استوكهولم
لما تركت بلاد الدنمارك قمت في باخرة إلى أسوج، ومرت الباخرة في خليج السوند الفاصل بين البلادين، فوصلت بعد مسير ساعتين أو أقل إلى مالمو، وهي أولى الفرض الأسوجية من ناحية الجنوب، ومركز ولاية سكان التي اشتق منها اسم سكاندنافيا، وهو اسم ممالك الشمال الثلاث وبعض ما يجاورها. ومالمو هذه بلدة صغيرة فيها 50 ألف نسمة، ولكنها نظيفة مرتبة مثل أكثر المدن الأسوجية، ولها بعض الشهرة بصنع القفاز (الجوانتي أو الكفوف)، وهي على بعد 618 ميلا من العاصمة ستوكهولم أو 16 ساعة في القطار تفرق بينهما أراض بديعة المناظر كثيرة الجمال، ويزيدها رونقا أن بحر البلطيق إلى جانب من الطريق الذي يمر به القطار والجبال إلى الجانب الآخر، فلا يشعر المسافر بشيء من التعب أو الملل في كل تلك المسافة؛ لأن تغيير المناظر المفرحة يتبعه انقطاع الغبار لصلابة الأرض وكثرة الأمطار وإتقان العربات في القطار، ومررنا باثنين وثلاثين محطة بين مالمو وستوكهولم، هذا غير القرى الأخرى التي لم يقف الرتل فيها فكنا نرى في كل ناحية الحراج الفخيمة والبساتين الجميلة والمزارع النضرة والبيوت البهية، والناس يشتغلون بزراعتهم اشتغال الذي خلا باله من الهم وأمن غدرات الدهر، والأشجار تتدلى منها الأثمار المختلفة في كل جهة، وهي دليل اجتهاد الأهالي في إنمائها فأثر فينا منظر هذه البلاد تأثيرا عظيما.
وأما مدينة ستوكهولم عاصمة أسوج فعدد سكانها 350000 نفس، ويضرب المثل بجمالها وبهائها؛ لأنها واقعة في أرض بعضها جزر يصلون من إحداها إلى الأخرى بالزوارق المتقنة أو الجسور البديعة، وبعضها في منبسط من الأرض فسيح المجال وبعضها على مرتفعات وهضبات متدرجة في الارتفاع، ولها منظر يقرب من منظر البندقية في جزرها، ومن منظر الآستانة في قرنها الذهبي وروابيها البهية، وقد زادها حسنا ورونقا أن معظم أبنيتها من الحجر المنحوت، لا طلاء يكسوه ولا دهان، وبعضها من الطوب الأحمر تفصل بين طبقاتها خطوط بيضاء من الكلس، وفي حدائقها وبعض طرقها أيضا صخور صوانية كبرى تركت على حالها الأصلية عند تنظيم المدينة، وأشياء أخرى غير هذه تميز ستوكهولم عن سواها وتجعلها من أجمل مدائن الأرض بلا مراء، هذا غير أنها نظيفة في كل جوانبها لا رائحة تعرف عنها ولا أقذار متراكمة ولا تراب يطير غبارا فيعمي الأبصار، ولا دخان ينعقد في الجو من كثرة المعامل التي تدور بالبخار، ولا بلية أخرى من مثل ما يعرف عن أكثر مدائن الشرق، فلا غرو إذا تغنى الشعراء بمدحها ونظموا القصائد الحسان في وصفها، فإنها تستحق الذي قالوا عنها، وقد أوصلها الملوك الحديثون من آل برنادوت إلى درجتها الحالية بالدأب والاجتهاد وحسن الإدارة، فإنها لم تكن شيئا يذكر قبل أول هذا القرن، بنيت سنة 1255 واسم مؤسسها جارل برجر جعل من حولها حصونا ترد غارات الأعداء، وكان هجوم الدنماركيين عليها في العصور الخالية كثيرا؛ فإن الملكة مرغريتا غزتها سنة 1389، وكرستيان الأول فعل مثل ذلك أيضا في سنة 1520، وغيرهما أغار عليها كثيرا، فلم يترك هؤلاء المهاجمون لها وقتا تتقدم فيه وتنمو، إلا أنها لما استقلت من بعد أيام جوستافوس فاسا - الذي ذكرناه في فصل التاريخ - نمت وتقدمت حتى إذا تولى برنادوت أمرها في أول هذا القرن - وهي يومئذ لا يزيد عدد سكانها عن 75 ألفا من النفوس - زادت في العمران واتسع نطاقها، وبنيت فيها المنازل والشوارع والحوانيت الكثيرة خارج دائرة الحصون الأولى، فصار عدد سكانها الآن حوالي 350 ألفا كلهم يعرفون بالتهذيب وصدق الوفاء والاجتهاد والأمانة.
ويزيد ستوكهولم جمالا أنه يرد إلى مينائها شيء كثير من البواخر والسفن الشراعية تنقل الأبضعة والمسافرين إلى هذه المدينة ومنها، ثم إن السفن الصغيرة تمخر ما بين الجزر التي تتكون منها بعض أحياء المدينة، فترى في مياه ستوكهولم أينما سرت حركة وحياة تحبب إليك الإقامة فيها طويلا، وإني عند وصولي إليها والتمتع بهذه المشاهدة من وجه عام قصدت درس ما فيها فجعلت وجهتي في بادئ الأمر قصر الملك، وهو في جزيرة شتادن حيث كانت مدينة ستوكهولم القديمة، وهذه الجزيرة يمكن الوصول إليها من بقية أجزاء المدينة إما بحرا أو من فوق جسر عظيم الشان اسمه جسر نوربرو، وهو ذات سبع قناطر مبنية من الصوان كثير الزخرف والارتفاع بحيث إنك إذا وقفت عليه رأيت المدينة من هنا ومن هنا بين يديك، والبواخر سائرة فوق الماء من كل جهة ما بين صغيرة وكبيرة فتتجلى لك المدينة بكل محاسنها من تلك النقطة. والقصر هذا بناء فخيم له ثلاث طبقات، مربع شكله طول كل جهة منه 418 قدما وفيه 516 غرفة، وهو ثلاثة أقسام: أولها للملك والثاني للملكة والثالث لولي العهد، وفيه قسم للحرس الملوكي والأعوان الكثيرين، ولكل من هذه الأقسام عمال وخدمة خصوا بالخدمة فيه، وهم يقومون بخدمة السياح والمتفرجين من الذين يقصدون التمتع برؤية ما في هذا القصر، وقد كان يوم دخولي إليه جمع من السائحين يتفرجون على نفائسه، وجلهم من الإنكليز والأميركان، فجعلنا ندور في جوانب القصر، ورأينا في الطبقة الأولى منه ملابس ملوك أسوج وأسلحتهم في الزمان السابق وأكثرهم من بدء القرن السابع عشر إلى الآن، وفي جملة ذلك: سروج من الذهب والفضة على النمط الشرقي، وسيوف وخناجر مذهبة ومرصعة قبضاتها بثمين الحجارة الكريمة، ورأيت هنالك فرسا مصبرة كان يركبها الملك جوستافوس أدولفوس الذي قتل في معركة لوتزن على مثل ما رأيت في الخلاصة التاريخية، وسيف الملك شارل الثاني عشر كان في يده حين وقع قتيلا في معركة فردركشاد، وهناك رايات وأسلحة وأشياء أخرى يعرف منها تاريخ أسوج أو بعضه، ولأكثرها علاقة بحروبها الماضية مع الدنمارك وبولونيا وروسيا وغيرها من الممالك الأوروبية.
ثم ارتقينا سلما من الرخام الجميل أوصلنا إلى الطبقة الثانية من البناء، فدخلنا قاعة الموسيقى فقاعة الاستقبال، وفي سقفها نقوش بديعة تمثل تاريخ الإسكندر ذي القرنين وحروبه، وقاعة الصور فيها من الرسوم الزيتية شيء لا يعد، فقاعة الولائم وهم يسمونها البحر الأبيض إشارة إلى لون جدرانها وكلها بيضاء ناصعة يتخللها عروق من الذهب، ولها منظر ترتاح إليه النفوس، وقاعة المجلس الخاص يجتمع فيها الوزراء وأهل الشورى تحت رئاسة الملك، والقاعة الحمراء جدرانها مطلية بالألوان الحمراء المعرقة بالذهب، وفيها صور لأفراد الأسرة المالكة، وقاعة سرافين سميت باسم وسام أسوجي قديم هو إلى الآن أرفع ما عند الدولة الأسوجية من النياشين، وقاعات أخرى غير هذا لكل منها غرض خاص، وقد ملئت جوانب القصر كله بأفخر أنواع الرياش وزخرفت بأبهى الألوان حتى أنه ليعد من أحسن القصور في أوروبا وأكثرها جمالا وإتقانا.
ورأيت معظم ما في الأقسام الثلاثة من فاخر التحف وبديع المناظر، فلما وصلت القسم المخصص لولي العهد رأيت سريرا للأطفال سوري الشكل صنع من خشب الجوز ورصع بالعاج والصدف، وقد استعملته زوجة ولي العهد لغرس الأزهار الجميلة فيه ورأيت هنالك أيضا صورة سعادة أحمد باشا زكي الياور الخديوي الأول، أخذتها قرينة ولي العهد تذكارا لقيام سعادته بخدمتها مدة وجودها هنا، فإنها - كما يذكر القراء - جاءت مصر مرتين وأقامت هنا مدة الشتاء كله عامين مراعاة لصحتها، فكانت الحكومة المصرية تعني براحتها وتقوم بواجب إكرامها، وهي حفظت لمصر وأميرها كل ذكر جميل.
وإلى جانب القصر ميدان واسع جميل في مسلة علوها مائة قدم نصبها الملك جوستافوس الرابع تذكارا لانتصاره على روسيا سنة 1778، وفيه تمثال جوستافوس على قاعدة تشبه دفة السفينة تذكارا لانتصاره على الأعداء في الحروب البحرية، ومن هذا الميدان يمكن الوصول إلى السوق الكبرى، وهي التي جرت فيها المعارك المشهورة في التاريخ والحوادث المريعة أشهرها حادثة قتل الأمراء والأعيان على عهد كرستيان الثاني، وهي التي ذكرناها في باب التاريخ، وقد سمي الموضع من بعدها «حمام الدماء»؛ لكثرة ما أريق فيه من دماء النبلاء والأبرياء.
وقد مر بك القول أن ستوكهولم يحيط بها البحر من ناحية وآكام ورواب من ناحية أخرى، فهي جامعة لأعظم المشاهد الطبيعية؛ ولهذا فإنها لم تشتهر بحدائقها اشتهار غيرها من المدن التي تحتاج إلى الحدائق، ولكن فيها حديقة بارسيلي الجميلة ينتابها الألوف بعد الأصيل من كل يوم وتصدح فيها الأنغام الشجية، وفيها مطعم فاخر له طبقتان: في الأول منهما أنواع المشروبات تؤخذ على موائد نصبت بين صفوف الشجر وفي الطبقة العليا موائد الطعام تشرف على أبهى مناظر المدينة.
وفي هذه المدينة أيضا متحف عظيم الشأن هندسه ستولر المهندس الألماني المشهور، وهو استقدم إلى ستوكهولم لهذه الغاية، وظل العمال على بنائه وزخرفته 16 سنة من 1850 إلى 1866، وللملك عناية كبيرة بهذا المتحف وما فيه، وهو جامع للآثار الكثيرة لا تخرج في وصفها عما تقدم ذكره من المعارض التي شرحنا أمرها في غير هذا الموضع، ولا يسمح لنا المقام بالإسهاب فيها الآن.
وفي هذه المدينة نفق تحت شاهق الجبل يخترق الأرض ما بين المدينة وأطرافها في الناحية المقابلة لها، كان الغرض من حفره تسهيل الانتقال بين الجهتين، وقام بعمله مهندس من مهندسي البلاد على نفقة نفسه بطلب من الحكومة، اشترطت عليه ألا يجبي لنفسه من المارة رسما يزيد عن عشر بارات على كل فرد منهم، وأن يتمتع بأرباح مشروعه مدة عشرين عاما، ثم يصير النفق ملكا لبلدية ستوكهولم فتم ذلك، وأثرى صاحب المشروع، ثم انتقل النفق إلى المجلس البلدي، فهو ينفق إيراده على ما يفيد المدينة ويزيدها نظاما وقد تسهل المرور على الناس في تلك الناحية كثيرا.
Página desconocida