لقد كان - رحمه الله - ورعا متقشفا زاهدا، كما كان حكيما واسع الخبرة بأخلاق العرب، قوي الشكيمة، لا يتردد لحظة في إحقاق الحق وإنصاف المظلوم من ظالمه، يرى أن أحقر أفراد الرعية وأكبر أمراء الدولة سواء أمام الحق، وهو صاحب القولة المشهورة في إحدى خطبه: «من ظلمه أمير فلا إمرة عليه دوني!»
وقد روى لنا التاريخ عن سهره على رعيته وعدله وإنصافه وديمقراطيته شيئا كثيرا، نجتزئ منه بما رواه الغزالي إذ يقول:
أرسل قيصر رسولا إلى عمر بن الخطاب، لينظر أحواله ويشاهد أفعاله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: «أين ملككم؟» فقالوا: «ما لنا ملك، بل لنا أمير قد خرج إلى ظاهر المدينة!» فخرج الرسول في طلبه فرآه نائما في الشمس على الأرض فوق الرمل الحار وقد وضع درته كالوسادة، والعرق يسقط من جبينه إلى أن بل الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: «رجل جميع الملوك لا يقر لهم قرار من هيبته، وتكون هذه حالته! ولكنك يا عمر عدلت فنمت، وملكنا يجور، فلا جرم أنه لا يزال ساهرا خائفا! (3) لماذا قتل؟
ولهذا الخبر أضراب وأشباه في سيرته الحافلة، وقد كان من الطبيعي جدا أن تنتهي حياة هذا العادل الساهر على مصالح رعيته بسلام، كما انتهت حياة أبى بكر - رضي الله عنهما - ومهما يجهد الباحث نفسه في تلمس أسباب وجيهة يعلل بها مقتله، فلن يظفر من ذلك بشيء ذي خطر؛ لقد عدل عمر، والعدل أساس الملك، وقام في الناس مثالا عاليا للشرف والنزاهة والبعد عن التحيز، وتضحية كل ما أوتي من عزم وقوة وصحة ووقت ومال في سبيل النفع والخير العام، فلم يكن يدور بخلد إنسان عاقل أن يغتال حياة هذا الخليفة النزيه العادل المحسن، إلا إذا جاز في العقل أن يفكر الساري في تحطيم مصباحه الذي ينير له الطريق، أو يقدم القاطن على هدم داره وتخريب بيته بيده! لذلك نستبعد أن تكون هناك مؤامرة مدبرة ضده، وإن كنا لا نجزم باستحالة حدوثها.
وأوجز ما نعلل به موته أن نزوة طائشة - قامت برأس غلام مأفون - قضت على حياة هذا المصلح الكبير! (4) كيف كان مصرعه؟
قالوا: خرج «عمر بن الخطاب» يوما يطوف في السوق، فلقيه «أبو لؤلؤة» - غلام «المغيرة بن شعبة» - فقال: «يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجا كثيرا.»
قال: «وكم خراجك؟» قال: «درهمان في كل يوم!» قال: «وإيش صناعتك؟» قال: «نجار، نقاش، حداد!» قال: «فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال، قد بلغني أنك تقول: «لو أردت أن أعمل رحا تطحن بالريح فعلت؟!» قال: «نعم.» قال: «فاعمل لي رحا.» •••
وكأنما نبهت في نفسه هذه الجملة خاطرا شريرا كان غائبا عنه وحركت فيها نزوة من نزوات الإجرام، فقال موريا: «إن عشت لأعملن لك رحا يتحدث بها من في المشرق والمغرب.»
ثم انصرف عنه، فقال عمر: «لقد توعدني العبد!»
قالوا بعد كلام لا يتسع هذا المقام إلى تحقيقه ومناقشته: «وقد مر على هذا الوعد ثلاثة أيام.» (5) يوم المصرع!
Página desconocida