ستون لوزة
بدون إزعاج
محاولة
بلوتو
تشبه الوردة
مسيل للدموع
موسم المشمش
ماسة
كلية صناعية
قداسة منتصف النهار
القماش الأبيض
وجع في بطني
كالونيا خمس نجوم
البالون
الضحك
إيطاليا قريبة جدا
النوم
ظلان جديدان
السوق
دخل جدي ذكريات الدفتر الملون
ستون لوزة
بدون إزعاج
محاولة
بلوتو
تشبه الوردة
مسيل للدموع
موسم المشمش
ماسة
كلية صناعية
قداسة منتصف النهار
القماش الأبيض
وجع في بطني
كالونيا خمس نجوم
البالون
الضحك
إيطاليا قريبة جدا
النوم
ظلان جديدان
السوق
دخل جدي ذكريات الدفتر الملون
ماسة
ماسة
تأليف
هاني السالمي
ستون لوزة
صباح قاس مر على جدي، ركض مسرعا، حافيا، بملابس النوم، ولم يضع طاقيته البيضاء فوق رأسه؛ بل حمل فأسه الصغيرة، وركض. كان أسرع من خيل المعركة، يضبح من القلق والخوف.
كلما تقدم مترا في الركض، زاد عدد المنضمين إليه. أبي وعمي، يركضان أيضا خلفهم بأمتار بلباس النوم.
أنا وأولاد عمي نركض مثلهم، ولكن لا نعلم لماذا؟
كم كان جدي سريعا! نراه، ولكن لا نستطيع اللحاق به، أنت ترى الغيوم، ولكنك لا تلمسها، جدي مثل غيمة السماء، لا يمكن أن تلمسها، ولكنها تلمسك بالمطر، أو بمنظرها الجميل.
فجأة هرول عدة خطوات، ثم توقف، وسقط حين وصل إلى مزرعة الكرنب، التف حوله أبي وعمي، وأنا وأولاد عمي. رجال الشارع لم يقتربوا؛ بل اكتفوا بالتمتمة، وصفعوا الكف بالكف تحسرا على جدي.
وقف مرتكزا على فأسه، وأشار بيده إلى ناحية الشرق، وأخذ يصيح: «هذا الشيطان الذي سلب روح أرضي، بل امتص أرواحنا؛ إنه شيطان وقح أخذ مزرعتنا، وظل واقفا، كأنه يتحدانا، سأحطمه، بفأسي، بجسدي ...»
حاول أن يهجم على الشيطان، ولكن في هذه اللحظة حضنه أبي، فصار يتموج، ويصارع أبي ليفلت منه، ويهجم على الجدار الذي قسم مزرعتنا إلى نصفين.
أبي وعمي حملا جدي إلى أقرب ظل شجرة.
زرع جدي أشجار اللوز حول المزرعة، وأذكر مشهد أشجار اللوز، وهي تلف المزرعة كأنها راقصات باليه، ترقص لثمرة الكرنب. في مزرعتنا ستون شجرة، كلما احتفل جدي وجدتي بيوم زواجهما زرعا شجرة، وكلما أنجبا طفلا احتفلا بزراعة شجرة أخرى، وأغلب ما زرع على محيط مزرعتنا أشجار اللوز.
زرع جدي كل ثمار الأرض الموسمية، وكانت جدتي ملهمته في اختيار ما يزرع، تشير عليه بزراعة نوع الثمرة. في بادئ الأمر كان جدي يرفض، لأن في اعتقاده: «كيف أرد على امرأة؟»
ثم يوافق نهاية الأمر؛ لأن المشاورات تكون قبل مناسبة عيد الزواج بأيام، فيقبل جدي بالأمر، ويهدي المزرعة شجرة جديدة، شجرة لوز، بالإضافة إلى زراعة الثمرة التي اختارتها جدتي للموسم الجديد.
بدون إزعاج
جدتي تحب الهدوء، وأكثر عبارة كانت ترددها: «بدون إزعاج.»
يا الله، كم كانت تحب الهدوء! حبها للهدوء جعلها منظمة جدا، وكل شجرة كانت تعتني بها، تحولها إلى سيدة أنيقة فريدة، لها طراز خاص جدا. ثمار وشجيرات جدتي مميزة عن غيرها أيضا، وهي مثال للهدوء في البلدة.
هدوءها علمها كيف تتأمل، وتتنبأ ببعض الأشياء بحاستها السادسة. تشعر بقدوم الماء بالخراطيم قبل وصولها إلى المزرعة. في الصباح ترتدي ثيابا ثقيلة، رغم أن الجو مشمس، وحين يقول لها جدي: «الجو حار، هل أنت مجنونة تلبسين ثيابا ثقيلة؟»
تبتسم، وترد بهدوء: «البرد قادم يا عزيزي، أنا أشمه قبل أن يحضر، كعطر زهرات الأشجار.» وآنذاك يصمت جدي، ولا يدري بم يرد.
كان هدوءها، وتأملها يساعدانها في الانتصار على جدي. في ذاك اليوم أصبح الجو باردا جدا، وشعر جدي بقشعريرة شديدة.
ضحكت جدتي منه، وقالت: «ألم أقل لك إن البرد قادم؟» فيرد جدي: «غير معقول ما يحدث معك!»
جدتي هي الوحيدة في البلدة التي شعرت بموتها دون الآخرين؛ فقد وقفت أمام الشباك الحديدي في مؤخرة البيت قائلة: «أشعر بصوت مزعج قوي سيدمر مزرعتنا، الصوت له ذراع طويلة، وأشعر أني حينها سوف أموت، يا الله ما هذا الصوت الذي يصعب التعرف عليه؟!»
حدث ما تنبأت به، جاء الصوت المزعج، صوت آليات وجرافات كبيرة جدا وضخمة، زرعت جدارا كبيرا من الإسمنت طوله سبعة أمتار، قطع أشجار اللوز، وشطر مزرعتنا إلى نصفين.
ركضنا إلى غرفة جدتي، لنخبرها بما حدث. كانت تحتضر وتضع أصابعها في آذانها، وكانت تردد: «بدون إزعاج، بدون إزعاج، إلى الهدوء، إلى الهدوء ...» وماتت قبل أن ترى الجدار.
في ذلك الوقت أصر جدي أن يدفنها في المزرعة بعد الجدار، تحت أول شجرة لوز، أول هدية زواجهما. العائلة والجيران، تعجبوا مما سمعوا من جدي.
قال الرجال في البلدة: «هذا موت، كيف ندفنها هناك؟ سوف يموت من يقترب من الجهة الأخرى، هذا صعب، هذا جنون.»
اقتربت إحدى صديقات جدتي قائلة: «هناك طريق مختصر للدخول من بين فتحات في الجدار إلى الجزء الآخر من مزرعتكم.»
نهض الجميع من أماكنهم، ولم يناقش جدي المرأة، بل حمل جثمان جدتي، بمساعدة أولاده، ومشوا خلف المرأة، دخلوا من فتحة في الجدار بعرض مترين، وبارتفاع ثلاثة أمتار ليكون بها برج مراقبة للجنود. دخل جدي وأولاده وبعض الرجال بسرعة، كأنهم يهربون من سرب دبابير.
دفنت جدتي في حفرة سطحية تحت أول شجرة لوز. وقبل أن يغادروا المكان وقف جدي ينظر إلى الأشجار، ويتحسس أوراقها، ويمسح الغبار، وآثار الإسمنت والحجارة عنها، فأمسك أبي يده قائلا: «لا وقت للحنين، هناك صوت دبابة قادمة.»
رغبت جدتي أن يزرع الكرنب في المزرعة الموسم القادم، وكان جدي مترددا، ولكن حين ماتت جدتي زرع الكرنب، وما زال يزرعه إلى يومنا هذا.
محاولة
بعدما حملا جدي إلى ظل الشجرة، كان قفصه الصدري يرتفع، ويهبط بصورة غريبة، تعبا وغيظا مما حدث لمزرعتنا، وما أحدثه الجدار فيها.
قال أبي: «يا أبي خفنا عليك.»
فقال جدي: «لو تركتموني أحطم الجدار، بفأسي، برأسي، هو من قتل مزرعتنا، أمكم لم تمت إلا منه، حين شعرت أنه سوف يبعدها عن أول أشجارها التي زرعناها معا، وسوف تختفي عن نظرها مرضت، وماتت.»
صمت الجميع، وتعرق جدي بغزارة في مشهد أرعبني من فكرة الموت، الخسارة، القهر، الضعف.
التفتنا إلى الجدار في لحظة واحدة بغضب واشمئزاز، كأن الجدار صغر وبدأ يتلاشى. تعلمت آنذاك أنك عندما ترفض شيئا، أو تغضب عليه بحق، يبدأ بالتلاشي والاختفاء من داخلك، مهما كان عظيما ومخيفا في نظر الآخرين . الرفض والغضب أول درجات العقاب.
كل شيء يأتي خطوة خطوة، الصراخ أول الأشياء، المطر أول الشتاء، ولكن هذا الشيء الطويل الإسمنتي جاء دون سابق إنذار.
ظل جديد يستمتع بأرض المزرعة لا يفارقها، ظل ثقيل علينا، يركض ويلعب بين أشجارنا. نحن نكره هذا الظل الجديد القاتم، الذي يمتص معادن ومياه مزرعتنا، ويحبسها.
وقف جدي في ذاك الوقت، وصار يلوح في الهواء بيده، كأنه يقاتل الجدار، يحمله، يركله، يحطمه، ويبتسم، ويقول: «هل تشاهدين ذاك الزائر الرمادي الوقح؟ وهل تعرفين ذاك المجهول الذي ينقر بأصابعه النحيلة أبوابنا كلما هبط الظلام؟ هل ترين ذاك المدى الشاسع الذي يبتلعه من فضاء هوائنا؟ هذا الجدار سيأتي لنا بالخفافيش. انظري إلى ذاك الرمادي، هل تعرفين من يكون؟ إنه الحزن حين يفرض نفسه علينا! لا تنظري إلى عينيه، ولا تصغي إلى صوت ضعفك، وإلى أصوات الوهم من حولك.»
لم أسمع صوت جدي في هذه اللحظة، لم يقل شيئا، لم ينطق كلمة، لكني تعمدت الإصغاء إلى قلبه، وسمعت كل شيء.
خيل إلي وهو واقف أمامي، أنه الدون كيشوت، الذي استمر زمنا طويلا يحارب طواحين الهواء بعد أن اختار لنفسه هيئة فارس، ولم يتمكن من الانسجام مع واقعه، وذهب في مغامرات وهمية لمحاربة الشر.
لكن جدي لن يذهب بعيدا، وسيحارب معنا هذا النزيل ثقيل الدم.
سنحارب طواحين الهواء، عندما نقف أمامها، ونجعلها وهما، وستمضي، وستنمو في أعماقنا، وفي جلودنا أحلام رحيلها عنا، ولن نغفل عن رؤية الحقيقة حين تكسوها ألوان العتمة.
أيها الجدار! اليوم أخذت نصف مزرعتنا، وجدتي، لو غفلنا ستأخذ هويتنا وأحلامنا. سنصبر ونشهر سيوفنا لنحمي ذاك النقاء من الغربان التي تفترس ضوء النهار، وتلبس أقنعة الخداع.
بلوتو
جدتي كنز تحت الأرض، جدتي كل الثروات، لو نقصت مساحة الزراعة لزرعنا مساحات الذاكرة وسهول حبها.
طقم الأسنان السفلي، الخاتم الذهبي، كيس الحناء الكستنائي، المنديل المطرز بخيوط الحرير الزرقاء، علبة الكحل النحاسية، مشط العاج، بقايا العطر في علبة الألمنيوم، المرآة الصغيرة المكسرة الأطراف، العقد الفضي الرفيع، والصورة القديمة لجدتي. هذه الصورة التقطت لجدتي حين أصدرت لها بطاقة شخصية، لم يحدد عمر جدتي ولا جدي. كانا يقولان ولدنا بعد الثلج، وجدتي تقول ولدنا أيام الإنجليز في بلادنا. جدي يصر أنه كان يرى أباه، وهو جندي في عهد تركيا، ولكن حين أصدرت بطاقات الهوية، وضع لجدتي سنة الولادة ألف وتسع مائة وثلاثون.
كل هذه الأشياء، آخر ما تبقى منها، متروكة فوق كرسي قش فاخر. هذا الكرسي لم يعرف صانعيه أيضا، ويبدو أنه قديم جدا من ازدحام المسامير في أخشابه.
قبل أن يغادر جدي غرفته، يقف أمام أشيائها، كأنه عابد هندوسي يصلي.
قرر أن يزرع الموسم القادم القريب بعد شهر تقريبا، الكرنب الذي لم يزرعه أبدا خلال حياة جدتي. والسبب أنهما بينما كانا يبيعان الخضراوات في إحدى الأسواق، وقفت جدتي مع سيدة يهودية، وكانت تضحك معها، حينئذ غضب جدي.
قالت له جدتي: «هي يهودية من المغرب، وعاداتهم مثل عاداتنا في الطعام واللبس والضحك والحب، هؤلاء جيراننا بالقرب من مزرعتنا، والجار يصبح قريبا جدا في يوم من الأيام.»
لم يعجبه ما قالت، وفي نفس الوقت طلبت منه جدتي أن يزرع الكرنب، فرفض بشدة عقابا لجدتي، ولم يزرعه أبدا.
بعد وفاتها حرص أن يفعل كل شيء كانت تريده في حياتها، فقرر زراعة الكرنب.
الكل يقف الآن وسط ما تبقى من المزرعة، المساحة صغيرة، ولكن لا بأس في زيادة الحب في العائلة، وقرب بعضنا من بعض، وتحمل تعب الزراعة.
مساحة الأرض المتبقية مستديرة، ولونها بني خفيف، كوجه جدتي، وتربتها ناعمة وخشنة.
بدأنا أنا وأبي وعمي وأولاده نحرث المزرعة بالفئوس، ونجهز ممرات في التراب. وكلما انتهينا من حرث جزء، أضحى يشبه جديلة جدتي الكستنائية اللون، وكلما أنجزنا أكثر طرزنا تراب المزرعة كنقشات ثوبها.
عملنا، ضحكنا، مسحنا عرقنا. جدي وحده كان ينظر خلف الجدار، كأنه يرسل إلى جدتي رسالة في قبرها: «نحن سنزرع الكرنب كما أردت.»
كان ينكش التراب قبل أن يصل إلى الجدار بمتر، ويتوقف، ويرفع يديه للسماء، ويقول: «يا الله! اشتقت لباقي أرضي، ولها يا الله!»
تشبه الوردة
لا بد أن يسافر جدي عشرين كيلومترا لجلب شتلات الكرنب، والكل يظن أن عشرين كيلو مسافة بسيطة، ولماذا سيسافر؟ في بلادنا الصغيرة، البلدات قريب بعضها من بعض، وكل شيء حولك، ولكنك لا تضمن الرجوع في الوقت المحدد؛ فالحواجز منتشرة بين كل قرية وقرية، بين كل مدينة ومدينة، بين كل جسد وجسد، وبين كل حاجز وحاجز هناك حاجز.
المشكلة الخطيرة في الحواجز أنك مرتبط بمزاج الجندي على الحاجز، إذا كان مزاجه جيدا مع حبيبته شعرت بمرونة الحاجز، كأول قبلة في الحياة، كطعم الماء المثلج في يوم حار جدا، سهل الحركة، وأغلب الناس الذين يمرون على الحاجز يقولون: «والله إن الجنود اليوم أحسن ناس.»
بالمقابل تبكي مئات الناس على الحواجز إن كانت أصول الجندي عربية. فلو كان من بلاد المغرب، أو من العرب الذين بقوا في بلادهم، لكان يوم الحاجز أسود طويلا، يلعن الناس أنفسهم، ويندم الجميع على خروجهم من البيت في هذا اليوم.
الناس في العادة ينتظرون أوقاتا طويلة للحصول على شيء جيد، من مال، وسفر، أو عودة حبيبة، ولكننا ننتظر على الحواجز؛ لنعود إلى بيوتنا فقط.
علمتنا الحياة أن نكون ماسوشيين، نكرر الذهاب إلى الحواجز، ليس للمتعة، ولكن لنعذب بالانتظار.
هم جدي بالسفر لجلب الشتلات، ولكن وعكة أصابته، مما أجبر عمي وأبي على الذهاب بدلا عنه. فجأة وقعت أغراض جدتي عن الكرسي، مصدرة صوتا مزعجا في الغرفة.
حاول جدي منعهما من السفر، لأن رسالة من جدتي وصلت، حين تبعثرت، لكنه لم يستطع لسوء وضعه الصحي.
مر يومان ونحن ننتظرهما، جدي يجلس على الشباك مقابل الشارع الطويل، وأنا فوق شجرة اللوز، وأولاد عمي فوق سطح البيت، والرجال كل منهم يجلس أمام بيته، ويتحدث عن عودتهما.
نغير أماكن انتظارنا كل ساعة، أنا أمسك زهرة صفراء صغيرة، وأخلع بتلاتها ورقة ورقة، وأكرر، سيحضرون، أو لا. كنت أنسى النتيجة النهائية في آخر ورقة، هل يحضرون أم لا؟
جدي كان هادئا، يفترش المكان باتزان، ويمارس قلقه كما ينبغي له أن يكون من رجل كبير في نظرنا، كأنه يستطيع أن يحمل الأرض بكفه، جلس هادئا يراقب عن كثب تفتح تباشير اللقاء.
جاء رجل يسعى، يحمل بشارة، ويحمل شتلات الكرنب، فضحكنا، وحين تقدم بحماره على أطراف المزرعة، نادى جدي.
تقدم جدي بلطف وبطء، وقدماه تطرقان الأرض، هز رأسه مرحبا بالرجل، ولم يسأله أي سؤال عن عمي وأبي.
اكتفى بأن ينظر، ويفتش في زهرات الكرنب. أنزل الحمل عن الحمار بمساعدة الرجل الذي حاول أن يتكلم، فأشار إليه جدي بالسكوت، خاف الرجل وسكت، ولم ينطق بحرف واحد، سوى أن صرخ على حماره: «هيا، هيا، هيا.»
يا الله كم كان هذا الموقف مرعبا لنا! جلس جدي دون كلام، بعد أن غادر الرجل، وحاولنا أن نلومه على عدم سؤاله عن أبي وعمي، فأجابنا: «الغائب يعود، وإن لم يعد، كفانا أن نستأنس بذكراه.»
وبحركة غير مقصودة، تحلقنا حول شتلات الكرنب التي تضحك، ولكنا بدأنا بالبكاء من المجهول عن عمي وأبي.
القصة المزعجة تحتل تفكيرك، فقد يكونان معتقلين الآن من قبل جنود الحاجز، وربما فرا من جنود الحاجز إلى مكان آمن، والقصص المزعجة احتمالات نهاياتها قليلة حين تربطها بأمرين؛ أولهما: الهروب، وأكبرهما: الموت.
لكننا جميعا متفائلون حتى في الموت، ويكفي أن روحهما سوف تساعدنا في زراعة شتلات الكرنب، وتزيل الحصى والأوساخ من الأرض.
كنا ننتظر قرار جدي بالتعامل مع الشتلات لبدء الزراعة.
مسيل للدموع
أنا ماسة، سمراء اللون، ولكني جميلة، عمري سبع عشرة سنة، مرة أخرى سمراء، مميزة بلوني في الفصل، وحين كنت أرتدي المريلة الزرقاء، وأضع الطوق الأبيض على رأسي، وأحمل حقيبتي الحمراء، ترتفع القبعات لتحيتي.
حقيبتي الحمراء، اشتراها أبي من سوق الأدوات المستعملة، صنعت في إسرائيل، قوية جدا، زميلاتي في الفصل يغيرن حقائبهن كل عام دراسي، ولكن حقيبتي تظل صامدة في كل المواسم، لا يهمها فصل الصيف ولا الشتاء، بها عشرات الجيوب وما زلت أكتشف جيوبا جديدة، وأجدها مفيدة لإخفاء بعض الأسرار. من حظ عائلتي أنها حقيبة قوية، فلن يستطيعوا شراء حقيبة كل عام لسوء الحال. وحين أمسحها بقليل من الماء تعود جديدة، أحبها كثيرا، لأنها حمتني عدة مرات من ركلات الجنود، حين كانوا يركضون خلفنا وقت المظاهرات ضد الحواجز، وزاد حبي لها حين منعت عني الرصاص المطاطي في يوم ساخن، أمام مدرستنا.
نحن العائلة الوحيدة في البلدة، سمر البشرة، وهذا اللون له مليون قصة، كان جدي يتحدث عن أصول عائلتنا، حين يكون المساء مريحا دون مشاكل، والكل سعيد، فيصعد أخي سعد على أحد الكراسي في وسط البيت، وينشد أناشيد قد حفظها من كتاب اللغة العربية، ويسارع جدي بالقول: «نحن أحفاد عنترة بن شداد، كان أسمر مثلنا.»
وحين ينقص الدخل، والمزرعة لا تفي بوعدها من المنتجات؛ إذ كانت الثمار تصاب ببعض الأمراض أو الحشرات، ومعلومات عائلتنا بسيطة في المكافحة، يصبح المال والطعام قليلين، يقول جدي: «نحن من أصول أفريقية، وأفريقيا مشهورة بالصبر والجوع.»
كل مساء لنا أصل، ولنا قصة، من أين جئنا؟
لكن أجمل مساء ضحكنا فيه كثيرا، حين كان من المتوقع للمرشح في الانتخابات الأمريكية «باراك أوباما» الفوز برئاسة أمريكا، والكل معجب بشخصه، قال جدي: «هذا الرجل ابن خالتي الموجودة في الصومال.»
ضحكنا كثيرا، رغم أن جدتي كانت تصر في ذلك الوقت أنها تسمع أصواتا مزعجة تقترب من المزرعة.
لنا أقارب كثر، والأكثر قربا منهم يسكنون منطقة بئر السبع، فلم يهاجروا مع باقي العائلات، وبقوا هناك.
جاءوا لزيارتنا قبل أحداث انتفاضة الأقصى أكثر من مرة، وكنا نتجمع حولهم، ولكن أشكالهم تختلف عن أشكالنا باللباس والعطور والجوالات، حتى أحذيتهم مثل أحذية المشاهير، كانوا يتكلمون لغة مثل لغة الجنود، ويفهمون لغتنا أيضا.
لكن الذي يزعج جدي في زياراتهم، ويريدهم أن يغادروا بسرعة، أن بعضهم كانوا يعملون مع الجنود. وكلما رأينا جنديا أسود على أي حاجز، ظنناه أحد أقاربنا، فنسرع بالعودة إلى البيت، ولا نشارك زملاءنا في رجم الحجارة.
أنا البنت الوحيدة في المدرسة التي تجيد لعبة كرة السلة، ولا أعلم لماذا؟ كنت ماهرة، أقفز عاليا، وأضع الكرة في الشباك بسهولة. لعبت مرة واحدة في منتخب المدارس لفريق البنات، وكنت الوحيدة السمراء ، وتبارينا مع فريق آخر لمدينة أخرى، فلم نفز؛ لأن الفريق الآخر كان معه ثلاث لاعبات لهن نفس لوني.
إخوتي وأولاد عمي كانوا دائما يفوزون بألعاب القوى والجري لمسافات طويلة، وكنا في المدارس متميزين باللون والرياضة.
كنا كثيرا ما ندافع عن أبناء مدرستنا ضد أبناء المدرسة المجاورة أثناء العودة إلى البيت، فإذا بهم يفرون جميعا، ويقولون بصوت عال: «جاء السود، اهربوا.» فيهربون، وأضحك أنا وأولاد عمي وإخوتي.
ابن عمي مزيون كان رغم صغر سنه قائد فريق الدبكة والأغاني في المدرسة، وكان يحيي حفلات المدرسة، ويلوح، ويقفز، ويطير في الهواء، ويفعل حركات مضحكة وشائقة. والجميل في هذا الأمر، أن جدتي وجدي حضرا إحدى الحفلات المدرسية مع أولياء الأمور، وشاركا مزيون الدبكة والغناء، مما شجع ناظر المدرسة والمدرسين على مشاركة جدي الرقص. كان يوما حافلا بالضحك والحب، وجدتي غنت بعض الأغاني. وفجأة سقطت قنبلة غاز مسيل للدموع وسط الحفل، فصار الجميع يبكي، ويركض خوفا. جدي حمل مزيون وسعد على ظهره، وأنا أمسكت بيد جدتي، وركضنا إلى البيت. وصلنا قبل أن يهاجم الجنود المدرسة، ويعتقلوا ناظر المدرسة، ويشبعوه ضربا؛ لأنه سمح أن تغنى أغان فلسطينية في الحفل.
موسم المشمش
لا وقت أكثر حبا عندي من موسم المشمش؛ فشوارع الحارة تمتلئ بالبائعين المتجولين للمشمش، والكل يشتريه، ويهديه للآخر. المشهد يذكرني بأن الناس تشتري أقمارا صغيرة. إن أردت أن تعرف طعم القمر، فكل حبة مشمش فقط، وإن أردت أن تتذوق طعم نصف القمر فقط، فاشطر الحبة نصفين. لا أعلم لماذا أشبه المشمش بالأقمار!
في هذا الموسم لا يغريني الطعم، ومن أين يأتي المشمش بكميات كبيرة إلى الحي وإلى الحارات من حولنا؟ ولكن الذي أهتم له هو اللعب بنواة المشمش.
كنت أنا ومزيون وأطفال الحي حتى شبابنا، نجمع مئات من نوى المشمش، ونحشو بها جيوبنا. أتذكر هنا الهبلة، فأي شيء تحصل عليه من التسول، أو العطف تضعه في جيوبها، وفي مقدمة صدرها، وفي نهاية اليوم تبدو الهبلة كأنها كيس كبير منتفخ، ويبدو صدرها كأنه دكان بقالة صغيرة ، أي شيء يخطر ببالك تجده معها.
يأتي مزيون بملعقة، ويحفر حفرة صغيرة بحجم البرتقالة في أرض طينية متماسكة، ويشارك باللعبة غالبا ثلاثة أطفال، أو أربعة، حيث يضع كل واحد عشر نويات في الحفرة، وكل واحد يمسك بيده نواتين، ويقذفهما بعنف في الحفرة، فأي نواة تخرج من الحفرة تكون ربحا له. نظل ساعات تحت الشمس نلعب، ثم يتحول اللعب إلى العراك على بذور المشمش، بتهمة الغش في إلقاء النواتين في الحفرة. ونظل نتدافع، ويشد بعضنا ثياب بعض، حتى يتنازل أحدنا عن نواة المشمش للآخر. وفي نهاية اليوم نعود إلى البيت بأكياس كبيرة من نوى المشمش.
ليس هناك فائدة تذكر لما نجمعه من النوى، سوى الشعور بأننا قد ربحنا شيئا، فهي مجرد تسلية، نهايتها عراك.
الوحيد الخاسر، هو الولد الأبيض، ذو الخدود المنتفخة، فحين يبدأ العراك، يحاول أن يهرب. ولكن مزيون يلحق به، ويمسكه، ويضربه، فتحمر خدوده أكثر كأنها حبات طماطم طازجة.
لكن الغريب في هذا الولد، أنك تأخذ ما تشاء من ألعابه وخبزه أو مصروفه، فلا يغضب، ولكنه يغضب بشدة حين تتسخ ملابسه، ويصبح كثور هائج يضرب الكل، حتى أنا ومزيون نفر من المكان، كأنه مصارع أمريكي في الحلبة. •••
لا يقتصر هذا الموسم الغني على اللعب بنوى المشمش، لكن الكثير من الألعاب تنتشر في هذا الصيف.
لعبة البنانير «البلى الكروية البلورية». كل عشرة أطفال يتجمعون في حلبة المنافسة للعب، يرسمون مثلثا كبيرا «مور» حيث يضع كل واحد خمسة بنانير داخل المثلث الكبير، ثم نرسم خطا مستقيما على بعد مترين من المور، ويقذف كل واحد بنورا يسمى الصياد ناحية المثلث، وحين يرتطم الصياد بالحبات يخرجها من المثلث، فيحصدها ربحا له، ثم يكرر اللعب عشرات المرات، من قوانين اللعب الصعبة: عدم مغادرة اللاعب اللعبة، حتى يخسر كل ما لديه من بنانير.
البنانير شهية للمشاكل، حين ترى أكثر من خمسين بنورا داخل المثلث، وتبدأ رغبة السرقة عند الأطفال الذين لا يملكون البنانير.
كنت أراقب اللعب من بعيد، وحين أشعر أن الأطفال لهم الرغبة في امتلاك بعض منها، أعطيهم الإشارة لهم بالهجوم على المثلث، فتبدأ حرب ضروس كبيرة.
الأطفال البيض والأنيقون يبكون؛ لأنهم خسروا ما يملكون دون لعب، وثيابهم اتسخت من العراك.
ماسة
حين شرح أستاذ العلوم الفرق بين المعادن والعناصر الفيزيائية، علمت أنه لا فرق بين الكربون والماس إلا في تنظيم العناصر الداخلية، والضغط العالي المصحوب بالحرارة.
سرحت في كلام الأستاذ، فلو كنت سيئا وهشا مثل الكربون، ونظمت حياتك، وتعلمت الصبر والجلد لأصبحت ماسا، والكل يحترمك ويقدرك.
لولا موت جدتي، لأصبحت زوجة، وعندي أولاد وبيت، ورجل يحلق ذقنه يوما بعد يوم.
السمراوات في مثل عمري متهيئات للزواج، سبعة عشر عاما أجيد الدفاع عن صغار العائلة، أحمل فأسا، وأجر أكياس السماد من روث الحيوانات، أدحرج أسطوانة الخراطيم الكبيرة لأوزعها على الأرض، والمياه تكون أسرع من قنوات المياه، كأني أركب الأمواج العالية، وأنظف المزرعة من الحصى بعد الحرث، كما ينقى الرأس من القمل؛ حيث لا يجدي استخدام الفأس لإزالة الأعشاب، وبأصابعي السوداء أكون أسرع من الآلات الألمانية.
أبدع في تشكيل مجموعة من زهور الحقل العادية، البسيطة الرائحة والعطر، وآخذها إلى المدرسة، وأهديها للأستاذ، حين لا أنجز الواجب المدرسي.
لكن الزهور كلها لم تفلح في رفع معدلي الدراسي عن المتوسط. كنت أشتم وأضرب كثيرا في المدرسة في فصل الخريف. قلة الزهور تعني الكثير من الغضب في المدرسة.
أجيد ترتيب دفاتري وأسطرها، وأسطر كل كراسات من يدرس بالبيت، وأصلح الأحذية. في وقت البرد والمطر، كنت أنا الوحيدة التي تصعد سطح المنزل الهش لوضع النايلون الذي يمنع قطرات المطر من التسرب إلى البيت.
أقود حمار جدي، بمهارة عالية. وأذكر أن إحدى الجمعيات الريفية، نظمت مسابقة أجمل حمار، وأسرع حمار. خسرنا مسابقة أجمل حمار، لأن حمارنا يريد كل زينة الفنادق العالمية ليصبح لطيفا، ولكن كسبت وأولاد عمي مسابقة أسرع حمار؛ إذ كنت أنا أقوده، وقد وضعت على رأسي قبعة، وظهرت كولد، ولم يميزني أحد من لجنة التحكيم.
أنا غير قابلة للكسر، لا أعترف بالأمراض العرضية، الزكام والأنفلونزا والسعال، شيء عادي جدا في عائلتنا، ومشروب البابونج، والأعشاب الغريبة الأسماء هي العلاج فقط.
زارنا الطبيب مرة واحدة، حين كان ابن عمي الصغير يشكو من وجع في الصدر.
فلم تخفف الأعشاب من آلامه. ذهبنا جميعا إلى الطبيب على حمار جدي، كأننا سنذهب إلى مكان جديد. اكتشف الطبيب أنه يعاني من ثقب في القلب، ولم يعش ابن عمي كثيرا، مات وهو صغير جدا.
حين مات الصغير تحول لونه إلى الأبيض، وألبسه جدي قماشا أبيض، كم كان جميلا في موته! أخذه الرجال إلى مكان بعيد جدا، لم نعرفه، فلم نزر قبره أبدا.
كنت أمزح كثيرا مع كل زملائي في المدرسة، ومع الناظر خصوصا، وعرفت زميلاتي مرات كثيرة أني أقرأ الفنجان، وعندي سحر، وأفسر الأحلام.
كل يوم أسمع عشرات الأحلام من زميلاتي، يرغبن مني أن أفسر أحلامهن.
حين تقص إحدى زميلاتي علي الحلم، أقوم بحركات تشنجية في يدي ورأسي، كأن العالم الآخر يدخل في جسدي، فأرعب من يجلس أمامي، وأقول ما أقول من التفسير للحلم، ويصدقون ما أقول من الخرافات. ببساطة من يخاف، يصدق كل شيء. نصيبي بعد كل تفسير، نصف «سندويش» زميلتي.
تمر أيام رائعة، أتذوق فيها أربعة أو خمسة أنواع من «السندويتشات»، وحين أرغب في جمع مصروف زميلاتي، كنت أحضر بيضة وأفرغها من الصفار والبياض، وأضع داخلها خنفساء، ثم أعيد البيضة لهيئتها بلاصق شفاف، وأذهب للمدرسة، وأقوم بعمل دعاية كبيرة.
يوجد معي جني صغير، من يرد أن يراه فلا بد أن يدفع نصف شيكل.
زميلاتي والمدرسون والناظر، الكل يدفع نصف شيكل، كنت أسامح المدرسين والناظر، ولا آخذ منهم، عسى أن ينفعوني في إحدى المواد.
أذهب بهم إلى مكان معتم، وأخرج البيضة من جيبي، وأقول لهم: «الجني يسكن في البيضة، من عنده أمنية فليرددها في سره.»
وحين أضع البيضة على الأرض، تتدحرج بفعل حركة الخنفساء، فيدهش الجميع. منهم من يرتعب ويصرخ حين تقترب البيضة منه، وبعض زميلاتي يفقدن الوعي، والمدرسون يخافون أيضا، وأما الناظر فيبقى صامتا كتمثال من شمع.
بعد أن أجمع أنصاف الشواكل أخرج من الغرفة، ومن ثم ألقي البيضة والخنفساء في سلة المهملات. الجميل بعد هذا اليوم أن أخي وابن عمي ينتظراني على باب المدرسة، ويتقاسمان معي الشواكل، وأنا راضية؛ لأنهما كانا يشتريان الألعاب النارية التي ندعوها «القنابل»، ويفجرانها في الشوارع، وكنا نضحك كثيرا.
كلية صناعية
لم أدر أني سأصبح سارقة. في يوم مدرسي حار جدا، وقعت معلمتنا وسط الساحة، وانطلق الطلاب والمدرسون ناحيتها، وأسرع ناظر المدرسة لطلب سيارة الإسعاف.
حين دخلت سيارة الإسعاف بعد وقت طويل، نزل السائق والممرض، وحملا المعلمة إلى سيارة الإسعاف، وانطلق بوق السيارة في المدرسة. كل من عاين المشهد تأثر حزنا عليها، لكنها كانت تردد كلمات تشبه الدعاء، دعاء لم نسمعه من قبل في حياتنا، ولم نجربه.
وقع من المعلمة كتاب صغير جدا، وميدالية فضية. الميدالية حرف يشبه إشارة الزائد في الرياضيات، ألصق بها نحت لرجل عار. لم يلاحظ أحد أني سرقت ما وقع منها، ووضعته في جيبي.
حين غابت سيارة الإسعاف، سألت أحد المدرسين: «ماذا كانت تقول المعلمة قبل أن تدخل سيارة الإسعاف؟ كأنه دعاء لكنه غريب!»
رد المدرس: «إنها مسيحية، ولها أدعية خاصة غير أدعيتنا، ولكنها كلها يشبه بعضها بعضا، لأنها تقربنا إلى الله.» كان هذا رد مدرس مادة التربية الدينية في المدرسة.
قلت في نفسي: «لن أعطي ما سقط منها لأحد، إلا لها حين أقوم بزيارتها.»
اقتربت من غرفة الناظر، وقد استقبل مكالمة من بيت المعلمة، وكان يتحدث عن الوضع الصحي للمعلمة. كان أبوها يتكلم مع الناظر، وحين سمع الناظر كلمة «فشل كلوي» من الأب، كررها: «فشل كلوي، فشل كلوي! الشفاء من الله!»
أنا أيضا صرت أردد كلمة «فشل كلوي، فشل كلوي»، وفجأة ظهر أمامي مزيون، فقال بصوت عال: «ما بك كأنك مجنونة، لماذا ترددين، كلمة «فشل كلوي» بصوت مسموع؟» أجبته: «إنه مرض صعب، وشفاؤه نادر عندنا.»
كنت متأكدة أن مزيون لا بد أن يضحكني حين أكون حزينة. قال بصوت منخفض: «لو درست الكلية لما فشلت في الدراسة.»
فضحكت بصوت أعلى من صوت ناظر المدرسة ، وهربنا.
رغم أن مزيون أضحكني، ولكني كنت حزينة على معلمتي، وقررت أن أزورها في المستشفى.
أخذت بعض الزهور التي جمعتها من مزرعتنا، وزينتها بورق أحمر من كراسة الرسم، وكتبت عليها: «حمدا لله على السلامة.»
ورسمت صليبا كبيرا، وكنت خائفة أن يراني أحد حين كنت أرسم الصليب، ولا أعلم لماذا.
خرجت مسرعة من البيت، ولم أخبر أحدا إلى أين أذهب.
وصلت المستشفى الحكومي، وسألت كاتب الاستقبال: «أين أجد معلمتي؟»
أجابني: «في قسم الكلية الصناعية.»
صعدت درجات المشفى، ووصلت إلى غرفتها، فلم أجدها.
سألت أحد المرضى في المكان، وكان يجلس على كرسي، ويحمل عشرات الخراطيم الفضية، بعضها فيه دم، وبعضها فيه سائل شفاف، «أين هي؟»
أخبرني أنها خرجت من المستشفى، وستسافر إلى الأردن، لأن حالتها غير مستقرة، وهي الآن مع أبيها على الحاجز.
الحاجز ليس ببعيد عن المستشفى، والحاجز قريب من كل جزء عندنا، تجده حتى في أحلامك، ركضت مسرعة، وقلت في نفسي: «سوف ألحق بها على الحاجز.»
وصلت الحاجز، فرأيت مئات السيارات متوقفة في مساحة صغيرة، والناس حول سياراتهم، وكثير من الناس عند مقدمة الحاجز.
مشيت بين السيارات أفتش عنها، وأنظر داخل كل سيارة. الوجوه تتشابه، والمريض شبيه السليم، والسليم شبيه المريض، من مرارة الحاجز.
هناك سيارة أعرفها، إنها سيارة والد المعلمة، كانت تأتي بها أحيانا إلى المدرسة، لونها أزرق غامق، ويبدو عليها الترف.
تقدمت منها، ونظرت من خلال نافذتها مظللة وجهي بيدي، وجدت معلمتي في الكرسي الخلفي، معلق في يدها كيس محلول كبير، ووجهها أصفر، ويخرج خرطوم أبيض من خاصرتها، ملامحها كبرت كثيرا، وقد وقف والدها بالقرب من السيارة.
قلت: «حمدا لله على سلامتك.»
ردت بصوت منخفض مع دمع في عينها من الوجع: «شكرا لك لماذا جئت؟ هذا تعب عليك!» «لا، أنا سعيدة؛ لأني رأيتك قبل أن تسافري، وعلمت أنك ستسافرين إلى الأردن من المستشفى. عندي لك أمانة، حيث وقع منك كتاب صغير، وميدالية جميلة، جئت أعيدها إليك.»
ابتسمت المعلمة، وكأن الحياة تعود إليها. «هذه بشرى خير، أن تعود ميداليتي العزيزة، شكرا لك، أتمنى أن تكون البشرى بفتح الحاجز بسرعة، لأن الألم ينتشر في كل جسدي.» «لا تقلقي، الآن سوف يفتح، والبشرى سوف تعم المكان.»
فتحت باب السيارة وأزاحت لي مكانا للجلوس، جلست بجوارها، وظل والدها يراقب الحاجز، عله يفتح. «معلمتي، عندي سؤال لك، ماذا كنت تقولين حين ركبت سيارة الإسعاف؟» «كنت أقرأ آيات من الكتاب الذي بيدك!»
قداسة منتصف النهار
تحدثت كثيرا مع معلمتي، وفي منتصف إحدى الجمل نامت، والحاجز أيضا نائم، بعد لحظة وأنا أراقب حركة الخراطيم، والسائل الشفاف الذي يدخل إلى خاصرتها ويخرج باللون الوردي، غفوت معها.
صوت إنسان يهز كتفي، النوم لذيذ في سيارة لها ستائر بنفسجية، ولا وجود للحرارة، لكن كتفي هز بعنف، فتحت عيني، فإذا به والد معلمتي، فانتفضت من الكرسي، فارتطم رأسي بسقف السيارة. «استيقظي، الحاجز فتح، سوف نغادر، حاولي أن توقظي معلمتك.» ارتبكت، ثم التفت إليها: «معلمتي، معلمتي الحاجز بدأ يعمل، معلمتي!»
لا رد، يبدو أن نومها ثقيل، مع الأدوية يصبح المريض في عالم آخر من الكسل، حاولت أن أهزها برفق، لكن لا جدوى، هززتها كما أحرك وسائدي قبل النوم، ولكن لا جدوى.
انتبه الأب أنها لا تستيقظ، فلم يتحرك، وصار يبكي، كان هادئا، والدموع تسيل من عينيه، فيمسحها.
نزل من خلف مقود السيارة، وصرخ بصوت عال: «يا ابنتي العزيزة الغالية! الحاجز قتلك، الحاجز لم يرحم مرضك.» وصرخ بآهات عالية جدا، فزعت كثيرا، وبدأت أرتجف من المشهد.
نزلت من السيارة، ووقفت بالقرب من زجاجها أنظر إليها، كم هي جميلة حتى في موتها! بعد عشر دقائق، كان كل من حولنا يشارك الأب البكاء.
جاء رجل كبير في السن، يرتدي بذلة سوداء، ومعه وعاء بخور، وصليب كبير، اتجه الأب ناحيته، وقبل يده، فقال الرجل بصوت أجش: «منحتك العذراء الصبر، وعيسى في السماء يدعو لها، والرب قادر على كل شيء.»
سكت الأب، وكأن شيئا لم يكن، وأصبح هادئا جدا، ثم جاءت سيارة كبيرة، بيضاء، وبها نساء ورجال بملابس غريبة، كلهم يحملون صلبانا، ومناديل حمراء كبيرة .
كان من بين الحضور، رجل أسود، وامرأة سوداء، ابتسمت في قلبي، وقلت: «يوجد أيضا سود مثلي مسيحيون.»
حملوها، ووضعوها في السيارة الكبيرة، وصرنا نمضي خلف السيارة بهدوء وبطء، لا أحد يتكلم، سوى صوت تراتيل آيات غريبة عني، ولكنها مفهومة حين تدقق السمع.
تذكرت الصليب والكتاب اللذين أهدتني إياهما معلمتي، أخفيتهما في جيوبي حتى لا يأخذهما أحد مني.
لا أعلم كيف وصل الخبر لطلاب المدرسة، وبعض المدرسين وناظر المدرسة، وتقابلنا في بيت معلمتي. كان مع الطلاب أخي وابن عمي، وبعض السود من المسيحيين الذين جاءوا من بعيد.
من الأشياء التي تعجبت منها، أن اسم معلمتي كان «ياسمين» في المدرسة، ولكنهم كانوا يقولون رحم الله المعلمة «مريم بولص». الاسم الجديد أثار حفيظة مزيون، وهمس في أذني: «لماذا غيروا اسمها بعد الموت؟» قلت له دون تفكير: «إن كل سيدة اسمها مريم، حين تخرج من البيت تسمى ياسمين.»
القماش الأبيض
حضرت بعض نساء العائلات السود من البلدات المجاورة، لخطبتي، وكانت فكرة الزواج مطروحة في العائلة، وكان جدي يرد على النساء: «يصير خير.»
كأني أصبحت فاكهة طازجة، ومن يا ترى سيقطفني؟
عائلتي شجرة صغيرة، ولا تقدر على حماية الفواكه من مناقير العصافير.
أنا كبرت. لقد تزوجت أمي، وهي في الخامسة عشرة، وجدتي منذ ولادتها وهي أم. أشعر حين أغير ملابسي أمام المرآة، أني سيدة كبيرة، فأغلق الباب.
أرقص أمام المرآة، فأجيد الرقص، وأجيد التخيل، كما أني بارعة في النوم على السرير، مع أني طوال حياتي أنام على فراش على الأرض.
حين جلب والدي الأسرة، سقط إخوتي كلهم على الأرض، وبكوا من وجع السقوط، وأنا لم أسقط.
عرفت أني كبرت حين تخليت عن لعبتي «زينة»، ولم أعد أحملها كثيرا، كبرت وتأكدت أني كبرت، حين صرت أوشوش المساند بأسراري.
منذ بدأت أتابع ألوان ملابس زميلاتي، وكنت أعرف أن هذا شهر شباط من كثرة القطط التي تتقافز فوق سطوحنا.
كل يوم تكبر فكرة في رأسي، أن الحياة نصفان، نصف لنا، والنصف الآخر لابد أن يخضر.
حاولت كثيرا أن أسرق أدوات زينة أمي، وأجربها في الحمام، وحين أسمع صوتا يقترب من الحمام، أمسح وجهي من المكياج.
كنت أكره طعم القهوة، ولكني الآن أعشقها، وأنتظر أن ينتهي جدي وأعمامي من شرب القهوة، حتى أتذوق ما تبقى في الفناجين، فعندنا عادة تقول: «عيب البنت تشرب قهوة.»
كنت أعتقد أن الحزن يأتي فقط من قلة السكاكر للأطفال، ولكن الحزن الآن يأتي من وجود الملح في الحياة.
كنت لا أخجل حين أركب الحمار، وأضع كل قدم في جهة، والآن حين أركب الحمار، أضع قدماي في جهة واحدة.
كنت أعشق صوت المشاكل، وصوت الرصاص، أما الآن فأميل إلى الجلوس وحدي، وأنتظر بصبر نافد حين يكتمل القمر بدرا.
أسعد أوقات حياتي حين يخلو البيت، لأمضي حافية في الممرات.
كنت أتكلم بسرعة حين أتحدث مع مدرسي، أما الآن فأتعمد أن أسعل، وأنطق الكلام بصوت غير مسموع.
وجع في بطني
حين تنتشر رائحة البلح في جسدي، على رذاذ الياسمين، أتأكد أن وجع البطن سيجتاحني، وكل مسكنات الألم لن تجدي نفعا، وأغلب الأوقات يأتي الوجع مع اكتمال القمر من كل شهر عربي.
حتى لا ينكشف أمري، أتعمد جرح إصبعي، ليظهر الدم وألطخ ثيابي ببعض القطرات، حتى لو سألني أحد: «لماذا وجهك أصفر؟» فأرفع له جرح إصبعي.
حين وضع الرجل شتلات الكرنب على أرض المزرعة، تحت أقدام جدي، وخبر عدم عودة أبي وعمي ينقر في رأس الجميع كنقار الخشب، انهارت أعصابنا، ولكن لا بد أن تغرس الشتلات في الأرض في وقت قصير جدا، لا يطول عن ست ساعات.
أنا متعبة جدا، الوجع في بطني يزداد ويتحرك كمظلة الشتاء، تكون في يدك كعصا، وحين يهطل المطر تغطي جسمك، ويظل حذاؤك مبللا.
أتألم كأني أستضيف وجع شخص آخر داخلي، الوجع يبدأ من نقطة مركزة، ثم ينتشر في كل جسدي.
ربطت بطني بحزام، وانطلقت وأخي وابن عمي ننقل الشتلات إلى الطرق المحروثة في المزرعة، لا بد أن تبتعد كل شتلة عن الأخرى حوالي أربعين سنتيمترا.
من التعب والإرهاق في العمل لساعات تحولت وجوهنا من اللون البني إلى اللون الأحمر القريب إلى حبات الكرز، والعرق ينز من بين ثغرات الجلد، وأصبحت ملامحنا كهنود النار.
خلع جدي طاقيته، وظهر شعره الأبيض، كأنه لم يكن أسود البشرة؛ لأن لون شعره الأبيض ينعكس على باقي جسده.
لا أعلم لماذا شعرت أنه كقوس المطر ينتشر في مزرعتنا، كان جدي يعمل خلفنا، فنحن نوزع الشتلات بمقاييس منتظمة، وهو يغرسها في الأرض.
كان يغرس الشتلة بأصبعيه في الأرض، مع قليل من التركيز في الصوت، تشعر أن الشتلة تضحك، والأرض تهمهم بصوت الحياة. كانت كومة الشتلات تنقص واحدة تلو الأخرى، أنا وأخي وابن عمي وجدي متسابقون في مارثون الحياة والبقاء، كأننا مخلصون للذكريات، وصورة جدي تلف حولنا، وأشجار اللوز تحرس الحب في أعماقنا.
أحذيتنا تلونت بغبار الطين البني، وأطراف البناطيل أيضا، كفوفنا اصفرت جدا وتحولت إلى شموس صغيرة.
تعبنا كثيرا، وظلنا من التعب تناقص، إلا ظل جدي كلما زاد تعبه زاد طوله.
اقترب المساء، وقد قطعنا مسافات المارثون، وكانت نقطة النهاية صنبور المياه. فتحنا الصنبور، وانطلق الماء يجري داخل الخراطيم، ومع صوت الخرير كان الماء ينتظر أن يساعدنا.
كانت قطرات الماء تخرج من ثقوب الخراطيم على شكل نافورة، فتقدم جدي وصار يمسح وجهه بها.
ما كان منا إلا أن نلعب بالماء، وبالنواعير الصغيرة.
لم نلعب فقط، لكنا جعلنا الماء يلاحق كل قطرات العرق على أجسادنا، وكلما شخرت الخراطيم ضحكنا؛ لأن مزيون كان يقلد صوت الشخير.
كالونيا خمس نجوم
العطر الوحيد الموجود في بيتنا كالونيا خمس خمسات، هو تكوين لا يصل إلى العطر، وأكثر عبقا من رائحة الليمون، مفيد جدا بعد الحلاقة.
قبل أن نتعرف على الكالونيا المصرية، كانت جدتي تغلي أوراق شجر الليمون، وحين يفور الماء، تضع كمية من «السبيرتو» الأبيض، رائحته جميلة أيضا.
من رائحة الكالونيا نعرف أن جدي حلق شعر ذقنه، أو أن أبي حلق ذقنه، ورائحة بيت عمي تفوح حين استخدامها أيضا.
الكالونيا لها استخدامات أخرى، فهي معقمة للجروح، بل هي العلاج الوحيد لجروح الجسد. ويا ويلك إذا وضعت القليل منه على جرحك! فلا بد أن تصرخ، وتقفز كقرد شمبانزي في الغابات الاستوائية، أنت تتألم من جرحك ولدغة الكالونيا، والكل يضحك منك.
بعد دقيقة من الصراخ، يطير ألم الجرح مع رذاذ الكالونيا.
رجلان في الحي كانا يعشقان الكالونيا، وأينما يذهبان يحملان القنينة، أحدهما أمين المجنون. قبل الجنون كان يعمل داخل الأراضي المحتلة، وقد تعلم أن يسكر، كان يشرب كثيرا، فوقعت مشكلة مع أصدقائه، وضربه أحدهم على رأسه، ففقد عقله لكن لم يفقد طعم الشراب. في الحي ممنوع بيع الكحول، فصار يشتري كل يوم قنينة كالونيا ويشربها، مع بعض كلمات تخرج من فمه غير مفهومة، ومن رائحة الكالونيا، نقول: إن أمين مر من هنا.
والآخر جواد، الشاب المقاوم، خبير في رمي الحجارة، كأنه قناص أسود، وكثيرا ما يتجمع الأطفال والناس حوله، ويقول لهم وهو يحمل حجرا: «سوف أصيب نافذة سيارة الجيش.» وحقا كان بارعا، حين يلقي الحجر في الفضاء، يطير كالسنونو في فصل الصيف.
كنا نذهب مع جواد بالقرب من برك المياه، حيث يرمي الحجر على سطح الماء، فيظل الحجر يركض دون أن يسقط في الماء، حاولنا أن نفعل مثله، لكن حجارتنا تغرق في الماء قبل أن تتحرك.
جواد كان أيضا يحمل قنينة الكالونيا دائما في جيبه، حين يلقي الجيش قنابل الغاز المسيل للدموع على المدارس، أو التجمعات في الأسواق، أو في أيام الغضب والذكريات، من قوة رائحة مسيل الدموع يغمى على الأطفال والسيدات، والدموع تصبح أنهارا. يأتي جواد كملاك يحمل الكالونيا، ويمرر رائحتها على أنوفهم، فتعود الحياة إليهم.
في يوم كان جواد يجلس على حجر كبير وسط الحي، فجاء الجنود وحاصروه، وأرادوا تفتيشه، وحين أخرج القنينة من جيبه ظن الجنود أنها قنبلة حارقة «مولوتوف»، فأطلق أحد الجنود الرصاص على قلب جواد، فقتل. وصل خبر موته بسرعة إلى كل سكان الحي. كان خبر موته أسرع من رذاذ الكالونيا، تجمعوا حول جواد، والقنينة بجانبه. حملوه وجاء أمين فسرق القنينة وهرب.
برج المراقبة في الجدار كان يراقب كل تحركاتنا، يكرهنا ، أو يطمع في نصف المزرعة الآخر بعد أن غرسنا شتلات الكرنب في المزرعة. شعرنا بالمراقبة والملاحقة من آثار الآليات العسكرية، في أطراف المزرعة جهة الجدار. شجر اللوز القريب منه يموت، أغصانه تتناقص، ولا يكبر.
في بعض الأحيان نجد شجرة مقتولة بعشرات الرصاصات، كأن جنود برج المراقبة يتدربون على القنص بجذوع الشجر.
زاد خوفنا على شتلات الكرنب، لأن جدي دفع كل ما يملك من النقود في هذا الحلم، حلم جدتي بأن تزرع الكرنب في المزرعة، وبعد موت جدتي، واغتصاب الجدار لنصف المزرعة، قررنا التحدي.
بعد أن غرسنا الكرنب صرنا نتجول كل دقيقة بين الشتلات، نرعاها، نصفق لها، نغني لها، نبعد الحشرات عنها، ننام بالقرب منها. كل يوم نشعر أن غضب الجدار اقترب من مزرعتنا، وحين نكون جالسين، نسمع طلقات نارية بالقرب منا، فيشير إلينا جدي، أن ننبطح أرضا ولا نتحرك. ولكن الجنود يحبون اللعب معنا ألعابا ثقيلة، وفي لحظة يلقون عشرات القنابل المسيلة للدموع.
الدخان ينتشر في المكان، لا يرى بعضنا بعضا، كان يغمى علينا من السعال والدموع وحرقة العيون، ونحن نلاحق كل قنبلة بدلو ماء كبير نريقه على الدخان. في أوقات كثيرة لا يتمكن الماء من إخماد الدخان. فكنا نصنع غطاء من القماش الكبير، أمسك أنا ومزيون طرفا، ويمسك جدي طرفا آخر، لنكون جاهزين لأي قنبلة تنفجر في المكان، ونلقي قطعة القماش في الهواء باتجاه القنبلة، كمشهد الصياد حين يلقي شبكته لصيد السمك القريب من الشاطئ.
غالبا لا نستطيع إخماد الدخان، فأكثر من قنبلة تسقط في وقت واحد، ويصعب علينا إخمادها، فيغمى علينا. وحين يغمى علي، أتخيل أن جواد يحمل قنينة الكالونيا، ويمرر رائحتها على أنفي، شكرا يا جواد، يا فارس الكالونيا.
كان جدي يرش عطر الكالونيا في الماء دون سبب، قبل أن نضخه لشتلات الكرنب.
البالون
نحن لا نعرف حتى الآن أننا ندافع بشكل سليم، ولكن ما نخشاه أن تموت الشتلات قبل أن ترقص مع الفضاء الأزرق.
هناك فرصة جيدة للدفاع عن الكرنب، ولكن بهدف الدفاع عن الأرض، عن حلم الجدة. نحن في مهب الريح، ولا بد أن تكون الشتلات في حالة جيدة، حتى تنتفض مثلنا، وتخرج من الأرض.
الروتين الذي أعيشه الآن علمني الحب، والصبر على روح الكرنب، ولو كان الأمر بيدي في تلك اللحظة، لدخلت في بطن الأرض، ورجوت الشتلات أن تكبر.
كنت أركع أمام الشتلات كعابد بوذي، وأضع يدي على الأرض، وأتمتم بكلمات.
حاولي أن تتحدي ضعف الانتظار، واجعليني أحبك كما يجب أن نحب. أنت الآن كل الأحلام، ولكن لا تأخذي روحي إلى العتمة بعيدا. أنت دائما قريبة مني؛ علمتني نضال الروح على التحمل. أبعدي الشك في الارتفاع إلى الفضاء، وتنفسي الصعداء. نحن ننتظرك، نشعر أننا بالون الطفل الأخير، طار من يد الطفل بعيدا إلى حقل الأشواك، الكل ينتظر أن ينفجر، الطفل يبكي، ولا حيلة لمن يشاهد أن ينقذ البالون.
من طول الانتظار تعلمت الأمل، النوم، الضحك، كنت أردد في نفسي الأمل، هو الشخص الناجح، هو الشخص الذي عاش عيشة جيدة، وضحك كثيرا وأحب الكثيرين، بالتأكيد يا ماسة، أقول لنفسي، الأولاد البيض، ذوو الوجوه الحمراء المنتفخة، أكثر سعادة منا؛ لأنهم لا يتعبون في التفكير، وفي الصباح تكون حقائبهم مليئة بالنقود، والخبز المحشو بالشكولاتة والجبنة الصفراء، كان الأمل الوحيد عندي، كيف ينجح مزيون في جلب نصف الأشياء من حقائب الأولاد. لم يسرق مزيون أبدا، ولكن كان يعد هؤلاء الأولاد البيض، بضمهم لفريق المسابقات في المدرسة، والفوز بمسابقة الجري السريع، والحصول على الميدالية، كان يسرح بهم وقتها، أغلبهم كان يتخيل نفسه حصل على الميدالية الكبيرة، وأمه ستفرح به، في نهاية الأمر. كانوا يعطون مزيون بعض الأشياء المكدسة في حقائبهم. حتى آمالنا تختلف. فنحن نرغب أن نأكل الخبز بالجبنة الصفراء، وهم أملهم أن يحصلوا على ميدالية، حتى في الخيال.
الأمل، حين قال المعلم: «الأمل يا أولاد أن تكونوا متفائلين، وتروا كل الأشياء بيضاء.»
آنذاك انتبه المدرس أني سوداء، فاعتذر، ولا أعلم لماذا، قال: «أقصد يا ماسة أكثر الأشياء لا بد أن تكون مثل النهار السعيد.»
ابتسمت في وجه المعلم ، وابتسم، وأشاح بوجهه إلى السبورة.
الأمل عندي هو قمة السعادة.
حين نجمع بقايا الطباشير آخر كل حصة، ينبغي ألا ينكشف أمرنا، لأن مزيون أسود، ولو أمسك الطباشير، فسوف يتلون بسرعة، ونحن بحاجة كبيرة لبقايا الطباشير.
جلب لنا جدي إلى البيت لوحا خشبيا أسود يشبه السبورة، واشترى لنا إصبعي طباشير بيضاويين، ولكن كل من في البيت مارسوا مهنة التدريس، فذابا بسرعة. كل يوم أنا ومزيون نجمع بقايا الطباشير، ونكتب كل شيء على اللوح الخشبي الأسود.
كنت ألعب كثيرا دور المعلم، وكل العائلة تستمع إلي، والأمل الذي كنت أعيش عليه في تلك اللحظة، أن يكون عندنا طباشير أبيض.
عفوت عن المعلم، وصرت أعتبر اللون الأبيض هو التفاؤل.
شتلات الكرنب فقط تحتاج للون الأبيض، كيف لي أن أدخل هذا اللون إلى مزرعتنا؟
بعد تفكير عميق، خطرت في بالي فكرة رائعة في نظري، فقد جمعت عشرات الخنافس السوداء الكبيرة، ووضعتها في زجاجة بلاستيكية كبيرة، وصرت ألون كل خنفساء بالطباشير الأبيض، فأصبحت الخنافس بيضاء جميلة، وألقيت بها بين شتلات الكرنب، فصارت الخنافس تحفر في الأرض، وتدخل بالقرب من الشتلات.
ارتحت كثيرا؛ لأن الخنافس كانت مطيعة وهي ملونة، وكأنها عرفت أنها صارت أكثر تفاؤلا فدخلت في الأرض.
الضحك
الضحك أكثر الأشياء التي أحبها، قالوا: إن الضحك يقوي القلب، وأنا في هذا الوقت لا بد أن يكون قلبي قويا، صابرا. أن تكون بقلب قوي فتهدد هذا الجدار بالفناء. قد تتنفس الغازات المسيلة للدموع، وأنت تضحك؛ لأنك قوي. الضحك في حياتي هو أكثر الأشياء مجانية. من أسراري أن ضحكي يأتي في مواعيد محرجة. في الموت أضحك، وحين أخجل أضحك، وحين يسقط أمامي شخص قبل أن أساعده أضحك، وحين أشم رائحة كريهة أضحك، وحين أخبئ شيئا في جيوبي أضحك فينكشف أمري.
قبل النوم، حين تجبرنا أمي على النوم، نظل نضحك تحت الغطاء، نضحك ونضحك، حتى ننام، حين أدخل الحمام أضحك، وحين أخرج منه أضحك.
يا الله لو استطعت أن أجعل شتلات الكرنب تضحك مثلي! بالتأكيد ستصبح قوية وتكبر بسرعة ، كيف لي أن أجعلها تضحك؟ سوف أقلد لها ضحكات كل من حولي. مدير المدرسة دائما عاقد الحاجبين، يضحك فقط حين يأتي مسئول إلى المدرسة، ويكون حنونا، ويربت على أكتاف الطلاب، لو همس المسئول بكلمة خفيفة قد تضحك من يسمعها، لضحك المدير بصوت عال، كأنه يخرج من فمه صوتا مثل جرس المدرسة، يضحك كصوت الإذاعة المدرسية الصباحية المزعجة.
وحين يضحك المدير لا بد أن يضحك المدرسون، وحين يضحك المدرسون، لا بد أن يضحك الطلاب، ولكن الطلاب أكثر ذكاء في الضحك، كانوا يضحكون بسبب ضحكة المدير.
أما معلمتي ياسمين التي ماتت بمرضها، فكانت تضحك أيضا، كل يوم أحد تضحك، وعلمت سر ضحكها يوم الأحد؛ لأنها تزور أصدقاءها المسيحيين، قد تكون سمعت قصصا مضحكة. كان يوم الأحد لها يوم الضحك العالمي، وضحكتها لطيفة، ناعمة. حين يجيب أحد الطلاب عن أي سؤال تضحك بصوت عال، كناي البوص. بصراحة كأن ضحكتها لحن. •••
حين اشترى جدي بطيخة كبيرة جدا ومخططة، التففنا حولها، كانت النظرات قلقة، هل تكون ناضجة حمراء ومذاقها حلو؟ أو بيضاء؟ غرس جدي السكين في رأسها ونزل به إلى أسفل، وسال ماؤها الأبيض، تفاجأ الكل بأن البطيخة بيضاء، فضحكت جدتي على جدي، وقهقهت، فاحمر وجهه خجلا، لأنه كان يدعي أنه ماهر في شراء البطيخ. كان يقول: «بطرقة بسيطة على قشرة البطيخ، ومن الصوت تتعرف على البطيخة، حمراء أو بيضاء.» فشل هذه المرة، ورغم أنها كانت بيضاء، لكن مذاقها كان جيدا. جدتي دائما تحول الأشياء إلى الأفضل، أخذت قشر البطيخ، ووضعته في ماء وملح، وبعد يومين أصبح مخللا بطعم جميل، ألذ من طعم البطيخ الأحمر.
أيتها الشتلات حاولي أن تضحكي! فربما يتحرك التراب، هل تعلمين لماذا لا ننسى جدتي؟ لأنها تضحك من تحت التراب، ومن كثرة ضحكها تستطيع روحها أن ترج القبر، وتأتي إلينا، وتدور حولنا.
قالوا: إن كلام القرود ضحك، القرد حين يتكلم يضحك، كم هو جميل أن يقال عن كل جملة تقولها ضحك! حين نشاهد القرد أيضا نحن نضحك.
إيطاليا قريبة جدا
يبدو أننا لم نكن وحدنا في مقاومة الجدار، نحن نقدم الدموع والصبر، وهناك من يقاوم معنا، يأتون من بعيد، من مناطق الأحلام في أوروبا، لقد جاءت مجموعة من نساء ورجال، جاءوا من بعيد. وقفوا بجانب مزرعتنا، يحملون لوحات، ويرتدون قمصانا سوداء، ويحملون حقائب كاميرات، بعضهم يحمل صور «تشي جيفارا»، وبعضهم يلبس الكوفية.
رغم أنهم غرباء، لكنك تشعر أنك تعرفهم، يتحدثون بلغة غريبة، منظمون جدا، يهتفون ضد الجدار بكلمات موسيقية، ومنهم من انطلق يرسم على الجدار. وآخرون ينفخون في بوق بصوت جميل، جلسوا على الأرض، ورفعوا أيديهم إلى السماء ناحية الجدار.
حين ذهبنا إلى منزل مدرستنا ياسمين للتعزية، رأيت صورة سيدنا المسيح، له لحية بنية، أبيض الوجه، طويل، لا تمل من النظر إلى صورته.
ولكن بكل صراحة هزنا مشهد بعض الرجال الذين كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء، كأنهم يتشبهون في صلب سيدنا المسيح. هذا المشهد لم أره أبدا، جاء أحدهم إلى ناحيتي وأنا أجلس تحت شجرة اللوز، وقال بلغة غير مفهومة، كأنها لغة إنجليزية، بعض الكلمات.
رددت بكلمة: «نعم، نعم.»
أنا أعرف عشر كلمات من اللغة الإنجليزية، كلها تحيات، وكلمة حب، وكلمة مدرسة، وكلمة شكرا.
يبدو أنه أدرك أني لا أفهم لغته، فقال: «أنت ساكنة هنا؟» «أنت تتكلم عربي؟» «بعض الكلمات، أنا أصولي من الجزائر، ومعي جنسية إيطالية، جئنا في مسيرة لمناهضة الجدار، نحن ضد الفصل العنصري.»
قال مجموعة كلمات لم أفهمها، مناهضة، فصل عنصري.
لكن كنت مبتسمة في وجهه، فاستمر في الحديث.
قلت له: «هل كنت تتحدث معي باللغة الإنجليزية؟»
قال: «لا، كنت أتكلم الإيطالية.»
ضحكت، وقهقهت بصوت عال، فضحك أيضا.
جلس بالقرب مني، وجاء معظمهم، وجلسوا على شكل دائرة، كانت شجرة اللوز في المنتصف، وضعوا أشياءهم، وحقائبهم في منتصف الدائرة، وصاروا يغنون.
كان أحدهم شجاعا، فاقترب من الجدار، وكان يحمل ألوانا، وبدأ يرسم طفلة تمسك بيدها بالونا وتطير عاليا. الفتاة التي رسمها كانت تشبهني جدا، كما أنه جعلها سوداء، كم كنت جميلة في الرسمة!
الشيء المدهش فتاة سوداء من بينهم ، الكل كان يدور حولها، كأنها قائد المجموعة، اقتربت من الجزائري، وقلت له: «من هذه الفتاة؟ ولماذا يسألها الكل؟»
قال: «هذه من أمريكا، وعائلتها عانت من العنصرية ضد اللون الأسود، جدها قتل على يد رجل أبيض، وهي تعمل في حقوق الإنسان ضد العنصرية.»
هززت برأسي، «أمريكا فيها عنصرية، معقول أمريكا فيها سود؟»
ضحك الجزائري بصوت عال، وتساءل الكل عن سبب الضحك، فوضح لهم ما قلت بلغة غريبة، فبدأ الكل يضحك.
قال لي: «في كل العالم توجد عنصرية.»
لم نتحدث كثيرا معا، ولم أتأمل في ملامحهم كثيرا، كل واحد منهم يحمل قصة لسبب مجيئه إلى هنا.
بدأ صوت إطلاق عيارات من الجنود، قنابل مسيلة للدموع، فانطلقوا، وهم يرجمون حجارة ناحية الجدار، منهم من كان معه مقلاع، ومنهم من اكتفى بالتصوير. الصراخ والهتاف كان صاخبا، فوضى كبيرة. لكن دخان الغاز المسيل للدموع كان أكبر من المشهد. تفرقوا، وهربوا، جاء جدي بزجاجة كبيرة من الكالونيا، وصار يرش على وجوههم، وجاء رجال من الشرطة وأخذوهم بعيدا، رجع الجزائري إلي، وقال: «سوف نعود لا تقلقي.»
رغم أنه كان يتكلم معي باللغة العربية، غير أني لم أفهم بعضها، لأنه كان يتكلم بالفصحى.
النوم
الشيء الثالث الذي أتقنته من مراقبة شتلات الكرنب، النوم. كان يهاجمني دون ميعاد؛ كنت أصاب بالدهشة، حين أستيقظ وأجد نفسي في البيت، أقوم مفزوعة كيف وصلت إلى البيت؟ فيبتسم جدي، ويقول: «الحمار حملك إلى هنا.»
أخجل من نفسي، كيف لا أشعر بمن حولي وأنا نائمة!
أشعر أني أربي حدائق الأمل في شرفة النوم، وكنت أسأل صديقاتي هل ينمن كثيرا؟ كن لا يستغربن من سؤالي؛ لأنهن أيضا مثلي، معظم وقتهن نوم.
لماذا وأنا نائمة أشعر أني ألملم بقايا الرصاص في جيوبي! أحب النوم؛ لأني أشعر أن الجدار يتحول إلى عقد جميل فوق عنقي.
كل ما أحتاجه وأنا نائمة أن أجمع كل أسراري في علبة صغيرة، وألقيها بعيدا؛ لذلك أخشى أن يأتي أحد من عائلتي، ويسرق العلبة حين أتقلب، وأزيح غبار التعب عن مزرعتنا، أقاتل، وأقاتل ، أقفز، أغني، وفي كل لحظة يشاركني جواد، فارس الكالونيا، جزءا من حلمي. أشعر أن جسدي ينز عطرا.
كأني أصعد درجا هشا من سراب، وكلما جاءت فكرة السقوط في نومي، يأتي الجزائري، ويمسك يدي.
أظن أن جسدي مفكك من الركض، فتأتي أوراق الكرنب وتلفني، كأني أنا سيدنا يونس والكرنب يقطينة الحياة.
في لحظات يطير النوم وقت الظهر، فأسترجع كلام الطبيب الذي زار المدرسة في موسم التطعيم ضد الحصبة، بعد أن تناولنا حقن الوجع.
قال الطبيب: «من عنده أو عند أحد من عائلته مرض يشكو منه؟» أغلب زميلاتي في الفصل سألن عن الحمى والسعال والإسهال، والحكة، واحمرار العين، ومكافحة القمل والصئبان، والبعوض الذي يلدغ من فوق الملابس.
رفعت يدي وسألته: «كيف أنام بسهولة؟ مع كثرة ما نسمع من أصوات القنابل والرصاص، وصراخ آليات الجنود. نظل طول الليل خائفين، ولا نستطيع النوم!»
فرد: «حاولي أن تقفي على قدم واحدة، وأنت تغلقين عينيك.» وأشار إلينا أن نقف، ونغمض أعيننا. حقا كأنه سحر، كل زميلاتي في الصف سقطن أرضا.
أضاف الطبيب: «خذوا نفسا عميقا ولا تخرجوا زفيرا لمدة عشر ثوان، ستنامون حالا.» ولم نفعل ذلك في الصف، لأن ناظر المدرسة دخل غاضبا.
كان الطبيب ذكيا، حين أخبرنا بمعلومة هامة: «أما البعوض، فضعوا قليلا من النعناع بالقرب من فراشكم، فلن يهاجمكم.»
لو أن الجنود مثل البعوض، بقليل من النعناع نخرجهم من فراشنا، من أحلامنا، من نومنا، من مزرعتنا.
كلما اشتقت للجزائري، أو جواد، أقف على قدم واحدة، وأرفع يدي جانبا كصورة المسيح، فأشعر أني أطير، وفجأة أسقط نائمة.
الغريب أني كلما رأيتهما أثرثر كثيرا، هما لا يتكلمان، فأندم لأني لم أسمع صوتهما، أقول في نفسي: «المرة القادمة، سوف أصمت، وأسمع لهما.» ولكن لا أستطيع ضبط ثرثرتي.
المزعج في النوم، أن أحلم بأن جنود الجدار يلعبون الكرة برأس الكرنب. كانوا يقفون بشكل دائري، وأنا في المنتصف، أركض خلف الكرنب، وأركض، وحين أحميه من أحذيتهم الكبيرة السوداء، ينزف دما أخضر.
ظلان جديدان
أربعة أشهر، ونحن نتقلب على أغصان الانتظار، يبدو أن القصة سوف تنتهي. أول تجربة لي مع الصبر مضت، إن تصبر، أو تضجر، فلا بد أن تمر الأيام. نما الكرنب وصار جاهزا للحصاد.
مر الوقت كسلحفاة هرمة، قلق ونوم وأحلام ومعارك ودموع، ورسائل ودعوات إلى الله، وشعوذة وتأمل وحب وكره، مر الوقت.
جدي، يطل من طرف المزرعة. كان ظله طويلا، هذه بشرى لي، ظله يرقص.
تأكدت حينئذ أن اليوم نهاية الماء، نهاية التراب، سنقلع الكرنب من الأرض إلى السوق، جدي دائما دقيق في الميعاد.
لا يفوته أي شيء في عائلتنا. كل مولود يولد في بيتنا يكون أول الحاضرين. هو من يوزع الأسماء علينا. قبل أن ينطق بالاسم كان ينظر في وجه جدتي، ثم يسمي المولود. كل حجر في البيت هو وضعه، كأنه أول جندي في سرية الحرب، لا يموت هذا الجندي، يشارك في وضع إشارة النصر دائما. حلمك يا جدتي صار جاهزا.
مد يده يتحسس أوراق الكرنب، فقطع ورقة، ثم مضغها. بقيت في فمه دقيقة، ثم بلعها، وأشار بيده ناحيتي، فجئت أركض. «ماسة، الكرنب جاهز للحصاد، لا بد أن نجمعه الليلة بسرعة، أنا خائف من جنود الجدار، وغدا لا بد أن يكون في السوق. سمعت أن سعره مرتفع. ماسة، اجمعي كل من في البيت، الآن.»
وبعد لحظات، كانت كل العائلة تقف وسط المزرعة. وضع مزيون على رأسه غطاء أسود، وبيده سكين كبيرة، رفعها إلى السماء وقال: «هيا بنا لننهي المعركة.»
ضحك جدي، وضحكنا معه على حركات مزيون. انطلقنا نحضن الكرنب، ونحصده برفق.
كانت تصدر أصوات من الأرض كأنها أغان، ورائحة الكرنب تفوح في المكان، كأنها رائحة الكالونيا.
روحك يا جواد في المكان، روحك يا جدتي ترفرف علينا.
توزعنا كجنود بين ممرات المزرعة، يقطف جدي الكرنبة، ويرميها باتجاه أمي، فتعطيها أمي لمزيون، ومزيون يعطيني إياها.
بدأت الكومة تكبر، وعشرات من رءوس الكرنب تتجمع. كان منظر ظلها جميلا، كأنها جبل عظيم.
هذه فرصة رائعة أن يمارس مزيون مهارته في لعبة كرة القدم، حين كان يلقي جدي عليه الكرنبة، فيقفز في الهواء كحارس مرمى، ويلتقطها ببراعة، ويبتسم الجميع.
كنا نتحرك بسرعة، كدنا أن نجهز على نصف المزرعة، فأشار جدي لنا بالتوقف، ونادى: «ماسة، كم عدد الكرنب في الكوم؟» قلت له: «ما يقارب خمسين رأسا.»
فرد: «هذه آخر كرنبة اليوم، لا بد أن يمر أسبوع ونجمع الباقي. مزيون سوف نختبر مهارتك في التقاط آخر حبة.»
ألقاها في الهواء ناحية مزيون، فقفز في الهواء، وحاول أن يلتقطها، ولكنه فشل؛ لأنها سريعة. لم تسقط على الأرض؛ فهناك شخص آخر التقطها، إنه أبي وعمي خلفه.
أبي وعمي، لو نعلم أننا سوف نراكم يوم الحصاد، لقدمنا الحصاد. جاء جدي يركض نحوهما، بعضنا ظل واقفا في مكانه، وبعضنا صار يركض ناحيتهما.
لحظة ليس فيها بكاء ولا فرح، وبكل صدق، هل نبكي في هذه اللحظة أم نضحك؟
نعبر أحيانا عن فرحنا بالبكاء، وعن حزننا كذلك، نستخدمه لهذه الحالة، أو تلك دون شعور، أو إرادة منا.
البكاء يكون بعض الأحيان لغة التعبير عن آلامنا، ونلجأ إليه لإظهار فرحنا أيضا.
إنه إذا وسيلتنا عندما يستبد بنا هذا الجدار.
وجودك أيها اللعين، يسكن الحزن في قلوبنا، فلا نجد ما نعبر به وعنه إلا بالبكاء.
لا أعرف كيف نقاتلك، وليس عندنا مفاتيح أسرار القتال!
بعض الناس يفسر حالة البكاء عند الآخرين بأنها لحظات ضعف، وهذا صحيح، ولكن ليس على الإطلاق. بعضهم يرى في البكاء جانبا عاطفيا طاغيا، وأنه ليس بالضرورة أن يكون تشخيصا لنقطة ضعف لمن يبكي.
مع أن حالة البكاء تختلف من شخص إلى آخر، من حيث تواصله ودموعه والصوت الذي يصدر عنه.
وأجمل ما في البكاء صدقه، والتلقائية التي تخيم على هذه المناسبة. بكى مزيون ودموعه كانت عزيزة، وضحك، وأضحكنا ثلاثة أشهر، أو أكثر.
قال جدي: «لا نريد أحزانا، وكذلك لا نرحب بالبكاء.» أخذ مزيون ورقة من الكرنب، وراح يأكلها، وهو يبكي، وحين رأينا هذا المشهد، ضحكنا؛ بل كاد صوت ضحكنا يحطم الجدار.
جاء صديق جدي، صاحب الحمار الذي جلب لنا شتلات الكرنب، جاء الآن ليحملها إلى السوق.
لا أعلم لماذا يأتي كبار السن في حارتنا دائما، في الوقت المناسب مثل الأنبياء؟
قال له جدي: «سوف نضع رءوس الكرنب على حمارك، وغدا في السادسة صباحا سوف ننطلق إلى السوق.»
السوق
تعالت الأصوات، صوت جواد، صوت الجزائري، صوت الجامع، صوت ياسمين كالأجراس، ضحكة جدتي. كلها كانت منبهات وأجراسا دقت في الساعة السادسة صباحا.
الفكرة بسيطة جدا، نحمل الكرنب إلى السوق، ونبيعه فقط. لكن لماذا نحن متوترون؟ جدي لم ينم، أبي يقف على الشباك، مزيون وعمي طوال الليل يأكلان، أما أنا فقد حاول النوم اجتياحي قبل ميعاد السوق بساعة، ولكني قاومت، وانطلقت مع عائلتي إلى المزرعة.
وصلنا المزرعة، كان الضوء خجولا، كأنه يحاور الظلام بالانصراف بعيدا، البرد يلدغ أطرافنا، والصمت كان نشيطا جدا في هذه اللحظة.
دخل جدي المزرعة، فوجد صاحب الحمار قد حضر قبل الجميع، فقال: «لا أحد يسألني لم جئت قبلكم، اسألوا الحمار.»
تقدم مزيون إلى الحمار، وقال له: «لماذا جئت قبلنا يا حمار؟»
ربطنا الكرنب جيدا، وركب صاحبه وجدي في الأمام. كنت أسير أنا ومزيون خلف «الكارة».
أبي وعمي ظلا في المزرعة، وقالا: «سوف نلحق بكم، بعد أن نرتب بعض الأشياء.»
قبل أن نصل إلى السوق، هناك حاجز وحيد صغير، عليه جندي، أو اثنان دائما، والجندي يكون متعاونا مع أهل الحارة.
الجندي يعرف كل واحد باسمه، من الدهشة التي تصيبنا أنه كان يصرخ بمكبر الصوت على كل واحد باسمه، وأين يسكن، وكم عدد أولاده، وما اسم أمه. لكن نحن، أهل الحارة، لا نعرف سوى أشكالهم. الحاجز مغلق، والكل مستبشر أن الإغلاق لن يطول نصف ساعة على الأكثر ويفتح، ونذهب إلى السوق. يبدو أن الأشياء لا تقدر كما نحلم بها.
بدأ الناس يتجمعون واحدا تلو الآخر، رأيت كل زميلاتي في المدرسة، ورأيت كل المدرسين، والناظر أيضا قد حضر.
تحاورنا كثيرا، والوقت طويل، وبدأ أحد المدرسين يقول للناظر: «تأخرنا عن المدرسة.»
فرد الناظر: «اصبر فقد يفتح الآن.»
انتبهت بعض زميلاتي أننا سوف نذهب إلى السوق، والكل صار يهنئ جدي بهذا العمل الرائع، والصبر على الجدار. هذا الكرنب هو أول انتصار على الجدار.
فجأة قال الجندي بالمكبر: «ممنوع دخول أي شيء كبير، الأشخاص فقط، أما السيارات والعربات والدراجات؛ فتعود إلى البيت.»
صعق من سمع هذا، الكرنب سوف يذبل، كيف لنا أن نعيده؟ لا بد من حل. أشار جدي إلى الجندي: «يا خواجة، معنا بضائع لا بد أن نذهب بها إلى السوق قبل أن تذبل.»
أجاب الجندي: «ممنوع، ممنوع، ارجع، وإلا سأطلق الرصاص عليك.»
حاولت بعض السيارات أن تدخل، ولكن الجندي أطلق الرصاص في الهواء. الكل خاف، وبدأ بالتراجع. المدرسون والناظر دخلوا، ولحقهم بعض الطلاب، وبعض المارة.
دارت في خلدي فكرة، فناديت على زميلاتي في الصف، أن يساعدنني في حمل الكرنب. كل واحدة تحمل كرنبة في ثيابها، وتنقلها إلى الجهة الأخرى من الحاجز.
بادرن في المساعدة، ووضعت كل واحدة منهن كرنبة في ثيابها. كأن عشرات من الفتيات حوامل، وكان شيئا مضحكا.
حتى مزيون وضع كرنبة في ثيابه، وحمل كرنبة في يده.
رأى الجندي المنظر، وصرخ بصوت عال: «لماذا بطونكم منتفخة؟ كأنكن حوامل.»
دخلنا الحاجز، ونقلنا الكرنب إلى الناحية الأخرى، حتى صاحب الحمار دخل مع حماره بعد أن فك «الكارة» عنه.
رحنا نركض ناحية السوق، والحمار يركض خلفنا، ومن يتعب يحمل الكرنبة على ظهره.
وصلنا السوق. فبسط جدي قطعة كبيرة من النايلون على الأرض، وصرنا نضع رءوس الكرنب عليها، ونرتبها بشكل هرمي. رواد السوق شموا رائحة الكالونيا تفوح في كل مكان.
الكل اقترب، وبعضهم اشترى دون نقاش على السعر. صديقة جدتي اليهودية المغربية تقدمت إلينا، فحاول جدي أن يبتعد، سألت: «أين هي؟ لماذا زوجتك ليست معك يا رجل؟ أشم رائحتها، أي شيء تزرعه جدتك يكون مميزا.»
كانت توجه الحديث لي.
قلت لها: «جدتي ماتت قبل أربعة شهور، ونحن اليوم نبيع ما طلبت أن نزرعه في مزرعتنا.» فبكى جدي، وبكت صديقة جدتي اليهودية. نفدت كل الكرنبات خلال ساعتين، وجيوب جدي مليئة بالنقود، كأنها مغارة علي بابا. وضع يده في جيبه، وأخرج كومة من النقود ، وأعطانا إياها أنا ومزيون، وقال: «اشتريا ما ترغبان.»
اشترى مزيون بندقية سوداء بلاستكية كبيرة، تظنها حقيقية. أما أنا فأعجبت بدفتر ملون كبير به قفل صغير، وحين تفتحه يخرج موسيقى لطيفة، اشتريته، وعدنا إلى البيت.
مرت أربع سنوات، وكل موسم نختار شيئا نزرعه، كل موسم نقاوم، ونحارب قنابل الغاز. الصبر أصبح جزءا من عائلتنا. أصبحنا مشهورين في الحارات، وكلما انتقل جدي من سوق إلى سوق، يصر الناس أن يشتروا منه. بعضهم كان يقول: «جاء الرجل الأسود، هيا نشتر منه.»
دخل جدي ذكريات الدفتر الملون
عندما أطالع دفتري أتذكر جدي الذي كان مولعا بقراءته كثيرا؛ رغم أنه بالكاد يستطيع أن يقرأ لضعف نظره الشديد.
وكنت مولعة جدا بقراءة ما أكتب في الدفتر منذ أن اشتريته، وكل يوم أدون ما أقابل.
لم أعد كذلك، وكل شيء اليوم، لم يعد كما في السابق.
كتبت في أول ورقة من دفتري:
مرت الأيام بما يشيب الرأس من الجدار.
كنت حريصة على أن أخرج بإحساس وشعور واحد، ولكني عندما فرغت اجتاحتني أحاسيس لا حصر لها، فطويت الدفتر، وألقيته بعيدا، ولسان حالي يقول: ليس هناك ما يقال.
عندما أشعر أني وحيدة تجتاحني ذكرياتي مع جدي، وتحاصرني.
هو الإنسان الوحيد الذي لم أشعر بالوحدة وأنا معه. كنا نجلس معا في المزرعة بعد المغرب قريبا من الأشجار المغروسة أمام الجدار، وكان يصر على أن يحمل كل شيء وحده نافيا عن نفسه ما أتهمه به من أنه بلغ من الكبر عتيا. يضع كرسيين و«تربيزة» صغيرة، ونجلس لشرب الشاي باللبن. عندما نجلس يمسك بيدي، ويثرثر، ويثرثر، ويقول: «أنت وحدك من يستمع إلي.» فأمازحه قائلة: «سأخبر جدتي حين تأتي لي بالأحلام، وستحطم بعكازتها ما تبقى لك من أسنان يا جدي، فلا تثرثر بعدها، ولا تشك أنه ليس هناك من يسمعك.» تنطلق ضحكة مدوية من حنجرة جدي، ويسألني إن كان قد أثقل علي، فأهز مسرعة برأسي بعلامة النفي، وأقول: «لا لا، أنا أحب أن أسمعك، وأحب أن أتحدث إليك.»
يصمت، ويصر كعادته أن يسكب الشاي بنفسه، وكالعادة أرفع الكوب فأجده فارغا، وأجد جدي قد صب الشاي في الصينية، فأهمهم بكلمات تدل على الضجر، وأمسك الإبريق، وأصب الشاي من جديد، وأقول لجدي: «كبرت.»
فيقول: «الظلام بنيتي.» وتعلو ضحكتي، يزجرني لأخفض صوتي، فأضحك حتى تدمع عيناي كعادتي، وأقول: «كبرت وربي، كبرت يا جدي، ألا ترى القمر وقد اكتمل؟ ألا ترى كل هذا الضياء والنور؟» يبتسم ويتناول كوب الشاي باللبن من دون سكر، ولعل لسان حاله يقول:
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
جدي كان يحدثني عن التصالح مع الذات، كان يحدثني عن أشياء لا أفهمها في كثير من الأحيان، فأهز رأسي، وقد أعقد حاجبي، وأقول: «لم أفهم شيئا.»
لم يكن يشرح لي، بل يقول فقط: «ستكبرين بنيتي وستتعلمين الكثير، الكثير، يكفيك أن تنصتي بهدوء لكل سكنة في الكون.» لعله كان يعني أن الحياة وحدها تفسر نفسها.
أصمت وأرفع بصري إلى السماء فيمر شهاب، وتتلألأ النجوم على صفحة السماء، ويبدو القمر في أبهى حلة، فأبتسم، وأنظر إلى جدي، فأجده يطيل النظر إلى وجوه المارة، يفترس ملامحهم، وعبثا يحاول التعرف عليهم، فيسألني من هذا؟ ومن هذا؟ «هذا جارنا يا جدي.»
فيلقي عليه التحية. «والباقون؟» «عابرو سبيل يا جدي.» «مثلنا!» «نعم.»
يغادر جدي مع جاره إلى المسجد، ويعود.
لدى جدي عادات غريبة، فهو يتناول الكوب الثاني من الشاي باللبن مع ملعقة واحدة من السكر، وقليل من البسكويت، بما تبقى له من أسنان. وأخبره أني أريد أن أنام أنا وابنتي زينة.
نعم تزوجت من شاب يشبه الجزائري، وكانت رائحته تشبه رائحة جواد، حين حضر أول مرة لبيتنا، لم أقل لا، بل بكل إصرار وافقت عليه. وبعد عام من الزواج رزقت بزينة وأسميتها على اسم جدتي.
هكذا هو جدي. عندما يطلب مني أن أتحدث، فأخبره أن ليس لدي ما يقال. «ربما، عندما أكبر قليلا يا جدي، فسيكون هناك الكثير الكثير مما يقال.» «هل تعديني بذلك؟» ويعقد إصبعه الخنصر علامة الوعد، فأفعل مثله، ويشبك إصبعه بإصبعي، ويقول مبتسما : «كنا نفعل ذلك عندما كنا صغارا.»
كنت أزور جدي كل أسبوع. آتي يوم الخميس من حارتي الجديدة، حارة زوجي، وأسهر معه حتى منتصف الليل.
يمر اليوم ولا أروع منه! وأشعر بالحياة تملأ كياني، والدموع لا تفارق عيني من كثرة الضحك. نعود وعندما تفصلنا مسافة ساعة عن المزرعة، أو أقل عن الوصول إلى المنزل، يوقف جدي عربة الحمار، لنواصل سيرا على الأقدام. وأسير معه، بطواعية، وأجد نفسي مع جدي متأبطة ذراعه، والشمس توشك على المغيب، فنرى الشفق الأحمر، وقليلا قليلا تداعبنا آخر خيوط الشمس معلنة الرحيل، فنسرع في خطواتنا حتى لا تنام زينة على كتفي، فتشعر بالبرد.
اليوم أعد جدي كل شيء وحده، حتى الشاي، فلم يترك لي شيئا أقوم به. جلسنا، وصب الشاي. كانت الغيوم تحجب ضوء القمر، تناولت الكوب فوجدته ممتلئا. وشعرت بالخوف، ولا أدري لم تناول جدي كوبا واحدا من الشاي مع ثلاث ملاعق من السكر دون أن يتكلم، ثم قال: «تصبحين على خير، ديري بالك على ابنتك زينة إنها تشبه جدتك كثيرا، أتمنى أن يكون حظها أفضل من حظ عائلتنا.» ثم ذهب إلى غرفته، وغادرت إلى غرفتي، وخلدت للنوم.
استيقظت الساعة الرابعة إلا ربعا على صوت صراخ وعويل، انتفضت مذعورة، وهرعت لأرى ما الأمر، وخوفي أن أسال من ...؟
توفي جدي، وبقيت المزرعة تقاوم، والجدار يكبر يوما بعد يوم. أبي وعمي وأولادهم كلهم يحاولون أن يقفوا أمام تهويد مزرعتنا.
دفن جدي عند آخر شجرة لوز زرعها هو وجدتي.
Página desconocida