وبالجملة، لم يكن لتركيا في أمم أوروبا محب يخلص الحب لها غير الأمة المجرية، ولكنها لم تستطع أن تعمل شيئا ما في صالحها.
وقد ظن سواس أوروبا ورجال العسكرية فيها أن الروسيا ستستمر سائرة في طريق النصر، ولكن الأخبار ملأت أوروبا بعدئذ أن الجنود العثمانية انتصرت على الجنود الروسية انتصارا باهرا «في قارص» بفضل البطل الشهير الغازي «أحمد مختار باشا»، واضطر الروسيون لرفع الحصار عن هذه المدينة. وفي يوليو وأغسطس وسبتمبر عام 1877 هاجمت الجنود الروسية مدينة «بلفنة» المرة بعد الأخرى، وارتدوا على أعقابهم خاسرين؛ لما أقام حولها الغازي «عثمان باشا» من المعاقل والحصون المنيعة.
ولكن سوء حظ الدولة العلية قضى عليها بألا ترسل ما يلزم من المدد للغازي «مختار باشا» بعد أن فقد جيشه الرجال الأبطال؛ فسقطت منه لذلك «قارص» في أيدي الروسيين في شهر نوفمبر عام 1877، وسار بعد ذلك الجنرال الروسي «مليكوف» على «أرضروم». أما «بلفنة» فقد أعيت معاقلها وحصونها الروسيين، فحاصروها حصارا شديدا، وشهدوا قوة الأتراك وشهامتهم، وأعجب قيصر الروس نفسه بمهارة الغازي «عثمان باشا» وقوة إدراكه. وقد طالت محاصرة «بلفنة» حتى انقطع المدد عن الأتراك، ونفد كل ما عندهم من الذخائر، فعزم الغازي «عثمان باشا» على الخروج من «بلفنة» مع جنوده الأشداء. وفي 10 ديسمبر عام 1877 خرج بالفعل، ومرت الجنود العثمانية من وسط الأعداء غير خائفة نيرانهم ولا مقذوفاتهم، بل جعالة وجهتها الاستحكامات التي كان أقامها الروسيون حول «بلفنة» على ثلاثة خطوط متعاقبة، واستولت على مدافع الخط الأول والثاني وكادت تستولى على الخط الثالث، غير أن الغازي «عثمان باشا» وقع جريحا فظنه قومه ميتا، وانتشر خبر موته بين الجنود العثمانية؛ فثبطت هممهم وانحلت عزائمهم، ودخل الروسيون في هذه الأثناء «بلفنة»، واضطر قواد الجيش العثماني للتسليم، والاتفاق مع قواد الجيش الروسي على إيقاف الحرب بإلقاء الجيش العثماني للسلاح، وقد فقد الجيش الروسي في محاصرة «بلفنة» 28080 رجلا وفقد الجيش العثماني 15300 رجلا.
ولم يعتبر رجال العسكرية في أوروبا سقوط «بلفنة» انتصارا للروسيين على العثمانيين، بل أعجب كل إنسان بالعثمانيين أكثر من إعجابه بالروسيين؛ فإن الروسيين كان عددهم مائة وخمسين ألف مقاتل، وكان عدد العثمانيين ثلثهم أي خمسين ألفا فقط، وقد أظهر القيصر إسكندر الثاني نفسه للغازي «عثمان باشا» عظيم إعجابه بدفاعه عن «بلفنة»، وقال له: إن هذا الدفاع يعد من الأعمال الحربية النادرة المثال في تاريخ البشر.
وبالجملة، فلم تنتصر الروسيا على تركيا في هذه الحرب إلا بالدسائس العديدة التي دستها ضدها في البوسنة والهرسك وفي بلاد البلقان؛ فقد رأى القارئ أن الدولة العلية اضطرت إلى قمع ثورة عظيمة في البوسنة والهرسك، ومحاربة الصرب والجبل الأسود، وقمع ثورة بلغاريا؛ مما أراق دماء كثيرة من دماء العثمانيين، وأمات أبطالا من جنود الدولة، وحملها الأموال والمصاريف الطائلة.
ومع أن الثورة في البوسنة والهرسك وبلغاريا والحرب مع صربيا والجبل الأسود أضعفت جيوش الدولة، فإن هذه الجيوش الفخمة حاربت الروسيا بكل قوة وشهامة، وانتصرت عليها في مواضع مختلفة، ولم تحارب الروسيا تركيا بجيوشها وحدها، بل استعانت برومانيا التي قدمت لها نحو المائة ألف مقاتل، ولو كانت الروسيا حاربت تركيا من بادئ الأمر قبل أن تهيج البوسنة والهرسك وبلغاريا والصرب والجبل الأسود ضدها لكانت انتصرت تركيا ولا محالة وخابت الروسيا وهزمت شر هزيمة.
وإذا أضاف القارئ إلى ما تقدم أن تركيا كانت تضع ثقتها في رجال من الدخلاء يعملون بأوامر الأجنبي ويعرضون بمصالح الدولة للدمار، وأنه كان بين قواد جيشها قائد روسي الأصل علم فضل تركيا في انتصارها على الروسيا في بعض مواقع مهمة.
ولا بد لنا من أن نذكر للقارئ أيضا أن جنود الجبل كانت تعاكس جنود الدولة أثناء الحرب، وأن الصرب انضم جيشها لجيش الروسيا بعد سقوط «بلفنة»؛ فكانت الدولة العلية بذلك مشتغلة من كل جانب برد الأعداء عن ديارها، ولم يكن لها نصير ينصرها على أعدائها، بل كانت وحدها أمام أعداء عديدين، وكان اعتمادها على محض قوتها. •••
طالما ادعى أعداء الدولة العلية أنها إذا فتحت بلادا نشرت فيها لجنودها راية السلب والنهب والفتك بأهلها، وإذا مرت بأرض خربتها وغيرت معالمها، فليقرأ المنصفون ما عمله الروسيون وصنائعهم البلغاريون في هذه الحرب مع المسلمين الأبرياء الذين لم يكن لديهم أسلحة يدافعون بها عن أنفسهم، بل كانوا آمنين مطمئنين يحسبون الحرب بشرية إنسانية، لا بهيمية بربرية.
وقد أتى السير أشميد برتلت في كتابه الحديث «مواقع تساليا» على تاريخ كثير من هذه الفظائع، وإنا نذكر للقراء الكرام شيئا منها:
Página desconocida