وأصبحت في اليوم التالي فقصدت المين الحربية، وفيها الاستحكامات صفوفا، وقد تقدمت الإشارة إليها، وبعضها يعد موقعه من أجمل المواقع وتولم فيه الولائم العسكرية الفاخرة، وعلى مقربة منها ميناء التجارة، وهي واسعة كبيرة ترى فيها من أشكال السفن والبواخر والأبضعة ما يعسر عده، وأكثر السفن في ميناء كوبنهاجن إنكليزية؛ لأن للإنكليز أوسع المتاجر مع أهل هذه البلاد، وهم يشترون من إنكلترا الحديد والفحم الحجري، وبعض المصنوعات ويرسلون إليها كثيرا من حاصلات بلادهم ومصنوعاتها، ويقرب من هذه المين مطعم من الطبقة الأولى بين المطاعم المعروفة، بني على مرتفع من الأرض وأكثر الذين يقصدونه ضباط من أسطول هذه البلاد والدوارع التي تزورها. وأذكر أني رأيت من ذلك المطعم عربة فاخرة يجرها فرسان من جياد الخيل، وقد لبس سائقها والخادم الآخر إلى جانبه القطيفة الحمراء مزركشة بالقصب، فسألت الترجمان عن حقيقة أمرها، وعلمت أنها جلالة الملكة الحالية، وهي أميرة أسوجية لها ثروة طائلة وهبت منها نصف مليون جنيه لابنها الثاني البرنس شارل ملك نروج الحالي عند اقترانه بالبرنسيس مود ابنة ملك إنكلترا، وهي ابنة عمته كما يذكر القارئون، وقد اشتهر ملك الدنمارك والملكة بالأدب وحب الدرس والمطالعة، وهما على شاكلة الملك السابق في البساطة وحب الفقير، فالناس يميلون إليهما كثيرا ويسرون كلما التقوا بواحد من هذه العائلة الكريمة.
وقصدت بعد ذلك الحديقة العمومية، وهي من أجمل الحدائق اشتهرت باتساع مروجها البهية، حيث يغطي الأرض عشب قصير سندسي مرقط بأشكال الأقحوان والزهر الجميل على نسق يحيي في النفوس ذكر الجمال الطبيعي، وتفوح من تلك الأزهار روائح عطرية أكثرها يتضوع من الورد الكثير المزروع في هذه الحديقة على أشكاله، ولا حاجة إلى القول إن في هذه الحديقة من الأبنية والمشاهد ما في سواها، وقد أسهبت في وصفه غير مرة فأتركه كما تركت الحديقة يوم زرتها وتوجهت إلى متحف الآثار القديمة في كوبنهاجن، وهو من المشاهد المعدودة في هذه العاصمة، وقد قسم ثلاثة أقسام: أولها قسم التاريخ القديم ويليه قسم العصور الوسطى ثم قسم التاريخ الحديث، فترى في الأول أشكال الأسلحة الأولى من الحجر والصوان، وبعض الحراب والسيوف والرماح والنبال، وما كان يستعمله الأولون من آنية الطبخ وأمشاط من قرن الجاموس وصناديق من قشر الشجر وأدوات أخرى لا محل لذكرها تمثل حالة الأوائل وكيفية معيشتهم وحروبهم أتم تمثيل. وأكثر ما في القسم الثاني ملابس وأسلحة لفرسان العصور الوسطى ونقود من أيام شارلمان ومن قام بعد أيامه من ملوك الدول الأوروبية، وقد رتبت حسب تاريخ ضربها والممالك التي ضربت فيها وأكثرها يدل على تقهقر الصناعة في العصور المتوسطة؛ فإن الأولين أتقنوا النقش والحفر والرسم لا سيما في أيام الرومان واليونان الذين تشهد آثارهم الكثيرة أنهم وصلوا درجة عظيمة من التقدم في هذه الفنون الجميلة، فلما انقرضت دولتهم وكثر ظلم من خلفهم استولى الجهل على العقول وسميت تلك الأزمان بالعصور المظلمة؛ لما اشتهر عن أهلها من الجهل الكثير، فما أفاقوا من تلك الغفلة إلا في القرن الخامس عشر حين هبت ممالك أوروبا الحالية إلى إتقان العلم والصناعة، وأخذت شيئا كثيرا عن العرب، وهم والحق يقال تفردوا في أيام دولة الأندلس بالعلم والارتقاء، وأوصلوا معارف الأولين للآخرين فلهم على الحضارة فضل لا ينكر.
وأما القسم الثالث من هذا المتحف ففيه آثار جمة معظمها يشير إلى حوادث مشهورة في تاريخ أوروبا عموما والدنمارك خصوصا، بينها كتب غريبة في جملتها كتاب هندي ألفه واحد من أدباء الهند وقدمه لملك إنكلترا الحالي حين زار سلطنة الهند سنة 1876، وهو ولي العهد وفيه قصيدة ترجموا بعض أبياتها للإشارة إلى ما في التعبير الشرقي من الغرابة على ذهن الغربيين، وقد قال الهندي في أحد تلك الأبيات مخاطبا للأمير إن: «أين اللؤلؤ والكافور والقمر منك! فإن في القمر نقطا سوداء تشوه وجهه، وفي اللؤلؤ ثقوبا تقلل متانته، وللكافور رائحة تطير ولا تبقى، وأما أنت فإن شهرتك ناصعة البياض وهي صلبة وباقية.» وهي معان تخطر في بال الشرقي كما لا يخفى.
وسرت بعد ذلك لمشاهدة معرض للتماثيل يصنعونها من الشمع على شكل الرجال والنساء من مشاهير العصر الحالي والعصور الماضية، وهو له نظائر في أكثر العواصم الأوروبية يرى فيها الغريب رجال الدولة العظام ومشاهير الأمة كأنه واقف معهم فلا يفوته العلم بهيئة الذين يذكرون بين عظماء البلاد التي يزورها، وقل من يزور أوروبا ولا تتوق نفسه إلى مقابلة هؤلاء المشاهير، فالذي لا تمكن له المقابلة يكتفي بمثل هذا المعرض الذي رأيت فيه جميع مشاهير الدنمارك وسواها، أذكر منها رسم غامبتا رجل فرنسا المشهور تقتله عشيقته، ورسم ستانلي الرحالة وهو الذي اخترق القارة الأفريقية من زنجبار في الشرق إلى مصب الكونجو في الغرب، واستغرقت سياحته هذه 999 يوما رأى فيها من هائل المتاعب ما تنوء به الرجال، وجاب الأقطار الاستوائية قبل ذلك باحثا عن لفنستون الرحالة الشهير أيضا، ثم عاد إليها ثالثة لإنقاذ أمين باشا واكتشاف بعض المجاهل، وكان قبل وفاته من أعضاء مجلس النواب في بلاد الإنكليز وأحرز ثروة من سياحته ومؤلفاته، وكان مقامه بين الناس عظيما، وإلى جانب ستانلي تمثال اثنين من نوتية الدنمارك رافقوه في بعض سياحاته، وتمثال الكونت مولتكي القائد الألماني العظيم الذي قاد جيوش بروسيا إلى ساحات النصر والظفر في حربها مع النمسا ومع فرنسا، وكان أصله دنماركيا فنصبوا له هذا التمثال هنا ، وأذكر أيضا تمثال البرنس كرستيان بن هانز ملك الدنمارك أرسله أبوه إلى نروج في مهمة فلقي هناك فتاة فاتنة بارعة الجمال وشغف بحبها، فاقترن بها على كره من أبيه، فغضب عليه الملك وحرمه الملك، وبهذا أضاع الفتى ثلاث ممالك، هي: الدنمارك وأسوج ونروج وهي يومئذ متحدة بسبب حبه لهذه الفتاة التي صوروها معه في هذا المعرض وهي في غيبوبة تفارق الحياة، وقد أمسك الشاب بيدها يجس نبضها والحزن ظاهر على محياه إلى درجة توجب اشتراك الرائي معه في الأسف الشديد، ويقول الدنماركيون إن هذا الشاب رقص مع تلك الفتاة ثلاث رقصات كلفه كل منها مملكة، وهو من الأقوال المأثورة عندهم إلى اليوم.
ولا بد من القول إن ضواحي كوبنهاجن من المواضع الكثيرة الجمال وهي يقصدها الناس بحرا وبرا؛ لأن بعضها في جزر قريبة من المدينة، منها كلامبربرج، وهي على مسيرة ساعتين إلى الشمال من كوبنهاجن واقعة على ضفة خليج السوند الفاصل بين الدنمارك وأسوج، والمنظر من المدينة إليها في غاية الجمال، فلما وصلناها أعجبنا ما فيها من القصور، في جملتها قصر كان الملك السابق يقضي فيه أشهر الصيف، والقصر بسيط وإلى جانبه قصر عظيم كان القيصر إسكندر الثالث والد القيصر الحالي يقيم فيه حين يجيء مدة الصيف، هنالك كانت الأميرات والملكات تجتمع ومعهن قيصر الروس وملك اليونان وملك إنكلترا وآل أولدنبرج جميعهم من الأسرة المالكة في الدنمارك، ويقضون أوقاتا شهية ضيوفا لملك البلاد الجليل حتى أصبحت تلك البقعة ملتقى الملوك والأمراء على عهد إسكندر الثالث، وفي كلامبربرج مروج وغياض وحراج عجيبة الإتقان والجمال تسرح فيها أسراب الأيل، وكان إسكندر الثالث الذي ذكرناه مولعا بهذه الأيائل وبالأرانب يأتون بها من أبعد الأقطار ويطلقونها في تلك الغابات فيصطادها في ساعات الفراغ، ولطالما رآه الفلاحون وحده في الغياض راجعا إلى قصره ومعه شيء مما اصطاده، وعرفوه من كبر جثته وعلو قامته فإنه كان من أكبر أهل زمانه.
وقضيت في كلامبربرج نهارا كثرت مسراته، فلما عدت إلى كوبنهاجن في آخر النهار رأيت على مقربة منها صفوفا من المنازل البسيطة بنيت من الطوب الأحمر وهي فسيحة الطرق نظيفة المنظر، فأخبرني الدليل أنها مساكن لعمال البريد والتلغراف وبعض المصالح الأخرى، والمستخدمات في هذه المصالح من البنات كثيرات في الدنمارك وسواها حتى إنهن صرن أكثر من الرجال عددا في بعض مكاتب البوسطة والتلغراف في أوروبا وأميركا، ولما كانت أجرة هؤلاء العمال قليلة لا تسمح لهم باستئجار المنازل المبنية على قواعد الصحة في المدينة، فقد بنى المجلس البلدي لهم هذه المنازل في خارج المدينة وعين لها الأجر الزهيدة فأفاد العمال واستفاد، وهذا شأن الحكومات المنظمة تنظر إلى مصلحة عمالها ورعاياها وتساعدهم على تحسين حالهم، وحكومة الدنمارك تعد - كما لا يخفى - من أحسن حكومات أوروبا نظاما، ومن أشهرها التفاتا إلى مصلحة الأصاغر والفقراء، وبناء هذه المنازل مع ما ذكرنا من الأشياء الأخرى يدل دلالة قاطعة على سهرها وحسن انتظامها.
وسرت بعد ذلك إلى قصر فردنسبرج، وهو من أجمل متنزهات الضواحي يبعد نحو عشرة أميال عن العاصمة شمالا، بناه الملك فريدريك الرابع سنة 1722 على إثر حرب مع بلاد السويد وجعله في بحيرات يوصل إليها بجسور بديعة الصنع، ولما دخلنا هذا القصر رأينا في مدخله ساحة كبرى يتوسطها بركة من الماء أحيطت بجدار من الرخام الأسود وفيها تمثال نبتون إله البحر عند الأقدمين وغيره، والماء يتدفق من 57 أنبوبة دقيقة ومن وراء ذلك غرف القصر الكثيرة قسمت إلى جناح أيسر للملك وجناح أيمن للملكة، ويحيط بالجانبين رواق على شكل شرفة فيه تحف وآثار وصور تمثل تاريخ هذه البلاد، ومن أشهرها صورة أهل هذه البلاد يهاجمون إنكلترا في القرن الحادي عشر، وصور الحوادث المشهورة وأكثرها حروب مع بلاد السويد وروسيا وصور أفراد العائلة المالكة وهم 22 شخصا بالقد الطبيعي، وصور بعض المشاهير من قواد الدنماركيين وأمرائهم، في جملة ذلك أمير البحر رانسو الذي «مات بالتقسيط» على ما يقول أهل بلاده؛ ذلك لأنه فقد عينه في واقعة ويده في واقعة ورجله في واقعة أخرى وأذنه في واقعة، وهكذا إلى أن قضى نحبه، والصور التي من هذا القبيل كثيرة لا محل لسردها هنا .
وبعد أن أقمت أياما في كوبنهاجن على مثل هذا الحال غادرتها قاصدا بلاد أسوج ونروج، ومررت بحصون كوبنهاجن المشهورة التي قاومت مدافع الإنكليز في أوائل هذا القرن، وهي التي كان بطرس الأكبر قيصر الروس يعمل فيها وجرى بينه وبين ملك الدنمارك حديث نسوقه هنا تفكهة للقراء، قال بطرس الكبير لزميله ملك الدنمارك يوما: «إني يا أخي الملك يمكن لي أن آمر من شئت من رجالي أن يلقي بنفسه من أعلى هذا البرج ولا يتردد، فهل يمكن لك ذلك؟» فأجابه الملك: «إني يا أخي القيصر يمكن لي أن أضع رأسي بين يدي من شئت من رعاياي ولا أخاف شرا فهل يمكن لك ذلك؟» وكان جواب الملك مفحما دالا على فضل النظامات الدستورية، هذا ذكرتني به الحصون السالفة الذكر، وقد مررت عليها حين مبارحتي لهذه الديار قاصدا بلاد أسوج التي ترى الكلام عنها في الفصل القادم.
أسوج ونروج
خلاصة تاريخية
Página desconocida