فيدرا :
يا فتيات تروزين، يا من تقطن هذا الركن القصي من ولايات بلبس في الليل الطويل الهادئ. كم ذا جلت بفكري في فساد الحياة الإنسانية فسادا محزنا، وفي ميل البشر إلى الشر. فلم أعز ذلك إلى نقص في الطبيعة، فقد وهبت كثيرا منا الإحساس بالحق. وهدتني تأملاتي إلى هذه النتيجة: إنا نعرف الخير ونحس به، ولكنا لا نفعله. بعضنا ينقصه روح العمل من جراء التراخي، وبعضنا يؤثر المتعة المستحبة على فعل الفضيلة، وفي الحياة متع متعددة، منها الحديث المرح الذي ننفق فيه الوقت في غير طائل، والتراخي، وهو شر مستحب يجلب العار. ومتع الحياة ضربان، أحدهما ليس شرا، والآخر يؤدي بالديار إلى البؤس والشقاء. ولو أنا ميزنا هذا من ذاك في وضوح وجلاء لفرقنا بينهما ولم نطلق عليهما اسما واحدا.
كنت هكذا أهيم في بيداء الفكر العميق، وأحسب أن ليس هناك إغراء بوسعه أن يخدع عقلي، ويحمله على أن يتخلى عن مقصده النبيل. وها أنا ذا أبسط لكن ما دار بخلدي، أحسست بجراح الحب، وسرعان بعدئذ ما أخذت أفكر كيف أتحملها على خير وجه. من ذلك الحين أخفيت آلامي في طي الكتمان؛ فاللسان خداع. يسير عليه أن يقدم النصح لغيره حين يكتشف لديه الخطأ، ولكنه كثيرا ما يعود على صاحبه بالشر البليغ. ثم اعتزمت أن أحتمل جنون الحب صابرة، وأن أتغلب عليه بالعفة الصارمة. ولما لم يجد هذا في هزيمة الحب رأيت أنه أشرف لي أن أموت، ولن يلومني أحد فيما اعتزمت؛ ذلك أني ارتأيت هذا: إذا كانت فعالي فاضلة، فلا ينبغي أن تبقى مغمورة مطمورة، وإن كانت وضيعة فلا يصح أن يشهد الكثير فضيحتي وعاري. وكنت أعلم ما في هذا الهيام والغرام من فجور، وكنت أعلم أنه غرام مشين بالكرامة، ولما كنت امرأة فقد كنت أعلم أنه ممقوت مرذول. يا ليتها ماتت وعانت كل الآلام تلك التي كانت أولى من دنس سرير الزوجية بالحب الزائف! في بيوت العظماء نشأ هذا الداء، ومن هنا انتشر الوباء. وإذا لقي وضيع الفعال قبولا من ذوي المراتب العليا، عدها كل من دونهم أمورا جديرة بالمحاكاة الصادقة. وإني أمقت كذلك المرأة التي ينطلق لسانها بالعبارة الرقيقة، وهي لا تخشى أن تطوي في قلبها نية الفسق والفجور. أي فينس، أيتها الملكة، يا ابنة البحار، خبريني كيف يستطيع أمثال هؤلاء النسوة أن يجابهن أزواجهن ولا يرتعدن من الظلام الذي اتخذن منه عونا، ولا يخشين أن تجد السقوف والجدران ألسنا تذيع بها ما اقترفن من آثام؟ لن أعيش يا صديقاتي كي أجلب العار على زوجي وعلى أبنائي. كلا؛ إني أريدهم أن يعيشوا أحرارا في قلب ولاية أثينا الزاهرة، وأن يباهوا بذيوع الصيت، وأن يشتهروا بالمجد من أجل أمهم؛ لأن العقل قد ينشأ على الجرأة النبيلة، ولكنه يتخاذل مستذلا إذا أدرك ما أتت به آلام أو أتى به الأب من سيئات. والعقل الحكيم الذي يدرك قدر العدل والفضيلة يقدر الحياة الطيبة ذات الشأن الرفيع. والزمان يظهر ما يميزنا من عيوب؛ كالمرآة في يد الفتاة العذراء . وأرجو ألا أرى بين هؤلاء!
الجوقة :
ما أجمل الطهر في كل حال؛ فهو يجلب أسمى مراتب الشهرة للأحياء!
المربية :
مولاتي! لقد استولى على قلبي رعب مفاجئ، حينما سمعت أول الأمر بأحزانك. ولكني أدرك خطئي. ومن الحقائق الثابتة أن الرأي يستمد الحكمة كلما أطلنا التفكير. لا عجب ولا غرابة فيما تحسين. إن غضب الآلهة الشديد ينصب عليك انصبابا. هل تحبين؟ أي عجب في هذا! ما أكثر ما يحس بسلطان الحب. وهل أنت من أجل هذا تنبذين الحياة؟ ما أسوأ مصير من يعيش اليوم ومن يعيش في مقبل الأيام إن كان الموت منتهاهم. إن فينس - إن أقبلت بكل قواها - لا تقاوم، ولكنها رقيقة مع القلب الذي يخضع لسلطانها. أما المتكبرون الذين يتحدون نفوذها بازدراء، فهي تتملكهم وتنزل بهم شديد العقاب، وأنت بهذا جد عليمة. إنها تشق عنان السماء، وتتسلط على أمواج البحار، وكل شيء مدين لها بالوجود. إنها تبذر بذور الحب وتنبتها، وكل كائن حي على وجه البسيطة عنها نشأ. ويعلم أولئك الذين يروون تاريخ الزمن القديم، وأولئك الذين يطئون مرتاد ميوزس المقدس، كيف تعلق قلب جوف بحب سملى، وكيف مس الحب قلب أورورا الجميلة الحسناء فحملت سفلس إلى معارج السماء؟ وبرغم هذا فهما يتخذان لهما مكانا في السماء، ولم يفرا من عشرة الآلهة، بل إن هؤلاء ليعزونهما لأني أحسب أن الآلهة أنفسهم قد خضعوا لهذا السلطان، فكيف إذن لا تحتملينه أنت؟ إن أباك قد أعطاك الحياة حينما استكان للحب، فإن كنت تبغضين قيوده فالتمسي لك آلهة آخرين لهم قواعد أخرى بها يحكمون. كم رجل تظنين من أصحاب الحكمة العميقة يرى فراشه ملوثا بهذا الداء ولا يغض الطرف عنه؟ وكم والد يعين أبناءه على حب غير شريف؟ إن من الحكمة أن يمنعنا الشرف عن التصريح به. ليس من الخير للإنسان أن يسير بدقة في كل نواحي الحياة؛ فالسقوف التي أقيمت للوقاية فحسب تفتقر إلى دقة الصناعة. وكيف يبلغ شاطئ النجاة من حاقت به مثلك النوائب؟ وإن كانت الحياة قد وهبتك من الخير أكثر مما أصابتك بالشر، فهذا من فضل ربك لأنك في دار الفناء. كفي يا بنيتي العزيزة عن هذه الأفكار العقيمة، وعن هذا التأنيث؛ فإنك إن نشدت كمالا يفوق كمال الآلهة لم تبوئي بغير الملامة. وإن كان الحب قد ملك عليك قلبك فالزمي الثبات. فهذا من فعل ربة الحب، وهي على كل شيء قديرة. وإن أصابتك في الحب الآلام، فخففي عن نفسك هذه الآلام. واعلمي أن هناك طلاسم وتمائم لها قدرة عجيبة على شفاء أمراض النفوس، وسوف تظفرين من فعلها براحة الفؤاد. وما أبطأ الرجال في كشفها، ولكن ما أسرع مهارة النساء.
الجوقة :
إن ما تستحثك به يا فيدرا يسكن آلامك الحاضرة. ولكني أثني على ما سلكت، وقد يكون هذا الثناء ثقيلا على مسمعيك، وقد يبعث في نفسك ضيقا لا تبعثه كلماتها المهدئة.
فيدرا :
Página desconocida