِ
1 / 7
المنهجِ الذي أوصَلَها إلينا، وهذا إمَّا بسببِ الاغترار بما يظنون أنهم عليه من علمٍ، أو تسفيههم لعلماء الإِسلام تقليدًا لبعض المُستشرقينَ والفِرق الضالة، أو أنَّهم مغررٌ بهم، أو تأديةِ بعضِهم لدورٍ مطلوب منهم في الحملاتِ المنسقة لمحاربة الإسلام. وإنْ كانت هذِه الشبهات ليست بالجديدة فجلّها اعتقادات لبعض الفرق الخارجة عن أهلِ السُّنة والجماعة، ولم تتوقف في وقتٍ من الأوقات؛ وإن اختلفت حدَّتها، ثم هي مع تطور وسائل الإعلام تسْتعرُ وتَشْتد، في محاولةٍ للحد من الصحوة الحديثية الموجودة عند كثير من طلبة العلم في العالم الإِسلامي، بل ولإضعاف الثقة والإيمان بأصول الإِسلام، والتقى في ذلك جَمعٌ من "العلمانيين" مع بعض "الشيعة" و"المستشرقين" وتلامذتهم وآخرين، في خليطٍ عجيب لا يجمعه إلا الصَّدّ عن سبيل الله وتنكب الصراط المستقيم.
وإنَّ كتابنا هذا فيه مِنَ الدلالة على اهتمامِ علماء الأُمَّة بدقةِ نقل الأخبار وضبط ألفاظها، ونحن نقدمه مساهمةً في الزود عن حياض أصلٍ من أصولِ الدين، وخدمةً للتراث الإِسلامي، وقد شوَّقنا للعمل في هذا الكتاب ما لمسناه أثناء تحقيقنا لكتاب "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" من كثرة ذِكر ابن الملقن له، ووافق ذلك أنَّ الأخ وائل بكر زهران كان قد شرع في نَسْخِه، ثم تركه لمشاغله، فسلَّمَنَا ما بَدَأَه، مما أعطانا دَفعةً أخرى لإنجازه. والحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
وكتب: خالد الرباط
1 / 8
أهمية علم الحديث
اعلم أنَّ أنفَ العلومِ الشرعيةِ ومِفتاحَها، ومِشكاةَ الأدلةِ السمعيةِ ومصباحَها، ومبنى شرائع الإسلامِ وأساسَها، ومُستندَ الروايات الفقهية كلها، ومأخذَ الفنون الدينية دقها وجلها، وأسوةَ جملة الأحكام وأسها، وقاعدةَ جميع العقائد وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها، هو علمُ الحديث الشريف الذي تعرف به جوامع الكلم وتنفجر منه ينابيع الحكم، وهو ملاك كل نهي وأمر، ولولاه لقال مَنْ شاء ما شاء، وخبط الناس خَبْط عشواء وركبوا متن عمياء، فطوبى لِمَنْ جدَّ فيه وحصلَّ منه على تنويه يملك من العلوم النواصي ويقرب من أطرافها البعيد القاصي، ومَنْ لم يرضع مِنْ دره ولم يخض في بحره ولم يقتطف مِنْ زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام، فقد جارَ فيما حكمَ وقال على الله تعالى ما لم يعلم، كيف وهو كلام رسول الله ﷺ والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين وقد أوتي جوامع الكلم وسواطع الحكم من عند رب العالمين، فكلامه أشرف الكلم وأفضلها وأجمع الحكم وأكملها، كما قيل: كلام الملوك ملك الكلام وهو تلو كلام الله تعالى العلام وثاني أدلة الأحكام، فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها تتوقف على بيانه ﷺ، فإنها مالم توزن بهذا القسطاس المستقيم ولم تضرب على ذلك المعيار القويم لا يعتمد عليها ولا يصار إليها، فهذا العلم المنصوص والبناء المرصوص بمنزلة الصراف لجواهر العلوم عقليها ونقليها وكالنقاد لنقود كل فنون
1 / 9
أصليها وفرعيها، من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام ومأخذ عقائد الإسلام وطرق السلوك إلى الله ﷾ ذي الجلال والإكرام، فما كان منها كامل العيار في نقد هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار، وما كان زيفًا غير جيد عند ذلك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار، فكل قول يصدقه خبر الرسول فهو الأصلح للقبول وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان، فهي مصابيح الدجى ومعالم الهدى وبمنزلة البدر المنير، من انقاد لها فقد رشد واهتدى وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلا التخسير، فإنه ﷺ نهى وأمر وأنذر وبشر وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن بل هي أكثر وقد ارتبط بها أتباعه ﷺ الذي هو ملاك سعادة الدارين والحياة الأبدية بلا مين، كيف وما الحق إلا فيما قاله ﷺ أو عمل به أو قرره أو أشار إليه أو تفكر فيه أو خطر بباله أو هجس في خلده واستقام عليه، فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب، والعمل العمل بهما في كل إياب وذهاب ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء، فيا له من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى (١).
_________
(١) "الحطة في ذكر الصحاح الستة" ص ٣٥ - ٣٦ بتصرف.
1 / 10
تدوين الحديث النبوي
لما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرق الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة، وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل أن يلتبس بالحق، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل؛ فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ، فمارسوا الدفاتر وسايروا المحابر، وأجابوا في نظم قلائده أفكارهم وأنفقوا في تحصيله أعمارهم واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها ودونوا دواوين ظهرت شفوفها، فاتخذها العالمون قدوة ونصبها العارفون قبلة، فجزاهم الله ﷾ عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمته وأحبار ملته.
وكان أول من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة عمر بن عبد العزيز خوف اندراسه، كما في "الموطأ" رواية محمد بن الحسن: أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ أو سنته فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (١).
وانتشر جمع الحديث وتدوينه وتسطيره في الأجزاء والكتب وكثر ذلك وعظم نفعه إلى زمن الإمامين العظيمين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، فدونا كتابيهما وأثبتا فيهما من الأحاديث ما قطعا بصحته وثبت عندهما نقله، وسيما الصحيحين من الحديث، ولقد صدقا فيما قالا والله مجازيهما عليه،
_________
(١) "الموطأ" رواية محمد بن الحسن ٣/ ٤٢٨.
1 / 11
ولذلك رزقهما الله تعالى حسن القبول شرقًا وغربًا ثم ازداو انتشار هذا النوع من التصنيف وكثر في الأيدي وتفرقت أغراض الناس وتنوعت مقاصدهم. ولقد كان من أعظم دواوين كتب السنة وأهمها على الإطلاق: الصحيحان و"الموطأ"، والكتب الثلاثة أشهر وأعرف من أن نعرف بها ومؤلفيها، ولقد أُفْرِدت عنهم وكتبهم الثلاثة مؤلفات مستقلة، فضلا عمَّا أفرده كثير من المحققين في مقدمات مصنفات لها علاقة وصلة من قريب أو بعيد بأحد الكتب الثلاثة، من ذلك ما أفردناه في مقدمة تحقيقنا لـ "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" معيَّة شيخنا الفاضل خالد الرباط - حفظه الله - فقد أفردنا فصلًا مستقلًا كاملًا عن الإِمام البخاري وكتابه "الجامع الصحيح".
ولما كان سلفنا وعلماؤنا السابقون على دراية وعلم كامل بأهمية الكتب الثلاثة أولوها اْهتمامًا كبيرًا بالغًا، خاصة "صحيح البخاري"، فلا يحصى كم شارح لها ومختصر، ومستدركٍ عليها ومقتصر، ومعارضٍ لها ومنتصر، ومفسر لغريبها وضابط لألفاظها ومترجم لرجالها، وما إلى هذا. وكان من أعظم الاهتمامات بهذِه الكتب ضبط ألفاظها وتفسير غريبها وذكر وعرض اختلاف رواتها والترجيح بينها، وما إلى هذا.
وأول مصنف مستقل وكتاب ألف - فيما علمت - في هذا الباب كتاب "مشارق الأنوار" للقاضي عياض بن موسى اليحصبي ﵀ حيث تيمم الكتب الثلاثة الأمَّات: الصحيحين و"الموطأ" وعمل عليها كتابه، وقد ذكر في مقدمة كتابه خطته في الكتاب ومجمل عمله، فقال:
(.. فبحسب هذِه الإشكالات والإهمالات في بعض الأمهات واتفاق بيان ما يسمح به الذكر ويقتدحه الفكر مع الأصحاب في مجالس السماع
1 / 12
والتفقه ومسيس الحاجة إلى تحقيق ذلك، ما تكرر على السؤال في كتاب يجمع شواردها ويسدد مقاصدها ويبين مشكل معناها وينصر اختلاف الروايات فيها ويظهر أحقها بالحق وأولاها، فنظرت في ذلك فإذا جميع ما وقع من ذلك في جماهير تصانيف الحديث وأمهات مسانيده ومنثورات أجزائه، يطول ويكثر، وتتبع ذلك مما يشق ويعسر، والاقتصار على تفاريق منها لا يرجع إلى ضبط ولا يحصر، فأجمعت على تحصيل ما وقع من ذلك في الأمهات الثلاث الجامعة لصحيح الآثار التي أجمع على تقديمها في الأعصار وقبلها العلماء في سائر الأمصار كتب الأئمة الثلاثة: "الموطأ" لأبي عبد الله مالك بن أنس المدني، و"الجامع الصحيح" لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، و"المسند الصحيح" لأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري؛ إذ هي أصول كل أصل ومنتهى كل عمل في هذا الباب، وقول وقدرة مدعٍ كل قوة بالله في علم الآثار وحول، وعليها مدار أندية السماع وبها عمارتها، وهي مبادئ علوم الآثار وغايتها ومصاحف السنن ومذاكرتها، وأحق ما صرفت إليه العناية وشغلت به الهمة، ولم يؤلف في هذا الشأن كتاب مفرد تقلد عهدة ما ذكرناه على أحد هذِه الكتب أو غيرها إلا ما صنعه الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في "تصحيف المحدثين"، وأكثره مما ليس في هذِه الكتب، وما صنعه الإِمام أبو سليمان الخطابي في جزء لطيف (١)، وإلا نكتًا مفترقة وقعت أثناء شروحها لغير واحد، لو جمعت لم تشف غليلًا ولم تبلغ من البغية إلا قليلًا، وإلا ما جمع الشيخ الحافظ أبو علي الحسن بن محمد
_________
(١) يشير القاضي إلى كتاب "إصلاح غلط المحدثين" وهو مطبوع.
1 / 13
الغساني شيخنا ﵀ في كتابه المسمى بـ "تقييد المهمل" فإنه تقصى فيه أكثر ما اشتمل عليه الصحيحان وقيده أحسن تقييد وبينه غاية البيان وجوده نهاية التجويد، لكن اقتصر على ما يتعلق بالأسماء والكنى والأنساب وألقاب الرجال دون ما في المتون من تغيير وتصحيف وإشكال، وإن كان قد شذ عليه من الكتابين أسماء، واستدركت عليه فيما ذكر أشياء؛
فالإحاطة بيد من يعلم ما في الأرض والسماء، ولما أجمع عزمي على أن أفرغ له وقتًا من نهاري وليلي، وأقسم له حظًّا من تكاليفي وشغلي، رأيت ترتيب تلك الكلمات على حروف المعجم أيسر للناظر وأقرب للطالب، فإذا وقف قارئ كتاب منها على كلمة مشكلة أو لفظة مهملة فزع إلى الحرف الذي في أولها إن كان صحيحًا، وإن كان من حروف الزوائد أو العلل تركه وطلب الصحيح، وإن أشكل وكان مهملًا طلب صورته في سائر الأبواب التي تشبهه، حتى يقع عليه هنالك، فبدأت بحرف الألف وختمت بالياء على ترتيب حروف المعجم عندنا، ورتبت ثاني الكلمة وثالثها من ذلك الحرف على ذلك الترتيب رغبة في التسهيل للراغب والتقريب، وبدأت في أول كل حرف بالألفاظ الواقعة في المتون المطابقة لِبابِهِ على الترتيب المضمون، فتولينا إتقان ضبطها بحيث لا يلحقها تصحيف يظلمها ولا يبقى بها إهمال يبهمها، فإن كان الحرف مما اختلفت فيه الروايات نبهنا على ذلك وأشرنا إلى الأرجح والصواب هنالك بحكم ما يوجد في حديث آخر رافع للاختلاف مزيح للإشكال مريح من حيرة الإبهام والإهمال، أو يكون هو المعروف في كلام العرب أو الأشهر أو الأليق بمساق الكلام والأظهر، أو نص من سبقنا من جهابذة العلماء وقدوة الأئمة على المخطئ والمصحف فيه، أو أدركناه
1 / 14
بتحقيق النظر وكثرة البحث على ما نتلقاه من مناهجهم ونقتفيه، وترجمنا فصلًا في كل حرف على ما وقع فيها من أسماء أماكن من الأرض وبلاد يشكل تقييدها ويقل متقن أساميها ومجيدها، ويقع فيها لكثير من الرواة تصحيف يسمج، ونبهنا معها على شرح أشباهها من ذلك الشرح، ثم نعطف على ما وقع في المتون في ذلك الحرف بما وقع في الإسناد من النص على مشكل الأسماء والألقاب ومبهم الكنى والأنساب، وربما وقع منه من جرى ذكره في المتن فأضفناه إلى شكله من ذلك الفن، ولم نتتبع ما وقع من هذِه الكتب من مشكل اسم من لم يجر في الكتاب كنيته أو نسبه وكنية من لم يذكر في الكتاب إلا اسمه أو لقبه؛ إذ ذاك خارج عن غرض هذا التأليف ورغبة السائل وبحر عميق لا يكاد يخرج منه لساحل ...
ثم قال: .. وذكرنا في آخر كل فصل من فصول كل حرف ما جاء فيه من تصحيف، ونبهنا فيه على الصواب والوجه المعروف ودعت الضرورة عند ذكر ألفاظ المتون وتقويمها إلى شرح غريبها وبيان شيء من معانيها ومفهومها، دون نقص لذلك ولا اْتساع، إلا عند الحاجة لغموضه أو الحجة على خلاف يقع هنالك في الرواية أو الشرح ونزاع؛ إذ لم نضع كتابنا هذا لشرح لغة وتفسير معان بل لتقويم ألفاظ وإتقان، وإذ قد اتسعنا بمقدار ما تفضل الله به وأعان عليه في شرحنا لكتاب "صحيح مسلم" المسمى بـ "الإكمال" وشذت عن أبواب الحروف نكت مهمة غريبة لم تضبطها تراجمها؛ لكونها جمل كلمات يضطر القارئ إلى معرفة ترتيبها وصحة تهذيبها، إما لما دخلها من التغيير أو الإبهام أو التقديم والتأخير، أو أنه لا يفهم المراد بها إلا بعد تقديم إعراب كلماتها أو سقوط بعض ألفاظها أو تركه على جهة
1 / 15
الاختصار، ولا يفهم مراد الحديث إلا به، فأفردنا لها آخر الكتاب ثلاثة أبواب.
أولها: في الجمل التي وقع فيها التصحيف وطمس معناها التلفيف، إذ بينا مفردات ذلك في تراجم الحروف.
الباب الثاني: في تقويم ضبط جمل في المتون والأسانيد وتصحيح إعرابها وتحقيق هجاء كتابها وشكل كلماتها، وتبيين التقديم والتأخير اللاحق لها؛ ليستبين وجه صوابها، وينفتح للأفهام مغلق أبوابها.
الباب الثالث: في إلحاق ألفاظ سقطت من أحاديث هذِه الأمَّات أو من بعض الروايات أو بترت اختصارًا أو اقتصارًا على التعريف بطريق الحديث لأهل العلم به، لا يفهم مراد الحديث إلا بإلحاقها ولا يستقل الكلام إلا باستدراكها، فإذا كملت بحول الله هذِه الأغراض وصحت تلك الأمراض رجوت ألا يبقى على طالب معرفة الأصول المذكورة إشكال، وأنه يستغني بما يجده في كتابنا هذا عن الرحلة لمتقني الرجال، بل يكتفي بالسماع على الشيوخ إن كان من أهل السماع والرواية، أو يقتصر على درس أصل مشهور الصحة أو يصحح به كتابه ويعتمد فيما أشكل عليه على ما هنا، إن كان من طالبي التفقه والدراية، فهو كتاب يحتاج إليه الشيخ الراوي كما يحتاج إليه الحافظ الواعي، ويتدرج به المبتدي كما يتذكر به المنتهي، ويضطر إليه طالب التفقه والاجتهاد كما لا يستغني عنه راغب السماع والإسناد، ويحتج به الأديب في مذاكرته كما يعتمد عليه المناظر في محاضرته، وسيعلم من وقف عليه من أهل المعرفة والدراية قدره، ويوفيه أهل الإنصاف والديانة حقه ...
وقد ألفته بحكم الاضطرار والاختيار وصنفته منتقى النكت من خيار
1 / 16
الخيار وأودعته غرائب الودائع والأسرار، وأطلعته شمسًا يشرق شعاعها في سائر الأقطار، وحررته تحريرًا تجار فيه العقول والأفكار، وقربته تقريبًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، وسميته بـ "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" ..) (١).
وسيأتي في ترجمة القاضي والحديث عن كتابه "المشارق" ذكر نبذ من مقدمته هذِه في مواضع احتجنا فيها لذكرها ثانية.
ثم تلا القاضي تلميذُه ابن قرقول فألف كتابنا هذا "مطالع الأنوار" على منوال كتاب القاضي، على خلاف سيأتي بسطه.
وقد بدأنا أولًا بالحديث عن القاضي عياض وكتابه "مشارق الأنوار" باعتباره الأصل والنواة، ثم ثنيَّنا في الباب الذي يليه بالحديث عن ابن قرقول - بترجمة مستفيضة إلى حد كبير ولله الحمد والمنة - وكتابه "مطالع الأنوار" الذي هو محط الدراسة والتحقيق، ثم ثلَّثنا هذا الباب بالحديث عن مصنفات لها تعلق بالكتابين "المشارق" و"المطالع".
وأسأل الله الكريم أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتنا، وزخرًا لنا في يوم المعاد إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
(١) مقدمة "مشارق الأنوار" للقاضي عياض ١/ ١٤ - ١٧ بتصرف.
1 / 17
الباب الأول: كتاب "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عِياض
الفصل الأول: ترجمة القاضي عياض (١)
المبحث الأول: اسمه ونسبه:
هو الإِمام الجليل والعالم العلامة، القاضي أبو الفضل عِياض بن عمرو
_________
(١) انظر ترجمة القاضي عياض في: "الصلة" لابن بشكوال ٢/ ٦٦٠ - ٦٦١، "المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي" لابن الأبار ٢٩٤ - ٢٩٨، "وفيات الأعيان" لابن خلكان ٣/ ٤٨٣ - ٤٨٥، "سير أعلام النبلاء" للذهبي ٢٠/ ٢١٢ - ٢١٩، "الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب" لابن فرحون ٢/ ٤٦ - ٥١، "فهرس الفهارس" للكتاني ٢/ ٧٩٧ - ٨٠٤.
ولقد خصصت له وزارة الأوقاف والشئون الإِسلامية بالمغرب دورة خاصة به، ضمن سلسلة ندوات الإِمام مالك إمام دار الهجرة، وهي تشتمل على ثلاثة وأربعين بحثًا كلها عن القاضي عياض.
وقد ذكر الدكتور/ قاسم سعد في أول كتابه: "جمهرة تراجم الفقهاء المالكية" - وهي سلسلة ضمن إصدارات دار البحوث للدراسات الإِسلامية وإحياء التراث بدبي لسنة ١٤٢٣ هـ / ٢٠٠٢م - محاولة لحصر جميع المصادر والكتب التي ألفت عن القاضي عياض، والمقالات التي ترجمت أو تكلمت عنه.
وهذا الفصل من المقدمة والذي فيه الحديث عن القاضي عياض وكتابه "مشارق الأنوار" استفدناه من أطروحة دكتوراه تحت عنوان: "الاختلاف بين روايات الجامع الصحيح ونسخه" للأخ الفاضل. د. جمعة فتحي عبد الحليم، بتصرفات، فجزاه الله عنا خير الجزاء.
1 / 18
ابن موسى بن عِياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عِياض، الفاسي الأصل، السبتي المولد، المراكشي المدفن، اليحصبي - نسبة إلى يحصب ابن مالك بن زيد - الحافظ المغربي الذي ارتبط اسم بلاد المغرب باسمه. يلتقي نسبه مع نسب الإمام مالك إمام دار الهجرة، وصاحب المذهب المالكي المتبع بالديار المغربية وأفريقيا، هذا المذهب الذي انتمى إليه عِياض، ويعتبر من أشهر أعلامه البارزين المشهورين الذي خدموه بالتصنيف والإفتاء والتعليم.
المبحث الثاني: مولده:
ولد القاضي عِياض ببلدة سبتة من الديار المغربية في منتصف شعبان من سنة ست وسبعين وأربعمائة للهجرة، وبها بدأ حياته الأولى في التعليم والقراءة، فحفظ القرآن الكريم بالقراءات السبع، وانتقل إلى تعلم العلم، فحفظ الكثير من التصانيف والمتون في مختلف الفنون، وهو صغير السن، وذلك لما حباه الله تعالى من ذكاء وقوة ذاكرة، إلى جانب الفطنة الواسعة، وهذِه الصفات من شأنها أن ترفع صاحبها حتى تجعله في مصاف العلماء البارزين ذوي المراتب العالية في العلم والفضل والكمال.
ومما ساعده على ذلك ما وجده من عمق الثقافة الإسلامية في تلك البقعة التي نشأ بها، وتربى فيها، بدءًا من مسقط رأسه سبتة التي كانت ملتقى الثقافات بما حباها الله من موقع جغرافي ممتاز، فصارت دار ممر للعلماء الكبار القادمين من المشرق العربي، الذين يمرون بالمغرب العربي عبرها نحو ديار الإسلام بالأندلس أو العكس؛ حيث العلماء القادمون من بلاد المغرب والأندلس، الراحلون إلى المشرق العربي حيث طلب العلم وأداء فريضة الحج المباركة.
1 / 19
المبحث الثالث: شيوخه ورحلاته:
كان القاضي عِياض رحمه الله تعالى صاحب منهج دقيق في طلب العلم وتلقي المرويات، سار عليه من بداية حياته وطلبه للعلم؛ حيث يرى رحمه الله تعالى أن المادة المروية إذا لم تثبت صحة نسبتها إلى صاحبها لا تصلح أن تكون أساسًا في البحث والدرس، فضلًا عن أن تُبنى عليها الأحكام، فهو يرى أنه لا بد من التوسع في الرواية والقراءة المقيدة على أربابها.
هذا المنهج الذي سار عليه القاضي عِياض جعله يرحل من مسقط رأسه - بعد أن استوعب ما فيها - إلى الأندلس، وذلك في سنة سبع وخمسمائة للهجرة، أي بعد حوالي ثلاثين عامًا من ولادته، فوصل إلى قرطبة بغية تصحيح المتون التي تلقاها.
وأول ما تحمله القاضي عِياض من العلم إجازة مجردة من الحافظ أبي علي الغساني، ومن شيوخه من أهل المغرب القاضي أبو عبد الله ابن عيسى، والخطيب أبو القاسم، والفقيه أبو إسحاق ابن الفاسي وغيرهم.
ولما رحل إلى الأندلس في سنة سبع وخمسمائة للهجرة، روى عن القاضي أبي علي الصَّدفي سُكَّرة، ولازمه، وأخذ عن أبي بحر ابن العاص، وأبي عتاب، وهشام بن أحمد، وعدة. وتفقه بأبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي، والقاضي محمد بن عبد الله المسيلي.
وقد صنف القاضي فهرسًا ذكر فيه مشائخه وترجم لهم، وقد بلغ عددهم ثمانية وتسعين شيخًا، والكتاب طبعته الدار العربية للكتاب بليبيا سنة ١٣٩٨هـ / ١٩٧٨م، بدراسة وتحقيق الدكتور/ محمد بن عبد الدائم.
وعاد القاضي عِياض من بلاد الأندلس وقد أصبح بحرًا لا ساحل له في
1 / 20
العلم، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، يقضي بين الناس كما أمر الله.
من أجل كل ذلك علا قدره ومكانته بين أهل بلده، وذاع صيته بين أقرانه حتى تبوأ مكانة عالية، تُشد إليه الرحال طلبًا للإسناد وتلقي العلم على يديه، فأصبح بحق إمام وقته في الحديث وعلومه، فقيه زمانه في الأصول واللغة والنحو والأنساب، وغير ذلك مما يدل عليه تنوع معارفه وتآليفه التي تركت علامةً بارزةً في كل لون من ألوان التصنيف دالة على ذلك.
المبحث الرابع: أقوال العلماء فيه:
قال ابن بشكوال في "الصلة" (١): هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم، واستقضي بسبتة مدة طويلة حمدت سيرته فيها، ثم نُقل عنها إلى قضاء غرناطة، فلم يطل بها، وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه. اهـ.
وقال ابن الأبار: وكان لا يدرك شأوه، ولا يبلغ مداه في العناية بصناعة الحديث وتقييد الآثار، وخدمة العلم مع حسن التفنن فيه (٢).
وقال فيه رفيقه وتلميذه أبو عبد الله محمد بن حَمّاد السبتي: جلس القاضي للمناظرة وله نحو من ثمان وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، وكان هينًا من غير ضعف، صلبًا في الحق ... إلى أن قال: وحاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحدٌ قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعًا وخشيةً لله تعالى (٣).
_________
(١) ٢/ ٤٥٣.
(٢) "معجم أصحاب أبي علي الصَّدفي" ص ٣٠٧.
(٣) "سير أعلام النبلاء" ٢٠/ ٢١٤ - ٢١٥.
1 / 21