ليعقوب بيدرمان
8 (1578-1639م). ويتمثل الطابع الملحمي في مثل هذه المسرحيات في إغراق المناظر بكثير من الزخارف والأحداث الجانبية التي لا ضرورة لها ولا تتصل كثيرا بالحدث الدرامي الأساسي.
وظل الأمر على هذه الحال حتى جاء العصر الإليزابيثي حاملا معه وعي عصر النهضة ليجعل من هذا الشكل المعتمد على الحكايات والأخبار المتفرقة شكلا دراميا يتميز بالوحدة والترابط. وهكذا وجدنا البناء الزخرفي، المعقد عند الجزويت، يخلي مكانه لبناء آخر يختار المشاهد ويرتبها بعضها إلى جانب بعض بطريقة يمكن أن نصفها بأنها غير إيقاعية، ويخضع في ذلك لقانون آخر يعنى بقوة الأثر الدرامي المباشر لا مجرد الزخرفة أو تكديس المشاهد التي ترمز إلى معنى ديني أو خلقي معين. وجدير بالذكر أن الحركة الأدبية المعروفة في تاريخ الأدب الألماني بحركة العاصفة والاندفاع أو العصف والدفع
9 (والتي تؤرخ عادة من حوالي سنة 1767 إلى سنة 1785 وتنادي بإطلاق العبقرية الخلاقة من كل القيود) قد سارت على هذه الطريقة غير الإيقاعية في ترتيب المشاهد متأثرة بمسرح الجزويت ومسرح شكسبير. ويكفي أن يتصفح القارئ مسرحية «جوتس» المشهورة لجوته ليتيقن ذلك.
لن نقف عند هذه المرحلة الطويلة التي تحتاج لتفصيلات أوفى، بل سنتخطاها لمرحلة أكثر أهمية بالنسبة لتتبعنا للظواهر الملحمية التي سبقت المسرح الحديث ومهدت له. وسنجد أن إنتاج الحركة الرومانتيكية في المسرح - ودلالته الأدبية والشعرية أكبر بكثير من دلالته المسرحية - ينطوي على ظاهرة نلاحظ استمرارها في الدراما الملحمية الحديثة من الناحيتين الشكلية والموضوعية، ألا وهي ظاهرة التأمل الذي يوقف الحدث ويكسر حاجز الخيال ويقوم بتبديد الوهم. وأوضح مثل على هذا مسرحية الشاعر الكاتب الرومانتيكي لودفيج تيك (1773-1853م) المعروفة «القط ذو الحذاء»؛ إذ نجد «حدوتة» الأطفال المشهورة تتحول إلى مناسبة لتوجيه النقد والسخرية بحركة التنوير وتكلف كتاب المسرح وغباء الجمهور ... إلخ. ويستمر التحطيم للوهم المسرحي بحيث تبدو مستويات الوهم والواقع المختلفة كأنها مسرح يكشف القناع عن نفسه أو يؤكد أنه ليس إلا مسرحا أو تمثيلا في تمثيل! بهذا يظهر الواقع والتمثيل في صورتين، تبدو إحداهما لدى الممثل الذي يكسر الموقف المسرحي ويخترق الخشبة متجها بحديثه للجمهور، وتبدو الأخرى لدى الجمهور الذي لا يتوقف عن توجيه تعليقاته أو صفيره للممثلين فيكسر بدوره حاجز الوهم ! ومن الصعب القول بأن الأمر هنا يقتصر على تذويب الشكل وحده؛ فالمضمون أيضا يذوب معه، وتصبح المسألة كشفا مستمرا للأقنعة يتعذر تفسيره من الناحية الجمالية الصرفة. ولعل التفسير الذي قدمه جورج لوكاتش لهذه الظاهرة من الناحية التاريخية والاجتماعية أن يكون هو أصح تفسير لها؛ فهو يرى أن الرومانتيكية جاءت في عصر هرب من مواجهة الواقع التاريخي للثورة الاجتماعية؛ ولهذا انقلبت لديه العاطفة إلى نوع من التهكم والمعارضة والسخرية التي تحاول أن تخلق من موقف النفي الذي وقفته لونا من الواقع تعويضا عن الواقع التاريخي الذي هربت منه إلى الخيال. ويزداد هذا التفسير وضوحا إذا ألقينا نظرة على بقية المسرحيات الرومانتيكية، ورأينا كيف يثقل السرد الملحمي والشاعرية الغنائية القائمان على العاطفة والشعور البحت مشاهد هذه المسرحيات وفصولها، بحيث تعطل التأثير المسرحي بل تلغيه إلغاء. وليس مرجع هذا إلى إدخال الراوية - كما في مسرحية تيك الأخرى «حياة وموت القديسة جنيفوفا» - ولا إلى ترتيب المشاهد الكثيرة بعضها بجانب بعض بشكل تاريخي، ولا نثر القصائد والأغنيات هنا وهناك، ولا تغيير المكان والوثب من زمن إلى آخر - فقد تزيد هذه الوسائل جميعا من فاعلية التأثير المسرحي ولا تقلل منه - بل مرجعه إلى أن «الحكاية» في هذه المسرحيات الرومانتيكية تقوم على موقف شعري خالص، بحيث يصبح المكان وسيلة للتناول العاطفي المثالي، كما يصبح الحدث سببا لخلق الموقف الشعري؛ ولهذا كان العنصر السائد في هذا المسرح هو «الجو العام» والمناظر الزخرفية الجانبية، كما أن الخوارق والمصادفات تتحكم في تكوين مشاهده، ويكثر استخدام الرمز والاستعارة والموسيقى بتأثير من كالديرون الذي أساء الرومانتيكيون فهمه (وإن كانوا قد ترجموه فيما ترجموا من روائع). وخلاصة القول أن الواقع التاريخي والمسرحي أفلت من أيدي الرومانتيكيين، وكان لا بد من الانتظار حتى يأتي نفر من المتأخرين الذين أتقنوا فن التهكم والسخرية والمعارضة بعد أن ملكوا رؤية أعمق وأشمل للواقع والتاريخ ... •••
إذا كانت أرض المسرح قد زلقت تحت أقدام الرومانتيكيين، فقد ثبتت تحت أقدام كاتبين لهما دور خطير في تاريخ المسرح الحديث. وهما كرستيان ديتريش جرابه
10 (1801-1836م) وجورج بوشنر
11 (1813-1837م) اللذان يظهر لديهما الشكل غير الأرسطي للدراما بصورة واضحة؛ فهو عند «جرابه» مرتبط بطموحه لتصوير المواقف التاريخية الكبرى؛ إذ يتمثل الواقع في نظره في عصر تاريخي بأكمله. وهو يعيد بناء هذا العصر في صور تمثل مواقف وأحوالا مفردة، وترسم لوحات ضخمة للجماهير العريضة إلى جانب لوحات أخرى ضيقة ومحدودة. هذه الرغبة في تصوير موقف تاريخي كامل تقوم - كما قدمت - على أساس نظرة ملحمية، كما تلجأ لتحقيق غرضها إلى مجموعة من الصور واللوحات المرصوصة بعضها إلى جنب بعض في شكل وثبات سريعة؛ الأمر الذي سيظهر بعد ذلك ويتأكد في الدراما الملحمية للعصر الحديث.
ويستحق بوشنر وقفة أطول وأعمق من زميله، لا لقدرته وعمقه وأصالته ومعاناته فحسب، بل لأثره العظيم على المسرح الحديث بوجه عام. وبوشنر شديد القرب من جرابه من الناحية الزمنية، ولكنه يخالفه في أنه يمهد تمهيدا مباشرا للمسرح الملحمي الحديث، بقدر ما يمهد لكثير من التيارات المعاصرة في المسرح الاشتراكي والتعبيري والشعري واللامعقول. ويزداد اهتمامنا بهذا الكاتب الطبيب إذا تذكرنا أنه لم يترك في عمره القصير كالزهور أو الشموع سوى ثلاث مسرحيات، ظلت اثنتان منها شذرتين لم يتمكن من إتمامهما. والواقع أنه لم يؤثر على المسرح الملحمي فحسب، بل ترك له ثلاثة نماذج درامية تقوم على رؤيته الفكرية والوجدانية للعالم والتاريخ والإنسان؛ ولذلك لن نقف عند حدود الشكل الفني لديه، بل ستمتد نظرتنا إلى هذه الرؤية المتشائمة المعذبة.
لا يسع الدارس لمسرح بوشنر إلا الدهشة والإعجاب بالتحول الهائل الذي تم على يديه بالقياس إلى النزعة المتفائلة المؤمنة بالتطور والتقدم نتيجة لحركة التنوير والثورة الفرنسية. إنه لا يؤمن بالتاريخ ذلك الإيمان الطيب الأعمى، بل يعتقد أنه يدوس البطل ويحطمه، ويعبث بقدره وسعادته عبثه بالدمية العاجزة المسكينة. ومسرحيته الكبرى «موت دانتون» تصور الثورة الفرنسية تصويرا متشائما، وتكفر بما تردد في عصره عن خلاص الإنسان على يد التاريخ. إن دانتون يقف على خشبة المسرح وقفة المتشكك المرتاب الذي يفكر ويطيل التفكير حتى يشل هذا التفكير نشاطه ويمنعه من إنقاذ نفسه وإنقاذ أصدقائه من حد المقصلة. ومرجع هذا إلى إيمانه بأن التاريخ يعجز الإنسان ويشل إرادته. ولن نستطيع أن نفهم بوشنر حتى نتتبع هذه الفكرة التي ستؤدي دورا هاما في تفسيرنا للدراما الحديثة، وندرس تأثيرها على بناء الشكل لديه.
Página desconocida