المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمّد المصطفى الأمين.
أما بعد:
فقد شاء الله ﷿ أن يدون عن الإمام أحمد كثير من المسائل عن طريق جم غفير من تلاميذه، مع كراهته لكتابة المسائل عنه وعن غيره وما ذلك إلا دليل صدقه وورعه فدوَّن كثير من أصحابه عنه مسائل جاءت متفاوتة فيما بينها في القلة والكثرة، والترتيب والتبويب، وحسن الإيراد والمناقشة.
ومن بين هذه المسائل "مسائل إسحاق بن منصور الكوسج (ت٢٥١؟) " وهي وإن كانت في أصلها أسئلة موجهة للإمام أحمد ﵀ إلا أن ابن منصور وجه الأسئلة ذاتها - غالبًا - إلى الإمام إسحاق بن راهويه، وقدّم لكثير منها بقول سفيان الثّوري في المسألة، فحفظ لنا بذلك مسائل جمة عن هؤلاء الأئمة أضافت إلى مكتبة الفقه الإسلامي ثروة فقهية تهم المسلمين في جميع شؤونهم.
وتعد مسائل ابن منصور هذه ومثيلاتها من المسائل الأخرى المروية عن الإمام أحمد من خير ما يبرز بوضوح معالم فقه أهل السنة والجماعة المبني على الدليل واقتفاء الأثر ومنابذة التقليد واجتناب الشذوذ كيف لا وهو -أي الإمام أحمد- القائل: "إن استطعت أن لا تحك رأسك إلاّ بأثر
1 / 7
فافعل". والقائل: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام". والقائل: "إنّما العلم ما جاء من فوق".
وقد امتازت مسائل ابن منصور من بين سائر المسائل بميزات أهمها:
١- مكانة مؤلِّف هذه المسائل علمًا وثقة.
فقد قال فيه الحاكم: "اعتمداه في الصحيحين أي اعتماد". وقال: "وهو صاحب المسائل عن أحمد بن حنبل الذي يستهزئ به المبتدعة والمتجرئون".
٢- كَثْرة المسائل التي نقلها ابن منصور عن الإمامين أحمد وإسحاق، وتطرقه إلى جزئيات كثيرة لم يتطرق إليها غيره، حيث تعد مسائله في حجمها وعددها في المرتبة الأولى إذ بلغت عدتها ثلاثة آلاف وستمائة مسألة تقريبًا، ولا يضاهيها في هذا إلاّ ما ذكر عن مسائل حرب من أنّ عدتها بلغت ما يقارب أربعة آلاف مسألة، حسب المعلومات التي وصلت إلينا كما في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى١/١٤٥.
٣- كَتَبَ ابن منصور هذه المسائل عن الإمام أحمد، ثم عرضها عليه مرة ثانية، فأقرها له، وأُعجب بذلك منه في قصة مشهورة، كما عرض عبد الله بن الإمام أحمد بعض هذه المسائل على أبيه، مما أضاف إليها مزيدًا من التوثيق والتنقيح.
٤- اهتمام العلماء بهذا الكتاب في وقت مبكر واعتمادهم عليه في نقل
1 / 8
آراء الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه.
ومِمَن اعتمد على هذا الكتاب الإمام الترمذي في جامعه عند ذكر آراء الفقهاء، والإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه اختلاف الفقهاء، واعتمد عليه ابن المنذر في الأوسط والإشراف، وابن عبد البر في الاستذكار والتمهيد، وغيرهم من أهل العلم الذين عُنُوا بذكر مذاهب العلماء.
٥- توافر على هذه المسائل ثلاثة أئمة من كبار علماء الإسلام في وقتهم: إسحاق بن منصور بحسن سؤاله وإيراده، والإمام أحمد وإسحاق بأجوبتهما التي جاءت بلغة العلماء الراسخين في العلم.
وبالجملة، فهذا الكتاب "مسائل الإمام أحمد وإسحاق برواية إسحاق بن منصور الكوسج" هو من أهم الكتب المعتمدة في نقل مذهب الإمامين أحمد وإسحاق بن راهويه، اطّلع عليه الإمام أحمد في عهده وأعجب به، واهتم به أصحابه من بعده، كما عُنِيَ به أهل العلم في نقل مذاهب الفقهاء، فحري بهذا الكتاب أن ينشر ويتبوأ مكانته في صدارة الكتب العلمية المطبوعة.
ولذلك لما خاطبت عمادة البحث العلمي الكلّيّات كيما ترشح الأقسام العلمية فيها ما ترى له الأولية في النّشر من الأعمال العلمية في تخصّصاتها وجاء ترشيح قسم الفقه في كلّيّة الشّريعة لكتاب: (مسائل ابن منصور) .
1 / 9
بادرت العمادة لتشكيل اللّجان المناسبة لفحص الكتاب والتّأكّد من صلاحيته وجاهزيته للنّشر، واقتضى هذا عملًا دؤوبًا وجهودًا متواصلة، نظرًا إلى حجم الكتاب من جهةٍ، وإلى وجود بعض الأبواب فيه بقيت دون تحقيق من جهةٍ أخرى، ومن جهةٍ ثالثةٍ لاختلاف مناهج التّحقيق لأجزائه المختلفة.
ويمكن تلخيص خطوات العمل التي تمت في هذا المشروع في النقاط التالية:
أولًا: استكمال تحقيق الأبواب التي لم تحقّق بعد، وقد انتدب لهذه المهمّة بعض أعضاء هيئة التّدريس، وبهذا يكون قد شارك في تحقيق هذا الكتاب عشرة من الباحثين من خلال عشرة أعمال علمية، منها خمس رسائل جامعية أربع منها من درجة العالمية "الماجستير"، وواحدة من درجة العالمية العالية "الدكتوراه"، والأعمال الخمسة الأخرى عبارة عن أبحاث علمية محكَّمة، مع العلم أن الرسائل الخمس قد أعيد تحكيمها من جديد، فكان لا بد والحالة هذه من التنسيق بين أعمال الباحثين ليأخذ الكتاب طبيعة العمل الموحد ما أمكن، فكوّن مجلس العمادة لهذا الغرض لجنتين علميتين: أساسية تتألف من ستة أعضاء من هيئة التدريس من مختلف التّخصّصات، ومساندة تتألف من عضوين آخرين من أعضاء هيئة التدريس.
ثانيًا: قامت اللّجان المكلّفة بفحص الكتاب وتنسيقه وَفق الخطوات
1 / 10
الآتية:
١- التدقيق في سلامة النص المحقق وصحته، فقد أعيدت مقابلته على الأصول الخطية أكثر من مرّة.
٢- نظرًا لاختلاف المحقِّقين في الإشارة إلى أوائل اللوحات وفي موضع هذه الإشارة من النسختين المعتمدتين في التحقيق، بل إن بعضهم لم يشر إلى ذلك أصلًا، لذلك فقد جرى توحيد وتعميم الإشارة بذكر رمز النسخة، فرقم اللوحة، فرمز الوجه، وذلك داخل النص بين معقوفَين.
٣- حذف دراسة بعض المسائل التي أثبتها بعض الباحثين في أوائل رسائلهم، إذ إنّها وضعت لإفادة الباحث، والكشف عن ملكته الفقهية لا غير.
٤- حذف العناوين الجانبية التي وضعها بعض الباحثين لمسائل الكتاب، لما في إثباتها من إثقال النص، وتحميله ما لا يحتمل.
٥- حذف تراجم المشهورين، والمكرّر من التّراجم وكذا المكرّر من التعريفات اللغوية والأماكن.
٦- حذف بعض التعليقات التي يمكن الاستغناء عنها، كإثبات بعض المحققين رأيه الشخصي في بعض المسائل، أو ذكره لآراء بقية المذاهب الأربعة أو نقله بعض النصوص المطولة من كتب الفقه أو نحو ذلك مما لا يقتضيه منهج التحقيق المتعارف عليه، ويؤدي إلى
1 / 11
إثقال هوامش الكتاب.
٧- التدقيق في تخريج الأحاديث والآثار بالإبقاء على أَتَمِّهَا وإن تأخر موضعه، واختصار بعض التخريجات المطولة بما يفي بالغرض ولا يخل بالفائدة.
٨- إبقاء منهج كل محقق وطريقته في التحقيق على ما هي عليه، لأنه من الصعب جدًا توحيد العمل بعد نهايته، ولأنّ في الأمر سعة في اختيار إحدى طرائق التحقيق المتبعة لدى أهل هذا الفنّ.
٩- اختيار إحدى الدراسات المناسبة للكتاب والشخصيات، وإثباتها في المقدمة، وقد وقع الاختيار على دراسة الدكتور سليم بن محمد البلوشي.
١٠- توحيد الفهارس الفنية للكتاب وجعلها في جزء مستقل، خلا فهرسي المصادر والموضوعات، فأبقي عليهما في مكانهما من كل جزء.
هذا ويحسن التّنبّه إلى أمور:
١- وجود إحالات في هوامش بعض المسائل على مصادر كانت مخطوطة عند رجوع الباحثين إليها، إلا أنها أصبحت الآن في عداد المطبوعات، فهذه لم يتعرض لها، وأبقيت كما كانت عليه لسهولة الاهتداء إلى مواضعها بعد الطباعة.
٢- غياب تطبيق بعض الفقرات المنصوص عليها في مناهج بعض المحققين،
1 / 12
ولكن بالرجوع إلى خطوات العمل في تنسيق مادة هذا الكتاب يتضح السبب.
٣- وجود بعض الآثار والإشارات إلى بعض الأحاديث لم تخرج، فهذه لم تدخل ضمن أعمال اللجنة وإنما هي مسئولية الباحثين أنفسهم.
وأخيرًا ومع كل ما سبق عرضه من جهود في تحقيق هذا الكتاب وتنسيقه وإعداده للنشر، لا ندعي الكمال لعملنا فالنقص والخطأ ملازم للبشر، ولكن حسبنا أننا اجتهدنا وبذلنا ما في وسعنا لإظهار هذا الكتاب بالمظهر اللائق بمنْزلته وقيمته العلمية.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
عمادة البحث العلمي
1 / 13
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ ١
وبعد..
فإن من عظيم فضل الله ﷾، وامتنانه على عباده، أن أرسل رسوله محمد بن عبد الله ﷺ الذي أنار سبل الرشاد، وبيّن مسالك الحلال والحرام، قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
_________
١ سورة طه الآيات: (٢٥-٢٨) .
1 / 15
ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ١.
فكان نعم المزكي والمعلم للكتاب والحكمة، علّم الكتاب، وفقّه المسلمين، وقد حثّ الله ﷿ عباده على التفقّه في الدين، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ .٢
وقال رسول الله ﷺ: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"٣ استجابة لقول الله تعالى ورغبة في الخير الذي وعد به رسول الله ﷺ عُني علماء هذه الأمة منذ عهد النبوة بالفقه - أعني فقه الكتاب والسنة- جيلًا بعد جيل، وطبقة بعد طبقة، فنرى الصحابة رضوان الله عليهم تفقهوا على يدي رسول الهدى ﷺ، وبرز من بينهم عدد اشتهروا بفقهاء الصحابة وتلقى التابعون العلم والفقه من الصحابة، ونبغ من بينهم عدد واشتهروا بذلك، وهكذا الأتباع ومن دونهم تفقه المتأخر من المتقدم حتى
_________
١ سورة آل عمران آية: (١٦٤) .
٢ سورة التوبة آية: (١٢٢) .
٣ جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه برقم٧١. فتح الباري١/١٦٤ كتاب العلم باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. ومسلم في صحيحه٣/١٥٢٤ كتاب الإمارة باب قوله ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم" برقم١٧٥.
1 / 16
جاء الأئمة المشهورون أصحاب المذاهب السائدة وغيرهم، فلم يألوا جهدًا في خدمة الفقه تعليمًا وتأليفًا وجمعًا فأسسوا، ووضعوا قواعد وأصولًا لاستنباط الأحكام والفروع منها، ودونوا في ذلك كتبًا، ودواوين، وأدلى فيه كل فقيه بدلوه، وكل مجتهد بنصيبه، وكل عالم بجل اهتمامه، وتركوا لنا آثارًا طيبة، وصارت ثروة الفقه الإسلامي أعظم وأضخم ثروة، وأكبر تراث بعد الحديث، ولكن للأسف لم يزل كثير من هذه الثروة العلمية إما مفقودة، أو مخطوطة ورهينة مكتبات لم تر النور بعد، أو حبيسة خزانات لا يمكن الوصول إليها والانتفاع منها إلا بشق الأنفس، ولأهمية الفقه الإسلامي، وعناية الأمة وعلمائها به -كما أشرت- كان الشوق يجرّني، والرغبة تدفعني للإسهام بجهد المقل في إظهار جزء صغير من آثار أولئك الأئمة من قفص المخطوطات إلى حيز المطبوعات فالتحقت بشعبة الفقه من قسم الدراسات العليا وكنت أتمنى أن أحظى بخدمة كتاب أو أثر لإمام مشهور من علماء السلف لعلى أنال ما بشر به الرسول الكريم ﷺ من الخير أو أسير في الطريق الذي ساروا فيه.
وقد حقق الله ﷾ رغبتي هذه فاخترت جزءًا من كتاب اجتمع فيه من العلم والدقة والفقه ما يحتاج إليه العلماء المبرزون بل طلبة العلم الصغار من أمثالي ألفه الحافظ الثقة إسحاق بن منصور المروزي المعتمد عليه في الصحيحين استقاه من أمامي أهل السنة وفقيهي أهل
1 / 17
الحديث في زمانهما ألا وهو كتاب مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية.
واخترت المشاركة في خدمة هذا الكتاب للأسباب الآتية:
١- قيمة الكتاب العلمية.
٢- أهمية هذه المسائل حيث عرضت على إمامين جليلين في وقت قطعت فيه الحضارة الإسلامية شوطًا كبيرًا في التمدن والرقي واختلطت الأمم وتمازجت عاداتهم فتجددت لهم مسائل كثيرة أرادوا أن يعرفوا حكم الإسلام فيها، وخاصة في حاضرة العالم الإسلامي مدينة السلام - بغداد- فجاء هذا الكتاب مجيبًا على كثير من تلك المسائل.
٣- غزارة المادة العلمية حيث نقلت كثيرًا من فتاوى الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وحكم عليها الإمامان أحمد وإسحاق مع بيان ما يؤخذ وما يرد مع بيان سبب الأخذ والرد.
٤- إخراج فقه الإمام إسحاق بن إبراهيم المعروف براهوية الذي كان إمامًا مجتهدًا، وضاع كتبه الفقهية، ولم يبق منها إلا ما دونه تلميذه النجيب إسحاق بن منصور المروزي.
٥- ولأن الكتاب من المراجع الأساسية لمعرفة مذهب الإمام أحمد، والذي اعتمد عليها كتب المذهب الحنبلي، وأكثر كتب الخلاف من النقل منه.
٦- ولأن الكتاب من أقدم كتب المسائل التي دونت عن الإمام
1 / 18
أحمد وعرضها مؤلفها على الإمام فيما بعد وأخذ موافقته على تدريسها.
٧- ولأن مؤلف الكتاب من الفقهاء المحدثين، والمشتغل فيه يستفيد لمعرفة الحديث وصحته وضعفه وطرقه ورجاله وما يستنبط منه من أحكام.
٨- رغبتي في دراسة حياة الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية ومذهبهما المبني على الكتاب والسنة. والقياس في حالة الضرورة.
٩- حرصي الشديد في تحقيق الكتب وخاصة كتب العلماء المتقدمين الذين جمعوا بين الفقه والحديث.
١٠- محاولة للإسهام في إخراج هذا الكتاب القيم الذي ظلّ دفينَ المكتبات زمنًا طويلًا.
وقد قسمت البحث إلى: مقدمة وقسمين:
قسم في الدراسة، وقسم في التحقيق.
وقسمت القسم الدراسي إلى مقدمة وأربعة فصول:
المقدمة: وهي نبذة موجزة عن عصر الأئمة الثلاثة ويشمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: الحالة الدينية.
المبحث الثاني: الحالة السياسية.
المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية.
1 / 19
المبحث الرابع: الحالة العلمية.
الفصل الأول: ترجمة موجزة للإمام أحمد ﵀ وفيه أحد عشر مبحثًا:
المبحث الأول: في مولده، واسمه، وكنيته، ولقبه.
المبحث الثاني: أسرته.
المبحث الثالث: طلبه للعلم.
المبحث الرابع: رحلاته.
المبحث الخامس: شيوخه.
المبحث السادس: جلوسه للفتوى، وتلاميذه.
المبحث السابع: فقهه.
المبحث الثامن: أصول مذهبه.
المبحث التاسع: مصطلحاته في مسائله، بعض مصطلحات أصحابه في كتبهم
المبحث العاشر: محنته، ووفاته.
المبحث الحادي عشر: آثاره العلمية.
الفصل الثاني: ترجمة موجزة عن الإمام إسحاق بن راهوية ﵀ وفيه تسعة مباحث
المبحث الأول: في اسمه، ونسبه، ولقبه، وشهرته.
المبحث الثاني: ولادته، ونشأته.
1 / 20
المبحث الثالث: طلبه للعلم، ورحلاته.
المبحث الرابع: بعض شيوخه.
المبحث الخامس: بعض تلاميذه.
المبحث السادس: مبلغ علمه، وقوة حفظه.
المبحث السابع: فقه الإمام إسحاق بن راهوية.
المبحث الثامن: آثار الإمام إسحاق بن راهوية.
المبحث التاسع: وفاته.
الفصل الثالث: في ترجمة إسحاق بن منصور المرزوي وفيه مباحث:
المبحث الأول: اسمه، ونسبه، وبلده، ومولده، وأسرته.
المبحث الثاني: طلبه للعلم.
المبحث الثالث: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه.
المبحث الرابع: شيوخه.
المبحث الخامس: تلاميذه.
المبحث السادس: مؤلفاته.
المبحث السابع: وفاته.
الفصل الرابع: في وصف المخطوطة وفيه مباحث:
المبحث الأول: وصف نسخ المخطوطة ومحتوياتها.
المبحث الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف.
1 / 21
المبحث الثالث: منهج المؤلف في كتاب المسائل.
المبحث الرابع: مميزات مسائل ابن منصور.
المبحث الخامس: منهجي في تحقيق المخطوطة.
المبحث السادس: دراسة بعض المسائل مع بيان الراجح فيها.
1 / 22
[قسم الدراسة]
المقدمة
المبحث الأول: في الحالة الدينية
عندما يريد الباحث دراسة شخصية من الشخصيات التي تركت طابعها المميز في مجتمعه وكان لها أثر عظيم في حياة مجتمعه والمجتمعات اللاحقة، فلابد من الإلمام بالبيئة التي عاش فيها والعوامل التي تأثر بها والظروف التي أحاطت به، وذلك لأنه ما من مولود إلا يولد على الفطرة١ ويتأثر بأبويه في تكوين شخصيته، ثم بالبيئة التي تحيط به، والإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس لحبّه المؤانسة، وإيثاره الاجتماع ولتلبية احتياجاته المختلفة، فيتأثر بهم٢، فعلى حسب العوامل المختلفة الأثر تكون طبيعة النبوغ ونوعيته، ودرجته.
وعلى هذا، فإن للعصر تأثيرًا قويًا في حياة الأشخاص وسيرتهم لذلك رأيت أن أقدم نبذة موجزة عن العصر الذي عاش فيه الأئمة الثلاثة، أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وإسحاق بن منصور الكوسج، ﵏، وهي الفترة ما بين (١٦١-٢٥١هـ.)
والكلام عن هذا العصر سيكون من نواحيه الأربعة: الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والعلمية باختصار.
فأقول وبالله التوفيق،،،
_________
١ جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ٤/٢٠٤٧ كتاب القدر حديث رقم ٢٦٥٨ من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
٢ راجع إغاثة اللهفان ٢/١٩٠، والخراج وصناعة الكتابة لقدامة بن جعفر ص٤٣٢.
1 / 27
المبحث الأول الحالة الدينية
من المعلوم أن كمال المجتمع، وصلاحه، وسعادته في تمسكه بدينه، وعقيدته، وكلما ازداد في تمسكه والتزامه بدينه وعقيدته يزداد سعادة وكمالًا، ويبتعد عن مزالق الفتن، ويحظى بتوافر العز.
والقارئ لتاريخ الأمة الإسلامية يدرك ذلك تمام الإدراك فكلما كانت الأمة متمسكة بدينها، قائمة بأمر ربها ﷿، سائرة على نهج رسولها ﷺ كان لها العزة، والقوة، ونفوذ الكلمة بين الشعوب، والهيبة في قلوب الأعداء، والطامعين. ولما دب فيهم ضعف الإيمان، وقلة اليقين، والانفلات من عرى الإسلام، والإخلاد إلى الراحة واللامبالاة، سيطر عليهم الأعداء، واحتلوا بلاد الإسلام، وعندما يعود المسلمون إلى دينهم يعود إليهم مجدهم التليد.
والأئمة الذين نحن بصدد الكلام عنهم كادوا ي دركوا القرون المفضلة، المشهود لها بأنها خير القرون، فقد روى الإمام البخاري ﵀ بإسناده عن عمران بن حصين ﵁ يقول: قال رسول الله ﷺ: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم١ ثم الذين يلونهم.
_________
١ قال ابن الأثير في "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم" يعني الصحابة ثم التابعين، والقرن أهل كل زمان، وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان، مأخوذ من الاقتران وكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم، وأحوالهم.
انظر: النهاية لابن الأثير ٤/٥١.
1 / 29
- قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثًا - ثم إن بعدكم قومًا يشهدون، ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن."١
وفي العصر الذي عاش فيه الأئمة الثلاثة، كان الإسلام بتعاليمه القيمة ومبادئه السمحة، قد صهر الأمم الإسلامية على اختلاف ألوانها ولغاتها وأجناسها في بوتقة واحدة، وتقلصت الفروق، وحل محلها وحدة إسلامية، وارتبطت الحياة العامة سياسيًا وإداريًا ومعاملة، وحكمًا ارتباطًا وثيقًا بتعاليم الدين الحنيف بل كل مرافق الحياة.٢
واشتهر كثير من الأئمة في هذا العصر ممن كانوا المثل الأعلى في الإيمان، يتبين فيهم القارئ لتراجمهم ورعهم، وتقواهم، وإيمانهم الصادق، وزهدهم عن الدنيا، وسعيهم الدائب لإعزاز الدين، ورقي المسلمين، وقد التقى الأئمة الثلاثة بكثير من هؤلاء الفضلاء، وأخذوا عنهم العلم، وتأثروا بمواقفهم وسلوكهم كما سيأتي إن شاء الله في مبحث شيوخ كل واحد
_________
١ صحيح البخاري برقم: ٣٦٥٠ فتح الباري ٧/٣ كتاب: فضائل أصحاب النبيصلى الله عليه وسلم.
٢ راجع ضحى الإسلام لأحمد أمين ١/٣٧٢.
1 / 30
منهم.
وكان المسلمون على مختلف طبقاتهم متمسكين بدينهم متقيدين بأحكامه يبذلون النفس والنفيس في الدفاع عنه.
كما أن الخلفاء العباسيين كانوا مثالًا للشعب في ذلك وكانت نظرة الشعب إليهم على أنهم حماة للإسلام وأهله فنجد أبا جعفر المنصور قد أحاط الخلافة بالإجلال الديني، كما أن المهدي كان شديد الحرص على التمسك بالدين، وعدم الزيادة فيه والنقصان، يظهر ذلك من موقفه الذي رد به على رجل عندما دخل عليه وهو يلعب بالحمام، فقيل له حدث أمير المؤمنين، فحدثه عن أبي هريرة مرفوعًا "لا سبق إلا في حافر أو نابل، وزاد فيه" أو جناح " فأمر له بعشرة آلاف ردهم، فلما قام قال: أشهد أن قفاك قفا كذّاب، وإنما استجلبت ذلك، ثم أمر بالحمام فذبحت."١
وكان الرشيد كثير الغزو والحج، وكان يصلي في خلافته في كل
_________
١ تاريخ الخلفاء للسيوطي ٢٧٥.
والحديث رواه الترمذي في سننه ٤/٢٠٥ كتاب الجهاد باب ما جاء في الرهان والسبق برقم ١٧٠٠ عن طريق أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأبو داود في سننه ٣/٢٩ كتاب الجهاد باب في السبق برقم ٢٥٧٤
1 / 31
يوم مائة ركعة إلى أن مات، لا يتركها إلا لعلة، ويتصدق من صلب ماله هذا مع إجلاله للعلم وأهله، وتعظيمه لحرمات الإسلام، وبغض المراء في الدين، والكلام في معارضة النص، وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن فقال: لئن ظفرت به لأضربن عنقه، وكان يبكي على نفسه، وعلى إسرافه، وذنوبه، سيما إذا وعظ.
دخل عليه مرة ابن السماك الواعظ فبالغ في احترامه فقال له ابن السماك: تواضعك في شرفك أشرف من شرفك، ثم وعظه فأبكاه.١
وكان العلماء يقومون بواجبهم من النصح للخلفاء، وتحذيرهم من مغبة التهاون بمسؤولياتهم، وتذكيرهم بالأمانة التي أنيطت بعواتقهم لما لقي الرشيد الفضيل قال له: يا حسن الوجه أنت المسؤول عن هذه الأمة يوم القيامة، حدثنا ليث عن مجاهد ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾، قال: الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا،٢ فجعل هارون يبكي ويشهق ولما بلغه موت ابن المبارك جلس للعزاء، وأمر أعيان دولته أن يعزوه وله أخبار - إن صحت - في اللهو واللذات المحظورة والغناء سامحه الله.٣
_________
١ تاريخ الطبري ٨/٣٤٧-٣٥٧، وتاريخ الخلفاء ٢٨٥- ومحاضرات الأمم الإسلامية الدولة العباسية ص ١٣٥.
٢ ذكره السيوطي في الدر المنثور ١/٤٠٢، وراجع مروج الذهب ٣/٣٦٥.
٣ تاريخ الخلفاء ٢٨٥-٢٨٦.
1 / 32