المساكين
الشيخ علي
هو رجل تراه من الدنيا ولكن باطنه يلتحق بما وراء الطبيعة، وكان ينبغي أن لا يقوم مثله على مسرح الخلق إلا ممثلا، وأن لا يمثل إلا الوجه المطلق من الحياة، بعد أن استقصى الفلاسفة إلى تمثيله كل ذريعة فلو يستو لهم أن يمروا فيه، وقصر بهم التكلف، وقطعتهم دونه الفلسفة التي حملتهم عليه، فخلق الرجل نشيطا، مهزوزا، راميا، بصدره ونحره، معترضا في زمام القدر كأنه صورة الفكر الذي يمثله وكأنه أسلوب قائم بنفسه في بلاغة الطبيعة.
وأحسبه في نظره إلى الخلق يتوهم أنه رحالة خرج من بعض الأفلاك التي تعرف (بالعقول العشرة) فهبط من أشعته على الدنيا، فهذا العالم شيء جديد في نفسه وهو شيء جديد في العالم......
ينظر إليك كما تنظر إليه، فأنت تتبين في سحنته الواضحة أوصاف الجنون الهادئ، وتعجب من منظر تلك العاصفة النائمة في عينيه، وهو يستجلي منك معنى الغرابة في قدرة الله إذ أنشأك مثالا غير مفهوم، ويطيل عجبه منك أنك على ما فيك تتعجب منه....فكل رجل في رأيه إنما هو صورة من الرجل الصحيح الذي لم تزور فيه حرفة العيش ومطالب الحياة شيئًا على الله.
ولكل امرئ سؤال يتردد بين نفسه والسماء، فرجل يقول: اللهم هذه القوة فأين الرزق؟ وآخر يقول: وهذا الرزق فأين السعادة؟ والشيخ علي كأنه يقول: اللهم إنه لم يبق من الإنسانية إلا حشاشة تسوق بنفسها وكل رجل من هؤلاء صورة مقلدة فأين الأصل؟ لما ولد هذا الرجل، ولعل الطبيعة يومئذ كانت في صميم الخريف ثائرة مجرودة غبراء ... قامت أمه عن نجم منطفئ لا تعرفه الأرض وقد زهدت فيه السماء، فكان رضيعًا ثم فطيمًا ثم جحش ... ثم ترعرع ثم صار يافعًا وعاد فتيًا وانقلب كهلًا وهو اليوم يحطم الخمسين وكأنه لم يكن في كل ذلك شيئًا، ومتى سويت عليه الأرض لم يترك ورائه حتى تنطلق، وكأنه حي على رغم الحياة!.
وترى أي عقل يعيش به؟ بل أي عقل وأي جنون ليس من أثرهما الخير والشر؟ إن أكبر من تنجبه الفلسفة ويخرجه الأدب ليطوي عمره طيا وراء هذه الغابة البعيدة، وما حياة الفلاسفة إلا اختيار للموت، فهم يميتون في أنفسهم كل سبب إلى الشهوة، وكل داعية إلى اللذة، يحيون بالقسم الأعلى وتبقى مادة الأرض فيهم كأنها أرض بور عارية المخاسر لا تخصب ولا تنبت، وهذا (الشيخ علي) كله أرض بور ... فهو عصر برأسه من تاريخ الأخلاق، وعلى أي الوجوه اعتبرته رأيته كشيوخ الفلاسفة وحكماء الدنيا. يعيش في الناس بعقل غير العقل.
ولو تنفس به العمر فبلغ المائة وجاوز العصرين ما زاد كل عمله على أن يشبه نفسه، فهو حليم لنفسه غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه، فالناس كما هم، وهو كما هو: يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصاب بأذى، ويتحاشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم كأن ألمه مرض طبيعي ويعتريه، ولا فرق عنده في هذه الحالة بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا ... ! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة غير أن أمرهما مختلف جدا، فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به! وإني لأرى في اللغة كلمات لم تقع على معانيها ولم تجتمع اللفظة منها بمدلولها، فكلمة السعادة تبحث عن معناها في الناس وأهوائهم وشهواتهم، ومعنى السعادة يبحث الناس عنه في هذه الكلمة وحدودها وحقائقها، وربما كان هذا المعنى بجملته ملقى تحت الشمس في زاوية من زوايا القرى، أو متفيئًا ظل شجرة من شجر الجميز، أو نائما تحت سقف معروش من حطب القطن، أو جالسا يضحك في ندوة الحي، أو قائما يتأمل مجرى النهر، أو مضطجعا يقلب وجهه في السماء، أو هو الذي يسمى " الشيخ علي"!
1 / 1