ولما انتهينا من التأمل في بدائع نياغارا اجتزنا الحدود ودخلنا مدينة أونتاريو في بلاد كندا التابعة للدولة الإنكليزية، وكان البعض منا يودون لو تطول الإقامة هنا زمانا، ولكننا عدنا بإشارة أولياء الأمر إلى القطر وسافرنا إلى مدينة روتشستر، وهي يبلغ عدد النفوس فيها نحو مائة وثمانين ألفا، وقد بنيت على ضفة نهر جنسي، وعلى مقربة منها شلالان ينحدر الماء في أولهما من علو 25 قدما، وفي الثاني من ارتفاع 85 قدما، والماء هنالك عذب نقي يشبه الفضة في لونه؛ لذ لنا الشرب منه، وعلى ضفاف ذلك النهر البهي عدة معامل، منها معمل للجعة (البيرا)، لما علم صاحبه بقدومنا دعانا للتفرج على محله فسرنا إليه، وهناك فتحت لنا البراميل الصغيرة هدية من صاحب المعمل؛ فشربنا وشكرنا وعدنا إلى المسير حتى وصلنا بحيرة سنكا، وهي مشهورة بجمالها، طولها 38 ميلا وعرضها يختلف ما بين 3 أميال و6 وعمقها يزيد عن 600 قدم، ولها مزية أنها لا تجلد في فصل الشتاء. وقد بني على شطوطها منازل عظيمة وقصور فخيمة لها الحدائق الغناء، فسرحنا الطرف زمانا بمناظرها، وتابعنا السفر حتى بلغنا خور واتكنس، وهو من المشاهد العجيبة لا مثيل له في أوروبا، طوله نحو ميلين ونصف وعمقه 300 قدم، وفيه صخور هائلة الحجم وأعشاب برية بالغة منتهى الضخم، فيحار الإنسان في وصف غربته وفخامته، ويعلم منه مقدار عظمة الطبيعة وتقصير المناظر الصناعية عنها في الفخامة والغرابة. وفوق هذا الخور جسر كبير مررنا عليه، ثم نزلنا إلى قسم من أسفله على سلم من الخشب والصخور ترشح ماء من فوقنا؛ ولذلك المنظر وقار ومهابة، وصعدنا من الناحية الثانية إلى فندق بني في ذلك الموقع البديع، ومنه يرى المرء البحيرة والأودية والشعب والسهول المحيطة بتلك البقعة، فبتنا هنالك ليلة واحدة، وقمنا في الصباح التالي إلى مدينة وليمسبورت، فلما دخلناها أطلق 21 مدفعا، وجاء حكمدار البوليس ومعه نفر من رجاله لاستقبال المندوبين، وبتنا في تلك المدينة ليلة أخرى.
وفي اليوم التالي وقف بنا القطار بعد مسير ساعة في إحدى القرى الصغيرة؛ لنرى كيف تقطع الأخشاب وتنقل، فرأينا الرجال يقطعون الأشجار ويلقون بها إلى النهر من داخل البلاد فتسير من نفسها مع الماء حتى تبلغ هذا المكان فيلتقطها أصحاب المعامل بالآلات التي ترفع القطع الكبرى كما يرفع المرء القلم بأصابعه، وتنتشلها من الماء فتدخلها في آلات أخرى في دور أعلى من البناء فتقشرها وتدفعها إلى آلات أخرى تنشرها ألواحا، وهذه تدفعها إلى مكان ترص به بعضها فوق بعض إلى أن يجيء زمان إرسالها إلى المواضع البعيدة، وهي تشحن في قطر خاصة لها والعربات والخطوط وبقية اللوازم في داخل المعمل، وقد قطعت أمامنا عدة أشجار بالآلات البخارية بأسرع من لمح البصر. وفي ذلك المعمل ألواح مقطعة وأخشاب تشغل مساحة لا تقل عن مائة فدان من الأرض. وزرنا بعد ذلك مدينة هارسبرج دعيت على اسم مؤسسها المستر هارس، وهي على نهر صغير وفيها حديقة لطيفة في مركزها تمثال للمستر هارس المذكور، وإلى جانبه جذع الشجرة التي ربطه إليها الهنود حين أحرقوه حيا في سنة 1718، وكان ذلك ختام السياحة البديعة التي أعدها مديرو المعرض لمندوبي الدول واستغرقت 12 يوما، رأينا في خلالها من كرم أصحاب البلاد ولطفهم ومن اعتناء أولياء الأمر بشأننا ما أطلق ألسنتنا بالشكر، وغرس ذكر تلك السياحة في أذهاننا إلى آخر الزمان.
عود إلى المعرض:
ولما عدنا إلى أعمالنا في المعرض كان فصل الصيف قد دخل، وهجر أهل اليسار فلادلفيا وقصدوا مصايفهم في الجبال أو على شاطئ البحر، وأشهر هذه المصايف فرضة لونغ برانش على المحيط، عرفت بحماماتها ويرد إليها نحو ثمانين ألف زائر وزائرة كل سنة، وفيها الفنادق الكبرى كثيرة العدد على شاطئ الأوقيانوس بطوله. وللكبراء قصور في ذلك الموضع، منها قصر للجنرال غرانت رئيس الجمهورية، وفيها السباق المشهور للخيل يعقد مرة في العام، وتكثر مسابقة الناس إليه وتراهنهم على أي الخيل يسبق، فقصدت هذا المحل ونزلت في فندق كان فيه بعض عائلات أعرفها. وفي اليوم التالي ذهبت إلى الحمامات ورأيت هنالك لأول مرة أن الرجال والنساء يستحمون في حمام واحد بعضهم مع بعض، فأنكرت هذه العادة، وهي ينكرها كل شرقي، ولكن الذين يألفونها لا يرون فيها نكرا لا سيما وأن المستحمين والمستحمات يسترون الأبدان بملابس خاصة للحمام ولا يأتون ما يوجب النفور، وقد كان هذا الأمر قاصرا على الأميركان فصار الأوروبيون يأتونه في عدة أماكن بحرية، وقد شرحت لذة الإقامة في الحمامات البحرية عند الكلام على هولاندا وبلجيكا، وقضيت في تلك الناحية زمانا إلى أن اتصل بي خبر وصول جلالة إمبراطور البرازيل إلى فلادلفيا، وعرفت أن في نيته التفرج على المعرض فعدت إليه حتى أكون على استعداد لمقابلته إذا أراد زيارة القسم المصري. وبعد ذلك أبلغنا ولاة الأمر أن جلالته سيقابل مندوبي الدول في قاعة المدرسة الجامعة بواسطة سفيره في الولايات المتحدة؛ فذهبنا في الأجل المضروب، ولقينا من مؤانسته وضعته شيئا كثيرا، وكان جلالته يحدث كلا بما يسره، فلما وصل إلي أشار علي أن أدقق في درس طرق التعليم ونشر المعارف في الولايات المتحدة؛ لأن مصر في حاجة إلى ذلك لترقية شعبها. وفي ثاني الأيام وصلني كتاب من مندوب دولة البرازيل يخبرني فيه أن جلالة الإمبراطورة عزمت على زيارة القسم المصري في المعرض، فانتظرت قدومها في الساعة المعينة، ولما جاءت مع المندوب البرازيلي درت مع جلالتها أفصل لها وأشرح، وهي تبدي الإعجاب والمسرة حتى انتهت من قسمنا وخرجت شاكرة متلطفة.
ودعاني بعد هذه الأمور حضرة الصديق المستر ولش مدير المعرض الحالي إلى الإقامة في مصيفه أياما في جرمانتون من ضواحي فلادلفيا، فلبيت الطلب وأقمت معه ومع عائلته ثلاثة أيام، وتلك عادة عند هؤلاء القوم الكرام يدعون الغريب إلى منازلهم ويرحبون به ترحيبا، وهم يعدون كل كلمة يقولها عن بلاده علما ثمينا حتى إني لما رأيت مندوب بلد السويد بعد هذا أخبرني أنه تعرف بعائلة دعته إلى مصيفها أياما، وهنالك تعرف بعائلة أخرى فدعته وعرفته بعائلة ثالثة، واستمر على ذلك مدة شهر كامل يتنقل في تلك المصايف معززا أينما حل، وهم يتبادلون الدعوات بعضهم مع بعض بمعنى أن الذي له مصيف على البحر يدعو صديقا مع عائلته له مصيف في الجبال، ثم يزوره مع عائلته، فهم يتمتعون بكل أطايب النزهة على أشكالها بمثل هذا النظام اللطيف. وقد كان من حسن حظي أني أقمت تلك الأيام في بيت المستر ولش المذكور الذي صار سفيرا لبلاده في إنكلترا بعد أن انتهت مهمته في المعرض، وكان له ابنة لها ولع بركوب الخيل، فدعتني في أحد الأيام إلى الركوب والمسابقة على ظهور الجياد، وقدمت لي فرسا مثل فرسها، فعملت بإشارتها ووقف والدها حكما بيننا يحكم للسابق بالفضل، فسبقتها في أول الأمر، ولكنها جدت في السير ووصلت الشأو الأخير قبلي فصار الواقفون يصفقون لذلك تهنئة للفتاة بإحراز قصب السبق. وتمشينا من هنالك إلى النقطة التي حصلت فيها المعركة بين اللورد هو الإنكليزي والجنرال واشنطن محرر أميركا وكان الفوز فيها للأول. ورافقت مضيفي وعائلته يوم الأحد إلى الكنيسة، وهم لا يهزأ شبانهم بالمتعبدين كما يفعل شبان غيرهم، بل يعدون ذلك دليل العلم والتهذيب.
ودعاني بعد ذلك المستر شاربلس - من وجهاء فلادلفيا - إلى مصيفه في شستر فسرت إليه وقضيت أياما مع الرجل وعائلته في هناء ونعيم، نقضي الأوقات بلعب الأكر وركوب الخيل والنزهة في قارب بديع يمسك المستر شاربلس دفته ويقذف أولاده وبناته ترويضا لأبدانهم، وعدت بعد هذا إلى مركزي في فلادلفيا.
وحصل في هذه الأثناء أني كنت أتمشى في بعض شوارع المدينة، وسمعت الناس يجرون ويقولون النار أضرمت في المعرض، فخشيت أن يكون ذلك في القسم المصري وتضيع المثمنات التي لا تعوض فيه، وركبت عربة أسرعت بي إلى جهة المعرض والتقيت بعربات الإطفاء مسرعة، فلما دخلت حديقة المعرض علمت أن النار في فنادق بعيدة عن قسمنا، ورأيت رجال المطافئ يصبون سيلا مدرارا على النار ويخربون الأبنية المجاورة لها حتى يحصروها في دائرة معينة فأخمدت النار بعد أن أتلفت ثلاثة فنادق بعد الاشتغال ساعتين، ولم يصب أحد الناس بضر. وظللت في تنقل بين ضواحي فلادلفيا حتى جاء الموعد الذي اخترته لزيارة عاصمة الولايات المتحدة وحضرة رئيسها بناء على دعوته ودعوة قرينته، كما رأيت في الفصول السابقة.
واشنطن
والآن أتقدم إلى عاصمة هذه الدولة العظيمة وأصف بعض مشاهدها الكبرى، ولا بد من ذكر شيء عن نظام حكومتها حتى يكون القارئ على بينة من أمره، وإني ذاكر هذا النظام على وجه الاختصار، وسوف أجعل ذكره في خلال الكلام عن المشاهد حتى لا يشعر القارئ بشيء من الملل ، وتتم الفائدة.
فقد مر بك أن حضرة زوجة الرئيس غرانت لما جاءت المعرض دعتني إلى زيارة «البيت الأبيض» في مدينة واشنطن، وهذا اسم القصر الفخيم الذي يقيم فيه رئيس الجمهورية مع عائلته مدة تولي الرئاسة، بني على نفقة الدولة وأكثره من الرخام الأبيض، وفيه كل ما يلزم من لوازم المعيشة المنزلية، والخدام تصرف لهم رواتبهم من الحكومة، فلا يتكلف الرئيس غير نقل أمتعته وخدمته الخاصة فقط حتى إذا انقضت مدته ترك القصر لمن يخلفه في المنصب. وفي هذا القصر غرف فسيحة بديعة الإتقان فرشت بالرياش الفاخر على نفقة الدولة أيضا؛ لاستقبال وفود الناس والسفراء ورجال الأمة وغيرهم من الذين لا غنى للرئيس عن مقابلتهم، وهو في كل أسبوع يقابل من شاء مقابلته من الناس ويصافح الصغير والكبير، ويسير بين رجال الدولة وأصغر العمال سيرا واحدا، فلا تعرفه من بقية الرجال إلا إذا دلك إليه عارف بحاله. ومدة الرئاسة عندهم أربع سنوات يمكن أن يعاد الانتخاب من بعدها، ولكن القوم تعودوا من بعد أيام استقلالهم ألا يعيدوا انتخاب الرجل للرئاسة أكثر من مرة واحدة؛ لئلا تطول مدة حكمه ويستأثر بالأمر، فيكون في ذلك رجوع إلى الحكم الملوكي الذي ينفر منه الأميركان نفورا كبيرا. ويعد الرئيس بمثابة رئيس الوزارة والملك في الممالك الدستورية، فهو أوسع سلطة وأكبر قوة من ملك الإنكليز أو ملك إيطاليا، وله حق تعيين الوزراء من أعوانه دون سواهم، وكذلك هو يعين السفراء والقناصل من أهل حزبه، وله راتب قدره 75 ألف ريال في السنة أي 15 ألف جنيه فقط، وكان فيما مر خمسة آلاف، ويجوز لمجلس الأمة محاكمته وعزله إذا ثبت عليه إثم، وله الحق في رفض كل قرار لمجلس الأمة إلا إذا أصر المجلس على القرار بعد رفضه ولم يحصل ذلك إلى الآن، غير أن أحد الرؤساء السابقين واسمه أندرو جونسون اتهم بأمور ووقف أمام مجلس الشيوخ للمحاكمة فلم يقر المجلس على إدانته.
Página desconocida