ولما مات مروان لاحت لعبد الله بن الزبير فرصة أخرى، فلم ينتهزها وأضاعها بتوانيه وبخله. ولقد صدق الحجاج في قولته المشهورة:
قد كان لك رجال ولكنك ضيعتهم.
وصدق عبد الملك بن مروان في قولته التي صدرنا بها هذا الفصل، حين هدده مصعب بن الزبير بأخيه عبد الله، فأجابه عبد الملك بهذه الجملة التي تلخص لنا أخلاق عبد الله بن الزبير، وتشرح لنا - بأوجز عبارة - السر في انهزامه وانفضاض الناس من حوله وانتصار خليفة أموي عليه - رغم كره جمهرة الناس ومقتهم الأمويين - لاعتقادهم أنهم أخذوا الخلافة اغتصابا، وقتلوا الحسين بن علي كما جنوا على أبيه، وأوقدوا نيران الفتن التي أودت بكثير من أجل المسلمين وكبار رجالهم المعدودين.
ولقد قال عبد الملك وهو على فراش الموت: «ما أعلم أحدا أقوى على الخلافة مني؛ إن ابن الزبير لطويل الصلاة كثير الصيام، ولكنه لبخله لا يصلح للسياسة.» •••
والحق أن الفرق بين عبد الملك وبين ابن الزبير عظيم جدا، نوجزه في أن عبد الملك أقام ملكا ثابتا على أنقاض مهدمة، وفي وسط فتن وقلاقل، حينما هدم ابن الزبير ملكا وطيدا بتهاونه وإضاعة الفرص الثمينة التي مرت به. كان عبد الملك لا يتعفف عن كبيرة في سبيل توطيد ملكه، وكان خصمه عبد الله بن الزبير يتحرج من كل ما يظن فيه أية مخالفة.
ألا ترى أن عبد الملك يظهر لعمرو بن سعيد أنه يرضى بالصلح معه على أن يعهد إليه بالخلافة من بعده، فيفرح ابن سعيد بذلك ويقبل الصلح، ثم يخدعه عبد الملك فيقتله غدرا،
2
ثم يلقي برأسه إلى شيعته وصحبه ومعها دنانير ودراهم ليشغلهم بها، ويمنيهم بالوعود الخلابة فينسيهم بهذه الرشا ثأر صاحبهم؟
فقد كان عبد الملك - كأكثر خلفاء بني أمية - جوادا سمحا يغدق المال إغداقا في سبيل تحقيق مآربه، ويبذل الوعود الكاذبة والأماني المعسولة ليظفر بغايته، غير متورع عن كذب ولا مداهنة، مستهينا بكل وسيلة - مهما كانت مرذولة - في سبيل إدراك أوطاره. وكان عبد الله بن الزبير كأخيه «مصعب بن الزبير»
3
Página desconocida