وعاد الرومانيون في سنة 135ق.م فدمروا «بيت المقدس» للمرة الأخيرة، وقد أقام الإمبراطور الروماني أدريانوس في مكان الهيكل اليهودي، هيكلا وثنيا باسم إلهة المشتري «جوبيتير» إلى أن قامت المسيحية، فدمر المسيحيون هذا الهيكل الروماني في عهد الإمبراطور قسطنطين ووالدته هيلانة، ولبثت فلسطين تحت الحكم الروماني إلى أن فتحها العرب المسلمون حين فتحوا الشام، فدخل عمر بن الخطاب «القدس» وتسلمها في 637م، من البطريرك الذي اشترط عدم الترخيص لليهود في دخول فلسطين.
تحت حكم العرب المسلمين كما قدمنا استمتع اليهود بالحرية، واتخذوا العربية لغة لهم، واتخذوا الأسماء العربية أسماء لهم، وكذلك عاشوا في كنف الدول الإسلامية من المماليك والترك وسلاطين استانبول، واستقر اليهود في مقدونيا وسالونيك، وفازوا بالمناصب العالية في الدولة العثمانية، وزادت هجرتهم إليها تبعا لما كانوا يلقونه من الاضطهاد في أوروبا الوسطى وروسيا.
ولقد كان من أثر تتلمذ اليهود للفينيقيين الملاحين التجار الجوابين الآفاق، ثم انتشار اليهود في بلاد العالم، واضطهاد المسيحيين لهم، وحرمانهم من الالتحاق بالمناصب الحكومية والاشتغال بالشئون العامة واحتراف الجندية، وتحديد أحياء لهم يعيشون فيها ولا يخرجون منها، واحتقارهم واستذلالهم - أن تخصصوا في شئون التجارة وإقراض المال، وأصبح لهم في هذا الميدان، مران ودربة، وحيل مبتكرة، واستكانة مصطنعة، أعدتهم لجمع الثروة، وشراء ذمم المضطهدين لهم، كذلك ألفت بين القلوب اليهودية فأصبحت قوة يخشى نفوذها، ويستنكر نشاطها. جاء في ص510 من كتاب تاريخ العالم تأليف و. ن. ويشر: أنه كان من أثر ازدهار التجارة على طول الطرق التجارية ابتداء من البندقية، أن طوائف الحرف قد فقدت نفوذها، وأن الرحالة قد أصبحوا نوعا من الفينيقيين المأجورين الذين ليس لديهم أدوات فنهم. ولم يعد لهم أي دخل في إدارة المدن، ومن ثم انحصرت السلطة والثروة في أيدي الثراة من ممثلي المقاطعات أمام مجلس الأمة؛ مما أدى إلى إحلال المجتمع القائم على النقود والمادة محل المجتمع الذي كان يقوم على استغلال الأرض، وأصبح المصرفي أهم من المالك، وكلما ضعف نفوذ الكنيسة نهضت مهنة المصرف؛ ذلك أن رجال الدين في القرون الوسطى كانوا يذهبون إلى أن الربا الفاحش وإقراض النقود بفائدة أمر مناقض للعقيدة المسيحية. ولما كان اليهود غير خاضعين لهذا القيد، فإن الصليبيين والطوائف قد فقدوا مركزهم كتجار، على حين أنه كان من أثر تفرق اليهود وحذقهم اللغات أن أصبحت مهنة إقراض النقود وقفا عليهم، ومن هنا نشأت كراهة اليهود؛ لأن الناس كرهوا أن يكون لليهود هذا الاحتكار، خاصة حين يكون الناس مدينين لهم، وأصبح يسيرا على الحكومات، حين تقع في ضائقة، أن تحرك الشعور الوطني ضد اليهود، الذين أصبح عنصرهم هدفا للاضطهاد الهمجي المستمر. ففي كل مدينة كان اليهود يرغمون على أن يسكنوا حيا خاصا، وأن يرتدوا زيا خاصا كان أحيانا مميزا بخيط أصفر اللون. وكان المسيحيون المتدينون يبصقون عليهم حين يلقونهم في الشوارع، وكان الأمراء المأزومون، يعمدون إلى سجنهم وتعذيبهم إلى أن يكشفوا مخابئ أموالهم. وعلى هذا كانت مهنة إقراض النقود مهنة خطرة، وحسبنا أن نذكر أن الفائدة قد بلغت، في خلال القرون الوسطى 40 في المائة، وأن البغضاء الدينية التي اقترنت بالغيرة المالية، قد لبثت إلى اليوم.
اضطهاد اليهود في ألمانيا
كان الاضطهاد الأول لليهود في ألمانيا، ولا سيما في بداية القرن الحادي عشر، خاصة حين انتقل قسيس مسيحي يدعى ويكلينوس إلى اليهودية، فقد كان من أثر هذا أن طرد الإمبراطور هنري الثاني اليهود من ماينس وغيرها، وأن أكره الكثيرين منهم على الانتماء إلى المسيحية. وقد دفع اليهود الأموال الكثيرة لوقف حركة الاضطهاد واستعادة دينهم.
واجتمع في شمال فرنسا 200 ألف صليبي اجتازوا بلاد الرين والدانوب ناشرين الرعب والفزع، ومقترفين ذبح اليهود الذين أبوا التخلي عن دينهم. وقيل: إن 11 ألف يهودي قد لقوا حتفهم في مدن الرين جزاء استمساكهم بعقيدتهم. وفي «وورمس» دفنت جثث 800 يهودي، كما أن 1300 ماتوا في «ماينس». وقد انتمى بعض اليهود إلى المسيحية فرارا من الموت، ولما وصل المسيحيون الصليبيون هؤلاء تحت قيادة جودفري دي بويون في طريقهم من أوروبا والمجر إلى بيت المقدس، توجوا اضطهادهم بأن وضعوا اليهود هناك في معبدهم وأحرقوهم أحياء في سنة 1099م. ومما يجدر بالذكر هنا أن الغوغاء هم معظم من اقترف هذه الفظائع والمناكر، وحسبنا أن نذكر أن الإمبراطور الألماني هنري الثاني، الذي كان في إيطاليا، غضب من المعتدين ورخص لليهود الذين أرغموا على تغيير دينهم بالرجوع إليه.
أما في الحرب الصليبية الثانية في سنة 1146م، فإن البابا يوجنيوس قد أصدر أمرا يقضي بأن كل مدين لليهود يعفى من دفع فائدة دينه متى أصبح في عداد المقاتلين الصليبيين، كذلك تعرضت أملاك اليهود للمصادرة في فرنسا وفاقا للأوامر التي أصدرها يومئذ لويس السابع ملك فرنسا.
واستمر اضطهاد اليهود في ألمانيا في أثناء الحرب الصليبية الثانية أيضا، ولولا تدخل الرجل الورع برنار كليرفو، لأبيدوا عن آخرهم، وقد لجأ بعض اليهود إلى قصر كبير أساقفة «هاينس» الذي كان أيضا رئيس وزارة الإمبراطور ومستشاره، وإن كان لم يحل دون فتك الغوغاء بهم في حضوره.
أما في الحرب الصليبية الثالثة التي أوحى بها البابا إنوستنت، فإن ما أعلنه قداسته من عدهم عبيدا دائمين؛ لأنهم قتلوا المسيح، قد شجع السلطات الرسمية في الكنيسة على معاملتهم في ازدراء.
ولما كانت أوروبا في القرن التاسع عشر تتنازعها الأهواء السياسية والاختلافات الدولية، نشأت بين هذه الحركات حركة موجهة ضد اليهود عرفت باسم «مناهضة السامية
Página desconocida