هذا كله تراه في الجهة اليمنى من ميدان الشمس وإلى ناحية شارع القلعة، وأما الجهة اليسرى من هذا الميدان فيتفرع منها شارع عظيم مقابل لشارع القلعة المذكور يعرف باسم مايور، وهو يؤدي إلى بعض ما في مدريد من المشاهد المأثورة مثل دار السلاح، وهي معرض كبير للأسلحة لا تقل القطع فيه عن 12000 قطعة، ومن أهمها ملابس ملوك إسبانيا القدماء وأسلحتهم، وهم بهيئة الفرسان غرقوا بالزرد فما ظهر منهم غير العيون، وهنالك سروج عربية مزخرفة بالفضة والذهب، وسيوف من حديد طليطلة الذي اشتهر في الأرض شهرة السيوف الدمشقية، وآثار أخرى عليها كتابات عربية، مثل: «نصر من الله وفتح قريب» على شفار السيوف أو «بسم الله الرحمن الرحيم» على الملابس، وغير هذا مما هو مألوف في هذه البلاد.
ويلي دار السلاح هذه قصر الملك بني سنة 1764، وبلغت نفقاته نحو ثمانين مليون فرنك؛ لأنه جعل حصينا متينا وقصرا فخيما في آن واحد، فيه ثمانمائة غرفة وأمامه عدة حدائق متقنة الوضع، فمساحته مع الحدائق 80 فدانا، وقد جعلوا الدور الأسفل منه لوزارة الخارجية ووضعوا في ساحته تماثيل القياصرة الرومانيين الذين نشئوا في إسبانيا وذكرناهم في المقدمة التاريخية، وفي هذا الدور عربات الملوك القديمة تستعمل في الحفلات الرسمية، ولها بغال عظيمة لجرها يتفاخر بها الإسبانيون تفاخر غيرهم بالجياد الصافنات، وأما الدور الأعلى فمنه قسم خص بالملك، وقسم آخر للمقابلات الرسمية والتشريفات، وهو لا يقل عن ثلاثين غرفة واسعة متقنة الترتيب ثمينة الرياش تليق بأبهة الملك وذوق الإسبانيين، وهم أهل إعجاب بوطنهم وصلف وكبرياء كما تقدم. وقد رأيت غرفة السفراء في هذا القصر وهي قاعة فسيحة فخيمة ملبسة جدرانها بالقطيفة النفيسة، ولها برواز من القصب وفيها 12 ثريا كبيرة تتدلى منها المصابيح العديدة، وفي صدرها كرسي الملك ما بين أربعة سباع من النحاس المذهب وتماثيل تشير إلى الحكمة والعدالة، وصورة الدولة الإسبانية حانية رأسها أمام الكنيسة وهي علامة التدين وتمسك إسبانيا بالمذهب الكاثوليكي، وفي هذا القصر كنيسة صغيرة ولكنها بديعة الصنع قامت على عمد من الرخام الأبيض، وفيها من نفيس الصور وجميل التذهيب والزخارف ما يستحق الإعجاب، وفي الدور الأسفل من هذا القصر موضع للعربات التي أقلت ملوك إسبانيا السابقين وأكثرها بني على الطرز الشرقي ولبعضها جمال كثير، هذا أهم ما يذكر في عاصمة الإسبان غير مرسح الثيران وبيانه في الفصل التالي.
قتال الثيران
أفردت لهذه العادة الغريبة فصلا خاصا بها؛ لأنها أهم ما يروى عن إسبانيا وأشهره؛ ولأن الأهالي لهم بها شغف يقرب من الهوس والجنون، وهي عادة منكرة قاصرة على أهل إسبانيا لا تليق بتمدن الأيام الحديثة، ولا تزيد هذه العادة عن مجزرة للخيل والثيران، وفيها خطر عظيم لبعض الأفراد يلذ للإسبانيين التفرج عليها إلى حد يفوق التصديق، فإنهم يأتون بثيران كبيرة قوية القرون يعلفونها ويحضرونها للقتال في مراسح واسعة، ثم إذا جاء موعد الفرجة هيجوها وحرشوها ودفعوها إلى ذلك المرسح، فتجد أمامها رجالا يهيجونها بالشالات الحمراء والوخز بالحراب الدقيقة حتى إذا اشتد هياجها؛ جاءها فرسان يقاتلونها بالحراب فتهيج هذه الثيران وتهجم على الفارس والفرس فتبقر بطن الفرس وتلقي الرجل في الخطر، وإذا انتهت من فعلها هذا قتلوها وجروها من المرسح مع الخيل المقتولة، فالفرجة كلها على هذه الحيوانات كيف تقتل. كل هذا يراه المتفرجون رجالا ونساء ولا يتأثرون، بل هم إذا اشتد الهول وكثرت فظاعة المنظر ورأوا دماء هذه الحيوانات المعذبة تسيل طربوا وفرحوا وصفقوا لها كثيرا، وقد ماتت عواطف الحنان والشفقة منهم بفعل تلك العادة.
قصدت مرسح الثيران في مدريد يوم الأحد، فما قدرت على ابتياع التذكرة لدخوله إلا بعد عناء كثير تكبده صاحب الفندق؛ لأن الإقبال على تلك الفرجة كان فوق ما تتصوره العقول. ومرسح مدريد أعظم مراسح الثيران في إسبانيا كلها، وفي صدره أماكن للأسرة المالكة، ومع أنه يضم خمسة عشر ألفا فما بقي فيه موضع خاليا، وكان الوصول في ذلك النهار إلى المرسح عسرا جدا من كثرة الزحام ووفود القاصدين ومنظر الناس فيه وهم 15 ألفا غريبا؛ لأنهم قعدوا طبقات طبقات تتدرج من أرض المكان إلى سقفه، وفي الأسفل ساحة كبيرة للمصارعة يحيط بها حاجز من الخشب غير مرتفع ولكنه متين، وهو يفصل الساحة عن مقاعد المتفرجين، وفي إحدى الجهات من تلك الساحة أبواب من الخشب تفتح وتقفل من الوراء ليدخل منها المبارزون والوحوش، وكان الناس ينتظرون بدء القتال بذاهب الصبر حتى إذا فتح أحد الأبواب وبدأ الفصل الأول صفقوا كلهم طربين معجبين، ودخل ثور كبير جعل يركض في عرض الساحة كأنما هو يقول هل من مبارز، هل من مناجز، فعندئذ دخل الساحة رجلان يلبسان الجوخ الأحمر المقصب، ومع كل منهما شال أحمر يحرش الثور ويهيجه فجعلا يغضبانه بإبراز الشال حتى هاج وغضب ففرا إلى ما وراء الحاجز الخشبي الذي ذكرناه.
قتال الثيران في إسبانيا.
ثم دخل رجلان آخران على شاكلة من ذكرنا ومعهما باليد اليسرى شال أحمر وباليمنى حراب، طول الواحدة نحو متر ونصف ملبسة بالقماش الأحمر ويتدلى منها شرائط حمراء، فجعلا يقاتلان الثور بهذه الحراب وهما كلما تقدم عليهما عرضا له الشال الأحمر فينطحه تشفيا منه وغيظا، وبعض هذه الحراب المذكورة تغرز في رقبة الثور وبعضها لا يعلق بها بل يسقط إلى الأرض ويوجب سقوطها ازدراء الحاضرين، كما أنهم يصفقون استحسانا إذا غرزت الحربة في رقبة الثور، فلما سال دم هذا الثور واشتد هياجه دخل ثلاثة فرسان على الخيل معهم حراب طويلة جعلوا يطعنونه كل في دوره، فعند ذلك هجم الثور على الحصان الأول ووضع رأسه تحت بطنه فبقره وألقاه شطرين ثم هجم على الحصانين الآخرين وفعل بهما كالأول حتى وقعت الأفراس الثلاثة تتخبط بدمائها، وأما الفرسان فإنهم سقطوا إلى الأرض لما قتلت خيلهم، وفي الحال فروا من وراء الحاجز ما عدا أحدهم أغمي عليه فبادروا إلى إعانته وانتشاله حينما كان الثور يدوس جثث الخيل وينظر إلى الحاضرين نظر الفائز المنتصر.
وبعد هذا دخل محارب يسمونه ثوريرو - أي الرجل الثوري - ومعه الشال الأحمر والحربة، فجد في محاربة الثور إلى حد أن وقف الاثنان ينظر أحدهما إلى الآخر غيظا، فحينئذ طعن الرجل الثور بحربة في رقبته فأخرجها من الجانب الآخر فلما وقع هذا الثور المسكين قتيلا هاج المتفرجون طربا وصفقوا استحسانا، وصدحت الموسيقى فرحا بتلك المذبحة، ثم دخلت عربات ورجال جرت الجثث إلى الخارج. هذا هو الفصل الأول من صراع الثيران يتبعه فصلان آخران لا يختلفان عنه كثيرا، غير أنه يدخل في الدور الثاني بنات على ظهور الخيل بيدهن الحراب فيحاربن الثور، ولا يعرضن أنفسهن ولا خيلهن للخطر بل يلتزمن الفرار كلما هجم الثور عليهن.
وقد تأثرت من هذا المنظر وأذهلني فقد الشفقة من صدور القوم، حتى إني عند خروجي من هذا المرسح سألت رجلا منهم رأيه في ذلك، فأجابني بما يفهم منه أنهم يعدون ذلك القتال براعة وجرأة، وأما الخطر الذي يلحق بالرجال المحاربين فلا يعتدون به؛ لأنهم يعدون ذلك من أشكال الإقدام ولا بد في رأيهم من قاتل ومقتول في كل معركة، وقد زادني عجبا أن فقد الشعور إلى هذا الحد غير قاصر على الرجال بل هو يشمل النساء والأولاد والبنات، وهم جميعا كانوا يصفقون طربا لتلك المناظر الفظيعة.
وفي كل مدينة إسبانية تذكر مرسح لقتال الثيران تنشر إعلاناته في الجرائد؛ فتأتيه الناس خاصة في السكك الحديدية من الأماكن والقرى البعيدة؛ لما اشتهر عنهم من الولع بهذه المناظر، وقد حاول بعض الفرنسويين أن يدخلوا هذه العادة إلى فرنسا، وأنشئوا لذلك محلا في غاب بولونيا في باريس؛ فعارضتهم الحكومة واضطروا إلى إبطاله، ولا عجب في هذا، فإن أكثر الأمم المتمدنة لا تخلو من عادات وحشية تلام عليها، من ذلك عادة الملاكمة عند الإنكليز ولها مراسح خاصة يتلاكم بها الرجال الأقوياء ويسيل الدم من وجوههم على مرأى من الألوف وهم يفرحون لبلواهم ويطربون ويصفقون للفائز من المتلاكمين.
Página desconocida