وقد أكثرت في سياحتي هذه من ذكر المتاحف والآثار القديمة وما يقرب منها حتى خشيت أن يمل القارئ؛ فلهذا أضرب هنا صفحا عن بعضها وأقتصر على ذكر ميدان واحد يعرف بميدان السنيورة - أي السيدة - فيه تمثال كوزيمو الأول من عائلة ميديسي وقصره القديم بني في القرن الثاني عشر، ترى على جدرانه شعار الأحزاب القديمة من حزب جلفه شعاره النسر، وحزب ميديسي شعاره البندقية، وقد قام من حزب جلفه أمراء وملوك عظام لهم شهرة في التاريخ، وأهم فروعهم ملوك هانوفر الذين صاروا بعدئذ ملوك إنكلترا، والملكة فكتوريا آخر الملكات من هذا البيت. وأما آل ميديسي فذكرهم أشهر من نار على علم؛ لأنهم اختلطوا بأكثر العائلات المالكة في أوروبا، وقام منهم سيدات حكمن مملكة فرنسا زمانا في القرون الوسطى وعرفن بالذكاء والاقتدار، وعلى مقربة من هذا القصر رواق قديم قائم على عمد من الرخام، كانوا في القرن الثالث عشر يقيمون فيه الاحتفالات لرئيس الجمهورية وزوجته؛ فتركنا هذا المكان وذهبنا إلى متحف أوفيسي الذي أسس في القرن الخامس عشر على ضفة النهر للصور الزيتية، جمعوها قرنا بعد قرن مدة خمسة قرون، فلما ضاق بها هذا الموضع بني دهليز طويل من هذا المكان إلى الضفة الأخرى سرنا به حتى إذا وصلنا إلى الجانب الآخر ذهبنا إلى قصر بيتي، وقد سمي باسم أمير اشتهر بمقاومة آل ميديسي في القرن الرابع عشر، ولكنهم فازوا عليه واستولوا على هذا القصر وأقاموا فيه، وهو الآن ملك حكومة إيطاليا يقيم فيه الملك الحالي حين يزور هذا البلد فدخلناه من باب كبير، وصعدنا إلى الدور الأعلى، أهم ما فيه القاعات وفيها خمسمائة صورة زيتية، ويتبع هذا القصر حديقة بوبولي سميت باسم أمير من آل ميديسي وأنشئت في القرن الخامس عشر فوق مرتفعات تشرف على البلد، ولما عدنا في الغد إلى ميدان المداما ومشينا في شارع كالسايولي رأينا بعض السياح يسيرون حثيثا، وعلمنا من الترجمان الذي كان معنا بأنهم يقصدون المنزل الذي ولد فيه دانته الشاعر الإيطالي المشهور؛ فسرنا معهم لزيارته، ورأينا على باب البيت لوح رخام كتب عليه: «إن الشاعر دانته ولد في هذا البيت»، وليس يؤجر البيت ولكنه يدخله السائحون بدفع فرنك فيجمع صاحبه من هذا الرسم مالا وفيرا، وفي غرف المنزل كتب قديمة استعملها ذلك الشاعر المجيد، ثم سرنا إلى متحف الآثار المصرية تجد بينها تمثال الآلهة هاتور ترضع الملك الطفل هور مهب وجد في الأقصر بالصعيد، وما زلت أتردد على متنزهات فلورانس حتى جاء موعد السفر فبرحتها وقمت إلى رومية والمسافة بينهما ثماني ساعات في سكة الحديد.
رومية
هي عاصمة الرومان وكرسي مملكتهم من قدم مرت عليها أعوام كانت فيها سيدة الممالك وحاكمة العالم المتمدن، وقام فيها أقيال الرومان العظام وقوادهم وفلاسفتهم وقياصرتهم، واجتمع فيها كبراء كل الممالك المعروفة في الزمان القديم بعضهم أسرى وبعضهم تجار أو طلاب علم، فما سادت مدينة وشادت كما سادت مدينة رومية هذه في أيام صولتها. وتاريخها القديم من ألذ فصول التاريخ وأكثرها فائدة للعالمين، لم نتعرض لذكره؛ لأننا لم نجمل غير تاريخ الممالك الحديثة في هذا الكتاب، ولكننا نذكر القارئ هنا أن رومية بنيت سنة 753 قبل التاريخ المسيحي، وكان بانيها روملوس قيصرها الأول، وظلت هي سيدة المدائن الإيطالية وقاعدتها إلى سنة 800 بعد المسيح، حين توج شارلمان إمبراطورا للغرب على مثل ما ورد في تاريخ فرنسا، وصارت المدينة من ذلك العهد مقرا لبابوات الكنيسة الكاثوليكية، وما زالت حتى الساعة مركز الملك والرئاسة الدينية معا، وكانت رومية القديمة محاطة بسور عظيم لا يقل طوله عن 12 ميلا، وله 37 بابا يخرج منه الجنود ويدخلون، واشتهرت من قدم برحباتها الفسيحة وشوارعها الكبرى التي كان القواد العظام يعرضون فيها على الرومانيين غنائمهم ودلائل انتصارهم في الحروب، فكم من ملك وأمير قاده الرومان في تلك الشوارع أسيرا ذليلا، وكم من كنز ثمين وملك عظيم غنمه أهل رومية وتاهوا به فخرا ودلالا في تلك العصور، حين كانت هذه المدينة سيدة الأرض وأهلها لا يقلون عن مليونين وخمسمائة ألف يعدون أمراء الزمان وحكام الممالك وموالي الأمم في مشارق الأرض ومغاربها وأصحاب العز العظيم.
وقد بنيت رومية الحديثة موضع المدينة القديمة على تلال عشرة، فهي كثيرة المرتفعات والمنخفضات في أسواقها وشوارعها، وهي لا تبعد عن البحر غير 13 ميلا، ولكن ميناها شيفيتا فيكيا ليست بذات أهمية؛ لأن العاصمة قريبة من مدينة نابولي، ولها ارتباط بداخلية البلاد من كل جانب بواسطة سكك الحديد، وعدد سكانها الآن نصف مليون.
ولا حاجة إلى القول إن أشهر ما في رومية قداسة البابا، ومقره، وجلالة الملك ومركزه. فأما البابا فمقره في الفاتيكان، وهو حي من أحياء المدينة قائم بنفسه فيه القصور والكنائس والحدائق والمنازل، صار مقر البابوات من بعد رجوعهم من أفنيون في فرنسا في القرن الخامس عشر، وكان البابوات يزيد الواحد منهم بعد الآخر في قصور هذه الجهة ومحاسنها حتى بلغ عدد الغرف في هذه الدائرة العظيمة عشرة آلاف غرفة، وقد أتاح لنا الحظ زيارة الفاتيكان، ورأينا على الباب حرسا سويسريا ما زال أفراده ينتقون من أهل سويسرا ويلبسون الملابس المزوقة بالألوان الباهرة على مثل ما كان الحرس يلبس في الأيام القديمة. ودخلنا القصر فرأينا قاعات رفائيل المصور العظيم حيث كان يشتغل بالهندسة والرسم مع تلاميذه، وأطلنا النظر في هاتيك الصور البديعة التي تشغل جوانب كثيرة من القصر، ولها قدر في العيون وقيمة؛ لأن مصورها أبرع من اشتهر بهذا الفن اللطيف إلى الآن، وأكثرها صور دينية كما تعلم. والذي يزور متحف الفاتيكان يلزم له أيام وأسابيع حتى يرى نفائسه ويدرك مقدار قيمته؛ فقد رأيت هنالك من النقوش والتماثيل وقبور القياصرة والآثار العظيمة المختلفة الأشكال ما يعجز القلم عن وصفه، أذكر منها تمثال أوغسطس قيصر وجد سنة 1863، وتمثال النيل من الرخام، وهو عبارة عن بلاطة جميلة حفر عليها 16 صبيا دلالة إلى أذرع النيل في زمن فيضانه، وغير هذا من الآثار شيء كثير. ولا يخفى أن الفاتيكان مركز العالم الكاثوليكي، وأن الزوار يأتون هذه المدينة من كل الأقطار ليروا آثارها وكنائسها وليحظوا برؤية قداسة البابا إذا أمكن، وهم يرونه حين يحضر للصلاة مرارا معلومة في السنة، ويمكن لوجهاء الناس أن يقابلوه مقابلة خصوصية بعد المخابرة والاستئذان، ولكن يشترط على المرأة أن تغطي رأسها برداء أسود ولا تلبس في يديها الكفوف (القفاز).
ولما كان هذا مركز رومية في العالم الكاثوليكي صار لكنائسها شهرة عظيمة وقيمة كبرى، وأشهر هذه الكنائس - بل هي أشهر كنائس الأرض طرا وأوفرها قيمة وأكثرها تحفا وآثارا نفيسة - كنيسة مار بطرس الكبرى المعروفة، بنيت سنة 1506، وما انتهى العمل منها إلا بعد مائة عام من ذلك التاريخ، واشتغل في الرسم والنقش لها رفائيل وأنجلو اللذان ذكرناهما قبل. وقد سميت باسم القديس بطرس؛ لأنه دفن في هذا الموضع، وبنى الأقدمون كنيسة صغيرة من الخشب فوق قبره ثم، شيدت هذه الكنيسة العظيمة موضع الأولى، وطولها 187 مترا والعرض 137، ومحيط قبتها 42 مترا، وهي مشهورة بهذه القبة المرتفعة، وقد أحيطت القبة بأربعمائة تمثال من الحجر، طول الواحد منها 25 قدما، وهي يراها الناس من صحن الكنيسة، وإذا وقف المرء حول سياجها رأى الناس في أرض الكنيسة صغارا؛ نظرا إلى علوه الكثير، وقد وضعوا في صحن هذه الكنيسة قياسا يعلم منه اتساع الكنائس الكبرى في الأرض، وهاك بيانها:
متر
110
طول كنيسة آيا صوفيا في الآستانة.
128
Página desconocida