يقول لها الأهالي بومدوين، وهي مدينة تستحق الذكر في الضواحي، بلغتها بالعربة بعد مسير نصف ساعة، فإذا بها بنيت على أكمة، وطليت كل بيوتها بالجير الأبيض، ومن حولها صفوف الرمان والزيتون والعناب والتين، فمنظرها عن بعد جميل شهي. وقد سميت المدينة باسم سيدي أبو مدوين، وهو عالم ولد في إشبيلية من مدن الأندلس سنة 520 هجرية/1126، وتلقى دروسه في مدرستها الكبرى، ثم جعل يلقي الخطب فيها وفي قرطبة حتى انتقل إلى فاس عاصمة مراكش، فلما علم به المنصور سلطان تلمسان وسمع بكراماته، أرسل يدعوه إليه فلبى الدعوة، ولكنه توفي في الطريق، ودفن في هذه الجهة فسميت باسمه، وبني له فيها ضريح قامت المدينة من حوله.
ولما قام السلطان محمد الناصر خليفة المنصور بنى له جامعا عظيما حوى شيئا كثيرا من دقائق الصناعة العربية، وهو الآن من مشاهد الشرق المعدودة يأذنون بالدخول إليه مرتين في الأسبوع لغير المسلمين، ولا بد من أمر خصوصي في بقية الأيام من ضابط فرنسوي قابلته حين كنت هنالك واستأذنته في دخول الجامع، فأمر كاتبه أن يحرر لي الإذن، والكاتب مغربي متعمم يلبس المركوب الأحمر والجبة، ويعرف لغة الفرنسيس، فكتب لي الأمر بالعربية، وسرت به حتى إذا ناولته لشيخ الجامع وعرف أني قادم من مصر، وهي طريق الحجاز تنهد وقال لي إن أمنيته الكبرى أن يتمكن من أداء فريضة الحج قبل وفاته. وحدقت بباب هذا الجامع قبل أن أدخله فإذا هو من الأبنوس مصفح بصفائح من النحاس المذهب، وعليها كتابات دينية، وله حلقات ومطرقة من هذا النحاس المذهب أيضا، فذكرني ذلك بكنيسة مار مرقص في فنسيا وبابها.
وقد قام هذا الجامع على أربعة قناطر في طوله، وأربعة في العرض، وللقناطر عمد مستدقة من الرخام ملئت بالنقوش الدقيقة البديعة كأنها شغل الإبرة أو حفر أهل الصين على العاج، وكل عمود تختلف نقوشه عما في العمود الآخر، وجدران الجامع منقوشة على هذا الشكل أيضا، ذكرتني بنقوش السراي الحمراء في غرناطة وذكرها مشهور. والسقف عروق من خشب الأبنوس ممتدة من قنطرة إلى قنطرة تحكي سقف ديوان الأوقاف في مصر، والمحراب قائم على عمودين مستدقين من الرخام، وقد نال هذا الجامع شهرة عظيمة في أوروبا حتى إنهم يرسلون إليه الوفود حينا بعد حين لتنقل رسومه العربية دليل اعتبارهم لصناعة العرب، وقد رأيت فيه أميركيا يفعل ذلك، وعلمت أنه جاء من قبل متحف نيويورك لينقل رسوم هذا الجامع إلى ذلك المتحف النفيس.
وأما ضريح سيدي أبي مدوين فإنه إلى جانب الجامع، نزلت إليه بعض درجات فإذا الأرض مبلطة بالرخام الأبيض، والقبر مغطى بالحرير الأحمر المزركش بالذهب، وحوله حاجز من نوع المشربية، وفوقه سراج لا يطفأ نوره في الليل أو في النهار، وأعلام مختلفة الألوان، كتبت عليها الآيات الدينية. ولا يخلو هذا الضريح من الزائرين والذين يقدمون النذور من رجال هذه الجهة ونسائها، وبعضهم يعود ومعه شيء من ماء البئر المجاورة للضريح على زعم أنها تشفي من السقام. ورأيت هنالك نساء تصلي وقد التفت كل منهن بحرام ومنظرهن غريب، فما هن إلا أحرمة تتحرك، وعلمت من شيخ الجامع أن الصلاة فيه جائزة للعجائز، وأما الفتيات فإنهن يصلين في البيوت. وللجامع أوقاف كثيرة كانت مهملة قليلة الريع، فلما جاء الفرنسويون تولوا إدارة هذه الأوقاف وأجروها للأهالي، وجعلوا ينفقون على خدمة الجامع ومدرسته من إيراد المجلس البلدي.
الشلال:
ومن متنزهات تلمسان الشلال، يبعد نحو نصف ساعة أيضا بالعربة، وقد رأيت الماء فيه يخرج من صخور مرتفعة حمراء، وينصب في بحيرة يجري بعد ذلك منها ويروي الأراضي. وفي هذا المكان كثير من الحانات والملاهي، بعضها للأهالي والبعض للأوروبيين. ورأيت أولادا من المغاربة واقفين على هذه المرتفعات حيث ينحدر الماء، وهم ينتظرون إشارة الناس بالسقوط إلى البحيرة طلبا للبخشيش، وكنت أظن ذلك محالا بالنظر إلى علو المكان عن الماء، ولكنني ما لبثت أن رأيتهم يفعلون ذلك ويهوون أرجلهم إلى الأسفل ثم يسحبون إلى البر. وبعض المغاربة هنا يلبسون نوعا من القبعات الكبيرة من القش فوق ملابسهم المغربية، ويقولون إنها مظلة للوقاية من الشمس والحر بدل المظلات الإفرنجية.
مراكش
لا بد لي من الإشارة في خلال هذا الفصل إلى سلطنة مراكش أو المغرب الأقصى، وقد تقدم لي القول إن مدينة تلمسان التي كنت في شأنها واقعة على الحدود بين الجزائر ومراكش، وليس بين القطرين اتصال بسكك الحديد ولكنهم عندهم عربات ثقيلة تجرها الخيل والسفر فيها عسير، هذا غير أن المواضع التي يمكن الوصول إليها من الجزائر قليلة، وهي خالية من الفنادق للمسافرين، والأمن فيها غير مضمون حتى إن القوم يسلبون القادمين إلى بلادهم من الجزائر في كثير من الأحيان، فتتأثرهم الجنود الفرنسوية إلى ما وراء الحدود، وتقبض عليهم في أرض مراكش وتعيدهم بما سلبوا إلى تلمسان للمحاكمة فيها. وقد ذهبت إلى مدينة وجدة من مدن مراكش، وهي التي حدثت فيها معركة مدة حرب الفرنسويين مع الأمير عبد القادر الجزائري، فإن أهل مراكش قصدوا نجدة الجزائريين فلاقاهم الجنرال بوجو وحاربهم عند وجدة فكسرهم شر كسرة. وقد سارت بنا العربة إلى وجدة في سهل كثر عثيره واتسع نطاقه، يلزم لاجتيازه أيام وأسابيع، وأرضه حمراء تزرع قمحا وشعيرا وتروى من الأمطار، وبصرت من بعيد بمرتفعات لم أعلم ما هي، فقيل لي إنها سرب من الجمال تعد بالألوف، وقد عودوها أن ترعى في تلك المرابع بلا راع، ثم تعود إلى القرى من نفسها في آخر النهار. وغاية ما يقال في وجدة إنها صغيرة حقيرة، وإن حالتها مثل حالة كل المدن المراكشية، فمنازلها واطئة ليس لها إلا دور واحد، وطرقها ضيقة قذرة، ولسان أهلها عربي مراكشي لا يفهمه العربي من الأقطار الأخرى، وهم يلتفون بجلابيب الصوف فوق قمصان وملابس من القطن، وحالتهم العمومية تدل على الانحطاط. ولما رأيت أن التوغل في مراكش أكثر مما فعلت غير ممكن ، عدت إلى مدينة تلمسان عملا بنصيحة صاحب الفندق.
وعلمت بعرس في تلمسان عند رجوعي، فذهبت إليه مع ترجمان الفندق؛ لأرى عوائد القوم في الأفراح، فرأيت أن العريس ذهب إلى الحمام واستأجره في ذلك اليوم له ولأصحابه، لا يدخله سواهم، ثم سار من الحمام إلى الجامع، حيث كان المدعوون - واسمهم في الجزائر المعرسين - فسرت في الموكب، وكان في أولها المشاعل، ومن ورائها ستة يزمرون بالمزمار ورجل ينقر على الطبل، وأنغامهم شجية تروق للآذان. ويلي الموسيقى الشمعدان، وهو عصا ثخينة يحملها اثنان من طرفيها، ولها ثقوب تقرب من الأربعين عدا، وفي كل منها شمعة، ووراء الشمعدان العريس على فرس مسرج بسرج مقصب، وله شراريب من القصب، ولجامه من حرير مقصب أيضا، ويحيط بالعريس أقاربه وأصحابه، وراءهم جوقة موسيقى فيها قانون وعودان وكمنجة وقيثار، وهم يضربون عليها بلا غناء، وكانوا كلما بلغوا بيت أحد الوجهاء يعزفون نغما للرقص، فيبدأ حصان العريس بالرقص؛ أي إنه يرفع يديه ويقف على رجليه ويشير برأسه ذات اليمين وذات اليسار علامة السلام، ثم طأطأ رأسه إلى الأرض وقبلها علامة السلام. واستمر الموكب على هذه الحالة حتى بلغ بيت العريس، فترجل الرجل وسار إلى غرفته والأصحاب من حوله يلقون الهدايا بين يديه من نقود وأسلحة وأقمشة، وكنت أنا في جملتهم، وكانت الموسيقى في أثناء ذلك تصدح في صحن الدار أدوارا وموشحات يلذ سمعها، وكان مقدم الموسيقيين يهوديا يضرب على الكمنجة والبقية من المسلمين، وكانوا يقدمون الشاي والدخان والقهوة للحاضرين، وقد سرني أمر لحظته في أثناء الغناء، وتمنيت لو يقتدي المصريون بأهل الجزائر في هذا الأمر، هو أن القوم لا يضجون ولا يصيحون في ساعة الغناء، بل هم يسمعون منصتين متلذذين، وقد يقول أحدهم: «طيب الله عليكم» حين ينتهي الدور، وأحسن من ذلك أن الأولاد وصغار البنات كانوا في جملة السامعين، وهم يتحدثون بصوت خافت؛ حتى لا تعلو ضجتهم على السامعين، وهم يحلقون للأولاد شعر رأسهم، أو يتركون لهم خصلة في القمة يلبسون فوقها الطربوش المغربي، ومن دونه سترة قصيرة من نوع «الكبران»، وسراويل وحذاء أصفر. ولصغار القوم هنا نجابة وحسن وسيماء الوقار والإقدام، ولبعضهم عيون زرقاء، وليس في خلقتهم تشويه كالذي يكثر بين صغار المصريين. وأما البنات فإن محاسنهن تستلفت الأنظار، فلا تتعب العين من النظر إليهن، ولأجسامهن قوة واعتدال، ولا سيما في الأذرع والصدور، وهن يظهرن مكشوفات إلى سن السابعة في هذا السن، ويلبسن عزيزية على الرأس تختلف عن المستعمل من نوعها في تونس والجزائر، وتشبه الهرم في شكلها؛ لأنها واسعة من أسفلها، وعلوها نحو ربع متر، وهم يزركشونها بالقصب والبرق الصغير لتلمع وتبرق. وجلباب النساء هنا أحمر في أكثر الأحيان من الشيت أو الحرير، والحذاء أحمر مزركش، أما النساء فكن مصطفات فوق السطح، واحدة لصق الأخرى، وهن ملتفات بالبرانس من الرأس إلى القدم، فلا تظهر إلا عين واحدة لكل منهن حتى ترى بها ما يرى الآخرون.
من تلمسان إلى عاصمة الجزائر:
Página desconocida