وما نحسب القارئ في حاجة إلى أن نسهب في التعليق على هذا الخبر، فهو وحده غني عن كل تعليق.
فقد كان اسم شبيب وحده كافيا للقضاء على فارس محارب، وما نظن الفارس الآخر الذي وصفه شبيب بالشجاعة كان يستطيع أن يثبت أمامه لو علم أنه يواجه شبيبا الذي كان يكفي اسمه في ترويع الجيوش الجرارة وهزيمتهم - بالغا ما بلغ عددهم - وقد بغت الفارس الأول حين علم أن مخاطبه هو شبيب الذي هزم الجيوش وقتل أفذاذ القواد وأذكى الرعب في كل نفس، وأقلق بال الحجاج وذعره وأقض عليه مضجعه، والحجاج - هو من يعرف القارئ - جبار العراق ومدوخ جبابرته وثائريه.
وما نحسب الحجاج كان قادرا على هزيمة شبيب لو لم يستعن بجند الشام الذي لم تروعه فتكات شبيب وشداته العنيفة التي روعت جيوش الكوفة وخلعت قلوبهم، فأصبحوا يلقونه كارهين وكأنهم يلقون الموت أمامهم، وصاروا لا يثبتون أمامه إلا ريثما يلوذون بأكناف الفرار.
وما كان الحجاج يخرج لمحاربة شبيب إلا محرجا مضطرا. وقد رأى الحجاج مجده يترجح في كفة الأقدار، وأحس أن هزيمته أمام شبيب معناها اندحاره وضياع هيبته؛ فألهب قلوب الجند حماسة ولم يدخر وسيلة من وسائل التشجيع واستثارة الحمية والنخوة إلا سلكها، وقد أعانه خالد بن عتاب الذي قتل شبيب أباه «عتاب بن ورقاء» البطل الكمي المنقطع النظير، فقد قتل خالد أخا شبيب وزوجه أثناء اشتغال شبيب بمحاربة الحجاج وجيشه، ففت ذلك في عضد شبيب، وكان من أسباب هزيمته.
على أن الحجاج لم يستطع أن يظهر مكانه أمام شبيب، فتوارى عن عينه وأجلس مكانه فارسا آخر، لم يفت شبيبا أن يضربه بعمود من الحديد فيقتله، ظانا أنه إنما يقتل الحجاج.
فلما انهزم جيش شبيب لم يعبأ شبيب بشيء، بل خرج شبيب وتبعه خيل الحجاج وهو لا يكترث بهم.
قال أحد أصحابه: فجعل شبيب يخفق برأسه، فقلت له: «يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك!» فالتفت شبيب غير مكترث، ثم أكب يخفق برأسه، ودنوا منا، فقلنا: «يا أمير المؤمنين قد دنوا منك.»
فالتفت - والله - غير مكترث ثم جعل يخفق برأسه.
وقد هابه جند الأعداء فلم يجرأ على قتله أحد منهم - والفرصة سانحة تناديهم - وهم يتهيبون الدنو منه، فلما أفلتت منهم الفرصة راحوا يتعقبونه بعد فوات الوقت. •••
وانظر إلى ابن الأشعث يسأله شبيب أن يوادعه في أيام العيد «فلا يكون شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة» كما يقولون.
Página desconocida