وقد زرت من مدائن الإنكليز كثيرا غير الذي ذكرته لا أرى حاجة إلى وصفه، فلما عولت على الرحيل من هذه البلاد العظيمة قصدت أشهر مصايفها الواقعة على الشطوط الجنوبية - وهي مدينة بريطن هذه - لا ريب في أنها من أجمل المدن الأوروبية منظرا وموقعا، والذين ينتابونها في أشهر الصيف من كبراء الإنكليز لا يعدون، فهي قائمة بمال المصطافين من أهل لندن وسواهم، وفيها من الحوانيت والفنادق ما ليس في غيرها من مدن إنكلترا، أكثره واقع على البحر صفا واحدا طوله أربعة أميال، ومن دون هذا الصف البديع طرق جميلة على ضفة الماء يسير فيها المتنزهون وحمامات وألعاب ومشاهد بحرية من أشكال شتى، أجملها لسان من الخشب أدخلوه في البحر مسافة 1150 قدما، وفي آخره فوق الماء مطاعم وحانات وملاه تشتغل في الليل والنهار، ومن حولها الزوارق البهية تنقل المتفرجين في البحر، وقد انشرحت منهم الصدور وافترت الثغور، وزاد بهجة ذلك الموقع أنهم بنوا على مقربة منه سكة حديدية في وسط البحر يغمرها الماء وجعلوا القطار لها قاعة من الزجاج قائمة على عمد من الحديد، ولها من الأسفل عجلات تجري فوق خطوط الحديد التي يغمرها الماء، فهي إذا سارت في البحر بجماهير المتنزهين تظنها قصرا من البلور سابحا فوق الماء، ولا تعرف كيفية مسيره وعلوها عن سطح البحر 30 قدما، تدفعها القوة الكهربائية في المسير فتجعل النزهة فيها من غرائب المشاهد التي لم أر لها نظيرا في الحمامات البحرية مع كثرة ما رأيت منها في أوروبا وأميركا.
ومن مناظر هذه المدينة قصر بناه الملك جورج الرابع سنة 1787 وأنفق عليه مائتين وخمسين ألف جنيه؛ ليكون مصيفا له، وقد باعته جلالة الملكة الحالية في أوائل حكمها بخمسة وثلاثين ألف جنيه؛ لأنها لم تعول على قضاء فصل الصيف في هذه المدينة، وتقام الآن في هذا القصر بعض الولائم، وهو يحيط به عدة أبنية جميلة التزويق والنقش ترتاح النفس إلى السكن فيها، وقل أن ترى مدينة مثل بريطن كهذه تحلو الحياة في منازلها ومتنزهاتها، وسكانها نحو 150 ألفا من النفوس.
هنا انتهت سياحتي في مدائن المملكة الإنكليزية فبرحت بريطن بقطار سكة الحديد إلى نيوهافن، وهي بعد دوفر أقرب فرضة من شطوط إنكلترا إلى المين الفرنسوية، وهنا أوضح للقارئ أن الخطوط ثلاثة ما بين فرنسا وإنكلترا لبواخر الركاب، فالخط الأول ما بين ثغر كاليه في فرنسا وثغر دوفر في إنكلترا، ورد تفصيله في هذا الكتاب عند وصف السفر من فرنسا إلى إنكلترا، حتى أذهب منها إلى أميركا، والخط الثاني من ثغر بولون في فرنسا إلى فولكستون في إنكلترا، والثالث هو هذا من نيوهافن بإنكلترا إلى دبيب في فرنسا، والمسافة بينهما تستغرق ثلاث ساعات في عرض البحر. وفي الناس من يؤثر هذا الطريق؛ نظرا لاتساع البحر هنا خلافا لطريق كاليه ودوفر، فإن بحره ضيق ولكنه قصير لا يزيد عن ثلاثة أرباع الساعة وصلت من بعدها إلى دبيب، وذهبت منها بالسكة الحديدية إلى باريس قاصدا بلاد الطليان.
إيطاليا
خلاصة تاريخية
كانت إيطاليا في الزمان القديم بلاد العز والسؤدد ومقر العظمة والسلطان الواسع حينما عم ملك الرومان من رومة، وهي عاصمة البلاد من قدم، وانتشر نفوذهم في أنحاء الأرض فما بقي لغير دولتهم ذكر مدة وجودها إلى أن سطا عليها برابرة الشمال ودوخوها، ومن ثم بدأ تاريخ إيطاليا الحديث. وأما التاريخ القديم فمشهور وعلاقته بهذه الرحلة لا توجب أكثر من الإشارة إليه.
وقد كانت أكثر أجزاء إيطاليا الحالية من ممالك رومة القديمة، فلما انقسمت سلطنة الرومان شطرين، أحدهما غربي قاعدته رومة، والثاني شرقي قاعدته القسطنطينية، ظلت هذه الأجزاء الإيطالية تابعة للمملكة الغربية حتى خلع آخر الإمبراطرة سنة 476 وتولى الملك أودتشر زعيم قبائل النوثة، ثم ضاعت المملكة من يده ونالها تيودوريك ملك الإستروغوث سنة 493 بعد التاريخ المسيحي، ومن ذلك الحين لم يهدأ لبلاد الرومان بال من كثرة الهاجمين والطامعين، ولا سيما في الجهات الشمالية، وهي لم تزل آثار الرومان والقبائل الأولى كثيرة فيها، حتى إن اسم الجهة المحدقة بولاية ميلانو تسمى إلى الآن لومبارديا نسبة إلى قبيلة اللومبارديين الذين دخلوا البلاد من الجهات الألمانية وأسسوا فيها مملكة طال عهدها واشتهر أمرها زمانا، ولكن ملوكها طمعوا برومة وزحفوا عليها في القرن الثامن فاستغاث البابا، وهو يومئذ صاحب المدينة بملوك فرنسا، وأغاثه يبن وابنه شارلمان، وهو الذي أخضع مملكة اللومبارديين وضمها إلى أملاكه وتوج في سنة 800 إمبراطورا للسلطنة الغربية في رومة؛ فأعاد عزها إلى حين وقسمت الإمبراطورية على حفدة شارلمان بعد وفاته - كما رأيت في تاريخ فرنسا - فأصاب لونابر الولايات الإيطالية وظلت البلاد تابعة من بعد هذا لملوك الدولة الكارلوفنجية زمانا كثرت فيه الحروب والأهوال؛ لأن الملوك كانوا ضعفاء، والأمراء الذين طمعوا بالاستقلال كثر عديدهم . وجاء بعد هذه الحروب أوثو إمبراطور ألمانيا، ففتح الجزء الشمالي من إيطاليا سنة 950. وأما الأجزاء الجنوبية فكانت مرة تستقل ومرة تتبع الدولة الشرقية حتى آل بها الأمر إلى الاستقلال لما ضعفت الإمبراطورية، ونشأت جمهوريات وممالك كثيرة لها في تاريخ العمران ذكر كبير، أشهرها جمهورية البندقية أو فنيس التي وصل تجارها أقاصي الأرض وقام منها السياسيون والعلماء والمكتشفون، واختلطت بالأقوام الشرقية أكثر من بقية دول إيطاليا وحاربت العرب واتصلت بممالكهم زمانا، ونال تجارها الامتيازات من سلاطين آل عثمان وملوك اليابان وغيرهم. وعمت قوة بابا رومة في تلك العصور حتى صار الملوك يتذللون له ويعدون رضاءه واجبا لبقاء الملك في أيديهم، وكانت الدولة الألمانية السابقة الذكر تخسر بعض أملاكها حينا وتضيف إليها حينا، وساد في كثير من الجهات أشراف اهتضموا حقوق العامة فحاربهم الشعب زمانا حروبا طويلة انتهت سنة 1328 بتقسيم البلاد على بعض العائلات المالكة ولا محل هنا لتسميتها كلها. وفي سنة 1494 بدأت حروب طويلة بين فرنسا والنمسا على امتلاك إيطاليا فانتهى الحال بانكسار الفرنسويين في معركة بافيا سنة 1525 وتخليهم عن البلاد.
وبقيت إيطاليا وممالكها في زهاء وحروب متواليين، واتسع نفوذ البابوات فحكموا - غير رومة - أكثر الممالك الأوروبية، وقبضوا على سياسة الدول وتصرفوا بحقوق الملوك والإمبراطرة، وحدثت حروب كثيرة في إيطاليا ذكر معظمها في تاريخ الدول الأخرى، وكان أمراء فكونتي يحكمون إمارة لومبارديا وآل مدسي يحكمون فلورنسا، وفرع من آل بوربون يحكم نابولي وصقلية، وأكثر الجهات الباقية جمهوريات زاهرة نامية يرأس البابا شئونها رئاسة سياسية ودينية حتى قام نابوليون بونابرت المشهور، وسطا على لومبارديا ورومة وبقية ممالك إيطاليا؛ فأخضعها وضمها إلى أملاك فرنسا سنة 1792 ثم انتقضت عليه وساعدتها ألمانيا وروسيا وإنكلترا على الاستقلال، فعاد إليها بونابارت وأخضعها مرة أخرى سنة 1800 وتوج ملكا عليها، وسمي ابنه الصغير بعدئذ ملك رومة، وكان يوم تصرف بالممالك قد أقام أوجين بوهارني ربيبه ملكا عليها، ثم صار يوسف أخو نابوليون ملكا لنابولي، فما دام هذا الحال طويلا؛ لأن إيطاليا خرجت من قبضة الفرنسويين بعد سقوط نابوليون وعادت إلى الاستقلال فقويت شوكة ملوك نابولي وصقلية وهم من آل بوربون، وملكت النمسا جزءا مهما من شرقي إيطاليا فما تخلت عنه إلا في أول حكم فرانس جوزف الإمبراطور الحالي حين ساعدتها فرنسا على الاستقلال في سنة 1899.
فكتور عمانويل الثالث ملك إيطاليا.
وبينا البلاد في هذه الحالة تتنازعها عوامل الحرب والثورة قام في سردينيا فكتور عمانوئيل ملكها المشهور بالدهاء، وبدأ بتحريض الناس على الانضمام إلى رايته وساعدته فرنسا وإنكلترا؛ لأنه انضم إليهما في حرب القرم وحارب روسيا معهما، وكان من حسن حظه أنه رزق وزيرا عظيم الذكاء واسع العقل اسمه كافور، وقام على أيامه غاريبالدي بطل إيطاليا المشهور فحارب ملوك لومبارديا ونابولي وغيرهم، واستخلص البلاد منهم فجعلها مملكة واحدة ثم دخل رومة في 20 سبتمبر من سنة 1869 بمساعدة الجنود الفرنسية واغتصب القوة من البابا؛ فصارت إيطاليا كلها مملكة واحدة عاصمتها رومة كما كانت في الزمان الأول، ومات فكتور عمانوئيل أول ملوك إيطاليا بعد إعادة حياتها في 9 يناير من سنة 1878 فخلفه ابنه أومبرتو، عرف بين قومه بالبساطة الزائدة وحب الرعية والميل إلى الإصلاح والعدل، وقد تقدمت إيطاليا في أيامه تقدما يذكر في الصناعة والتجارة وحاولت أن تمد سلطانها وتعمر الجهات القاصبة، فملكت بعض الحبشة والصومال وأبرمت محالفة مشهور أمرها مع النمسا وألمانيا، وهي الآن من الدول العظيمة في الأرض، وقد بقي الملك أومبرتو على سرير إيطاليا إلى يوم 29 يوليو سنة 1900 حين كان راجعا إلى قصره في مونزا وانقض عليه في العربة فوضوي أطلق عليه الرصاص فقتله، وكان حزن أوروبا وإيطاليا - على نوع أخص - شديدا جدا على هذا الملك، وكان ولي عهده - وهو جلالة الملك فكتور الحالي - يومئذ متجولا في البحر مع عروسه، فلم يعرف بما أصاب والده إلا بعد الحادثة بيومين حين أسرع إلى رومة واستلم مهام الملك. وقد اقترن هذا الملك بالأميرة هيلانه كريمة البرنس نقولا صاحب الجبل الأسود، ورزق منها ثلاث بنات وابنا واحدا، واشتهرت هذه الملكة بما أتته من المساعدة في الزلزال الذي أصاب مدينة مسينا، فكانت تداوي الجرحى وتواسي المصابين، ولما هاج جبل النار في نابولي وجعل يقذف بنيرانه كانت هي في مقدمة الجميع لترى بنفسها الخطب وتسعف المصابين، واعترف الملوك بحسن عملها فأرسلوا إليها الوسامات تذكارا لما قامت به من واجبات الإنسانية والمروءة. وسكان إيطاليا - حسب الإحصاء الأخير سنة 1906 - نحو 36 مليونا ونصف مليون .
Página desconocida