مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
خاتمة
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
خاتمة
المأساة الكبرى
المأساة الكبرى
رواية تشخيصية في الحرب الحاضرة
تأليف
شبلي شميل
مقدمة
المأساة الكبرى
وضعت هذه الرواية في الحرب الحاضرة، وجعلتها على أسلوب الروايات التشخيصية؛ لكي أجعل لأشخاصها في كلامهم وأفعالهم صورا خاصة تدل عليهم، وتنطق عنهم بلسانهم؛ لتكون العبرة من ذلك في معرض الفكاهة أوقع في النفس.
وقسمت الكلام فيها قسمين: قسم حقيقي واقع؛ وصفت فيه مقدمات الحرب والأعمال التي جرت فيها، وقسم تخيلي منتظر؛ جعلته توطئة «للمحاكمة» المقصودة من كل هذه الرواية، والتي تظل صحيحة مهما تكن النتيجة، لمثيريها أو عليهم، عسى أن تنجلي هذه الأمور الاجتماعية البسيطة للجمهور، فيصون نفسه ومصالحه من عبث العابثين، وينزه مداركه عن أن يكون كالآلة العمياء في أيدي السفاحين المخربين؛ لقضاء أغراض لهم سافلة في غالب الأحيان، كما هي الحال في هذه الحرب الشنيعة التي تضحي الناس فيها بالملايين لأحلام ومطامع لا يجوز أن تصدر في هذا العصر خاصة إلا من مصدعين مجانين، ولا يقبلها إلا المغفلون.
ولا غرو؛ فجنون العظمة والغرور كلاهما جنون، كما هو شأن إمبراطور الألمان اليوم متعاظما بعراقة محتده، وبسطة ملكه، وقوة أمته، وهذا أقل عيوب الأسر المالكة، وكما هو شأن أمته مغترة بما وصلت إليه من النجاح الباهر في العلم والصناعة والتجارة في هذا الوقت القصير، فأصابها من ذلك خمار كخمار محدثي شاربي الخمرة، وللمحدثين في كل شيء - حتى في العلم - خمار أيضا؛ فانقادت بحكم التربية المصنوعة إلى مطامع إمبراطورها الجنونية، وصبت الويلات على العالم غير حاسبة للأضرار التي تلحق بها من ذلك حسابا، كأنها فعلت كل ذلك عن غير روية، أو عن روية غير ناضجة، أو هي مختمرة اختمارا فاسدا، فأتت أعمالا تحاسب عليها حتى الأمم الجاهلة، ولا تليق بأمة مثلها سمت سموها في العلم والحضارة، ولما فعلت ذلك لو أنها شاءت أن تدرك مبادئ علم الاجتماع الطبيعي كما ينبغي أن يكون.
فأنا توخيت من هذه الرواية أغراضا أربعة: (1)
أن أصف وصفا بسيكولوجيا (أخلاقيا) الأشخاص الذين ذكروا فيها ينطبق على أخلاقهم ومطامعهم وأحلامهم ومراميهم على ما فيها من الغرابة والحمق اليوم؛ للتنفير منها. (2)
أن أصف الوقائع - بالإشارة إليها - وصفا تقريريا في الجانب الحاصل منها، ويكاد يكون نتيجة لازمة في الباقي غير الحاصل، بناء على أنه في حالة الاجتماع الحاضرة لا يجوز أن تصح نتيجة أخرى، مهما تقلبت أحوال الحرب، ومهما طال أجلها. (3)
أن أشير إلى بعض انتقادات في أمور اجتماعية كائنة؛ لأنها كانت لا تهضمها معدة الاجتماع الراقي. (4)
أن أبحث بحثا سوسيولوجيا (اجتماعيا) فيما يجب أن تكون نسبة الأمم بعضها إلى بعض، ولا سيما الراقية بناء على ما هي صائرة إليه، طبقا لمرامي العلم الطبيعي الصحيح المفهوم كما هو، لا كما يؤوله أصحاب الغرض، وأصحاب النظر القصير.
فإذا كنت لم أبلغ غاية الإجادة في الوضع كرواية تمثل على المراسح؛ فأنا لم أنظر فيها إلى ذلك بقدر ما نظرت إلى الغاية التي قصدتها منها، وهي القضاء على ما في العقول من السخائم، وتأييد مصلحة الاجتماع بمقاومة ما فيه من النظامات الفاسدة التي لا تتفق مطلقا مع هذه المصلحة، ولا سيما في هذا العصر الذي ينبغي فيه على الأمم الراقية أن تكون متضامنة؛ للبلوغ بالاجتماع إلى الغاية القصوى من العمران، فلقد نظرت إلى جسم الاجتماع كما ينظر الطبيب إلى الجسم الحي؛ ليتعهد - كما يتعهد هذا الجسم في صحته، وفي مرضه - بتوفير الأعضاء الصحيحة، ومداواة الأعضاء المريضة بما يصلحها - إن أمكن - وإلا فبالقطع أو البتر إذا كانت لا ترجى؛ لئلا يمتد فسادها إلى المجموع، لا أن تعكس الآية ويقوض الصحيح النافع من الأمم، ويوالى الفاسد الضار من الدول التي لا ترجى. وكل عمل اجتماعي يخالف ذلك هو خرق وهمجية مهما يكن مقام صاحبه، هكذا يجب أن يكون طب الاجتماع لقوم يحرصون على صحة هذا الجسم ونمائه.
على أن هذه الحرب مهما تكن اليوم شنيعة، فظيعة، مدمرة، مثكلة، مثيرة للعداوات، باعثة على التخاذل والتقاطع، مفككة لأوصال الأمم؛ فإن الاجتماع سيجني منها فوائد أدبية كبرى تفوق جدا الخسائر المادية اللاحقة به منها، والتي ضررها يقتصر على المعاصرين المساكين؛ إذ تكون له كالصرخة في أذن الغاط المستبحر في نومه، أو كالعصا على كفل الحمار البليد؛ فتستفز الأمم للانتباه إلى حقوقها، ومعرفة مقامها في الاجتماع، فتهب لإصلاح نظاماتها وشرائعها، وتضع حدا لمنازع أصحاب الامتيازات الموروثة، أو الطامعين فيها من سواهم، والذين هم قيد في رجل الاجتماع، وغل في عنقه، وسيف مسلول فوق رأسه، وتنزلهم عن عروشهم المغتصبة إلى مستوى ترفع إليه الجمهور، وتشتغل بما يحقق لها الفوز على الطبيعة، ويذلل لها مصاعب الحياة القصيرة، وتخلص الاجتماع ممن هم فيه بمنزلة «البقر»، وما عددهم في كل أمة حتى اليوم بقليل، وتسرع في الانتقال بهم إلى مقام البشر الحقيقيين؛ سعيا وراء سيادة الكل لأجل مصلحة الكل، وهي نتيجة لازمة، ومن حسنات الطبيعة في تطورها مهما توالى عليها من التقلبات والنكبات والوقوف والتقهقر الوقتيين؛ فإن النتيجة، وإن أبطأت بذلك، فإنما هي إلى الارتقاء أخيرا، وما الثورات - حتى الطائشة مثل التي نشهدها اليوم - إلا مهماز في جنب الاجتماع الخامل للإسراع في السير لبلوغ هذه الغاية.
الفصل الأول
المنظر الأول (غليوم - الحكيم - الكرونبرنس (أي ولي العهد)) (غيليوم في مكتبه في قصره يناجي أحلامه غاضبا، والحكيم جالس معه): لقد طال ما صبرت! والدول لا تريد أن تعرف لي هذا الفضل، كأنها ترى صبري عجزا، أتريد أن تحرجني لتخرجني؟ فلأرين الجميع أني رجل هذا العصر الوحيد، بل رجل كل العصور؛ حتى لا يبقى عظيم يتحدث الناس به سواي لا من الغابرين، ولا من المعاصرين. ومن هم أقراني اليوم؟ فلأسحقنهم سحقا حتى يذلوا لي. ومن هم أبطال الماضي كنابوليون، وقيصر، وأنيبال ممن يذكرهم الناس بالإعجاب؟ فلأفعلن ما يمحو ذكرهم؛ حتى يبيتوا بالقياس إلي كالأعشاب الصغيرة الحقيرة في ظل الشجرة الباسقة العظيمة. ولو أني اضطررت أن آتي مكبرا ما أتاه سواي من السفاحين قبلي مصغرا كتيمورلنك وجنكيزخان وآتيلا، فليس أرهب للناس من التمثيل بالناس، والعاجز من لا يستبد، حتى أخضع الجميع لي، وأصبح وحدي سيد هذا العالم. (يبهت قليلا كأنه يرى وعورة هذا الأمر، ثم يقول كأن خاطرا خطر له): وبعد ذلك، أليس هذا هو النظام الإلهي: الكل للواحد والواحد فوق الجميع؟ (يبتسم ويرسل ببصره إلى السماء ويقول): أليس كذلك يا إلهي الشيخ؟ فلنقتسم العالم بالإنصاف: لك ملك السماء، ولي ملك الأرض. فيا رب آل هوهنزلرن الأشراف المقدسين، ويا رب الأمة الجرمانية المجيدة؛ بارك هذا السيف لأحكمه في رقاب العباد، وشدد هذه الذراع (ويمد ذراعه المشلولة)؛ ليشعر الناس جميعهم بثقل يدي الحديدية فوق رءوسهم. (يمشي متهيجا إلى جهة الحكيم، ويقول له): دعني هذه المرة من تقريعك أيها الحكيم، فلقد أصخت لك طويلا، وحافظت على هذا السلم المصطنع حتى فرغ صبري، ومصلحة ألمانيا تقتضي أن تكون وحدها السائدة، والحكمة ليست دائما في الحلم، بل كثيرا ما تكون في الغضب، والغضب كثيرا ما يكون مقدسا. (يتركه، ويجتاز الباب إلى داخل القصر.) (الحكيم وحده يطلب من ربه أن يقوي ذراعه ليسحق بها العالم، فكيف بها لو كانت صحيحة! ولو كانت ذراعه صحيحة، فلربما كانت مطامعه أصح، وكان في أخلاقه أكثر اعتدالا، هو في جنونه يريد أن يكون اليوم نيرون هذا العصر، وأنا أرى أنه سيكون شمشونه.) (يهز رأسه.) (عن طمع فادح، لا عقل راجح، وهو مع ذلك يطلب من ربه أن يكون شريكه في جناياته، فيا للضلالة! ويا للكفر! هو يريد أن يحتكر الله لنفسه، كأن المخلوقات الأخرى ليست من صنع هذا الإله، ولا تستحق اهتمامه، فهل هو مقتنع بما يريد؟ أم ذلك من أنواع العدة أيضا في الحروب للسطو على المغفلين؛ ليساقوا إلى الحتوف متحمسين راضين؟ وغدا يقوم خصومه، ويستنجدون الله لأنفسهم، فكأن كل فريق يشق من الإله الواحد إلها ضده، ولقد كان يفعل مثل ذلك آباؤهم من قبلهم، ولكن آباءهم كانوا أعقل منهم في تصورهم، وأحكم في عملهم على هذا التصور، فقد كانوا يعتقدون بتعدد الآلهة، ويختار كل قوم منهم إلها خاصا؛ ليصرع به الآلهة الأخرى، ولكن الموحدين اليوم كيف يطبقون ذلك على تصوراتهم؟ فيا إله الجميع، كيف تطيق مثل هذه المفتريات من مثل هؤلاء المخلوقات، ولا تطبق السماء على رءوسهم؛ لتخلق سواهم أنظف منهم في عقولهم؟) (يتأمل قليلا ثم يقول): فما أوسع مجال الريبة! (يدخل الكرونبرنس فجأة من دون استئذان، فيجد الحكيم، ويقول في نفسه): أف، إن أبي لا يفارق هذه البومة المشئومة. (ثم يلتفت إليه، ويقول له): أنت هنا أيها الحكيم! أما فرغت من تسميم عقل والدي بإرشاداتك ونصائحك كأنك مأجور على إذلال ألمانيا وطمس معالم مجدها؟!
الحكيم (للكرونبرنس) :
اطمئن يا مولاي، واعلم أن الطبع يغلب التطبيع، فقد شفي والدك من سمومي كما تقول، ولقد كان هنا منذ هنيهة، وقد صرح بأميال كأميالك، ولا تظن أن صبره حتى اليوم نتيجة نصائحي، بل كان لتوقع الفرصة المناسبة، واستكمال الاستعداد، وستعلمان غدا من منا يسعى لخراب ألمانيا، وطمس معالم مجدها.
الكرونبرنس (للحكيم مشفقا ومستخفا) :
إني أجلك - أيها الحكيم - لسلامة نيتك، لا لإرشاداتك. فحكمتك عصرها قد انقضى، ولو عمل الناس بها لقعدوا عن العمل، ولرضوا بالكفاف من كل شيء، والطمع مهماز وهمة في رءوس الرجال، ولكن دعنا من كل ذلك، أين والدي الآن؟ فإني أريد أن أقابله في الحال. (يدخل الإمبراطور عائدا من القصر، ويرى ابنه ويخاطبه بقوله): كيف أنت هنا يا ويلهلم؟ فماذا تريد؟
الكرونبرنس (لأبيه محتدا) :
يا صاحب الجلال إلى متى هذا الانتظار؟ كأنك عاقد محالفة مع القضاء، فإذا كنت صبورا إلى هذا الحد، تتمجد بأحلامك كأنها حقائق، وأنت جالس على عرش ألمانيا، فأنا لم يبق لي صبر، فلا بد لي من زيارة باريس قبل الشتاء، والأمر - كما لا يخفى على جلالتكم - لا يكلفنا مشقة كبيرة، ولا سيما أن الجند متحمس لإحراز النصر، ومتضجر من القعود، ولا حاجة لأن أقول لجلالتكم إن الجند لا يخفي عني شيئا. (ويناجي نفسه على سمع من أبيه قائلا): آه، ما أحلى هذا اليوم الذي أدخل فيه هذه المدينة الزاهرة في مقدمة جنودي المظفرة، راكبا جوادي المطهم، متخطرا في شوارعها الواسعة، طائفا في ضواحيها الجميلة! نعم، لا بد لي أن أجعلها كرسي مملكتنا الجديدة، وأجلس فيها على هذا العرش الجديد؛ لأتمتع من لذة الحكم بما يتمتع به سواي اليوم.
الحكيم (يسمع ذلك، ويقول في نفسه) :
صدق من قال: إن الولد سر أبيه، وأجل الملوك مهما قصر، فهو طويل على أولياء العهد.
الكرونبرنس (واقف ووجهه جهة الحكيم فرآه يتمتم، ولا يسمع ما يقول، وخشي أن يكون يريد أن يتكلم ليؤثر على والده بنصائحه فيتقدم منه سائلا) :
ماذا تقول أيها الحكيم؟ كأني أسمعك تتكلم.
الحكيم :
إني أصلي عسى أن يلهمكما الله إلى الخير، ويمنعكما عن الشر.
غيليوم (في نفسه، وابنه ملته مع الحكيم) :
ما أشد قحة هذا الولد العقوق! نعم، نعم، يجب أن أسارع، لا لئلا يدهمني القضاء، بل لئلا يخطر ببال هذا المجنون (ويشير إلى ابنه) .
أن يفسد علي الأمر، ويسلبني هذا الفخر الذي أحلم به من قبل ولاية والدي القصيرة، والذي لأجله أقصيت عني بسمارك؛ حتى لا يكون لي فيه شريك أو شبه شريك، هذا الفخر الذي صرفت أكثر من ربع قرن وأنا أتأهب، وأعد له العدة، وكأن هذا الولد الطائش يتودد إلى الجند ليكسب ثقته، وكأنه واثق منه اليوم حتى خاطبني بهذه اللهجة، نعم، يجب أن أسرع، ولا أدع الفرصة له، على أن الحكمة تقضي أن أخادعه ولا أغاضبه. (ثم يلتفت ويخاطب ابنه) : لا أخفي عليك - يا ولدي العزيز، وولي عهد ألمانيا المعظم - أني كنت أفكر في الأمر حين دخولك علي، وكنت عازما على استدعائك واستدعاء قواد جيوشي ووزراء مملكتي؛ لأشاوركم أولا، وأسألكم عن مبلغ استعداد الجند، ولا سيما عن استعداد الأمة، وكيف يكون وقع شهر الحرب عندها؛ لأني - وإن كنت كما تدري صاحب القول الفصل، الذي لا مرد له، وكنت على يقين من أن حلفائي في السماء ينصرونني كما نصروا آبائي من قبلي - لكني مع ذلك أود أن أجعل للأمة شأنا معي ولو صورة؛ حتى لا يكون لها سبيل للشكوى، ولا سيما في هذا العصر الذي علت فيه «ضوضاء» الاشتراكيين ، ولا أقول «كلمتهم»، وإن يكن اعتقادي بزعمائهم كاعتقادي بسائر رجال مملكتي، فجميعهم رهن ابتسامة أو تقطيبة في وجههم مني. (ولكي يكسر من حدة ابنه يتقدم منه باسما، ويربت له على ظهره براحة يده.)
على أني أطمئنك أنك قبل الشتاء ستكون كما تشتهي مقيما في قصر التويلري، وهذه كانت إرادتي من قبل أن تفاتحني بعد انتصارنا على الفرنساويين ودخولنا باريس.
الكرونبرنس (طروبا) :
ما أحلى هذا اليوم المنتظر!
ولأبيه يقول جلالة أبي ومولاي الإمبراطور المعظم إنه يريد أن يعرف مبلغ استعداد جيوشه المظفرة، وحقيقة أميال أمته المخلصة، فالذي أعرفه عن الجميع يسر جلالته كثيرا، فالجنود على أتم الأهبة، ولي يقين بأني أفتح العالم بهم، وثقتي هذه بهم من تأكد محبتهم لي؛ لأنهم يرونني أميل إلى تحقيق أمانيهم، ولأني مع ذلك حائز لثقة جلالة الإمبراطور الذي ينظرون إليه كنظرهم إلى معبود، والأمة لا تختلف عنهم في فضل التربية الجرمانية العالية التي غرسها فيها الأساتذة في المدارس، والفلاسفة في الكتب، والأمهات في البيوت حسب أوامر جلالتكم السامية، حتى أصبحت الأمة الألمانية كلها تتحرك حركة واحدة بإرادة واحدة كالآلة الميكانيكية العمياء، وما هي عمياء؛ لأنها تعلم لكم أنتم عينها الباصرة، وإن شاء جلالة مولاي زيادة إفصاح؛ فليدع إليه الذين ذكرهم من رجال مملكته.
الإمبراطور (لابنه) :
وإنه لكذلك، فادع كبير حرسي يدعوهم لي. (يذهب والإمبراطور يقول في نفسه) : ما هذه المتناقضات؟ أدب بقحة، وتزلف بكبر، وخضوع بتهديد، إني غير مطمئن إلى هذا الولد إلا إذا شهرت الحرب ودفعته إلى خوض معامعها.
المنظر الثاني (غيليوم ووزراؤه وقواده والكرونبرنس والحكيم في قصر الإمبراطور.)
الإمبراطور (يخطب فيهم) :
دعوتكم - أيها الوزراء الكرام والقواد العظام - لأمر هام جدا، يتوقف عليه مستقبل الأمة الألمانية المجيدة، ومستقبل آل هوهنزلرن الأكارم، الأمة الألمانية التي خلقها الله لكي تسود الأرض، والتي أعدتها تربيتها الخاصة لأن تكون فوق كل الأمم مهددة اليوم في حياتها، وآل بيتي المجيد الذين أرسلهم الله؛ لكي يقودوا هذه الأمة العظيمة إلى المجد لا يستطيعون أن يروا ذلك بقلب بارد، وعين غافلة ، فأنا الذي أمثل في أقنومي المقدس الهوهنزلريين أصحاب المجد الباذخ أراني مسئولا أمام الله، وأمام نفسي، وأمام آلي الأماجد إذا لم أدرأ عن أمتي الأخطار التي تتهددها من كل جانب.
الأمم جميعها تحسدنا لأننا متفوقون عليهم في كل أمر: في العلم والفلسفة، في الصناعة والتجارة، في الذكا والنشاط، والذين منهم يهمهم أمرنا أكثر من الآخرين عاملون على بث العراقيل في سبيلنا؛ فإن رمينا إلى الاستعمار، وقفوا في وجهنا، وإن قوينا بحريتنا شكوا منا وقاموا يناظروننا، وإن أصلحنا جنديتنا أساءوا الظن بنا وزادوا جيوشهم ليتفوقوا علينا. وهذه روسيا بفضل أموال الفرنساويين ستصبح في سنين قليلة ذات جيش جرار مستوفي العدة ممهد الطرق، حتى يكون لها من ذلك كله قوة لا تقف في وجهها دولة من دول الأرض مهما تكن قوية، فالخطر علينا في البر من الروس خطر السيل الجارف، والخطر علينا في البحر من الإنكليز خطر الحيتان الكبيرة على السمك الصغير، نحن أمة مسالمة لا نطلب إلا أن نعيش. وهم يضيقون علينا المذاهب، ولقد طال صبرنا؛ لأننا لا نريد أن نكدر السلم الأوروبي، فهل تريدون أن يتحول صبرنا إلى موت لا يبقي منا سوى جثة هامدة تجتمع حولها النسور؟ فإن رضيتم أنتم ورضيت أمتي بهذا العار؛ فمعاذ الله أن أرضى أنا به، ودم آبائي في عروقي يصرخ بي: الثأر، الثأر، والنار ولا العار، والأمة الألمانية خلقت لأن تكون فوق الكل، فيجب أن تكون فوق الكل.
قلت الثأر لأنه لا يجوز للأمة الألمانية أن تغضي عن أقل مزاحمة لها، أو مغاضبة من دون أن يمس ذلك بشرفها وشرف مصلحتها، فكل مناظرة يقصد بها التقدم علينا هي جناية علينا يجب أن نثأر لها.
انظروا إلى فرنسا جارتنا في البر، فبدلا من أن تكون حليفتنا لنفتح بها العالم؛ هي التي تمد أعداءنا بالمال، وتنظم المحالفات ضدنا، وتسابقنا إلى الاستعمار، وتهددنا بأخذ الثأر، مع أنا رحمناها رحمة لو رحمنا بها أية أمة سواها؛ لما نسيت لنا هذا الجميل، فقد أبقينا عليها، واكتفينا منها بالزهيد من المال يوم كنا قادرين ألا نبقي فيها حجرا على حجر، وهذه أكبر أغلاطنا في الحرب الماضية، والتي لأجلها لم أسامح بسمارك، وهي حتى اليوم عقبتنا الكبرى الحائلة بيننا وبين تحقيق حلمنا، ومد سطوتنا على المسكونة كلها، ولولاها لكنا الآن سائدين على العالم آمنين على أنفسنا من كل معتد أثيم، بل هي التي لا تفتر تحرك ضدنا، وتقلق راحتنا، وتعد العدة بالاتفاق مع سواها لسلبنا كل ما جنيناه بجدنا وكدنا، كل ذلك ونحن عليها صابرون، فإلى متى الصبر؟! وهل يليق بالأمة الألمانية التي هي فوق كل الأمم أن ترى ذلك، ولا تقسم هذه المرة بأن تثأر لنفسها، حتى لا تبقي ولا تذر على هذه الأمة الفرنساوية الناكرة الجميل.
الحكيم :
ما أبدع هذا الخطاب في المغالطات! وأبدع من ذلك أنه توجد عقول تشربه.
الجميع (للإمبراطور) :
صدق جلالة الإمبراطور، هذه أمور لا تطاق، ورأي جلالتكم فوق كل رأي.
الإمبراطور (لهم) :
فأنا دعوتكم لأستشيركم في أمرين مهمين، عليهما يتوقف النصر في الحروب؛ وهما: أولا، حالة الجيش وما له من العدة. وثانيا، المال اللازم. فما رأي وزير الحرب أولا؟
وزير الحرب (للإمبراطور) :
أما العدة؛ ففي وسعي أن أؤكد لجلالة الإمبراطور أننا نستطيع أن نحارب الدول أجمع ثلاث سنين بلا انقطاع، من دون أن نحتاج إلى قنبلة جديدة، أما الجيش؛ ففي طاقته أن يقهر جيوش العالم كلها تدريبا وعددا وحماسة، هذا بقطع النظر عما يردنا من الأخبار عن يد مراسلينا العسكريين، وكلها مجمعة على أن جيوش سائر الدول في حالة سيئة جدا؛ من فضل كتابها دجالي الأقلام، ومن فضل خطبائها أمراء شقشقة اللسان، ومن فضل انقسام أحزابها رواد المنتجعات من مال ومناصب، وهم مع ذلك يخلقون لنا الأسباب بتهجمهم علينا في كتاباتهم، وتهورهم ضدنا في خطبهم كأنهم يعتبرون الطعن والضراب جولة في صحيفة أو صولة في خطاب، ويا ليت شعري لو اشتدت الأمور على ما يعولون!
الإمبراطور :
هم حتى الساعة عولوا على حلمي. (يبهت ثم يبتسم.)
ويعولون أيضا على جائزة نوبل التي منحوني إياها جزاء حفظي للسلم. (ثم يضحك ساخرا.)
كأنهم يظنون أنهم يفتونني بهذه الجوائز الصبيانية المدرسية؛ لأبقى غافلا عن مساعيهم ضدي، وأعمى عن مصلحتي، وما هم إلا بأنفسهم هازئون، ولعلهم يرون نتيجة غفلتهم عن قريب.
الإمبراطور (لوزير المال) :
وما رأي وزير المال في المال الذي عندنا فيما لو نشبت الحرب بيننا وبين أعدائنا؟
وزير المال (للإمبراطور) :
مولاي المعظم! إن روح النظام الذي بثه جلالتكم في الأمة عموما، ولا سيما في دواوين الحكومة جعلنا جميعا قوما لا نتكل على الأقدار.
الإمبراطور :
لا تنسوا اتكالي على حليفي الأكبر في السماء.
الوزير :
وفوق ذلك نحن قوم نتخذ لكل شيء أهبته، ونعد له عدته، فالمال المدخر في خزينة الحكومة يزيد كثيرا على ما يلزم لمثل المدة التي فرضها احتمالا زميلي المكرم وزير الحرب، مع ما فيها من المبالغة. قلت المبالغة - وأستسمح حضرة زميلي على ما ليس من خصائصي - لأني على يقين تام أن الحرب إذا نشبت بيننا وبين أعدائنا لا يمضي علينا شهر حتى نكون في عاصمة فرنسا، فنجد هناك من المال ما يغنينا عن استهلاك المدخر منه لدينا، أو اقتراض أي مبلغ آخر سواه، وهذا رأي كبير القواد أيضا كما علمت منه.
الإمبراطور (لكبير القواد) :
وأنت، ماذا تقول أيها القائد العظيم؟ وهل الخطط الحربية الموضوعة تضمن لنا هذا الفوز السريع، وقد توفر لديك المال والعدة جميعهما كما سمعت؟
كبير القواد (للإمبراطور) :
جلالتكم تعلمون أن ألمانيا بنظامها البديع - الذي كل الفضل فيه لجلالتكم - هي أشبه شيء بثكنة عسكرية ممتلئة جنودا، وبفضل هذا النظام نفسه هي ميدان تنتقل فيه الجيوش من القلب إلى الحدود بسرعة سيندهش منها العدو، وبفضل جاسوسيتنا المتقنة التي يفتخر كل ألماني بأن يتطوع فيها، وينتسب إليها؛
1
لنا في البلدان الغريبة مراكز مجهولة إلا منا؛ لترتكز عليها مدافعنا الجهنمية الهائلة، التي ليس لها مثيل عند سوانا لدك المعاقل والحصون مهما تكن منيعة، فإذا أضفنا إلى كل ذلك معلومات حضرة وزير الحرب عن حال الجند في الممالك الأخرى كما تقدم، لم يصعب علي أن أؤكد لجلالتكم أن وصولنا إلى باريس سيكون نزهة حربية، ويتم في أقل من شهر.
ولي العهد (طروبا) :
باريس! باريس! عاصمة ملكي الجديد!
الإمبراطور (يسمع ذلك ويقول في نفسه) :
ما أقبح هذا الولد الأهوج! ومن نكد الدنيا أن ليس لي بد من تسليمه بعض القيادة، وأنا لا أخشى الفشل إلا منه. (ثم يلتفت إلى المستشار الإمبراطوري.)
الإمبراطور (للمستشار) :
بقي علي أن أعرف رأيك - أيها المستشار الحكيم - فيما لو شهرت الحرب علينا، أو على فرض أنا اضطررنا نحن إلى شهرها، كيف تستقبل ذلك الأمة؟
المستشار (للإمبراطور) :
مولاي، إن تربية الأمة الألمانية في عهد ولايتكم الزاهرة لم تبق لها إرادة غير إرادة قيصرها العظيم، وحتى لو كان لها ذلك، فالقوة العسكرية لا تسمح لها بأن تتنفس إلا على هوى السلطة الحاكمة، والجند لا يطلب إلا خوض المعامع لنيل الشرف الأثيل على حد الظبى، وهو واقف يتطلع إلى حركات جلالتكم كالمستسقي يستطلع الغيث من مهاب الريح، فإذا نشبت الحرب، وكان لا بد من خوضها، رأت جلالتكم الأمة كلها واقفة لها على قدم وساق مقبلة عليها إقبال الظمآن على الغدير.
الإمبراطور (للجميع) :
هذا كاف الآن، فانصرفوا، وإياكم أن تبوحوا بشيء من ذلك لأحد، ولا سيما للصحف، وليبق هنا مستشاري الخاص وحده. (ويلتفت إلى ولي عهده.)
وأنت كن كتوما هذه المرة، وسيكون لك ما تحب. (يخرج الجميع، ويقف المستشار صامتا ينتظر أوامر الإمبراطور.) (والإمبراطور يمشي في القاعة متمهلا مطرقا، ويداه وراء ظهره، ثم يرتد إلى مستشاره ويقف أمامه، ويده «المشلولة» على قبضة سيفه، ويقول له وهو يحدق فيه):
الإمبراطور (للمستشار) :
الحرب واقعة لا محالة، متى تم الاستعداد لأعدائنا. وقد انتبهوا اليوم، وأخذوا يستعدون، ومن الحكمة كما في المثل «أن نتغداهم قبل أن يتعشونا» ما دمنا نحن مستعدين وهم غير مستعدين، ولا بد من إشراك حليفتنا النمسا معنا فيها ضرورة، فيجب أن نضطرها إليها اضطرارا، فاذهب الآن، وأرني حكمتك، وتذكر خاصة بسمارك. (يذهب الجميع، ويبقى الحكيم وحده ويجلس حزينا ويندب): الحرب واقعة لا محالة، يا للمصيبة! ويا لحرب ستشيب من هولها الولدان! ويا للخراب! إنها ستكون حربا لم يشهد العالم نظيرها في التفظيع والتدمير، الناس اليوم بالعلم أنوفون شديدو الشكيمة، وإخضاعهم ليس بالأمر السهل، والمقاومة الشديدة ستثير الوحش الرابض من مكمنه في النفوس، والعدة اليوم طاحنة تقوض الجماد، وتحرق النبات، وتزهق الأرواح، هو في أطماعه مستهوى، فهو لا يدري الأضرار التي ستحيق بالعالم بسبب هذه الحرب، أو هو يدري ولكنه لا يدري أنها ستحيق به وبأمته مهما تكن نتيجتها له، فكيف بها إذا كانت عليه؟ مصالح الناس اليوم مشتبكة، فلم تبق فواصل بين الممالك فيها، يدعي أن الدول تتحفز للوثوب عليه، مع أنها حتى اليوم غافلة عنه، وهي اليوم إذا انتبهت وأظهرت شيئا من الاهتمام بأمر الحرب؛ فلاتقاء شر استعداداته الهائلة، ويا ليتها كانت مستعدة لها نظيره؛ لكان الخوف منها يمنعه عنها. التوازن ضروري في كل شيء، وإلا وقع الاضطراب، هو لو عمل بمبادئ المدنية الصحيحة التي يرمي إليها العلم اليوم؛ لاتخذ الدول الراقية صديقات لا عدوات، ولسهل عليه حينئذ الاتفاق معها على ما يكسر من شوكة الحروب، ويؤيد سلطان السلم، ويمد بساط المدنية، وكان له بذلك من الفخر المؤثل الأكيد ما هو فوق ما يحلم به من ذلك الفخر الموهوم والمطعون فيه اليوم، ولجد ليحصر التنازع بين الأمم الراقية فيما يعمر، لا فيما يدمر. أوروبا الراقية يجب أن تكون اليوم ممالك متحدة، إن لم تكن صورة فمعنى؛ لتتناصر في العمارة والعلم، وهو يريد أن يثير بينها الحروب ليثير بينها الضغائن والأحقاد، كل ذلك منه طمعا في أن يخضعها لسلطانه، بقية نعرة من عصور الهمجية في رءوس بعض البيوت القديمة المالكة، كأنها في مطامعها الهمجية عائشة واقفة لا تسير مع العصر، ومن نكد الدنيا أنها تجد في كل مجتمع راق أو منحط نصراء لها على أنفسهم، هؤلاء هم «بقر» الاجتماع، لم يبق أمل إلا أن تكون أمته أرقى منه في أفكارها، وأعقل في مطامعها، وهي التي نالت بعملها واجتهادها مركزا ممتازا في العمران، فتنتقض عليه إذا صح ما ينوي وشهر الحرب، وتكون قدوة الأمم في معرفة المصالح العمرانية المشتركة واحترامها، ولكن الأمل قليل وهؤلاء رجاله المختارون من الأمة قد أعمتهم العبودية، وإذا كان ذلك طبعا في الأمة؛ فالطبع أغلب، وكأنه هو يريد أن يخدع الأمة، ويصور لها بأنها المعتدى عليها؛ ليحقق بها حلمه الجنوني، فيا للجناية!
الفصل الثاني
المنظر الأول (المستشار الإمبراطوري - وزير الخارجية - كبير الجواسيس)
المستشار (وحده في مكتبه) :
هو يريد سببا يتوسل به لشهر الحرب! أمام من يريد أن يبرر عمله؟ أمام أمته وهي بروح الطاعة التي تربت عليها في عهده تبلع الجبال ولا تغص، وتشرب البحار ولا تشرق؟ أم أمام العالم؟ يوصيني أن أتذكر بسمارك في كذبته، أيجهل أن لكل مقام مقالا، وأن لكل زمان دولة ورجالا؟ فرنسا قبل حرب السبعين كانت في المقام الأول بين الدول، وحكومتها الإمبراطورية بالغة في الكبر حد الطيش، وبروسيا كانت في أول نشاطها، ومغاضبة الصغير للكبير لا تطاق مهما تكن طفيفة، والضعيف محتاج دائما إلى تبرير عمله حتى في حقه الواضح. وأما اليوم، فماذا تجدي كذبة بسمارك، وحكومة الجمهورية أعقل من أن تتهور بتلغراف مكذوب؟ أو ماذا تخشى ألمانيا وهي بهذه القوة الهائلة، وهذا المقام الممتاز بين الدول؟ والقوي لا يحتاج إلى تبرير عمله وذنبه مغفور، والناس يحكمون دائما لا بحسب الأسباب، بل بحسب النتائج، ولكن الإمبراطور يريد سببا يبرر به عمله، ومن الأسف أنه مع ما له من المدارك السامية والمطامع الكبيرة هو مقلد لا مبتكر، والفرق أن المقلد ينسج على منوال واحد في كل زمان ومكان، والمبتكر يلبس لكل حالة لبوسها؛ أي: أنه يفتق بحسب الحوادث والأحوال، ولكني «أنا» لا يصعب علي أن أرضيه، وأخرج عن أن أكون مقلدا، فأنا أجاريه في رغبته، وأرتفع فوق بسمارك كثيرا، فإذا كان بسمارك قد أدهش الناس بحيلته؛ فأنا سأذهلهم بإقدامي، غير أنه يريد أيضا أن أشرك النمسا في الحرب ضرورة؛ أي: أن أضطرها إليها اضطرارا، حتى لا يكون لها مناص منها، فكأنه لا يثق كثيرا بهذه المحالفات إذا لم تتوفر فيها المصالح على السواء، وهي معه غير متوفرة، وما حلفاؤه عنده إلا آلات لتخدمه لا ليخدمها، والذي يعلم من نفسه أنه لا يوثق به فهو لا يثق بسواه. والعجيب أنه لم يفاتحني في أمر إيطاليا، فكأنه لا يريد أن يشركها لا في الحرب، ولا في الرأي، فهل هو غير واثق منها بالمرة؟ أو هو غير معتد بها؟ أو هو ناقم عليها؟ ولعل في الأمر شيئا من كل ذلك، والحقيقة أن محالفتنا لإيطاليا كانت غلطة من أغلاط بسمارك، فقد خدمناها كثيرا، فكبرت وقويت في ظلنا، ولم تنفعنا بشيء، بل أضرتنا، فإذا كانت فرنسا سلبتنا تونس ومراكش، فهي أخذت طرابلس الغرب من تحت ذقننا، ولقد خدعنا بها هذه المرة أيضا؛ فسكتنا عنها لاعتقادنا أنها ستفشل في حملتها هذه، ويفضي بها ذلك إلى الرجوع للضعف، فأخطأ فيها حسابنا مع كل مساعينا ضدها مع خصومها في السر، ويلوح لي أن صمت الإمبراطور عنها هذا الصمت دليل على أنه يكظم لها الغيظ، وينوي لها شرا، وليس يوجد انتقام أشد من انتقام الغضب البارد، فإذا اكتسح فرنسا - واكتساحها في اليد - وجه عنايته إليها، وأذلها حتى تصبح أوروبا كلها في يده كالخاتم في الخنصر، وحتى لا يبقى سوى تلك الجزيرة المنعزلة، وحسابها قريب. على أن ذلك إذا لم يكن في حساب الإمبراطور فهو في حسابي، وسأتكفل بتحقيقه له، حتى تنسى ألمانيا ذكر بسمارك وينساه العالم معها.
الخادم (للمستشار) :
وزير الخارجية بالباب يطلب مقابلة مولاي.
وزير الخارجية (للمستشار) :
وردتني أخبار من سفيرنا في النمسا أن ولي عهدها عازم على سياحة في داخل المملكة، وسيتجول على نوع خاص في أملاك النمسا السلافية.
المستشار (للوزير) :
وماذا يقصد يا ترى من هذه السياحة؟ هل قال لك السفير شيئا؟
الوزير (للمستشار) :
لم يقل سوى أنها سياحة تعرف، وأنا أرى أن الأرشيدوق ولي العهد يتوقع من دقيقة إلى أخرى أفول نجم ذلك الشيخ الفاني الإمبراطور فرنسيس يوسف، فهو يريد أن يتبين أحوال الأمم في مملكته؛ ليعرف كيف يحكمهم بيد من حديد، وحضرتكم تعلمون أن ولي العهد شديد، وهو تلميذ إمبراطورنا وصديقه الحميم.
المستشار :
يظهر أن هذا الفصل هو فصل السياحات الملوكانية، إمبراطورنا غائب في ستوكهلم، وبوانكاره في روسيا، وولي عهد النمسا يجول في مدن بلاده، وملك الإنكليز هذا مشغول اليوم بحرب الأحزاب في إيرلندة.
يا للعجب من تماسك هذه السلطنة الضخمة حتى الآن! وهي في يقيني لا تمسكها إلا خيوط من عنكبوت، وأرى أنها أشبه بصنم هائل من خزف، فأقل شيء يسحقه إلى الأرض، أليس كذلك يا حضرة الوزير؟
الوزير (للمستشار) :
أنا أعلم أن مستعمرات الإنكليز غير مخلصة لهم، والمسلمون من أهلها لا يحبونهم مع كل توددهم الزائد لهم، والإغضاء عن هفوات تركيا ضدهم، ورغبتهم الزائدة في أن تبقى الأستانة عاصمة بيدهم مهما يكلفهم ذلك، خذ المصريين منهم، فإنهم لم يروا من عهد الفتح عصرا صلحت فيه أمورهم مثل عصر الاحتلال الإنكليزي، ومع ذلك فهم لا يفتئون يحركون ضدهم، ولمصلحة من يا ترى؟ لمصلحة الأتراك الذين أفنوهم، ولمصلحة الحكومات الأخرى التي أزهقتهم. ويعجبني من ناشئتهم إذ يقولون إن الإنكليز سلبوهم استقلالهم وسعادتهم. فهل الحالة التي كانوا فيها استقلال وسعادة؟ كان عددهم على عهد إسماعيل ثلاثة أو أربعة ملايين، فصار اليوم يربو على الاثني عشر مليونا، كان فدان الأرض يساوي عشرات الجنيهات، ولا من يشتري، فصار يساوي مئاتها، ولا من يبيع، وهل إذا طمحوا إلى استقلال حقيقي، ورحل الإنكليز عنهم يستطيعون أن يذودوا عن أنفسهم من احتلال آخر، وهم لا يملكون شيئا من أسباب الاستقلال أمام سائر الدول التي تدعوها مصالحها للتداخل في شئون مصر والمصريين؟ على أن ذلك يخدمنا في مصالحنا نحن، فعلينا ألا ندع الفرصة تضيع منا.
المستشار :
ولكن الأرض تخرج من أيدي المصريين.
الوزير :
وعلى من الذنب؟
المستشار (متأملا) :
معلومات مهمة ينبغي علينا ألا نغفل عنها، وأن نتحين الفرص للاستفادة منها؛ لئلا تفوت، والفرص إذا فاتت قلما تعود. (ثم يلتفت إلى الوزير.)
فعلى رأيك لو وقعت حرب بيننا وبين فرنسا وروسيا، وانضمت إليهما إنكلترا ... (لا يدعه الوزير يكمل.)
الوزير (للمستشار) :
النصر مؤكد لنا ، وإنكلترا لو دخلت في الحرب ضدنا اغتنمت مستعمراتها الفرصة، وثارت عليها، وأغنتنا عن محاربتها، وكان ذلك قرع جرس نعيها، هذا يقيني.
المستشار (للوزير) :
شكرا لك. (يودع الوزير وينصرف.)
المستشار (وحده) :
الفرصة سانحة، ولو أردت أن أخلقها لما وجدت أنسب منها؛ فهي جامعة لجميع الشرائط المطلوبة. (يقرع الجرس.)
المستشار (للخادم) :
ادع إلي كبير الجواسيس في الحال.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
ما دعوتك لأمر أهم من الأمر الذي أريد أن أعهد بإتمامه إليك، هو يحتاج إلى مهارة وتكتم ما بعدهما مزيد، ولكنك أنت ابن بجدتها.
كبير الجواسيس (للمستشار) :
ليأمر حضرة المستشار.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
هو سر ينبغي أن يدفن معك ومعي، وربما أبحنا به قبل إذا تحقق الغرض المترتب عليه، والغاية تبرر الواسطة، والغاية هنا ما بعدها غاية، وهي تحقيق حلم ألمانيا الجميل.
كبير الجواسيس (للمستشار) : ...؟
المستشار (لكبير الجواسيس) :
لا بد لنا من الحرب اليوم قبل أن تتم الدول استعداداتها؛ ليتأكد النصر لنا، ولا بد من إشراك النمسا فيها ضرورة، فلا بد إذا من سبب وجيه، هذه إرادة الإمبراطور. (وبعد صمت قليل يقول المستشار) : هل أنت عالم بسياحة الأرشيدوق ولي عهد النمسا؟
كبير الجواسيس :
نعم، وهو سيكون في مدينة سراجافو من أعمال النمسا بعد ثلاثة أيام.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
بالحقيقة إن إدارتك بغاية الانتظام. (ثم يقول له) : وهل لا تخشى عليه هناك من يد أثيمة من السلاف الناقمين بدسائس الصرب، التي لا تزال تحركهم طمعا بضمهم إليها؟
كبير الجواسيس (وكأنه فهم المراد) :
أخشى عليه كثيرا، وإدارتي بغاية المقدرة.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
هذا ما كنت أنتظر، فاسمع إذن، السياسة تقتضي ذلك، والمصلحة فوق كل شيء، لا بد من هذه الجناية لاتهام الصرب بها، ولا بد من الكتمان.
كبير الجواسيس :
حتى على الإمبراطور؟
المستشار (له) :
ولا سيما على الإمبراطور، فالأرشيدوق صديقه الحميم، وهذا هو السبب الذي لأجله اخترت أن تكون الجناية عليه، حتى إذا لانت النمسا ما لان الإمبراطور، ووقعت الحرب لا محالة.
كبير الجواسيس (للمستشار) :
كن مطمئنا، فمنذ الآن تستطيع السياسة أن تعتبر الصرب جانية.
المستشار :
بالحقيقة إن قوة ألمانيا الهائلة هي في جاسوسيتها المنظمة.
المنظر الثاني (الخادم - كبير الجواسيس - المستشار - ناظر الخارجية - غيليوم)
المستشار (في مكتبه قلقا) :
اليوم موعد وصول الأرشيدوق إلى سراجافو، مسكين الأرشيدوق هذا اليوم عليه يوم بؤس، ولكن هل توجد حيلة أخرى لتحقيق رغبة الإمبراطور وإشراك النمسا في الحرب؟ ألا يكون الإمبراطور يرمي إلى ذلك، حتى اختار هذه الفرصة وأوصاني أن أتذكر بسمارك؟ مع أن الأرشيدوق صديقه، ولكن أية صداقة تقف في سبيل مطامعه التي لا حد لها؟! ولقد أحسنت في أن أوصيت كبير الجواسيس بالكتمان، حتى على الإمبراطور نفسه، فالحكمة تقتضي ذلك، ولو أن العمل ينطبق على مرامي الإمبراطور. والحكمة وإن كانت تقرأ ما بين السطور، وتعلم ما في طي الصدور، إلا أنها في السياسة تطلب دهاء كثيرا. (يدخل الخادم ويستأذن لكبير الجواسيس.)
كبير الجواسيس (للمستشار) :
الأقدار تخدم سعادتكم، لقد قضي الأمر من دون أن يكون لنا فيه أدنى يد تثقل ضمائرنا، فقد كانت المكيدة مدبرة من قبل تدبيرا شيطانيا، إذ صف القتلة اثنين اثنين على طول الطريق، حتى إذا نجا من أول كمين لم ينج من الثاني، وهكذا، وقد قتل الأرشيدوق وزوجته في الكمين الثاني.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
رحمة الله عليهما، وماذا يقول الناس هناك؟
كبير الجواسيس (للمستشار) :
يقولون إنها مكيدة من الصرب، وهل في ذلك شك؟!
المستشار (للكبير) :
وأنت ماذا تقول؟
كبير الجواسيس :
ماذا أقول؟ أقول كما يقولون. (وفي نفسه.)
هو في حيرة، ويلذ لي أن أراه في هذه الحيرة. (يودع ويخرج.)
المستشار (وحده) :
مهما يكن من ذلك، فالمطلوب حصل، ولكن حتى الساعة لم يرد نبأ بذلك على الحكومة. (يدخل الخادم ويستأذن لوزير الخارجية.)
وزير الخارجية (للمستشار) :
وردني نبأ مكدر جدا، وربما كان سببا لمشاكل كبرى بين الدول، ولا سيما أنه يحزن جدا جلالة الإمبراطور، فقد أنبأني سفيرنا في فينا أن قنصلنا في سراجافو أبرق له بأن الأرشيدوق ولي عهد النمسا قتل في هذه المدينة هو وقرينته، وأن قاتليه من السلاف، ويرجح أن الأمر بدسيسة من الصرب .
المستشار (للوزير) :
يا للفظاعة! يا للفظاعة! إذا كان الأمر كما ذكرت فليس أمامنا مشاكل دولية فقط، بل أمامنا الحرب على الأرجح، فإن النمسا لا يسعها السكوت عن هذه الجناية، وإمبراطورنا سيبلغ به الغضب من قتل صديقه مبلغا لا يقف به إلا عند سحق الصرب، هذه الدولة الحقيرة التي لم تعد تعرف في غرورها أن تقف عند حد.
نعم هي الحرب؛ لأن روسيا لا ترضى بأن النمسا تسحق الصرب، وفرنسا لا بد لها من نصر حليفتها، ونحن ناصروها إذا تحركت روسيا، فالحرب واقعة لا محالة، وعما قليل سينقض الإمبراطور علينا كالصاعقة عائدا من سياحته متى علم بالفاجعة، فلنستعد لشهود غضبه، وما سيتبع ذلك من المشاكل. (يودع الوزير ويخرج.)
المستشار (وحده) :
هذا الداهية كبير الجواسيس يجعلني بتصريحه في حيرة، أصحيح يا ترى ما يقول؟ إنه حينئذ لاتفاق عجيب، أم ذلك منه منتهى الحذر؟ ألعله لا يأتمن جانبي ويخشى غضب الإمبراطور؟ من يدري؟ وما دمت لا أنوي التصريح الآن، فلا بأس، وستكشف الأيام الحقيقة كما كشفت عن دهاء بسمارك، على أن المجال لدي واسع ما دام اعتمادي على إقدامي، وبهذا امتيازي العظيم على بسمارك.
المنظر الثالث (الإمبراطور - المستشار - وزير الخارجية - وزير الحرب - كبير القواد)
الإمبراطور (وحده في قصره غاضبا) :
أبلغ من قحة هذه البعوضة أن تتهجم علينا إلى هذا الحد؟ أنا لا أكره أن يخلقوا لي الأسباب لأؤدبهم جميعا، لم يقتلوا ولي عهد النمسا وامرأته، بل قتلوا صديقي الحميمين، فوا أسفاه عليكما! لا بد لي من سحق هذه الدولة الحقيرة المغرورة، ولو أدى بي ذلك إلى أن ألهب النار في أوروبا كلها. (يقرع الجرس.)
الإمبراطور (لكبير الحرس) :
ادع إلي في الحال مستشاري ووزير الخارجية ووزير الحرب وكبير قوادي.
الإمبراطور (لهم) :
جميعكم تعلمون النبأ الصادع الذي ألم بحليفتنا، وهذا اليوم هو يوم انتقامي الشديد، فيا حضرة المستشار نص أنت البلاغ الذي يجب أن ترسله حكومة جلالة حليفي إمبراطور النمسا إلى هذه الأمة الشريرة دول الصرب، وليكن في الغاية القصوى من الشدة، حتى لا تقبله أية دولة مهما تكن حقيرة، ولا تمهلها أكثر من 48 ساعة للقيام بالترضية المطلوبة، ولتكن النمسا على قدر الاستعداد لاجتياز الحدود عند أول إشارة.
وأنت يا وزير الخارجية، أكد على حضرة زميلك هناك أن إرادتي هذه لا تقبل تعديلا، فلتكن حكومته شديدة إلى الغاية، ولتخلق الصعوبات إثر الصعوبات كلما بدا من الآخرين تساهل، إذ لا بد من الحرب، فالإهانة التي ألحقوها بنا لا تطاق، ومصلحتنا لا يسعها أن تصبر أكثر مما صبرنا حتى الآن.
وأنت يا وزير الحرب، أعط الأوامر لتعبئة الجيوش، وتجهيزها بكل ما يلزم لها من العدة، حتى لا ينقصها شيء.
وأنت يا كبير قوادي، لتكن جيوشي جاهزة واقفة عند الحدود؛ كي تجتازها عند أول إشارة، وها قد حانت تلك الفرصة لإظهار كفاءتك الموثوق بها، عسى أن تكتب لك في تاريخ ألمانيا صفحة مجيدة، كما كتب كبير أسرتك الشهير، وقد قاد جيوش جدي المظفرة إلى النصر، فحقق ثقتي فيك باختياري لك، وإني لمتفائل خيرا باسمك المجيد. (وإلى الجميع) : فانصرفوا الآن، وليقم كل واحد منكم بما أمرته به خير قيام.
المنظر الرابع (المستشار الإمبراطوري في مكتب الإمبراطور.)
المستشار (للإمبراطور) :
زارني سفير إنكلترا، وقال لي إن حكومته ترغب في حل الإشكال إما بمؤتمر دولي، أو على الأقل بمداولة على يد السفراء، ولكن الوقت المفروض للترضية ضيق جدا، فهي ترغب تمديده، وتطلب منا أن نستمهل النمسا، ويظهر أن النمسا تميل إلى اللين.
الإمبراطور (بدهشة) :
ماذا تقول؟ تميل إلى اللين!
المستشار (في حديثه) :
ولكني قلت له: إن روسيا تعبئ جيوشها، وهذا ما لا قبل لجلالتكم بغض النظر عنه.
الإمبراطور :
وهل هي تعبئ حقيقة؟
المستشار :
جلالتكم تعلمون أن روسيا لا تسمح عن طيبة خاطر باكتساح الصرب، ولكنها كسائر الدول غير مستعدة للحرب، بل جميعهن لا يصدقن بإمكان وقوعها، فلعلي أحرجها إليها لإحراج فرنسا معها، ومع ذلك ماذا يهمنا إذا لم تطلبانا للحرب، فنحن نتذرع بألف وسيلة، ونشهرها عليهما، ألم تأمروني جلالتكم بأن أتذكر بسمارك؟ وماذا تجدي حيلة بسمارك اليوم؟ فقد كانت صغيرة مثلنا في ذلك العهد، ولكنها كانت كبيرة جدا على فرنسا لكبريائها حينذاك، وأما اليوم فيجب أن يكون عملنا على قدر قوتنا، وقدر استخفافنا بسوانا، والحق إنما هو للقوة دائما.
الإمبراطور (يرى في يد المستشار أوراقا فيسأل) :
وما هذه الأوراق التي بيدك؟
المستشار :
هي البلاغات التي ظننت أن جلالتكم تحتاجون إليها.
الإمبراطور (للمستشار) :
أنت تعلم أن خطتنا الحربية هي أن نكتسح فرنسا من جهة البلجيك؛ لأنها من هذه الجهة غير حصينة، فلا تؤخرنا مقاومتها كثيرا، والسرعة في سحق فرنسا هي التي تضمن فوزنا في ميادين الحرب جميعها، فما الرأي في ضماننا لحيادها وحياد اللكسمبرج؟ وماذا نصنع بتعهدنا أمام الدول؟
المستشار :
الرأي إما أن نتفق معهما، ونضمن لهما سلامتهما إلى الحين، وإما أن نكتسحهما إذا أبتا غير مبالين بتعهدنا، فننال منهما عاجلا ما ننويه لهما آجلا، وما هو التعهد؟! هل هو إلا كلمة فارغة لا معنى لها، والغاية تبرر الواسطة.
الإمبراطور :
وما رأيك في إنكلترا خاصة؟
المستشار :
إنكلترا؟ نحاول أن نخدرها ما أمكن، على أنها لا تستطيع شيئا، وهي على ما هي من الاضطراب، هي لا شك تحتج على خرق حياد البلجيك في الظاهر، ولكنها لا تفرغ من احتجاجها، حتى نكون قد قضينا لبانتنا، وأصبحت أوروبا كلها في قبضة يدنا.
الإمبراطور :
فلنعجل إذن بتوقيع البلاغات لئلا تفوت الفرصة، وتقلقنا الدول بمراوغاتها السياسية التي لا يقصد بها إلا تهدئتي عنها. (يأخذ البلاغات ويوقعها، ثم يلتفت إلى المستشار.)
الإمبراطور :
أرى هنا ثلاثة بلاغات غير معينة.
المستشار :
قد نحتاج إليها لأميركا أو للصين.
الإمبراطور :
وهذا الثالث لمن؟
المستشار :
صحيح هذا زائد، ولكن من يدري؟ فهل نحن على ثقة تامة حتى من حلفائنا؟
الفصل الثالث
المنظر الأول
المستشار (للإمبراطور) :
لقد رضيت اللكسمبرج بأن تجتازها جيوشنا مقابل تعهدنا لها بألا نمس استقلالها بشيء، وأن نعوض عليها ما قد يلحق بها من الضرر بسببنا، ولقد عرضنا مثل ذلك على البلجيك، ولكنها أبته علينا، واعتبرته منا إهانة لها، ولما رأتنا نصر، وأن لا بد لنا من اجتيازها إن لم يكن برضاها فقوة واقتدارا، قام الملك ألبرت يخطب في جيوشه، ويحمسهم معرضا بجلالتكم بكلام مهين تأبى شفتاي أن تتلفظا به.
الإمبراطور (للمستشار) :
ماذا قال هذا المفتون؟ لا تخف عني شيئا.
المستشار (للإمبراطور) :
عفوكم مولاي. قال: إن جارنا الوقح يساومني على شرفنا مساومة دنيئة، فهو يعرض علي أن أبيعه خرق حياد بلجيكا بالمال. وفي ظني أنه مدفوع إلى المقاومة من فرنسا وإنكلترا، فهما تشدان أزره، وإلا فالغرور وحده لا يحمله على هذه الجسارة ضدنا، وهو لا يجهل بأن مقاومته لنا لا تجديه نفعا، وهو بهذا الضعف، ونحن بهذه القوة، وإنه لمن العار علينا الإبقاء على هذه الدول الصغيرة اليوم.
الإمبراطور (وقد استشاط غيظا) :
يقول جلالته إني أساومه مساومة دنيئة؟ (ثم يبتسم ساخرا.)
وشرفه الأثيل يأبى عليه ذلك؟ فسيعلم الذين تسول لهم نفوسهم مقاومتي أن انتقامي شديد، فليكن جنودي قساة حتى البربرية، «فالويل الويل للمغلوب».
المستشار (للإمبراطور) :
إني أرى رأي جلالتكم في ذلك وأكثر (ثم يبتسم) .
الإمبراطور (للمستشار) :
أراك تبتسم؟
المستشار (للإمبراطور) :
أبتسم؟ لأن من البلية ما يضحك؟ فقد أرسلنا بلاغاتنا إلى فرنسا وروسيا، ووردتنا بلاغات من إنكلترا واليابان، ولكن من البلية أن نظام المجتمع لا يزال فيه أمم صغيرة ودويلات حقيرة يطلب منا أن نعاملها، أو نصبر على معاملتها لنا معاملة النظير لنظيره، فقد وردنا بلاغ لو تدرون جلالتكم ممن؟! من إمارة الجبل الأسود تشهر علينا به الحرب.
الإمبراطور (مشمئزا) :
الحمد لله أنه ليس من جمهورية «سان مارينو»، ولكني سأصفي حساب هذه الدويلات جميعها متى فرغت من الدول الكبرى، وأنهض بالمجتمع إلى مستوى لا يخجل منه، ولقد بدأنا اليوم بالبلجيك. (يقلق ويلتفت يمينا وشمالا.)
وإني لمنتظر أخبار جنودنا فيها؛ لأنه على سرعة اجتيازنا لها يتوقف مستقبل غزوتنا. (يدخل كبير الحرس ويستأذن لكبير القواد.)
كبير القواد (للإمبراطور) :
لقد فرغنا من بلجيكا، ودمرنا حصونها تدميرا، وخربنا مدائنها، ولم نبق فيها على أثر، وشردنا أهلها في الأقطار، وهم الذين نجوا من السيف والمدفع والنار.
الإمبراطور (لكبير القواد) :
هذا أقل جزاء للمغرورين ولكني أرى أنا أضعنا في بلجيكا وقتا أكثر مما كنت أنتظر، وربما نكون قد أضعنا فرصا أيضا.
كبير القواد (للإمبراطور) :
الحق يقال، إن هذه الأمة الصغيرة قد استبسلت في الدفاع عن نفسها، وكأنها كانت متوقعة هذه الغزوة منا، فقد وجدناها بغاية الاستعداد؛ من حصون منيعة، وكبار ملغومة، وسدود لتغريق الأرض، مع علمها أن حيادها مضمون، ولكن كل ذلك لم يحل دون بلوغ جنودنا النصر ومنتهى الفخر.
الإمبراطور (لكبير القواد) :
وأين أنتم من شراذم جنود الإنكليز الحقيرة، هذه الأمة التي أردنا أن نوقرها فاحتقرتنا.
كبير القواد (للإمبراطور) :
هؤلاء قصدنا أن نفنيهم على بكرة أبيهم، ولكن المؤجل لا يفوت، ولقد كسرناهم شر كسرة، وكسرنا الفرنساويين معهم في معركة شرلروا، ولولا قليل لأحدقنا بهم جميعا، وأخذناهم أسرى، ولو تم لنا ذلك لكانت الواقعة هناك فاصلة كواقعة سيدان، ولكنهم تمكنوا من الانسحاب بعد خسائر هائلة، وكأنهم في انسحابهم لا يلوون على شيء، وجيوشنا المظفرة تتعقبهم، ولا تصادف مقاومة تذكر، وعن قريب سنصل إلى حصون باريس.
الإمبراطور (لكبير القواد) :
كل ذلك عوائق توجب القلق، أنا لا أريد الآن أن أظهر بمظهر المتعنت، وإنما أرجو لقيادتك حظا أحسن عند حصون باريس.
المنظر الثاني
الإمبراطور (وحده) :
لا ينكر أن أحوالنا حتى الساعة حسنة، وتقدمنا مستمر، ولكن كل يوم نتأخره هو فرصة لأعدائنا يستعدون فيها، لقد كان لنا عليهم في أول هذه الحرب امتيازان: القوة والمباغتة، وهذه الأخيرة أهم، وقد ضاع أملي بالمباغتة اليوم، وقد أعطي الفرنساويون والإنكليز وقتا كافيا للاستعداد، فمن أين أتى ذلك؟ وما هو الخطأ الذي ارتكبناه؟ لم يبق لنا الآن سوى الاعتماد على القوة، وهذه راجحة في كل حال، ولو أضاعت وقتا أطول، ولا سيما أن الإنكليز لا يعتد بهم كثيرا في البر، وأما في البحر - ولو أني لا أستطيع أن أحاربهم بعمارتي وجها لوجه - فلأفنين عمارتهم بغواصاتي، وأصطادها بها كما يصطاد ابن عرس صغار الفراخ، كما أني لأدمرن مدنهم بطياراتي، ولكن أخبار حليفتنا النمسا تقلقني. (يقرع الجرس ويأمر كبير الحرس أن يدعو إليه وزير الحرب.)
الإمبراطور (للوزير) :
ما الخبر اليقين عن النمسا؟
الوزير (للإمبراطور) :
أخبار حليفتنا النمسا غير سارة، فهي من جهة الروس في انكسار، ومن جهة الصرب ليست في انتصار، والروس مع ذلك متقدمون في أملاكنا الشرقية.
الإمبراطور :
لا عجب وقد تركنا لهم هناك الحبل على الغارب، فلم نترك أمامهم قوة تصدهم لانصرافنا عنهم إلى ما هو أهم، أما الآن فلم يبق من حاجة إلى كل ذلك وقد تقدمنا في الزحف على باريس، فيلزم أن نرسل في الحال جيشا ضد الروس يخرجهم من بروسيا الشرقية، أو يهلكهم في مستنقعاتها، وأن نرسل نجدة إلى النمسا تمكنها من قهر العدو، ولا سيما أنها تشكو من أن نجدتها لنا أثرت عليها كثيرا، وليكن ذلك بمنتهى السرعة.
الوزير (للإمبراطور) :
سيكون لجلالتكم ما ترغبون، ولا سيما أن السرعة متوفرة لنا بفضل سككنا الحديدية الحربية البالغة منتهى الإتقان.
الإمبراطور (في نفسه) :
الحق يقال إن قوتنا الهائلة هي في سككنا الحديدية التي لا نظير لها عند سوانا. (يخرج الوزير، ويدخل كبير الحرس، ويستأذن للكرونبرنس.)
الإمبراطور (للكرونبرنس هاشا) :
ما وراءك يا ويلهلم؟
الكرونبرنس (للإمبراطور) :
كل خير في ظل جلالة مولاي الإمبراطور، جيشنا في الألزاس يطرد العدو، وهذا ينسحب أمامه راضيا من الغنيمة بالمآب، وما كان تغريرنا له في الزحف علينا إلا خدعة حربية عرف منها أن لحمنا مر، والحق أن تصرف جنودنا وضباطنا في هذه الحرب كان بديعا، فقد كانوا كأسود بعد أن جوعت وعطشت، وجنودنا كانوا عطاشا إلى الدم، وجياعا إلى النهب والسلب، وكأنهم لا يزال يرن في آذانهم كلام جلالتكم «الويل للمغلوب» فقاموا يفتكون، ويحرقون، وينهبون، ويفسدون، فلم يحترموا كاهنا يصلي، ولا شيخا كبيرا، ولا طفلا صغيرا، ولا حاملا تجهض، ولا بنتا عذراء، ولا طبيبا مداويا، ولا ممرضا مؤاسيا، ولا أثرا قديما أو جميلا يفتخر به علينا إلا وقد دمروه، ولقد أقمت أياما في قصر فخم لأحد أمرائهم فيه من الآثار الثمينة والرياش الفاخر ما لا يثمن بمال، فبعد أن شربنا وطربنا وأتينا على ما فيه من الخمور المعتقة قمت أجمع كل ما خف حمله وغلا ثمنه، وبعثت به إلى برلين، وأعدمنا كل ما لا يحمل، ثم رحلنا عنه بعد أن تركنا لهم فيه آثارنا، وقد حضرت الآن لكي أستأذن جلالتكم في الانضمام إلى جيشنا الزاحف إلى باريس؛ لأكون في مقدمته عند دخوله هذه المدينة ظافرا.
الإمبراطور (للكرونبرنس) :
هل لك شأن آخر؟
الكرونبرنس (للإمبراطور) :
لا يا مولاي، جلالتكم تعلمون أن باريس هي أقصى منيتي.
الإمبراطور (للكرونبرنس) :
ليكن لك ما طلبت. (يخرج الكرونبرنس.)
الإمبراطور (وحده) :
متى يتأتى لهذا الولد أن يكون رزينا؟
المنظر الثالث
الإمبراطور (في قصره الأوتومبيلي، والغضب بالغ منه حد الجنون) :
ماذا يبلغني؟ أكاد لا أصدق أذني، هل هذا ممكن؟ جيش ظافر يطارد عسكرا مكسورا، لا يبلغ ثلثه عدا يكسره هذا العسكر القليل الخائر، وأية كسرة؟! لولا أن عصر العجائب قد انقضى لقال الناس غدا: إن قديسا أو قديسة هي التي أنقذت الفرنساويين في واقعة «المارن» كما أنقذتهم جان دارك في الماضي، ولطوب هذا الشعب - لولا أنه شعب ملحد - قائده العظيم جوفر كما طوبت الكنيسة جان دارك اليوم، فما هذا يا إلهي؟ لقد زعزعت ثقتي فيك، كيف تسمح لهذا الشعب الذي أنكرك أن يفوز على شعبك الألماني الخاص، وعلى ممثله المتصل نسبه بك، فيا لضياع اعتمادي عليك! لم يبق لي تلك الثقة فيك ما دام للقديسين اليوم هذه المقدرة دونك، إني لأدمرن كنائسهم ولأحرقن صور قديسيهم، حتى لا يبقى لهم منقذ ينقذهم من غضبي، إني أنا الواحد القدير على هذه الأرض، وأنا الغني عن كل حليف آخر أرضي أو سماوي، وقوتي يجب أن يدين لها الثقلان.
لقد أحسنت ظني بقوادي؛ فساء فألي، ولقد أخطأت بأن سمحت لابني أن يلحق بجيشي الزاحف على باريس، وهو عنوان الفشل والخذلان حيثما كان. ولقد كان أول الفارين هذا المتبجح بفوز سواه للتصدر في مقدمة الظافرين، لقد أظلمت الدنيا في عيني من هذا الانكسار الهائل فكأن أحلامي كلها ضلت، لقد ذهبت تلك الآمال الكبيرة، وكاد يتولاني اليأس لولا ما بي من العزيمة التي تفل الحديد.
وسواء كان النصر ميسورا لي أو كتب لي ألا يكون النصر حليفي؛ فلأقلقن الأرض والسماء؛ حتى يعلم الجميع على السواء أني أكبر من أن يزعجني ما يقول الناس عني، وأني في غنى عن رضى الآخرين، وأن غضبي لا يستهان به، فلأدمرن الأرض حيثما حللت كأني الزلزال المميد؛ فأهدم المساكن والقصور، وأدك المعاهد والمعابد، وأحرق الزرع، وأبيد الضرع؛ حتى لا يجد الناس مفرا لهم مني غير خنادق الأرض يحفرونها، ويقيمون فيها كالمناجذ، وهيهات أن تقيهم ناري الحارقة، وغازاتي الخانقة، حتى تمسي الخنادق لهم مدافن لا مساكن، وحتى أثير حربا شعواء فوق الأرض، وتحت الماء، وفي الهواء لم يسمع نظيرها سكان الغبراء، تقلق أهل الجحيم، ويصل شرارها إلى سكان السماء ما دام الجميع خانوني، واستهانوا بي، واستسهلوا غضبي، وما دام نصيري علمائي الأعلام يخدمون أغراضي باختراعاتهم الفائقة، ومنشوراتهم المبرورة، وهذا منهم اعتناء زائد، فهل أنا بحاجة إلى مثل هذا التبرير؟!
على أن علمائي بين علماء اليوم أعلام، فهم مثلي يفهمون ضعف الناس، ويسطون عليهم، ويقودونهم إلى حيث يشاءون كما يقاد الأعمى، وهذا سر التحكم في الناس: إقدام وجسارة، وأن تعتبر الناس كما هم، لا كما تريد أن يكونوا، ولكن قوادي، آه منهم لقد أضاعوا علي بسالة جنودي، وحسن تدريبهم، وبديع نظامهم، فلأقلبن الأرض على رءوسهم قلبا. (يقرع الجرس، ويأمر كبير حرسه بأن يدعو إليه قواده وكبيرهم.)
الإمبراطور (لقواده غاضبا) :
لقد وضعت ثقتي بكم في غير محلها، ولقد نلت جزائي على ذلك، ولكن هل في الإمكان أن أكون أنا في كل مكان؟ لقد كان نابوليون الكبير كبيرا بأعوانه، كما كان نابوليون الصغير صغيرا بأعوانه، إني لأكونن أكبر من نابوليون الكبير، وإن كنتم أنتم صغارا، ومن ذا يكون نابوليون الكبير وأعوانه في هذه الحرب اليوم؟! فلأكونن أنا وحدي الكل في الكل. (ثم يلتفت إلى كبير قواده.)
وأنت أيها القائد العظيم، إني أخطأت كثيرا بتيمني باسمك، فالزم بيتك، وهذا أقل جزاء المقصرين. (يبهت قليلا، ثم يقول): وأين الكرونبرنس؟ هذا الذي لم أكن أتوقع منه خيرا، ولعله في فراره قد سبق إلى برلين بدلا من باريس؟ فليلزم هو بيته أيضا. (وبعد فترة يقول في نفسه): من هو هذا الداهية الذي نظم جيوش الفرنساويين هذا النظام البديع، وأتى بهذه المعجزات؟ فلنعم القائد هو! ونعم الأمة التي أنجبته، ولو أنها عدوتي، ولكن لا بد لي من سحقه، والفخر يعظم كلما كان الخصم عظيما. (يخطر قليلا وهو مضطرب ويقول): آه من هؤلاء الإنكليز فقد أحبطوا علي كل أعمالي، وسدوا علي المنافس، فلأصلينهم حربا في الهواء، وتحت الماء لم يسبق لها مثيل، هم يريدون أن يحصرونا ليميتونا جوعا، لولا أن لكل رائد نجعة، ولولا منافذ المحايدين، فلأفسدن عليهم كل شيء. (يقرع الجرس ويطلب مستشاره.)
الإمبراطور (للمستشار) :
ما حال حليفتنا تركيا؟
المستشار (للإمبراطور) :
جلالتكم تريدون أن تعرفوا حال أنور وعصابته، وإلا - كما تعلمون جلالتكم - فتركيا لو استطاعت لما حشرت نفسها في هذا المأزق لأجلنا، أما أنور وعصابته فقد باعوا لنا على رغم أنف العثمانيين، ونحن اشترينا منهم ويدنا اليوم فوق كل يد في إدارة شئون المملكة التي استبدوا بها.
الإمبراطور (للمستشار) :
وأين هم من حرب الجهاد التي وعدونا بها؟
المستشار (للإمبراطور) :
كأنهم خدعونا بهذا الشبح الموهوم، فالمسلمون لم يحركوا ساكنا ضد الإنكليز، كما خدعنا نحن لما ظننا أن مستعمراتهم ستقوم عليهم، فكان لهم من هذه المستعمرات أعظم نجدة.
الإمبراطور (للمستشار) :
وحملة القنال؟
المستشار (للإمبراطور) :
لقد فشلت، وكان للإنكليز من مدفعية المصريين أعظم عضد.
الإمبراطور (للمستشار) :
والدردنيل؟
المستشار (للإمبراطور) :
قد تكون الحرب بيننا وبينهم هناك حتى الآن سجالا رغما من غرق مدرعاتهم بألغامنا وغواصاتنا، وكأنهم يتوقعون من حكومة الأستانة تصافيا إذا خارت يدنا، وخارت يد عصابتنا؛ لذلك هم يسعون إلى استمالتها ضدنا، ويصفحون عنها، ويعتبرونها مرغمة على حربهم إذا صافتهم.
الإمبراطور (للمستشار) :
يا للمكر! أنا أفهم كل ذلك، ولكن هل هم كلهم فاهمون؟ ودول البلقان؟
المستشار (للإمبراطور) :
دول البلقان؟ عنوان التذبذب، هي تنظر بعضها إلى بعض أكثر منها إلى الاتفاق معنا أو علينا، على أننا نجحنا بأن أملنا إلينا واحدة كانت على وشك أن تنضم إلى أعدائنا، أو بالحري منعناها عن أن تكون ضدنا، ونحن اليوم ساعون في استمالة أخرى إلينا هي نافعة لنا أكثر، وإلا انقطعت مواصلاتنا مع الأستانة، وقضي علينا هناك من فقدان المئونة والذخيرة، على أن هذه الدول لا تستطيع شيئا ضدنا إلا إذا اتفقت فيما بينها، واتفاقها أبعد من منال القمر، وأعداؤنا حتى الآن لم يعرفوا كيف يستميلونها إليهم؛ لشدة طمعهم، ولا بد لنا من القضاء عليها القضاء التام بعد انتصارنا في أوروبا، وحلولنا محل الأتراك، واستيلائنا على مملكتهم الضخمة الجميلة. (يدخل كبير الحرس وبيده تلغراف للمستشار.)
الإمبراطور (للمستشار) :
ما هذا؟
المستشار (للإمبراطور) :
هو تلغراف لا سلكي، وفيه البشارة لجلالتكم، إن غواصتنا نمرة كذا أغرقت الباخرة لوزيتانيا، وغرق معها نحو 1500 راكب من رجال ونساء وأطفال، وبينهم أميركانيون كثيرون.
الإمبراطور :
هؤلاء الذنب عليهم فقد أنذرناهم، أنا لا أنكر أن فعل الغواصات ومناطيد زبلين لغاية الآن ضعيف، وهي بالحقيقة لا تؤثر شيئا في نتيجة الحرب، إلا إذا كان التهويل بها يحمل الأمة الإنكليزية على قبول صلح شريف لنا؛ لأني صرت أرى أن تحقيق حلم ألمانيا أصبح اليوم بعيدا جدا عما كنت أظنه في أول الحرب. (يدخل كبير الحرس وبيده تلغراف آخر للمستشار.)
وممن هذا؟
المستشار :
هو من سفيرنا في واشنطون، وفيه أن جرائد أميركا قائمة قاعدة ضدنا بسبب غرق الباخرة «لوزيتانيا»، وتطلب من الحكومة التشديد بطلب الضمان على حياة تبعتها.
الإمبراطور (للمستشار) :
لا شك في أن الدكتور ويلسون سيحتج غدا إذعانا لصوت الأمة، ولكني واثق أن حكومته لا تستطيع شيئا ضدنا نظرا لنفوذ الأميركيين الألمان هناك، فإذا احتج فليكن أخذك وعطاؤك معه مطلا ومواربة، وادع أن الباخرة كانت تحمل ذخيرة للعدو.
الإمبراطور (للمستشار) :
وممن هذا أيضا؟
المستشار (للإمبراطور) :
هو من سفيرنا في رومه، ويقول: إن مساعي معتمدنا العالي للتوفيق بين إيطاليا والنمسا ذهبت سدى، وإن إيطاليا شهرت الحرب على النمسا.
الإمبراطور :
المشاكل تتراكم علينا من كل الجهات، وأنا لا أستغرب مسلك هذه الحليفة الخائنة، فهي منذ أوائل الحرب تكتم لنا العداء كأنها عالمة بمصيرها منا، وإذا كانت قد تأخرت إلى اليوم؛ فلكي تتم استعدادها، فصار يلزمنا أن نراقب حركات دول البلقان؛ لنمنعها من أن تتحرك معها ضدنا، وهذا لا يكون إلا بأن نجبنها بضرب روسيا ضربة قاضية، ولو أضعفنا مركزنا في الميدان الغربي؛ لأن انكسار روسيا قد يمنع هذه الدول أن تخرج من حيادها، وإذا خرجت لمصلحة الأعداء كان ذلك الطامة الكبرى على حليفتنا تركيا، إذ نفشل حينئذ فشلا تاما يجلب علينا شرا كبيرا في الخارج، وفي الداخل؛ لأني صرت أخشى فراغ صبر الأمة الألمانية بعد أن منيناها بنصر قريب، وبكل ما يتبع ذلك من الأحلام الجميلة، فلنعجل بإعطاء الأوامر لإرسال هذه النجدة إلى الميدان الشرقي، وبلغ الجرائد في الحال خبر إغراق الباخرة «لوزيتانيا»، ولتفهم الأمة أنا أوتينا بهذا العمل نصرا مبينا، وأوعز لها أن تزين وتقيم الأفراح، وامنح تلامذة المدارس بأمري عطلة يوم؛ ليفرحوا بهذا العيد الوطني العظيم (يخرج المستشار).
الإمبراطور (وحده) :
لقد طاش سهمي، وكأني فقدت كل آمالي، ولولا أن تكون الأمة الألمانية بنظامها الذي أدخلته عليها كالآلة العمياء لما أمنت على نفسي ثورتها اليوم، وقد بلوتها بكل البلايا، فإذا لم يبق في إمكاني أن أكون كنيرون فلأكونن كشمشون، ولأشربن الكأس حتى آخرها، وماذا يجديني انتصاري على الروس اليوم؟ وهم لو غلبوا غلبوا، وقاهرهم في بلادهم مقهور، فإذا طاردتهم لم أنل منهم بقدر ما ينالون مني، وأضعفت مركز جيوشي في الميدان الغربي كثيرا، وإذا ارتددت عنهم ارتدوا إلي، وارتدت دول البلقان إلى ممالأة خصومي، وخدمت بذلك غرض هؤلاء الإنكليز الذين هم ألد أعدائي، وهم أمنعهم علي اليوم، وكأن هذه الدولة الماكرة تسير مع سائر الدول الكبرى والصغرى ضدي كما سارت معهم ضد نابوليون الكبير حتى أوردته حتفه ولو بعد حروب طالت ربع قرن، وأنفقت فيها من المال ما جيشت به أوروبا كلها عليه، وهي الدولة التي لا تحسب للمال ولا للزمان حسابا ما دام المال يعود، وما دام الزمان يخدمها في إضعاف سواها أكثر منها، فكأني أحييت هذه الأمة من حيث أردت أن أسحقها، إنها لحرقة اليوم في قلبي تكاد تقتلني.
ولكن ماذا يجدي الاستسلام لليأس وخور النفس غير شماتة العدو، وغير إثارة أمتي علي؟ هذه الأمة التي غررت بها، وأفقدتها اليوم كل شيء بعد أن كانت قد نالت بنشاطها مقاما في العمران رفعها فوق الجميع، سر نجاح أمة الإنكليز أن رجالها يخدمون مصلحة الأمة على طول الزمان، فكأنهم ينسون أنفسهم وهم بذلك يعظمون، وأما أنا فقصدت مع ذلك أن أختصر هذا الزمان؛ لأخدم مصلحة نفسي بخدمة عنفواني في مطامعي أيضا فهوينا كلانا، فلو حذوت حذو أعدائي هؤلاء، ونسيت نفسي قليلا؛ لما بقي لأمتي مزاحم على سطح الغبراء، ولرفعني التاريخ بعد موتي فوق جميع عظماء الأرض. كلا أنا لم أهو بعد، ولئن هويت فلأكونن عظيما حتى في سقوطي، فلا أرجعن عن الحرب ما دمت قد خضتها، وما دام في ألمانيا نفس حية، ولأحالفن زبانية الجحيم ما دام حلفائي في السماء راق لهم أن يتخلوا عني.
الفصل الرابع
المنظر الأول (الإمبراطور في الميدان الغربي.)
الإمبراطور (لقواده) :
أنتم تعلمون أنا طردنا الروس، وأوغلنا في أملاكهم، ولا يرجى أن تقوم لهم قائمة، ولو كثر عديدهم ما دام لا عدة ولا ذخيرة عندهم، ولا يرجى أن يكون لهم ذلك ما دام الدردنيل مسدودا في وجههم، وبسبب انكسار الروس زال الخوف من قيام بعض دول البلقان لنصر الأعداء علينا مهما يزينوا لها، ويغروها بالوعود الجميلة، حتى ولو غرتها هذه الوعود؛ فخوفها بعضها من بعض يمنعها من الخروج عن حيادها، واتفاقها بعضها مع بعض هو اليوم في حكم المستحيل؛ للضغائن التي زرعناها بينها بعد حرب البلقان، ومركزنا في الدردنيل أمنع من عقاب الجو بالألغام الفتاكة التي بثثناها والحصون المنيعة التي أقمناها، حيث تلقى جيوشهم الفناء، ومراكبهم التحطيم كلما احتكت بنا، ولو مهما يكلف ذلك حليفتنا الصادقة تركيا من الرجال الذين لا يهمنا من أمرهم إلا ألا ينضبوا، وهم لن ينضبوا ما دامت تركيا دولة قوية البأس شديدة المراس، وما دام رعاياها خاضعين طائعين تسوقهم إلى الحتوف كالأنعام، وهم لا يبدون، ولا يعيدون، حتى إنهم ليستقبلون الموت من يديها حامدين شاكرين من صغر نفوسهم، فمن هذه الجهات بالنا اليوم مستريح.
ومركزنا في فرنسا لا يخشى علينا منه، والنتيجة منه ليست سريعة لا علينا ولا لنا، حتى ولو عدنا أوغلنا في أراضيها، ودنونا من عاصمتها، فإن ذلك لا يجدينا نفعا كبيرا اليوم ما دامت عدوتنا الكبرى، بل عدوتنا الوحيدة، تسرح وتمرح آمنة كيدنا تنتظر نفاد قواتنا من تكرار كراتنا المفنية لنا ولأعدائنا دونها، فلا بد اليوم من تحويل كل جهدنا ضدها، وفوزنا عليها فوز على أوروبا كلها، وعلى العالم أجمع، فيجب علينا أن نأخذ أهبتنا ونعد عدتنا للزحف إلى كاليه، والوصول إليها مهما يكلفنا ذلك من الخسائر، ولو أضعفنا مركزنا في الجهات الأخرى.
كاليه! كاليه هي مفتاح إنكلترا لنا اليوم، هناك ننصب مدافعنا الهائلة التي ستدهش العالم بمداها، والتي لا تزال مخبوءة لا يعرف عنها أحد سوانا شيئا، ونستقبل بها شواطئ إنكلترا، ويعلونا حينئذ أكبر أسطول هوائي شهده الناس في الجو، ثم نطلق السبيل لأسطولنا البحري، فيخرج من ملجئه كله دفعة واحدة، ويكون لنا حينئذ معركة برية جوية بحرية لم يسبق لها مثيل في التاريخ مهما نتجشم فيها من الأهوال والخسائر، فإن ذلك كله ليس شيئا بالنظر إلى النتيجة، وهي بلوغ جيوشنا العظيمة إلى البر المقابل، حينئذ نقول متهللين: «عليك يا دولة الإنكليز السلام»؛ إذ لا يعود يقف في سبيلنا حائل. نعم، لا بد لنا من ذلك ولو فني أسطولنا وفنيت جيوشنا على بكرة أبيها؛ لأنه لم يعد لنا خلاص إلا بمحاولة هذه الغزوة، حتى إذا نجحنا فيها نجحنا في كل شيء، ونلنا مرامنا من أقرب سبيل، وإلا فمصيرنا إلى الهلاك المؤكد، والانتظار اليوم لا يخدم إلا أعداءنا، فاذهبوا واجمعوا جيوشكم في الحال، وخذوا أهبتكم؛ كي تلتقوا في نقطة واحدة في الوقت المعين واخدعوا العدو؛ حتى لا ينتبه إلى خطتكم؛ فيسهل عليكم خرق صفوفه، فإذا بلغتم كاليه انتشر أسطولنا الهوائي في الجو، وأمطرنا أساطيل العدو نارا حارقة، وقضي عليه بمساعدة أسطولنا البحري وغواصاتنا المائية، وانفتح لكم الطريق لنقل جيوشكم إلى الجزيرة، وهي إذا بلغناها فمن يستطيع حينئذ أن يزحزحنا عنها؟! (يبتسم.)
حتى ولا خطب كل رجال البرلمان، وليرونا حينئذ رباطة جأشهم التي أكسبتهم إياها عزلتهم في جزيرتهم، واعتمادهم على أساطيلهم، وهل في إمكان هذه الأساطيل أن تصعد لمحاربتنا في البر؟ لا بد من سحق هذه الدولة التي بغير سحقها لم يبق لنا حياة. (يقطب.)
أنا لا أجهل ما دون ذلك من الأهوال والمخاطر، ولا أجهل كذلك نتيجة فشلنا، ولكن هل لنا مفر اليوم؟ وهل لنا حيلة أخرى؟ أنا أرغب جدا في الصلح، وقد سعيت إليه سعي المنتصر أملا بأن يكون أعدائي قد ملوا، ولذلك عززنا مراكزنا في جميع ميادين الحرب؛ لعلهم يجبنون ويلينون، ولكنهم هم لا يرغبون في الصلح اليوم، أو بالحري هي تلك متحينة الفرص، وقد لاحت الفرصة لها ثمينة سمينة، لا ترغب فيه، ولا تدع أحدا يريده، فسيروا إلى هذه الغزوة بعزم ثابت لا يتزعزع، فإما أن تفوزوا، وإما أن تبيدوا عن آخركم، وليكن إقدامكم إقدام متهوري مضاربي الأميركان في «برص» القطن والقمح. (باسما مستهزئا.)
هذه الأمة التي متى فرغنا من «جدتها» العجوز، وأردنا غزوها لم تجد لديها لمحاربتنا سوى قنابل مئات البنوط، تصعد وتنزل بها في «بورصة» واحدة متلاعبة؛ لتسلب فلس الأرمة وسحتوت المسكين، فيا إلهي ألا ترى حقارة تربية هذه الأمم المنحطة المترهلة؟ فكيف تسمح لها بأن تسود دوننا نحن الأمة الجرمانية ذات التربية العالية الحديدية التي يجب أن يدين لها العالم أجمع.
المنظر الثاني (الإمبراطور في قصره الأوتومبيلي يستطلع أنباء الحملة على كاليه.)
الإمبراطور (وحده) :
ما كنت أتوقع أن تلاقي جيوشنا كل هذه المقاومة من جيوش العدو، من كان يظن أن هؤلاء الفرنساويين الذين حسبناهم أنهم أوشكوا أن يدخلوا في خبر كان يظهرون بهذا المظهر الفخم من القوة والمناعة، فكأنهم في سنة جيشوا من الجيوش، وأعدوا من القوة ما صرفنا فيه نحن أكثر من ربع قرن، على أن قوادي يقولون إنهم متقدمون في حملتنا، وإنهم لا بد أن يصلوا عن قريب إلى كاليه، وإن جيوشنا المظفرة يقاتلون مستقتلين كالأسود الغضافر. (يدخل كبير الحرس ويستأذن للمستشار.)
المستشار (للإمبراطور ملهوفا) :
مولاي الم...
الإمبراطور (للمستشار) :
أتيت لتستطلع أخبارنا عن حملة كاليه؟
المستشار (للإمبراطور) :
مولاي!
الإمبراطور (للمستشار) :
فهذه رغما من الصعوبات التي تعترضها من جيوش العدو الذي أخذناه مع ذلك على غرة ...
المستشار (للإمبراطور) :
مولاي! يا ليتني لم أعش إلى هذا اليوم، ويا ليتني كنت ترابا.
الإمبراطور (للمستشار) :
أنت لم تستوعب كلامي، فلماذا هذا الخوف؟ قلت: إنه رغما من كل الصعوبات يقول قوادنا إن فوزنا صار قريبا جدا، ووصولنا إلى كاليه هو اليوم في ...
المستشار (للإمبراطور) :
مولاي! عفوك، لا كاليه ولا سواها عاد ينفعنا فقد خسرنا كل شيء.
الإمبراطور (منتفضا) :
ماذا تقول؟
المستشار (للإمبراطور) :
أقول: إن الدردنيل سقط، والروس يتقدمون بسرعة حتى أوشكوا أن يحدقوا بفينا، وكأن بلاد النمسا في ثورة داخلية، والعائلة المالكة مهددة في حياتها.
الإمبراطور (للمستشار) :
الدردنيل سقط؟! وكيف كان ذلك؟
المستشار :
لم يسقط حقيقة، ولكن الجند العثماني ثار على قوادنا، وأركان حربنا هناك، وقتلهم وفظع فيهم، ثم فتحوا الطريق لمدرعات العدو وجيوشه، والحكومة هناك باتت فوضى، وزعماؤها حلفاؤنا أنور وعصابته لا يعلم ماذا حل بهم، فإن كانوا سالمين؛ فقد يكونون فروا إلى حيث لا يعلم لهم مكان.
الإمبراطور (وقد امتقع لونه، ورجف صوته) :
ما هذا الذي تقصه علي: أضغاث أحلام؟
المستشار :
وكل هذا يهون في جنب الطامة الكبرى.
الإمبراطور :
وهل بعد هذه الطامة طامة؟
المستشار :
الثورة شبت في برلين، ولم أستطع الخلاص والوصول إليكم إلا بأعجوبة، والنساء يصرخن: ردوا إلينا أزواجنا وأبناءنا وأعطونا خبزا.
الإمبراطور :
وأين حامية المدينة، بل أين قوادي؟ إذ لا بد من قمع هذه الثورة أولا، وإلا فشلنا في كل مكان.
المستشار :
الحامية ثارت مع الأمة، أما قواد جلالتكم فالبارع البارع منهم هو الذي ينكركم، ويلقي تبعة الحرب كلها عليكم.
الإمبراطور :
وبرنهاردي والعلماء الذين نصروني؟
المستشار :
برنهاردي هذا - لكي يتقي غضب الأمة - هو ينشر فصولا في الجرائد، يقول فيها إنهم لم يفهموه، فهو لم يحبذ الحرب اليوم، بل تكلم عنها في الماضي، يوم كان الإنسان أقرب إلى الهمجية، وأما اليوم فهو يعتبر أن الحرب بما وصل إليه الإنسان من العلم والصناعة خسرانا على المتحاربين سواء فيها الغالب والمغلوب، وهو لا يجوزها اليوم إلا ضد الأقوام المنحطين فقط لمصلحة العمران الكبرى، وأما الحرب الجائزة اليوم بين الأمم الراقية فهي المباراة في كل ما يعمر لا فيما يدمر، وأما العلماء؛ فأنكروا أنهم هم الذين وقعوا المنشور الشهير، وقالوا إنه مزور عليهم.
الإمبراطور :
خسئوا جميعهم، ما أدناهم! وإنه ليخطئ الملوك أن يركنوا إلى المتزلفين، وأن يتخذوا حاشيتهم من صنائعهم، فإن هؤلاء الصنائع يمكرون بك يوم سعدك، ويخونونك يوم بؤسك، فهم خائنون في الحالين. وأنت لو لم يتخذوك شريكي في الجرم لما بقيت مخلصا لي. (كبير الحرس يدخل وبيده تلغراف يقرؤه المستشار.)
الإمبراطور :
وما هذا؟
المستشار :
لقد بلغ السيل الزبى، والمقدر قد نفذ، فقد دحرت جيوشنا الزاحفة إلى كاليه، وتشتتت في كل الجهات، وكأنه بلغها أنا غلبنا على أمرنا في كل مكان.
الإمبراطور :
يا للداهية الدهماء! قد أكون حسبت لكل شيء حسابا، وتوقعت كل سوء إلا ثورة شعبي، فهذه لم أكن أتوقعها، فما الذي أستطيعه بعد ذلك؟
المستشار :
مولاي لم يبق لنا سوى التسليم بشرف.
الإمبراطور :
وهل بعد هذا التسليم شرف؟ فلولا أن يكون الانتحار خورا في النفس لانتحرت، ولكن أين المفر؟ لقد أظلمت الدنيا في عيني.
المستشار :
نعم، التسليم خير لنا من أن يقبضوا علينا كجناة.
الإمبراطور (مرتعدا) :
كجناة؟! (ثم تعاوده أحلام العظمة.)
ولكني سأظل ملك بروسيا، وإمبراطور ألمانيا، وأعظم جدا من جميع الذين تقدموني، وسيكتب لي أعظم صفحة في التاريخ. (يخلو المرسح.)
الحكيم :
ولكن سيكتبها بالدم الأحمر على صفحة سوداء.
المنظر الثالث (الإمبراطورة في قصرها ببرلين.)
الإمبراطورة (لوصيفتها) :
لم تردني أخبار عن الإمبراطور، وإني لمضطربة جدا. (ثم تسمع أصوات ضجيج، فتطل من النافذة، وتسأل) : ما هذا الشغب؟ وما هذه الجموع؟
الوصيفة (للإمبراطورة، وقد أطلت معها من النافذة.) :
يا إلهي! كأن الشعب في مظاهرة، وقد أحدق بالقصر يطلب الإمبراطور.
الإمبراطورة (للوصيفة بين الأمل والخوف) :
أيطلبه راضيا؟ وهل بلغته أخبار انتصارات جديدة؟
الوصيفة (تصغي وتضطرب) :
أردت أن أقول: في ثورة، والظاهر أنه ناقم كأن الضائقة اشتدت عليه.
الإمبراطورة (للوصيفة) :
أتشعرين أنت بهذه الضائقة؟ فأنا لا أشعر بها، وأرى كل شيء متوفرا لدينا، فمم يشكو الشعب إذا؟
الوصيفة (للإمبراطورة) :
يشكو من أن الأعمال وقفت، وموارد الرزق ضاقت، والمال ذهب، ويشكو من فقد أبنائه، فإنهم ماتوا ولن يعودوا، وهل شيء أعز من الأولاد والمال؟
الإمبراطورة (مرتاعة، وقد خافت أن يمس أولادها ضر) :
يا للمصيبة! وأين أولادي؟ وأين الكرونبرنس؟
الوصيفة (تهدئ روعها) :
أولاد جلالتك في قصورهم آمنون، والشعب لا ينوي لهم شرا، أما الكرونبرنس فهو في القصر هنا في مكتب الإمبراطور مع الجنرال برنهاردي.
الإمبراطورة (للوصيفة) :
ادعيهما لي.
الإمبراطورة (للكرونبرنس بلهفة) :
أين الإمبراطور يا ويلهلم؟
الكرونبرنس (للإمبراطورة بانكسار) :
لقد كان في الميدان الغربي يا أماه.
الإمبراطورة (للكرونبرنس بقلق) :
أنا لا أسألك أين كان، بل أين هو؟ وما الأخبار عنه؟
الكرونبرنس (للإمبراطورة بتردد) :
لا علم لي بغير ذلك.
الإمبراطورة (للجنرال بين الأمر والتوسل) :
وأنت يا جنرال ماذا تعلم عنه؟
الجنرال (للإمبراطورة) :
عفوك مولاتي، إن الذي أعلمه كنت أود ألا تسأليني جلالتك عنه، جلالة الإمبراطور أراد أن يسلم لأعدائه تسليم الملوك المغلوبين، أي بشيء من الشرف المتعارف، فأبى أعداؤه عليه ذلك، وقالوا له: إننا نقبض عليك كجان.
الإمبراطورة :
ويلاه! أوصلنا إلى هذا الحد، وما مصيرنا نحن هنا والشعب في هذا الهياج؟ فليوصدوا أبواب القصر، وليدعموها بكل ما يقويها. (ثم تصغي قليلا.)
ولكن ماذا أسمع؟ ما هذا النشيد الذي لم أسمع به من قبل؟
برنهاردي (يصغي أيضا) :
وأنا لم أسمع به كذلك ويشبه أن يكون نشيد الحلفاء
1
أعدائنا، وكأنهم دخلوا برلين.
الكرونبرنس (للإمبراطورة فرحا كأن كابوسا زال عنه) :
لقد نجونا من الخطر يا أماه فإنهم سيقمعون الثورة، ويعاملوننا معاملة ملوك، فتجلدي، ولا تخشي بأسا على والدي، ولا شك في أنهم سيقيمونني إمبراطورا مكانه، ويعقدون الصلح معي، وسيكون مقامك محفوظا كالأول ، أليس كذلك يا حضرة الجنرال؟
الجنرال (للكرونبرنس) :
لا ريب عندي في أنهم سيفعلون ذلك، والأمة تستقبل تبوأكم عرش أجدادكم بالبشر والترحاب.
الكرونبرنس (للجنرال) :
أنت - يا حضرة الجنرال - منذ الآن وزيري ومستشاري الخاص.
الوصيفة (وقد خلا المرسح بتهكم) :
وافق شن طبقة.
الفصل الخامس
المحاكمة
وهي منظر واحد (يؤلف مجلس من خمسة عشر محكما، سبعة عن اليمين وهم مندوبو إنكلترا وفرنسا وروسيا وبلجيكا والصرب والجبل الأسود وإيطاليا.) (وسبعة عن اليسار وهم مندوبو أميركا واليابان وإسبانيا وسويسرا والصين ومندوب عن دول البلقان، وآخر عن دول الشمال.) (ويرأس هذا المجلس رئيس جمهورية «سان مارينو».) (والمدعي هو الرأي العام.) (والمحامي هو شبح الدهور في سالف العصور.)
المدعي (لهيئة المجلس) :
أيها القضاة المحترمون.
لم يسبق للقضاء فيما مضى أن ينظر في قضية مثل القضية المعروضة عليكم اليوم، ولا أن يستهدف لتبعة مثل التبعة الملقاة على عاتقكم منها.
الرئيس (للمدعي ممتعضا) :
شكرا لك، إنك قد علمتنا ما لم نكن نعلم.
المدعي (مسترسلا) :
ولا عجب، فإنكم لو قلبتم التاريخ منذ البدء لما وجدتم مثيلا للجاني الماثل أمامكم، ولا للجناية المنسوبة إليه، هذا الجاني المطلوب منكم أن تنصفوا الهيئة الاجتماعية منه عقابا له وعبرة لسواه.
الرئيس (للمدعي قلقا) :
ألسنا نحن هنا لذلك؟ فمتى تفرغ من هذا العجن؟
المدعي (مسترسلا) :
ولا أظن أنه يوجد في القانون نص للعقاب الذي يقتضيه مثل هذه الجناية، وينبغي أن يعامل به مثل هذا الجاني، فأرعوني سمعكم؛ لعلكم تجدون في هذا القانون الموضوع لصغار المجرمين، أو في حكم العقل، ما يجيز لكم التوسع في التطبيق، عسى أن يكون حكمكم الصائب سابقة يهتدى بها لكبح جماح الظلام المعتدين.
الرئيس (ساخرا) :
نحن في جمهوريتنا لا يقيدنا قانون لا يكون العقل فوقه، ولا يلزمنا كل هذا الشرح لتوقيع العقاب.
المدعي (للرئيس مستاء) :
أرى حضرة الرئيس يقاطعني كثيرا.
القضاة (للرئيس هامسين) :
الرجاء ألا تقاطعه كثيرا إلا إذا خرج عن الموضوع، دعه يكمل، هذا حق له، وهو من ملح الخطابة والكتابة للتأثير.
الرئيس (للقضاة مباسطا) :
يظهر أنكم تستملحون هذا التزويق ، ولا ترونه خروجا، وأما نحن فلا نتأثر له، أو نعتبره لباس الباطل، ولا نتأثر إلا للحقائق البسيطة، وسأحاول أن أتعوده مثلكم وأتدرع بالصبر. (ينظر إلى لباسه البسيط، ولباس بعضهم المزوق باسما.)
وأنتم مزوقون أيضا. (ويلتفت إلى المدعي جادا.)
سر في حديثك على ما ترغب وكما تعودت، ولا عدت تخشى مني مقاطعة.
المدعي (يكمل) :
وليس ذلك لأن جناية مجرمنا لا مثيل لها بفظائعها، فقد يكون في تاريخ المجرمين والسفاحين في الماضي ما لا يختلف عنها إلا في الكمية لا الماهية، وفي السعة لا النوع، بل لاقترانها بمصاحبات لم تكن للناس في الماضي كان يجب أن تمنعها، وهي تجعلها شنيعة فظيعة جدا اليوم.
فجانينا لا يعذر كما لو ادعى الجهل، وقد نال من العلم نصيبا غير قليل، وهو لقدره العلم والفنون قدرها لم يكتف بمفاخر الملك، بل أراد أن يضيف إليها مفاخر العلم لغروره الزائد، فحاول أن يمتاز بهذه أيضا، حتى إنه عانى فن الرسم، وحاول التأليف في الموسيقى على ما فيهما من العناء، وما يحتاجان إليه من المواهب التي ليست له، وعول في جناياته الفظيعة على الكيمياء، ولم يحتقرها كما فعل نابوليون عن كيد، وقد خبط فيها فوصفها أنها (أي: الكيمياء) مطبخ الطب، وأن الطب صناعة السفاحين تحقيرا لهما.
1
فهو غير جاهل حتى يلتمس له عذر يخفف من جرمه، كما قد يلتمس لسفاحي العصور الماضية الذين كانوا يحتقرون العلم، ويأبون تعلم صناعة الكتابة؛ لشدة احتقارهم لها، ويعتبرون صناعة «السيف» - أي: الطعن والضرب - أشرف الصناعات التي يجب أن يمتاز بها الرجال العظام، فهم إذا كانوا قد شنعوا، وفظعوا، ودمروا، وقتلوا ... إلخ، فإنما هم كانوا في أعمالهم على اتفاق تام مع أنفسهم.
وكانوا متفقين مع عصورهم أيضا، فالناس في تلك الأزمنة البعيدة كانوا جاهلين مثل أوليائهم، فكانوا عبيدا لأسيادهم مختارين يملكونهم، حتى على رقابهم، كأنهم خراف في يدي الجزار، ولا يرون في ذلك أقل اعتداء على حقوقهم، ولا يشعرون منه بأقل غضاضة في نفوسهم.
وليس الأمر كذلك اليوم، فإن الأمم لكثرة انتشار العلم بينها، وشدة إقبالها عليه قد ارتفعت بمستواها العقلي، فصارت حياة الأفراد والمجموع ثمينة جدا في نظر الحاكم والمحكوم معا، وصار الحاكم مقيدا بنظامات وقوانين لمصلحة الجمهور، لا يجوز له تخطيها، وصرفها لغرضه الخاص من دون أن يرتكب جناية يستحق أن يعاقب عليها.
وهنا تعرض لنا مسألة، وإن بدت أنها خارجة عن الموضوع، فإنها من المسائل الاجتماعية التي لا يجوز للإنسان أن يمر بها غير مكترث، وتحملنا على تشديد اللوم على الهيئة الاجتماعية نفسها؛ كيف أنها تصبر على أن يقوم فيها من يستبد بها، ويتحكم فيها، بدعوى امتيازات اغتصبها من يوم لم يكن للأمم أقل كلمة في تدبير شئونها، ثم صارت هذه الامتيازات له حقا مشروعا؟ وهذا منتهى العار على هذه الأمم اليوم، كأن العبودية طبع في الإنسان، وكأنه لم يخلق حرا. (قلق وتململ من جانب أكثر القضاة.)
الرئيس (للمدعي وكأنه لم يلحظ) :
أحسنت، بالغ ما شئت في هذا المعنى، نحن في جمهوريتنا لا نعرف هذه الامتيازات، ولا نجيز مثل هذه الحقوق، وأنا إذا كنت لا أستبد بقومي، فليس ذلك عفة مني، بل لأن قومي لا يدعونني أستبد بهم، وهم بذلك يحترمون أنفسهم، ويحملون سواهم على أن يحترمهم.
المدعي (مسترسلا) :
فإن هذا النظام يسلب الإنسان كل مزاياه، ويرده إلى الحيوان، وينمي فيه الأخلاق الوحشية في القوة، وكل أنواع التسفل في الضعف، ويفقده الشجاعة الأدبية، وإن اتفق وكان له حسنات، فإن له نزعات لو ساءت مرة أفسدت كل الحسنات، وشاهدنا على ذلك مجرمنا اليوم، فإنه بعد أن أورد أمته موارد النجاح - أو على الأقل لم يعترضها في ارتقائها - عاد فأودى بها في نزعة مطامع جنونية، وأوشك أن يخرب العالم معها، فإذا كان هذا شأن هذا النظام أو البقية منه مع الأمم الحية؛ فكيف به في الأمم الميتة كالأمة العثمانية، وحكامها البغاة حلفاء طاغيتنا اليوم، وأصدقاء أعدائه في الماضي؟
قلت: أصدقاء أعدائه؛ لأن هؤلاء إذا عدوا عليه ذلك ذنبا، فهل هم كانوا أبرياء؟ (أكثر القضاة يتطلعون إلى الرئيس كاحتجاج صامت.)
الرئيس (للمدعي) :
عرج عن هذا الآن، وإن كان كلامك في محله.
المدعي (يمتثل) :
وإنه لغريب جدا أن أمة كالأمة الألمانية، حاصلة على قسط وافر من العلم؛ تخضع خضوعا أعمى لنظام إمبراطورية كنظام إمبراطوريتها عريق في الأثرة والاستبداد، وأغرب من ذلك دعواها بأنها - وهي في رق هذا الحكم - ذات «كولتور» يجعل تربيتها أرقى من تربية سائر الأمم العريقة في الحضارة. ونحن مع اعترافنا بأنها بلغت شأوا بعيدا في العلم والصناعة، ونالت امتيازات جمة على سواها، إلا أنه لا يجوز لنا أن نجهل أن هذا الكولتور الذي تفاخر به يجعلها عبدة لنظام حكومة يديرها فرد، أو أفراد غير مسئولين حقيقة، وقط ما كان العبد أرقى من الحر، وإذا كان في علمها وعملها شيء كثير من الإتقان، فإنك قلما تجد فيهما شيئا من الابتكار؛ لأن العبد إذا كان أصبر على العمل، فالابتكار من امتيازات الحر وحده، وإذا كنا نراها تتعمد الشر كثيرا لسواها، وتستخدم علمها لهذه الغاية خلافا للآخرين؛ فلأن ذلك من أخلاق العبيد أيضا.
ولولا أن تكون هذه الأخلاق غريزية في هذه الأمة لما مالأت إمبراطورها على جنايته الكبرى، مع ما هي عليه من العلم، ولأدركت حينئذ أن الأمم التي قامت لتذلها وسعت لتبيدها؛ لكي تحل محلها إنما هي أعضاء نافعة في جسم العمران، بل لعرفت أن نجاحها هي نفسها لا يتم لها بدون التعاون معها، ولجعلت تنازعها معها تنازع مباراة لمصلحة هذا الجسم، ولما استأنست بحلفاء السوء الذين هم لصوص الاجتماع، وكان ينبغي التحالف عليهم. ودعواها الطويلة العريضة أن مستواها أرقى من مستوى هذه الأمم، ويخولها حق السيادة عليها؛ دعوى تحتاج إلى دليل، ومنشؤها غرور المحدثين، وهو ابن عم الجهل المركب أو عينه، وهي لو غلب عقلها هواها لعلمت ما يعلمه كل واحد؛ وهو أن المفاضلة بينها وبين الأمم المذكورة في العلم والصناعة هي حتى الآن في مصلحة هذه الأمم لا في مصلحتها.
فالألمان حقيقة هم تجار علم أكثر منهم علماء، وهم مستثمرو اكتشافات سواهم أكثر منهم مبتكرين مخترعين، ونعني بسواهم اليوم الطليان والإنكليز والفرنساويين خاصة، حتى في أيام كبوتهم. وهؤلاء - أي: الفرنساويين - أنجبوا في قرنين من أبطال رجال العلم المبتكرين اثنين، لو اجتمع الألمان أكداسا بعضهم فوق بعض لما بلغوا مأبض ركبتهما، وهما: لامرك؛ مكتشف نظام الأحياء الكبرى الطبيعي، وأبو دروين الشهير، وباستور؛ مكتشف الأحياء الدنيا، وصاحب مذهب التعقيم والاختمار، والذي يعلم ما كان لهذا الاكتشاف من النفع العميم في الطب والزراعة والصناعة، يستطيع وحده أن يقدر فضل الرجل، فالأمة التي تنجب مثل هذين البطلين اللذين لا يقاس بهما أبطال، هل يجوز أن يقال إنها أمة يستغنى عنها ويجب سحقها؟ وهل يمكن سحق أمة هذا جوهرها مهما يبد عليها من التواني؟ ولقد أدرك الألمان اليوم على حسابهم أن السيد لا يصير عبدا للعبد، وقد رأوا ما فعلت هذه الأمة المجيدة في هذا الوقت القصير، حينما انصرفت إلى ما هم منصرفون له منذ نصف قرن، ولكنها أمة أنبل من أن تخدم العلم لتصرفه للشر نظيرهم، فدعوى الألمان لأنفسهم على سواهم دعوى فاسدة تستغرب منهم، لولا أن الغرور يعمي ويصم، ويذهب بالعقل كل مذهب.
وتستغرب منهم لولا وجود أناس فيهم كبرناردي، يعلمون أن تآخي البشر وتعاونهم لا يجوزان إلا في الأمة الواحدة، وإلا انقلبا إلى عداء، والحرب حينئذ بفظائعها فضيلة من فضائل الاجتماع. ولا أعلم مبلغ الدراهم التي قبضها على هذا القول الضليل خدمة لمقاصد إمبراطوره الشنيعة. والعلم عندهم لا ينفع إلا إذا تجمد مالا، وعلى هذه القاعدة الفاسدة جرت أمته في هذه الحرب الفظيعة عن علم وقصد لا يصفح عنهما، لا عن ضلال وجهل يستنكران، ولكن قد يعذران، فدمرت وقتلت وسوغت لنفسها كل شنيع وقبيح.
وإنه ليعجبني من قائل هذا القول قصر نظره مع طول دعواه؛ لأنه يزعم أنه يسير على مبدأ العلم الطبيعي، ولم يعتبر للعقل مزايا على الحيوان في التنازع، ولم يدرك الغاية من هذا التنازع، حتى في الطبيعة الغشيمة، وهي التوازن في نظام هذا الكون، وضم المتماثلات من الجزئي إلى الكلي، لا العبث بهذا النظام.
ولو أنه كان أقصر نظرا، ووقف في التنازع عن حد الفرد - وهو كل بنفسه - لا في أطراف الأمة؛ فلربما كان له من سوء فهمه في علمه عذر، ولكنه - وقد امتد بنظره إلى أطراف الأمة الواحدة، وقرر وجوب التعارف بين أفرادها، حتى تضحية النفس في سبيل مصلحة الكل - لم يبق له عذر في عدم إطلاقه هذا المبدأ على كل المجتمع البشري، ناظرا إليه نظر الفزيولوجي، ومتصرفا فيه تصرف الطبيب في الجسم الحي، فإذا كان أفراد البشر أعضاء في جسم الأمة، فالأمم مجاميع أعضاء في جسم العمران، فإذا كانت الأعضاء ومجاميعها سليمة، كان التنازع بينها تنازع مباراة وتواصل لمصلحة الكل، ولا يكون تنازع تقاطع مفككا لأوصالها، إلا إذا كانت فاسدة كلها أو بعضها.
فعلم منافع الأعضاء في الجسم الاجتماعي ينبغي أن يكون بنفس المقام الذي له في الجسم الحي، وطب الجسم الاجتماعي ينبغي أن يكون كطب الجسم الحي للذين يدعون أنهم في تعاليمهم يهتدون بهدي العلوم الطبيعية، وكم هم كثار الذين يفترون على هذه العلوم بسوء فهمهم، ولو أنهم - برناردي وقومه - من ذوي الأقدار. ولو اقتصر الأمر على هؤلاء وحدهم لهان، ولكن علو مقامهم يدفع كثيرين وراءهم من المتظاهرين بالفهم؛ فيتعلقون بزمكاهم، ويقولون قولهم؛ ليقال إنهم يفهمون، ولو أنهم على أنفسهم.
فالجسم الحي لا يصح ويقوى إلا إذا سلمت أعضاؤه كلها وإلا تشوه، ويفضي ذلك به إلى الموت إذا كانت الأعضاء المأوفة جوهرية، كذلك الجسم الاجتماعي لا يصح ويقوى إلا إذا سلمت له أعضاؤه وتعاونت على إنهاضه. وأعضاؤه هم الأمم، فإن لم تتعاون وقامت بعضها على بعض؛ ضعفت هي وأضعفته معها، وقط ما كانت الأمة الاجتماع كله، وهذا التنازع الهمجي بين الأمم هو السبب في تباطؤ ارتقاء العمران؛ لتقهقره أجيالا ووقوفه أجيالا بسبب ذلك. وطب الاجتماع كطب الأحياء يداوي ما يداوى، ويبتر الأعضاء الفاسدة إذا تعذر شفاؤها، ولا يجوز كما يذهب برناردي ومشايعوه بتر الأعضاء السليمة النافعة، ومحاولة تهشيمها، وهم يدعون خدمة العمران بذلك كما هي الحال في هذه الحرب. وأنكى من ذلك مشايعة الدول التي لا ترجى ، والتي بقاؤها في جسم العمران كبقاء الأعضاء الفاسدة في الجسم الحي، والتي ينبغي بترها صيانة له، بل كان يجب بترها منذ زمان طويل لولا أن الدول ذات الكلمة الراجحة كانت يومئذ جميعها ذلك الرجل. (بعض القضاة يمتعضون.)
ويا ليت الأمة الألمانية اقتصرت من العلم على الغاية الكبرى منه، وهي خير المجتمع - كما قصد جنر الإنكليزي، وباستور الفرنساوي، وماركوني الطلياني - واستئمرته مالا ما شاءت، كما فعل كوخها وأهرليخها، وزاحمت العالم بذلك ما استطاعت حتى بذته، لكان لها من كل ذلك عمل مشكور وفضل مأثور، ولكوفئت عليه بسبقها إلى ما تصبو إليه في هذا السباق المشروع بين الأمم الحية، ولكنها لم ترض بهذا، بل صرفت العلم عن هذه الغاية الشريفة إلى أقبح أوجه استعماله واستعملته للتقتيل والتدمير والقرصنة والرجوع بالعالم إلى عصور التوحش، بقيام الأمم السليمة بعضها على بعض، وتعمد الشر بعضها لبعض، حتى قلبت الغاية منها إلى ضدها، وحتى صار الناس يحمدون عليه الجهل، وما كان الجهل قبل ذلك قط محمودا. •••
وليس الملام على الأمة الألمانية المتضامنة مع حكومتها في السراء والضراء، مهما أساءت فهم مصلحتها؛ بقدر الملام على مجموع الهيئة الاجتماعية التي يجب عليها أن تكون هي نفسها متضامنة لدفع الشر عنها، وتوفير المصلحة لها عموما، وهذا انحطاط في هذه الأمم وحكوماتها يخجل منه اليوم، فعوضا من أن تهب جميعها هبة واحدة لنصر المجتمع والقبض على الجاني، تركته يسرح ويمرح ويعيث في الأرض فسادا، وادعت الحياد كأن لا ناقة لها في ذلك ولا جمل، وزعمت أنها تستفيد من ممالأته فشرعت تنصره في السر، وهي تدعي العزلة في الجهر، وهو لو أتيح له النصر لما كان حظها منه إلا الإذلال.
وكيف يكون غير ذلك، وحظ حلفائه منه ليس أفضل، انظروا إلى حليفتيه العظيمتين النمسا وتركيا، كيف أنه قبض عليهما بيد من حديد، واستخدمهما لمصلحته دون مراعاة أقل مصلحة لهما، حتى لو أرادتا الانفصال اليوم عنه لما استطاعتا، كأنهما جزء من مملكته، أو مستعمرة من مستعمراته، بل انظروا إلى معاملة جنوده لجنودهما ، فكأن هؤلاء درع لأولئك يضعونهم في مقدمتهم، ويستقبلون بهم الممالك، وما كان جزاؤهما لو تم له الانتصار إلا الاستلحاق - لا للضم والشم - بل للاستثمار والاستعباد، وخاصة تركيا، وهذا أقل ما كان ينويه لهما من الغنم، وكان ينوي أن يكون عليهما كل الغرم في الانكسار لو بقي له بعض الحول، وغريب جدا أن ترضى أمة بمثل هذا المقام لولا الجهل، وسهولة ابتياع ذمم الحكام الطغام.
نعم، إن الذنب الأكبر في وجود مثل هذا الجاني إنما هو على المجتمع الذي حتى الساعة لا يفهم مصلحته الكبرى من انضمام الأمم فيه كأنها أعضاء من جسمه للتعاون على العمار لا القيام بعضها على بعض للفساد والدمار، ولو كان يفهم لأطفأ منذ زمان جذوة النار التي أوقدت هذه الحرب، ولم يذر عليها الرماد كلما أوشكت أن تفنى،
2
ولكانت له اليوم أمة عظيمة نافعة، أو أمم يفتخر بها عوضا من استمرار هذه المجازر الدائمة التي أقلقت الزبانية في جهنم، والملائكة في السماء، وعوضا من هذا التذبذب الشنيع من هذه الدويلات الطامحة إلى الاستقلال والراسفة في الأغلال تتخبط في الحال والمصير، ولكان له أراض واسعة تدر الخير عليه وعلى أهلها، عوضا من هذه الصحارى القاحلة التي تأوي إليها وحوش الحيوان، وتعيث فيها فسادا لصوص الإنسان، فمن من الدول الراقية لا يحس اليوم بثقل ما كان يرتاح إليه في الماضي؟ بل من منها يستطيع أن يقف أمام محكمة العقل العليا، ويقول إنه كان فاهما جيدا حقيقة التعاون، وسعى لمصلحته من وراء مصلحة المجتمع؟ «وما هذا الوحل الذي يتخبط العالم فيه اليوم إلا من ذلك المطر».
وإذا كنت أشدد اللوم على الهيئة الاجتماعية عامة، والأمة الألمانية خاصة؛ فليس ذلك لأني أريد تخفيف العقاب عن المجرم الأصيل، فالهيئة الاجتماعية قد يلتمس لها عذر الغفلة، وقد عوقبت عليها شر عقاب، والغفلة من جهة لا تشفع بجريمة التعمد من الجهة الأخرى، بل تجعلها أشد قبحا إذ لا شيء أقبح من اغتيال الآمن المطمئن والغدر به، حتى إن البشر في عصور توحشهم كانوا يأنفون أن يأخذوا عدوهم على غرة، ويفتخرون بأن ينذروه لينازلوه نزال الرجال للرجال، والأبطال للأبطال، لا كما فعل هذا المجرم العاتي مع البلجيك خاصة، وقد شن عليها غارة أقل ما يقال فيها: إنها حرب الجبناء، أو حرب الأفاعي الخبيثة التي يرتفع عنها إباء الأسود الضراغم، والقوة تحتقر وتهان إذا لم تقرن بالنبل والشهامة وحماية الضعيف، ولا سيما إذا كان الضعيف نظيفا صحيحا، نظيفا في عقله، نظيفا في أعماله، وكان خصمه القوي على ضد ذلك نتنا في أفكاره، قذرا في مطامعه، معتلا في بنيانه كمجرم اليوم.
والأمة الألمانية جزء منه، فهي شريكته في جريمته، ولا تخفف شيئا من عقوبته، فإذا كانت هي يده الأثيمة؛ فهو رأسها الشرير، فإذا قطعنا يد السارق، فهل أتينا على ما في «معمل» رأسه من الأفكار الشيطانية والمطامع الجهنمية؟ وإذا كانوا قد قالوا: إن الوظيفة تولد العضو، فالوظيفة هنا في الرأس لا في اليد، أو هما كالأسباب المعدة والمتمة كما في الطب، والحقيقة أنهما شريكان متضامنان كما في العلوم الاجتماعية، فكما أنهما ينويان الاشتراك في الغنم، يجب أن يكونا شريكين في الغرم.
على أن الأمة الألمانية نالت حتى الآن شيئا غير قليل من هذا العقاب، إذ قتل أبناؤها، ورملت نساؤها، ويتم أطفالها، وبارت تجارتها، وسلخت منها مستعمراتها، وأضاعت في هذا الزمن القصير ما أحرزته من النجاح الباهر بعد تعب أكثر من نصف قرن، نالت جزاءها هذا بالشرائع الطبيعية التي لا تغفل ذنبا بلا عقاب، لا بالشرائع الوضعية الاجتماعية التي كثيرا ما تغفل عن ذلك، ولعل هذه الشرائع تعرف اليوم كيف يجب أن تعاقب الأمم المسئولة إذا أهملت واجباتها، وطمحت إلى سلب حقوق سواها قوة واقتدارا، ولا تكتفي بالعقاب الطبيعي وحده الذي يذهب غالبا بدون أن ينتبه إليه، وبدون أن يكون له الأثر النافع في الاجتماع، بخلاف العقاب الاجتماعي؛ فإن به وحده العبرة غالبا، والعبرة هنا لازمة لتنبيه الغافلين، وكبح جماح أصحاب المطامع الغير الموزونة. •••
ولكن المجرم الأكبر الذي هو سبب كل هذه المصائب ماذا يؤثر فيه كل ذلك؟ فإنه لا يؤثر فيه شيئا، ولا سيما إذا عرفنا أطواره وأمياله وهيامه، فهو مفتون بحب الشهرة أكثر من تمسكه بالسلطة، وإن كان في هذه يفوق كل نظير، فهو لو وضع على خازوق؛ لما شكا بقدر ما يسر من أن ذلك يلفت النظر إليه، وهو بهذا المركز الذي هو فيه أمامكم اليوم مفعم قلبه حبورا بأنه شغل العالم به، وبأن التاريخ سيتكلم عنه طويلا، حتى لا يدع لأحد من كبار السفاحين ذكرا بجنب ذكره، وقد فاته أن يكون واحدا من عظام الرجال المصلحين، فالشهرة هي غايته الوحيدة مهما يكن السبيل إليها، والشهرة الفائقة في الشر أسهل جدا منها في الخير، والأنكى أنها تستهوي «بقر» الاجتماع كثيرا؛ فيعظمون صاحبها، ويحترمون فاعل الخير أقل جدا مما يعجبون ببأس الشرير؛ لأن أكثر الناس حتى اليوم عبيد يدينون للخوف أكثر مما ينقادون للمعروف، ولم يخف ذلك على مجرمنا، ولأجله أمعن في التفظيع، والتدمير للإرهاب.
ولكن فاته أن جانبا عظيما من البشر مع ذلك مفتونون بالحرية، ولا سيما الذين قصد إذلالهم، وهم أرقى منه جدا في جوهرهم، فوقفوا في وجهه سدا لا يقطع، وأفسدوا عليه كل حسابه، وأوصلوه إلى الحالة التي هو فيها اليوم؛ مقهورا في مطامعه، مرذولا من المجتمعات الراقية، محكوما عليه بما هو شر من الإعدام لقوم يعقلون ويشعرون. ففظائعه الشنيعة التي توسل بها للوصول إلى غرضه القبيح كانت شر أعدائه.
وفظائعه تعدد ولا تعد، وأي شيء أفظع من تحويل العالم كله إلى ميدان حرب، فكيف سرت اليوم لا تجد سوى جنود تحشد، وعدد تعد، ومهمات تنقل، وخيول كسرب القطا تقرع بحوافرها الأرض، وتثير شر الحماسة في النفوس بعامل البغض، وسوى سيوف تلمع، ومدافع تصدع، ولا تسمع بسوى معارك تتطاحن فيها ملايين الرجال، كأنهم وحوش الأدغال، وفيها تتساقط القتلى بالألوف ومئاتها، حتى غصت بهم المقابر، وأتخمت النسور، وحتى استأنست الوحوش في فلواتها من كثرة شبعها، وبينها أنين الجرحى المهشمي الأعضاء المقطعي الآمال؛ يفتت الأكباد لمن لهم أكباد، ويحرق الفؤاد لمن له فؤاد، وعليها تتناثر دموع الثكالى والأيامى من آماق مقرحة فوق أشباح تجلببت بالسواد، كأن العالم كله في مأتم، وكأن الناس جميعهم في حداد، هذا عدا عن الفظائع التي ارتكبت في الناس الآمنين من نساء وعجائز وأطفال اعتداء وصلفا، كأن الحرب والأذى غاية الإنسان من هذا الوجود المنكود، ومن سبب كل ذلك غير هذا العاتي الشرير وشهواته القبيحة؟
بل أي شيء أفظع من تحويل العلم عن غاياته الجميلة النبيلة التي يقصد منها تخفيف المشاق عن البشر في حياتهم التعبة القصيرة إلى أقبح أوجه استعماله؟ فصار آلة للدمار بعد أن كان يرجى للعمار، ومن الذي حول العلم إلى هذا الغرض الشنيع غير هذا الظالم الغاشم؟
والغريب أنه وجد بين علمائه الأعلام أناسا خربي الذمم، شنيعي المقاصد، دنسوا اسم العلم وسلحوه بالغازات الخانقة، والنيران الحارقة يقذفونها على الناس والمدائن؛ ليمعن في التقتيل والتدمير، وهو بحمقه يطلب النصر من ورائها، وإخضاع الأمم له، وما هي من عوامل النصر في شيء، بل هي من عوامل الانتقام الكامن في نفوس اللئام، بل أي نصر يرتجى من ضرب المدن الغير المحاربة، والفتك بناسها الآمنين بطياراته، وتغريق السفن التجارية بغواصاته؟ وفيها من الناس العزل من السلاح، الساعين في مناكبها من رجال ونساء وأطفال، من لا يرضى لهم أذى أي جبار ذي نفس أبية، ولكن ماذا يعمل العلم «إذا كان الطباع طباع سوء»، بل ما ذنب الآثار التي وجه إليها مدافعه الضخمة ودمرها تدميرا، وهي فخر الاجتماع على مدى العصور؟ وما دمرها إلا لأنها آثار سواه، وهو لا يفتخر إلا بآثار همجيته، والمضحك المبكي منه اعتذاره لتبرئة نفسه - كأن به بقية حياء - «إن هذه الآثار كانت ثكنات للجنود وقلاعا للمدافع.» فهل جنت الأمم حتى تعرض آثارها للتدمير؟ وهي لعمري منه اعتذارات وحجج تأنفها صبيان الاجتماع، فكيفما قلبتم أعمال هذا الرجل، فإنكم لا تجدون عقابا له يفي بفظائعها، وعندي أن أعظم عقاب له على جنايته هذه الكبرى، لا القتل، ولا النشر، ولا التعذيب بكل أنواع عذابات ديوان التفتيش، بل بمقاومته بما كان يصبو إليه، وهو السيادة والشهرة، ولا سيما هذه الأخيرة؛ لأنه يصبو إلى أن يقرع فيها كل من تقدمه، فيحذف اسمه واسم بيته من التاريخ، ولو بشناعاتهم - لاحظوا عليه امتعاضه عند سماعه ذلك - ثم يترك طريدا شريدا، فيجهله كل إنسان، أما أمته فعقابها أن يذكر التاريخ لها كل هذه الفظائع بدون أدنى إشارة إلى من ملكها من هذا البيت، وأن تجزأ ممالك صغيرة ليأمن العالم شرها، وتنقطع هي نفسها لاستثمار مواهبها النافعة عساها إذا تفرغت لها أن تنفع المجتمع نفعا كبيرا.
هذا ما يشكو الاجتماع منه، وما يرتئيه في هذا المجرم الكبير وأمته، عرضناه على حضراتكم، أيها السادة الكرام، ورأيكم الموفق فوق كل رأي.
الرئيس :
هل للمتهم دفع؟
المحامي عن الجاني :
أيها القضاة المحترمون.
لا أريد أن أجول مع حضرة المدعي في المخارج والمداخل التي عرج عليها، وعرج فيها؛ لئلا أطيل الكلام على حضراتكم على غير طائل، وكل ما جاء به الخصم ليس إلا خلابة لسان؛ لتأييد أمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تركب على عقل إنسان، وأنا على تمام اليقين بأنكم تنظرون إليها نظيري، فقد عشت الدهور، وشهدت آتيلا، وتيمورلنك، وجنكيزخان، حتى عبد الحميد، ولم أسمع أن أحدا شكا منهم مثل هذه الشكوى، ولا طلب من التاريخ أن يعاملهم هذه المعاملة الشنيعة الفظيعة، ولو فعل لما جاز له أن يخص سواهم من الفاتحين بالذكرى المقرونة بالإعجاب، وكلهم متشابهون سفاحون طماعون طلاب سيادة وحبابو شهرة إلا عبد الحميد، فإن الدافع له لم يكن حب الشهرة، بل هوسا للذود عن نفسه، خوفا عليها، لما كان بها من الهواجس، فأنا - وقد قسم لموكلي ألا يكون ظافرا إلى النهاية والمغلوب مغلوب في كل شيء - أطلب إليكم أن تعاملوه كما عومل سواه قبله بالعزل والإبعاد، حتى التكبيل والتنكيل إذا كنتم معتقدين أنه الجاني المسئول وحده، ولم يكن في السوابق أو المصاحبات ما يشفع له بتخفيف الجرم، كما أنا متيقن، وإذا كنت لا أبسطها لديكم؛ فلأن زميلي قد أشار إليها ضمنا، فما رأيتكم مستعدين لسماعها أو قبولها، عاملوه معاملة المغلوب في كل شيء فقط، لا تلحقوا به هذه الإهانة التي لم يعامل بها أحد من زملائه السالفين، مع أنه يعلو عليهم علوا كبيرا، وقد اعتبرهم التاريخ من الرجال العظام، وخلد ذكرهم إلى الأبد، على أن هذا الحكم الغريب المطلوب من حضراتكم أن تنطقوا به ليس له نص في القانون، ولا سابقة في العرف، فهل تريدون أن تأتوا فيهما بدعة اليوم، وتقولوا إنكم حكمتم بالعدل وضمائركم مطمئنة، فأنا لا أطلب إلا العدل، والعدل أساس الملك، وأنا لا أخشى عليه، وأنتم هنا اليوم نصراؤه.
الرئيس :
لقد اكتفت المحكمة. (يختلي القضاة للمداولة، ثم يرجعون، وينطق الرئيس بالحكم الآتي):
حيث إن هذه الحرب التي أثارها المدعى عليه عن سوء نية هي حرب تهور، ليس فيها شيء من التعقل؛ لأن ضررها لاحق به كما هو لاحق بسواه وأشد.
وحيث إنه كان ينوي بها إغرام الآخرين له؛ ليفتخر بأنه أذلهم، ولو أنهم من أهم أركان المجتمع؛ وليخلو الجو له وحده، ولو أدى به الأمر إلى تقويض العمران، فهي إذن حرب اعتداء على المجتمع نفسه، لا حرب دفاع عن النفس لمصلحة العمران.
وحيث إنه كان ينويها منذ زمان طويل، كما تدل استعداداته الهائلة لها من دون أدنى موجب غير مطامعه الجائرة التي لا تتفق مع مصلحة عامة أو خاصة، ومن دون مراعاة لزمان أو مكان.
وحيث إن الأعمال الفظيعة وسائر الموبقات التي ارتكبها أو أوعز بارتكابها في هذه الحرب - والتي لا يجوز أن يقدم عليها في هذا العصر، حتى ولا أجهل الناس، وأعرقهم في التوحش - تدل دلالة واضحة على أن به شذوذا يحمله على حب الإضرار بالغير.
وحيث إنه ثابت من تقارير الأطباء عنه أن به عدم توازن - إلى الشر - في القوى المحركة له والمستولية عليه، هو سبب هذا الشذوذ فيه، وذلك يجعله في القانون غير مسئول.
وحيث إن المسئولية الحقيقية في مثل هذه الحال يجب أن تقع على المجتمع نفسه الذي تسمح نظاماته بأن تتأصل فيه مثل هذه البذور الفاسدة ، وعلى أمته خاصة التي جارته على أهوائه ونصرته فيها، غير ناظرة إلى حقيقتها، ونسبتها هي نفسها إلى المجتمع، ونسبة المجتمع إليها.
فلأجل ذلك كله حكمت المحكمة العليا حكما حضوريا نهائيا، لا يقبل استئنافا ولا نقضا، بأن يعامل المجرم معاملة أمثاله، ويوضع في «عزلة» تحت مراقبة أطباء دوليين، وتحرم عيلته من جميع امتيازاتها التي تخولها حق الحكم، وتنزع منه ومن أسرته ما لهم من أملاك وأموال، وحصص تجارية وصناعية، وتنفق أثمانها على منكوبي البلجيك، وتنقل الأثريات في قصوره إلى مدينة لوفين بدل ما أتلفه فيها، وتلزم أمته وحدها بالتعويض على الآخرين.
وأما المجتمع؛ فيكفيه ما ألم به من المصائب التي لا تعوض عقابا له على غفلته.
وعلى الدول تنفيذ هذا الحكم.
الإمضاء
في مدينة ... يوم ... شهر ... سنة ... (انتهت الرواية.)
خاتمة
قد يستغرب القارئ وقد أنهيتها بهذه الصورة، مع أن الألمان حتى الآن في انتصار، ولكن من يتدبر الأمور بعين الناقد البصير؛ يعلم أن الألمان من بعد فشلهم في حملتهم على باريس لم يعد يرجى لهم تحقيق حلم، وما انتصاراتهم الجزئية اليوم إلا تطويل لأجل الحرب، ولذلك هم اليوم يتخبطون ويبذلون آخر ما عندهم من الجهد؛ عسى أن يحرزوا من النصر ما يحمل الآخرين جميعا أو فرادى لعقد صلح لا يغبنون فيه، ولا يثلم مقام إمبراطورهم لدى أمته التي جر عليها كل هذه المصائب على غير جدوى أو بخسائر لا تعوض؛ لأنه يستحيل اليوم أن يرجع العالم، ويثق بهم، ويخلص لهم، ويفتح أبوابه لمتاجرهم، ويحسن الظن بعلمهم وعلمائهم كما كان في الماضي، فهم في هذه الحرب خاسرون كل شيء؛ المقام الأدبي، والمركز الاقتصادي التجاري، وكلاهما كانا في الأوج لا عن غير استحقاق، ولكنهم كانوا مع ذلك - وهم بهذا المقام والمركز - قد تمكنوا من استهواء العالم؛ حتى صار ينظر إلى كل ما يصدر عنهم بعيون مكبرة، ويسلم بكل ما يقولون من غير تمحيص كثير، ولو في كذبهم على العلم كما فعل كبيرهم «هكل» في تقرير ما كان في غنى عن تقريره؛ لأنه سواء كان حقيقة أو فرضا مزعوما؛ لأنه ارتأى أنه ينبغي أن يكون، فالعلم الطبيعي في غنى عن ذلك إذ صحته وعدمها لم يكونا ليتوقفا عليه.
وانتصار الألمان على الروس اليوم، وحفظ مراكزهم في الأماكن التي احتلوها في الغرب لا يستغربان لمن يعلم أنهم منذ أكثر من نصف قرن، ولا سيما في عهد إمبراطورهم الحالي، هم يستعدون لهذه الحرب، ويعدون لها العدة، بخلاف خصومهم فقد ثبت أنهم من قلة حذرهم منها، وفراغهم من العدة لم يكونوا ينوونها، ولا كانوا يتوقعونها، وهذا ما يدحض دعوى الألمان، وإمبراطورهم بأنهم هم المفترى عليهم، وأنهم قسروا على الحرب قسرا، لا أنهم توسلوا إليها بخلق الأسباب. فإذا كان الألمان حتى الآن أقوياء أشداء؛ فذلك طبيعي، وهم ما خاضوا غمار هذه الحرب إلا وكانوا على أتم الأهبة لها، لكن إذا كان الألمان وهم في منتهى قوتهم لم يتمكنوا من تحقيق حلمهم، وخصومهم في غفلة، وغير مستعدين؛ فهل يرجى ذلك لهم بعد سنة، وهم في تناقص، وخصومهم في تزايد؟ هذا أمر لا يقبله العقل، ولا سيما إذا رأينا ما تئول إليه حالهم بحصر البحار عنهم، فإذا كان المدخر عندهم حتى الساعة لم ينفد، فهو لا يعوض أو يعوض بعضه عن طريق الدول المحايدة بالاسم والمتاجرة بالفعل، فكلما طالت الحرب وزاد التضييق عليهم؛ اشتد الضيق بهم، حتى تفرغ جعبتهم، وتفنى سهامهم؛ فيهوون إلى الأرض، فالحرب هنا حرب تفان، والأقدر على المصابرة أقدر على المجالدة، والفوز أخيرا له.
والفضل في هذه المقاومة هو لجيوش الحلفاء في البر، ولو لم ينالوا منهم حتى الساعة منالا سوى وقوفهم في وجههم، حتى تفنى ذخائرهم، وتهلل صفوفهم من كثرة النقص فيها، وانتصاراتهم على الروس اليوم التي طبلوا فيها، وزمروا، وزينوا، وعيدوا؛ ليست إلا مجزرة تساعد الحلفاء في ما يرمون إليه، ولا سيما أن الروس في انسحابهم لا يعدون منكسرين حقيقة ما دامت قواهم سالمة لهم، وتوغل الألمان في أرضهم قد يعيد عليهم التاريخ، وينزل بهم ما نزل بجيوش نابوليون في حملته تلك الجنونية التي كانت سبب فشله بعد كل ذلك العز، ووقوفهم حيث هم الآن لا يرجى منه أن يلين شكيمة خصمهم، ولا بد لهم من أن يدعموا مراكزهم هناك بكل القوى التي وطدوه بها، وإلا ارتد الروس، وكانت الحرب بينهما رقصا إفرنجيا تقدما وانسحابا، وأخذا وردا كالرقصة المعروفة، وتكون النتيجة إفناء الذخيرة، وإفناء الرجال، والروس في هؤلاء أغزر موردا، أما مركزهم في الميدان الغربي؛ فهو اليوم مجالدة مكابرة للتدمير والتخريب، وصد الفرنساويين عنهم لا للزخف عليهم؛ لأنه قد تبين أن الفرنساويين هم اليوم أكفاء لهم، وفوق الأكفاء.
على أن الفضل الأكبر، بل منتهى الفضل في إحباط حلم الألمان، والقضاء عليهم إنما هو للإنكليز الذين غلوا أيديهم عن كل حركة في البحار، وقيدوا أسطولهم في مكمنه، كأنه لم يكن، وقضوا على مراكبهم التجارية، وفصلوهم عن مستعمراتهم، وسلبوهم إياها، ولولا الإنكليز لكان الألمان اليوم في فوز باهر؛ لأن حركات أسطولهم كانت قد ساعدتهم كثيرا، ولا سيما في الاعتداء على الموانئ الفرنساوية، وتعرضها في نقلها لجيوشهم من مستعمراتهم؛ ولذلك ترى الحلفاء اليوم مطمئنين إلى نتيجة الحرب، ولا سيما إنكلترا؛ لأنه مهما يكن من مجالدة الألمان؛ فإن مصيرهم إنما هو إلى الفشل المؤكد بمصابرة الحلفاء في البر، ومقاومة الإنكليز لهم في البحر، ولو اضطر هؤلاء لأن يسلكوا معهم مسلكهم مع نابوليون، وهم سالكون معهم هذا المسلك بعينه؛ حتى ينهكوا قواهم، ويقضوا على كل مطامع غليوم، ولو طال المطال، ما دام المال متوفرا، وقد زادت موارده عليهم، وما دام الوقت حليفهم؛ لاعتمادهم على عزلتهم في جزيرتهم، وقوتهم في البحر.
ولهذا كله نرجع ونكرر القول: إن انتصارات الألمان اليوم ليست إلا تطويلا لأمد الحرب، وأن مصيرهم في الآخر إلى الفشل التام، ولكننا نقول أيضا بملء الأسف: إن الحرب لا تزال طويلة؛ لأن ألمانيا لا يبلغ بها الوهن حده في زمن قصير، ولكن في وسع الحلفاء الصبر إلى المنتهى، ولا أمل بالصلح قبل ذلك إلا ثارت الأمة الألمانية على حكومتها، ومن الأسف أن هذا بعيد أخلاق القوم.
كتب في مصر في 15 أغسطوس سنة 1915
الدكتور شبلي شميل
وكان الفراغ من تبييض الرواية في أواخر شهر يونيو سنة 1915، وكان الابتداء بنشرها في جريدة البصير التي تطبع في الإسكندرية في أواخر شهر يوليو سنة 1915، والفراغ منه في 3 أغسطوس سنة 1915 في 22 عددا من أعداد الجريدة.
Página desconocida