وقد كانت الأمة العثمانية ميالة إلى البولونيين حتى إن المسيو «زيجلين» سفير بروسيا بالآستانة كتب إلى حكومته بتاريخ 26 يوليو سنة 1768 يقول: «إنه وإن كانت الحكومة العثمانية مطلقة النفوذ والسلطة في بلادها، ولكن للرأي العام صوتا إذا ارتفع لا تقدر الحكومة على مخالفته.»
وعندما علمت الروسيا باستعداد الدولة العلية للحرب أرسلت عساكرها واحتلت «كاركوفيا»، وقد أعلنت الحرب يوم 6 أكتوبر سنة 1768، وكان ذلك بإلقاء الدولة العلية سفير الروسيا في القصر المعروف «بقصر السبعة أبراج»، وبهذه الصورة كانت تعلن الحرب في القرن الماضي.
وقد أرسلت الدولة عندئذ منشورا للدول الأوروبية بتاريخ 30 أكتوبر سنة 1768 أبانت فيه أسباب إعلانها الحرب للدولة الروسية قائلة: «لقد تجاسرت الروسيا، وقضت على حرية بولونيا، وأجبرتها على قبول ملك ليس من عائلة ملوكية، ولم تنتخبه الأمة ملكا عليها طبقا لقوانينها وشرائعها، وأسالت الروسيا الدماء، وذبحت كل من خالف سياستها وأغراضها، وخربت الأراضي والأملاك.»
وقد أدهش إعلان الحرب بهذه الصورة كل رجال السياسة الأوروبية، وجعل كل همه الانتفاع منها. أما المسيو «دي فرجين» سفير فرنسا، فقد أعاد إلى حكومته الثلاثة ملايين، وكتب إليها: «إن رجال تركيا لا تشترى ذممهم؛ لأنهم يعملون بمقتضى مصلحة بلادهم، وشرف دولتهم.»
ومضت أشهر طويلة اشتغل فيها كل خصم بالتجهيز والتحضير، ولم تقم الحرب الحقيقية إلا في شهر يوليو عام 1769 على شواطئ نهر «الدينستر»، وقد اقتتل الجيشان طويلا حول «خوتين»، واختلف المؤرخون في إثبات وجود فرق بروسية بين الجيش الروسي، فقال بعضهم بوجودها بمقتضى المعاهدة التي بين الروسيا والبروسيا، وأنكر البعض الآخر وجودها، ولكن الرأي الأول أقرب إلى العقل والحقيقة.
وفي يوم 16 سبتمبر هجم الجيش العثماني على الجيش الروسي، ووقعت بينهما معركة هائلة انتهت بانتصار الروسيين واستيلائهم على مقاطعة «البغدان»، وأخذوا بعد هذه الواقعة قلاع خوتين وأزوف وتاجا نروج، ثم احتلت العساكر الروسية يوم 16 نوفمبر سنة 1796 مدينة «بوخارست» التي هي عاصمة رومانيا الحالية. أما مقاطعة البغدان، فهي تكون مع مقاطعة الأفلاق مملكة رومانيا نفسها.
وقد اغترت الروسيا بهذا الانتصار، وأرادت فصل اليونان من أملاك تركيا - وكانت أرسلت من قبل بطلا اسمه «أورلوف» ليهيج اليونانيين ضد الدولة العلية - فأرسلت في البحر الأبيض المتوسط في آخر سنة 1770 أسطولين؛ الأول: تحت قيادة «سبيروتوف» الروسي، والثاني: تحت قيادة «ألفنستون» الإنكليزي، وقد تجمعت عندئذ جماعات اليونان، وتظاهرت بالقيام في وجه الدولة، ولكنها تفرقت شذر مذر عند تقدم الأتراك والألبانيين، فرجعت الروسيا بخفي حنين، ويئست من تخليص اليونان من ذلك الحين.
ثم أرادت الروسيا أن تنتقم من الدولة العلية؛ لفشل مساعيها في اليونان، فعاكست مراكبها وأسطولها، ولم تأخذ بعد حرب وقتال عنيفين إلا بعض السفن العثمانية في «تشمسه». •••
ولقد كانت سياسة كل دولة من الدول الأوروبية في هذه الحرب مختلفة عن الأخرى، فكانت فرنسا مصادقة للدولة العلية ومعادية للروسيا، وكانت الدولة الوحيدة المنتصرة لبولونيا، ولكن صداقتها للدولة العلية وانتصارها لبولونيا لم ينتجا أقل نتيجة؛ لأن الدول الثلاث الروسيا والبروسيا والنمسا اتفقت في آخر الأمر - كما سيراه القارئ - على تجزئة بولونيا، فكان من المستحيل على فرنسا مساعدة تركيا مساعدة فعلية؛ خوفا من اشتعال نار الحرب بينها وبين الدول الأوروبية، ولكن ما كانت تخافه لنفسها تشجع الدولة العلية على الإتيان به فهي كانت تخشى الحرب، ولكنها كانت أول محرضة للدولة العلية عليها، وهكذا الدول كلها والأمم جميعها متى رأت في عمل من الأعمال احتمال الخير والشر تفضل أن يقوم به غيرها، فإن أنتج خيرا استفادت منه، وإن أنتج شرا اجتنبت أضراره. وكان «شوازيل» وزير فرنسا الأكبر ذا سياسة خرقاء، حيث كانت النمسا ساخرة من تحالفها مع فرنسا لا تقبل منها نصيحة ولا تتبع لها رأيا، وكانت سياسة «شوازيل» ترمي إلى إضعاف الروسيا وتركيا في آن واحد، كما يتضح ذلك جليا من مذكرة رسمية أرسلها في شهر ديسمبر عام 1769 إلى البرنس «كونيتز» وزير النمسا، وجاء فيها: «وترى فرنسا أن أحسن شيء يعود على تحالفنا - أي تحالف فرنسا والنمسا - بالفائدة هو أن تستمر الحرب بين الروسيا وتركيا مع انتصارات متبادلة من الجانبين حتى يضعف الخصمان بدرجة واحدة، وإذا ساعدتنا الأيام تكون لنا الفرص كلها والفوائد أجمعها.»
أما النمسا فكانت قد عقدت مع الروسيا في عام 1753 معاهدة ضد الدولة العلية، ولكنها بطلت عام 1762 بسبب تحالف الروسيا مع البروسيا، ولما أعلنت الحرب بين الدولة العلية والروسيا عام 1768 اتبعت النمسا في بادئ الأمر سياسة الحياد مع مسالمة الدولة العلية.
Página desconocida