وإن الذين يدعون العمل لخير النصرانية في الشرق يعلمون قبل كل إنسان أن تقسيم الدولة العلية أو حلها يكون الضربة القاضية على مسيحي الشرق عموما قبل مسلميه؛ فقد أجمع العقلاء والبصيرون بعواقب الأمور على أن دولة آل عثمان لا تزول من الوجود إلا ودماء المسلمين والمسيحيين تجري كالأنهار والبحار في كل واد.
وهي الملمة التي يجب على محبي الإنسانية الصادقين في محبتهم العمل لمنع وقوعها ودفعها بتعضيد الدولة العلية وتقوية سلطانها.
ولقد اعتقدت الآن الروسيا كما اعتقدت النمسا - وقد كانتا العدوتين القديمتين للدولة العلية - بأن تقسيم الدولة العلية أمر مستحيل، فعملت كلتاهما على المحافظة على السلام العام بالمحافظة على سياج الدولة العثمانية.
فقد رأت النمسا أن حروبها مع الدولة العلية أضرتها ضررا بليغا، وظهرت النتائج المشئومة لهذه الحروب. فقد ضعفت النمسا، وانتهى بها الأمر أن فقدت أملاكها الإيطالية التي تكونت منها إيطاليا الحالية، وفقدت كذلك أمام بروسيا جزءا عظيما من مقاطعاتها الألمانية.
ولقد عملت النمسا في عهد عدائها للدولة العلية على تهييج أمم البلقان ضد السلطنة السنية، باسم مبدأ الجنسيات؛ لأنها بصفتها دولة كاثوليكية كان لا يمكنها أن تهيج هذه الأمم الأرثوذكسية باسم الدين؛ فكانت نتيجة تهييج النمسا لأمم البلقان باسم الجنسيات وبالا عليها، وذلك أن مبدأ الجنسيات نفسه وجد أنصارا كبارا في قلب المملكة النمساوية، فقامت المجر ونالت حريتها واستقلالها النوعي باسم مبدأ الجنسية المجرية، وها هي أمة البوهيم قائمة اليوم بالمطالبة باستقلالها النوعي باسم مبدأ الجنسية البوهيمية، وقد أصبح من الظاهر للعيان أن دولة النمسا تنازع نزاع الموت في الأيام الحالية بفضل مبدأ الجنسية.
أما الروسيا فقد قامت دائما في المسألة الشرقية باسم الدين الأرثوذكسي، فعملت لإخراج الرومانيين واليونانيين والصربيين والبلغاريين وأهل الجبل الأسود من تحت سلطة الدولة العلية باسم الدين الأرثوذكسي؛ فنشأ عن ذلك مع استقلال هذه الأمم الصغيرة عداوة شديدة بينها وبين بعضها لما وجدت في نفسها من الطمع لتوسيع دائرة أراضيها، ذلك فضلا عن أن الكنيسة اليونانية التي هي أم الكنائس الأرثوذكسية أصبحت غير معتبرة عند البلغاريين والصربيين، والنزاع القائم بين هذه الجنسيات المختلفة في مقدونيا يبين جيدا درجة عدواتها لبعضها، ودرجة الخطر الذي صارت إليه بلاد البلقان بسبب مسألة الجنس والدين.
وإذا بحثنا فيما اكتسبته الروسيا من حروبها مع الدولة العلية نجد أنها عادت تركيا قرنا ونصف قرن، وحاربتها المرار العديدة، وفقدت الرجال والمال بكثرة عظيمة في كل حرب، ولم تنل في الحقيقة من كل حروبها إلا بلاد القرم والقوقاز، وقد رأت الروسيا ما لم تكن تظنه أبدا وهو أن بعض البلاد الصغيرة التي حررتها كصربيا وبلغاريا واليونان ورومانيا عادتها أشد العداء، ولا تزال صربيا ورومانيا واليونان سائرة في سياسة لا ترضي الروسيا، وعلى الأخص رومانيا التي تمكن بينها وبين ألمانيا والنمسا والدولة العلية الصفاء والوداد، ولم تعتدل بلغاريا نفسها في سياستها مع الروسيا إلا في هذه السنين الأخيرة من يوم اعتناق البرنس بوريس ولي عهد بلغاريا للدين الأرثوذكسي.
وقد رأت الروسيا من جهة أن حروبها مع الدولة العلية لا تفيد غير إنكلترا التي قوي مركزها في آسيا وفي الشرق الأقصى، والتي لها أعظم مصلحة في إضعاف قوة الروسيا، وإضاعتها الوقت والمال والرجال في حروبها مع الدولة العلية، ورأت كذلك من جهة أخرى أنه يستحيل عليها أن تأخذ الآستانة وتنفذ وصية بطرس الأكبر؛ لما تلاقيه في القيام بهذا الأمر من قبل الدولة العلية ومن دول أوروبا نفسها، وفي مقدمتها فرنسا حليفتها؛ ولذا فضلت الروسيا الاهتمام بمسائل الشرق الأقصى ومسالمة تركيا، وقد تحقق العثمانيون من هذه المسالمة في المسألة الأرمنية وفي مسألة الحرب الأخيرة.
وقد شهد السياسيون بأنه لا يوجد في تاريخ علاقات الدولة العلية مع الروسيا للمسالمة والصداقة مثل التلغراف الذي بعث به جلالة القيصر إلى جلالة السلطان يرجوه فيه أن يصدر أمره بإيقاف الحرب مع اليونان.
أما الدولة التي أصبحت في هذه السنين الأخيرة حاملة لراية العدوان ضد الدولة العلية، فهي إنكلترا عدوة الإسلام، وعدوة مصر.
Página desconocida